الرئيسية » , , , , , , » الكاميرا الملعونة + الحلقة التلفزيونية

الكاميرا الملعونة + الحلقة التلفزيونية


1

إنهم أربعة أصدقاء، جمع بينهم الشعور بالملل، في هذه المدينة الصغيرة (بتس لاندنج)!
وهي مدينة، لا تختلف في الواقع، عن غيرها من المدن المماثلة، المعروفة بشوارعها الهادئة، وحدائقها الظليلة، وبيوتها ذات الطرز العريقة.


لكنه الشعور بالملل، ذلك الذي يجعل من (بتس لاندنج) أسوأ مدينة، في عيون الأصدقاء الأربعة. ولأنها في أعينهم كذلك، فقد أصبحت عبارة (أسوأ مدينة) هي الشعار الذي يطلقونه عليها، في كل وقت!
هاهم الأصدقاء الأربعة، في أحد شوارع (بتس لاندنج)، يتسكعون شاعرين بالملل، تتقاذف أقدامهم حصى الطريق، بينما أذهانهم، مشغولة بالبحث عن شيء، يجلب لهم المتعة والإثارة.
قال (دووج آرثر) مقترحا: (فلنذهب إلى حانوت جروفر لعل المجلات المصورة الجديدة تكون قد وصلت).
وأجابه (جريج بانكس): (لكننا مفلسون يا بيرد).
وكان الجميع ينادون صديقهم دووج بـ(بيرد) وذلك لشدة الشبه بينه وبين العصفور وإن كان (أبو قردان) هو الاسم الأنسب له، فقد كان ذا ساقين طويلتين، نحيلتين، واسعتي الخطوات، تماما كأبي قردان، وكان شعره كثيفا أشعث، وله عينان عسليتان-في مثل لون شعره- تتسمان بحدة النظرات. أما أنفه فطويل ومقوس كالمنقار. لم يكن دووج يحب لقب (عصفور) أي (بيرد) لكنه قد اعتاده من أصدقائه.
قال بيرد: (دعونا نذهب لتصفح المجلات المصورة لدى جروفر.. أعتقد أن مجموعة مغامرات إكس-فورس الجديدة سوف تظهر هذا الأسبوع).
قال جريج مازحا: (عليك أن تنضم للإكس-فورس. تستطيع أن تتقمص شخصية الرجل العصفور يا بيرد، ستكون رائعا!).
قال ميتشل: (علينا جميعا أن ننضم للإكس-فورس).
ثم استطرد: (وإذا حققنا بطولة خارقة.. فربما أصبح شيء في أيدينا نقوم به).
ردت شاري: (لا، لن نستطيع، فليس في مدينتنا بتس لاندج جرائم، ينبغي علينا مقاومتها).
اقترح بيرد مازحا: (فلنتصوّر شخصية خيالية، نقوم بمقاومتها).
ضحك الجميع. إن أواصر الصداقة الطويلة تربط بين أربعتهم. إذ كان جريج وشاري يتجاوران في المسكن، بينما بيرد وميتشل يقيمان في الشارع المجاور.
قال ميتشل مقترحا: (ما رأيكم في مباراة بيسبول؟. في استطاعتنا أن نذهب الآن إلى أرض الملعب العام).
ردت شاري وهي ترفع بيدها خصلة من شعرها سقطت على وجهها: (هذا مستحيل. إذ لا يمكن أن يتكون الفريق من أربعة لاعبين فقط).
كانت شاري ترتدي قميصا أصفر اللون، ذا خطوط خضراء زاهية، وكان واضحا من ترهله عليها أنه أكبر مقاسا من حجمها.
قال ميتشل وهو منهمك في إلقاء بعض الحصى في الهواء إلى أعلى، ليلقفها مرة أخرى بين أصابعه: (ربما نجد في الملعب، بعض اللاعبين الذين ينضمون إلينا).
كان ميتشل، ذا شعر أحمر قصير، وعينين زرقاوين. أما وجهه فهو ممتلئ بالنمش. لم يكن سمينا، ولم يكن يراه الآخرون نحيفا أيضا.
قال بيرد، وهو يحث أصدقاءه: (هيا بنا، دعونا نلعب البيسبول. إنني في حاجة إلى التمرين. إن فريقي الصغير، سوف يبدأ نشاطه، خلال يومين).
سألته شاري: (فريق صغير؟).
قال بيرد شارحا: (إنه فريق جديد. وسوف يلعب أولى مبارياته يوم الثلاثاء، بعد الانصراف من المدرسة).
قال جريج: (عظيم سوف نأتي لنشاهدك).
أضافت شاري، مازحة، كعادتها مع بيرد: (نعم، سوف نجيء لكي نراك وهو يشطبون اسمك من الفريق).
قال جريج: (في أي موقع تلعب؟).
قال ميتشل هازئا: (واقف في الخلف).
لم يضحك أحد فنكات ميتشل تفشل دائما في الإضحاك.
قال بيرد متسائلا: (ولماذا لا تلعب أنت يا جريج؟!).
كان جريج بكتفيه العريضين، وعضلاته البارزة في ذراعيه وساقيه - يستحق أن يلقب بـ(رياضي المجموعة). كان وسيما. أشقر الشعر. أخضر العينين. نظراته تشع بريقا. وتميزه ابتسامة ودود.
قال جريج ممتعضا: (كان من المفروض أن يذهب أخي تيري، لكي يسجل اسمي في فريق البيسبول، ولكنه نسى).
سألت شاري، وقد كانت تشعر ببعض الميل تجاه الشقيق الأكبر لجريج: (ولكن أين يختفي تيري؟).
أجاب جريج: (إنه يعمل الآن في مصنع الألبان).
رد بيرد متجهما: (لا تنسوا.. نحن لا نملك أي نقود!).
قال ميتشل، وهو يوجه إلى جريج، نظرات، كلها أمل: (سوف يمنحنا تيري أكواب الجيلاتي، مجانا).
ثم استطرد: (أنت تعرف أن شقيقي، كم هو جاد وحاسم).
قالت شاري متذمرة، بينما تراقب طائر (أبو الحناء) المغرد، وهو يحجل بساق واحدة، فوق الرصيف: ( هذا شيء ممل. نعم كم هو ممل أن تدور أحاديثنا حول الملل، الذي نعانيه!).
قال بيرد، وهو يبتسم كعادته نصف ابتسامة، حين يكون على أهبة إلقاء نكتة: (فلنجلس إذن، لكي نناقش ما نحن في من ملل).
قالت شيري بحسم: (فلنتمش، أو نقوم بنزهة، أو أي شيء من هذا القبيل).
ثم أخذت طريقها مخترقة المنتزه العام.  وكانت تسير وذراعاها مبسوطتان تؤرجحهما، وتتمايل بجذعها ذات اليمين وذات اليسار، كأنها طائر على وشك أن يحلق. تبعها الصبية الثلاثة وهو يقلدونها في طريقة مشيتها، حتى وصلوا إلى مدخل الغابة الصغيرة.
هناك في نهاية الغابة. كان بيت كبير يقبع في ظل شجرة بلوط ضخمة. بيت يدل طرازه على الأصالة. رمادي اللون، ثلاثة طوابق. وله شرفة أمامية متسعة. وقبة حمراء تنبثق منها ماسورة مدفأة. لكن النوافذ المهشمة في الطابق الثاني بزجاجها المكسور، وشراعاتها المخلخلة، توحي بأن البيت مهجور، يؤكد ذلك التراب الذي يكسو واجهة البيت. وكذلك الصدأ الذي يفعله تأكلت القضبان الحديدية للنوافذ.
كل إنسان في مدينة (بتس لاندنج) يعرف هذا البيت بـ(منزل كوفمان). و (كوفمان) هو الاسم المكتوب على صندوق البريد، المائل فوق عمود من الخشب المهترئ، في المدخل الأمامي للبيت. غير أن البيت مهجور بالفعل، منذ سنوات، وهو أمر يعرفه جريج وأصدقاؤه. والناس هنا يروق لهم إطلاق القصص الغريبة حول هذا البيت: قصص الأشباح، والحكايات الوحشية عن حوادث القتل، والأشياء الأخرى الفظيعة التي وقعت بداخله. ومن المحتمل أن يكون معظمها مجردا من الحقيقة.
قال ميتشل: (دعونا ندخل بيت كوفمان).
وراح يتهيأ إلى التحرك صوب المدخل.
قال جريج وهو يهرع إليه، ليمسك به: (هل أنت مجنون؟).
قال ميتشل، وعيناه الزرقاوان معلقتان بآخر خيط من شعاع شمس الأصيل، ينحدر متخللا أشجار البلوط الفارغة: (دعنا ندخل. لقد أردنا مغامرة. شيئا مثيرا. أليس كذلك؟!).
فلنتأت، دعنا نتفحصه.
تردد جريج، ثم حملق في البيت. لفحت ظهره ريح باردة، أحس معها بقشعريرة. وقبل أن يجيب ميتشل، لمح طيفا معتما يتحرك بين أشجار الغابة.. ثم انقض عليه!


2

انطرح جريج على ظهره أرضا، وهو يصرخ: آه، حينئذ، اكتشف أن الآخرين يضحكون.
قالت شاري صائحة: (إنه ذلك الكلب. كلب الصيد الأخرس، إنه يتبعنا).
قال بيرد وهو يطرد الكلب بعيدا: (عد لمنزلك أيها الكلب. عد للمنزل).
وابتعد الكلب قليلا. ثم استدار وعاد إليهم ثانية، وهو يحملق فيهم، بينما ذيله القصير يهتز بشدة. أحس جريج بالحرج مما بدا عليه من الخوف. وراح ينهض ببطء متوقعا أن أصدقاءه سوف يعاونونه في النهوض. لكنهم كانوا قد اتجهوا ناحية منزل آل كوفمان. ثم وقفوا أمامه محملقين.
قال بيرد وهو يلكم ميتشل في ظهره، معربا عن إعجابه: (ياه. لقد كان ميتشل محقا). واستدار ليرد الكلمة لبيرد قائلا: (هيا لنستكشف ماذا يوجد بالداخل).
قال جريج: (وما الفائدة التي ستعود علينا من ذلك؟ أعني أن المكان مخيف. ألا تشاركونني الرأي؟).
قالت شاري: (وماذا بعد؟).
ردد ميتشل وبيرد سؤالها في نفس واحد: (وماذا بعد؟!).
أجاب جريج: (لا أعرف).
قالها وهو يحاول أن يشوب صوته تعبير القوة، كي لا يبدو في صورة الجبان. إذ كان الجبان فيهم يتعرض لتهكم الآخرين. لقد أراد جريج أن يظهر بمظهر الشجاع المقدام. لكن خوفه تغلب عليه ثانية وأقدامهم تتجه ناحية المنزل.
قال جريج وبصره شاخص إلى المنزل المجهول المهجور: (لا أعتقد أنه ينبغي أن نقتحم هذا المنزل).
سأله بيرد متهكما: (هل أنت جبان؟).
لم يكن جريج يرد أن يضحك. لكنه لم يستطع أن يتمالك نفسه فضحك مع الآخرين. ويبدو أن بيرد بمحاكاته للدجاجة قد أنهى المناقشة لصالح اقتحام المنزل إذ كانوا قد وصلوا بالفعل إلى بداية الدرجات المتآكلة التيتؤدي إلى الشرفة الأمامية الواسعة للمنزل.
قالت شاري: انظروا. النافذة المجاورة للباب الأمامي مكسورة. ومن الممكن أن ننفذ من خلالها للداخل. ثم نفتح الباب إذا كان موصدا.
قال ميتشل بحماس: (عظيم).
قال جريج وهو أرهفهم حسا: (لا أصدق أننا أقدمنا على ذلك).
ثم استطرد وكأنه وجد مخرجا: (وماذا عن سبايدي؟).
كان سبايدي رجلا في الخمسين أو الستين من عمره. غريب الأطوار. غريب المظهر والملبس. كان الجميع يشاهدونه وهو يتسكع في شوارع المدينة. ولم يكن يرتدي إلا السواد. وكان بملابسه السوداء ومعطفه ذي الجناحين من الخلف وبقبعة البيسبول طويلة الحافة يشبه الوطواط. ولذا أطلق عليه الصغار في المدينة لقب الرجل العنكبوت أو (سبايدي). ومن المرجح أن سبايدي كان بلا مأوى. كان الجميع يجهلون كل شيء عنه. من أين أتى؟ أين يقيم؟ ماذا وراءه؟ أين أسرته؟ لكن أطفالا كثيرين شاهدوه وهو يهرول حائما حول بيت كوفمان.
قال جريج بنبرة المحذر: (ربما يكون سبايدي ممن لا يحبون أن يزعجهم أحد بالزيارة).
ولكن شاري كانت قد قفزت بالفعل من النافذة المكسورة. لكي تفتح الباب الموصد من الداخل. وبعد محاولة قصيرة، تمكنت من معالجة القفل. ثم انفتح الباب الخشبي الثقيل. واحدا، وراء الآخر، تعاقبت خطاهم إلى الداخل.
توقف جريج فجأة، على مضض. كان الظلام شديدا في الداخل. فقط، بصيص من ضوء الشمس، يتسلل عبر أغصان الأشجار الكثيفة، المحيطة بالمنزل، وقد استحال إلى دوائر باهتة من النور، تفترش السجادة المهترئة، تحت أقدامهم.
وتحت وقع أقدام جريج ورفاقه، أصدرت أرضية المكان الخشبية في طريقهم إلى غرفة المعيشة صوتا حادا. كان المكان خاليا من الأثاث، إلا من بعض الكراتين الفارغة المستندة على أحد الحوائط.
قال جريج متعجبا: (هل هذا هو متاع سبايدي؟).
وعلى عتبة حجرة المعيشة توقفوا. كانت هناك سجادة أكثر تهالكا من الأولى، تفترش الحجرة. تسمرت أقدام بيرد وجريج إذ كانا يتقدمان المجموعة، بعد أن لفت نظرهما بقعة داكنة كبيرة بيضاوية الشكل تتوسط السجادة لاحظها الاثنان في نفس اللحظة.
قال بيرد مشيرا إلى مكان البقعة على السجادة: هل تعتقد أنها آثار دماء؟.
أحسّ جريج قشعريرة تجتاح جسمه كله وهو يقول: (قد تكون آثارا لصلصة طعام).
ضحك (بيرد) وضرب صديقه مازحا على ظهره.
كانت شيري ومعها ميتشل يستكشفان المطبخ. كانت أرففه مغطاة بالتراب. وفجأة تسمرت أعينهما على شيء ما. كان جريج يقف خلفهما، حين قفز إلى عينيه، نفس المنظر الذي شد انتباههما.
إنهما فأران كبيرا الحجم، يقفان على أحد الرفوف شاخصين بأعينهما النفاذة إلى الذين يحملقون فيهما.
قالت شاري: (إن منظرهما جميل، إنهما أشبه بفئران الرسوم المتحركة).
وعلى وقع صوتها، فر الفأران.
قال ميتشل متقززا: (إنهما عرستان، فالعرسة لها ذيل سميك عكس الفأر).
همهم بيرد: (نعم عرستان).
ثم خرج عائدا إلى صالة المنزل.
واصلت شاري استكشافاتها داخل المطبخ، فتحت الدواليب. كانت كلها خالية.
قالت: (أعتقد أن سبايدي لا يستخدم المطبخ).
قال جريج مازحا: (لا أعتقد أنه طباخ ماهر).
ثم تبع شاري إلى حجرة المائدة. كانت صغيرة ضيقة، ومتربة مثل سائر غرف المنزل. ومن سقفها تدلت نجفة كبيرة كانت تتوسط الحجرة وقد تحول لونها إلى البني الداكن بفعل التراب المتراكم، بحيث يستحيل التصديق بأنها زجاجية.
قال جريج: (إنه أشبه ببيت الأشباح).
علّقت شاري، بأن أصدرت صوتا مخيفا، للتأكيد على أنه بيت أشباح. بينما واصلت تقدمها..
قال جريج، وهو يتبعها في الظلام: لم يعد هناك الكثير مما يمكن أن نشاهده هنا.
فجأة، قفز جريج من مكانه، حين بوغت بصوت صرير يتصاعد عاليا.
ضحكت شاري، وهي تضغط على كتفه.
تساءل جريج بصوت، كشق عن إحساسه بالخوف: (ما هذا؟).
قالت شاري: (إن مثل هذه الأصوات، تصدر دائما عن المنازل القديمة، بلا سبب).
قال جريج: (أعتقد أننا ينبغي أن نغادر هذا المكان).
وتنبه جريج إلى أن عبارته هذه، قد كشفت عن إحساسه بالخوف، فأردف قائلا: (أعني أن المكان هنا يثير الضجر والملل).
قالت شاري، وهي تقتحم حجرة خالية مظلمة: (أن تتواجد في مكان ليس من المفروض التواجد فيه. فهذا يشكل نوعا من أنواع الإثارة).
أجابها جريج مستسلما: (من الجائز).
كان ميتشل في الحجرة الخالية المظلمة.
سأل جريج: (أين بيرد؟!).
أجابه ميتشل: (أعتقد أنه هبط إلى البدروم).
تعجّب ميتشل إلى باب مفتوح يمين المكان الذي يقفون فيه، وهو يقول: (ها هو السلّم الذي يوصّل إلى هناك).
وأخذ ثلاثتهم طريقهم إلى السلّم، واختفوا في ظلام المكان. ثم ارتفع صوتهم معا في نفس الوقت: بيرد؟.
ومن مكان ما بعيد، في قلب البدروم، جاءهم صوته يصرخ بهلع: (النجدة.. لقد أمسك بي أحدهم!.. أرجوكم.. النجدة!).


3

تجمدت الدماء في عروق شاري وميتشل، بمثل ما تجمدا في مكانهما، فاغريّ الفم. وسرعان، ما قام جريج بدفع شاري وميتشل، من طريقه، وهو يهبط الدّرج، بأقصى سرعة.. مجيبا بيرد بصوت مسموع: (إنني قادم لنجدتك يا بيرد.! ماذا حدث؟).
توقف جريج أعلى الدرج، ليلتقط أنفاسه المتلاحقة. بينما دقات قلبه يدوّي صوتها في أذنيه. ثم حاول أن يخترق بعينيه ظلام البدروم المعتم أسفل الدرج، مناديا: (بيرد؟).
ها هو ذا بيرد. إنه يجلس هادئا مستكينا، على صفيحة فارغة مقلوبة. ساقاه، إحداهما على الأخرى. وظهره مستند إلى الحائط. بينما ابتسامة عريضة تملأ وجهه الذي يشبه العصفور.
هادئا، قال بيرد: (أوه...).
ثم انفجر ضاحكا.
وبصوتين ملؤهما الخوف، تساءل كل من شاري وميتشل: (ما هذا؟ ما الذي يحدث؟).
كان صوتا ميتشل وشاري، يأتيان من أعلى الدرج، أثناء هبوطهما.
تساءل ميتشل، وصوته مفعم بالخوف: (أهي مزحة أخرى غبية، من مزح بيرد؟).
أردفت شاري متساءلة، وهي تهز رأسها مستنكرة: (كيف تهزأ بنا، بهذه الصورة، يا بيرد؟.. ما الذي يمكن أن يحدث لك يوما، إذا احتجت إلى المساعدة بالفعل، ثم امتنعنا عن نجدتك، ظنا بأنك تمزح؟).
قال بيرد وهو ينهض واقفا: (لن يحدث شيء يستدعي المساعدة).
ثم راح يتجول في البدروم، مستطردا: (ألم تلاحظوا أن المكان هنا أكثر إضاءة مما هي عليه في الطابق الأعلى؟!).
كان البدروم بالفعل أنصع إضاءة من غيره في المنزل. وذلك لأن شعاع الشمس الضاربة كان ينفذ إليه، من خلال أربع نوافذ مستطيلة، بطول الحائط. بينما تطل هذه النوافذ على الفناء الخلفي.
قال جريج وعيناه تجولان بسرعة في المكان: (ما زلت عند رأيي في أنه ينبغي علينا مغادرة هذا المكان).
كانت هناك مائدة صغيرة، عبارة عن لوح خشبي منبسط على أربع صفائح فارغة كما كانت هناك خشبة تكاد أن تكون مفرغة من القطن.. كانت قذرة وبالية. وكانت مستندة على أحد الحوائط. وعليها غطاء صوفي قذر ومهلهل أيضا.
قال ميتشل: (لا بد أن سبايدي يعيش هنا) ثم، وهو يواصل طريقه لاستكشاف المكان، اصطدمت قدماه بعدد كبير من علب الطعام الجاهز الفارغة. عندئذ نظر ميتشل إلى العلب المعدنية الفارغة قائلا: (ترى كيف يقوم بتسخينها لإعدادها للأكل؟).
قالت شاري: (ربما يأكل ما بها مجمدا).
ثم اتجهت إلى دولاب خشبي، وفتحته.
عندئذ، صدرت منها صيحة استحسان، وهي تشير إلى داخله: (هذا رائع.. انظروا).
ومدت يدها، فأخرجت معطفا من الفراء قديما وقذرا. وضعته على كتفيها، وراحت تتمشى به، معلّقة: (كم هو رائع!).
استطاع جريج -من مكانه- أن يلحظ اكتظاظ الدولاب بالملابس القديمة. وكذلك ميتشل وبيرد، اللذان أسرعا، لينضما إلى شاري. وهكذا، أخذ ثلاثتهم، يخرجون محتويات الدولاب: بنطلون.. قميص أصفر اللون.. ربطة عنق.. وتلفيحة.
قال جريج محذرا: (ألم تفكروا في أن هذه الملابس ربما تخص شخصا ما؟).
قال بيرد وهو يلف كوفية حمراء حول عنقه: (نعم إنها ملابس سبايدي).
قال ميتشل: (إنها من النوع الغالي) ثم وهو يعاين معطفا طويلا داكن الزّرقة: (هذه الأشياء لا يقل عمرها عن 25 عاما. لا بد أنها ملك لشخص ما. كيف يتأتى لأحدهم أن يترك مثل هذه الملابس الثمينة هنا؟).
قال جريج: (ربما يعود أصحابها لاستردادها).
وبينما أصدثاؤه مشغولون بمعاينة محتويات الدولاب، كان هو ينظر إلى الجانب الآخر من البدروم، حيث يوجد فرن قديم كبير، قد عشش عليه العنكبوت، وحيث مواسير الفرن الحديدية قد علاها الصدأ. كما استطاع جريج أن يلمح درجات سلم تخيل أنها تؤدي إلى الخارج.
قال جريج محدثا نفسه بصوت يكاد يكون مسموعا وهو ينظر تجاه طاولة مستطيلة من ذلك النوع الذي يستخدمه الحرفيون: (لابد أنه كان حرفيا، ذلك الذي كان يقيم هنا).
وفي طرف الطاولة كانت هناك حقيبة معدنية من النوع الذي يستخدمه الحرفيون في حفظ أدواتهم. اقترب جريج من الحقيبة وحاول فتحها. لكنه لم يستطع. فلما لفت نظره يد حديدية مثبتة في نهاية الطاولة، هداه تفكيره إلى تحريكها عساها أن تفتح الحقيبة المغلقة.
وعندئذ، تقدم جريج من اليد الحديدية. أمسك يها، وأخذ يحركها في نصف دائرة. وعلى غير ما كان يتوقع -أي بدلا من أن تفتح الحقيبة الحديدة- فوجىء جريج بباب سري مكانه أعلى الطاولة، راح ينفتح، أثناء تحريكه لليد الحديدية. نظر جريج عبر الباب السري، فشاهد رفا معلقا على الحائط، وقد استقرت عليه آلة تصوير فوتوغرافية.


4

للحظة طويلة، أخذ جريج يحملق في الكاميرا. صوت بداخله، قال له: (لابد أن أحدهم خبأها هنا لسبب ما). وعاوده نفس الصوت، محذرا إياه من أن يلمسها. وأنه ينبغي أن يغلق الباب السّري عليها، ثم ينصرف. لكنه لم يتسطع أن يقاوم الكاميرا. اقترب من الرف المخبوء، ثم احتوى الكاميرا بين يديه.
حينئذ -ويا لدهشة جريج- انغلق الباب السّري، وهو يصدر صوتا عاليا بينما هو يقلب الكاميرا بين يديه قائلا: (يا له من مكان غريب، للاحتفاظ بآلة تصوير! لماذا يقوم شخص ما بإخفاء كاميرا هنا؟! فإذا كانت هذه الكاميرا ثمينة إلى درجة أن يخفيها صاحبها في غرفة سرية، فلماذا لم يأخذها معه؟).
وبشغف شديد، راح جريج يتفحص الكاميرا. كانت كبيرة وثقيلة، ولها عدسة مستطيلة. وقد خطر لجريج أنها عدسة مقربة للأشياء.
كان جريج من هواة التصوير. وكان لديه كاميرا بالفعل. لكنها كانت من النوع الرخيص. وكان دائما يحلم بامتلاك كاميرا من النوع الجيد، وبعدسة متطورة. تساءل جريج، عما إذا كانت هذه الكاميرا من النوع الجيد. وهاهو ذا قد رفعها إلى مستوى عينيه، وراح يتفرج من خلال عدستها على تفاصيل الحجرة.. إلى أن توقف عند ميتشل. كان ميتشل يرتدي كوفيتين صفراوين، مرتديا قبعة بيضاء. وكان يقف أعلى درج السلّم، مستندا على الدرابزين.
(انظروا).
صاح جريج. وهو يخطو تجاه ميتشل، بينما عيناه تنظران من العدسة. قال لميتشل: (دعني ألتقط لك صورة).
سأل بيرد: (أين عثرت عليها؟).
وتساءل ميتشل: (هل بداخلها فيلم؟).
أجاب جريج: (لا أعرف.. دعنا نرى).
ارتكز ميتشل باعتداد على الدرابزين، متخذا وضعا متكلفا، من أجل أن يلتقط له جريج صورة مضحكة.
تهيأ جريج لالتقاط الصورة. وقبل أن يضغط على الزر قال مستحثا: (أوكي. أنا مستعد. ابتسم).
ثم ضغط على الزر، فأضاء الفلاش المكان. عندئذ، صدر صوت إلكتروني عن الكاميرا.. بعدها بدأت الصورة تبرز من داخل الكاميرا.
صاح جريج: (هيه، إنها كاميرا من النوع الذي يظهر الصور تلقائيا في الحال).
وراح جريج يسحب الصورة المربعة، وهي تبرز شيئا فشيئا، وببطء، من أعلى الكاميرا. الصورة في يد جريج. لم تكن ملامحها قد اتضحت بعد. كانت ألوانها تتغير ببطء لتأخذ اللون النهائي.
قال جريج: (الصورة بدأت تظهر).
قال ميتشل وهو يهبط الدرج: (دعني أرى).
لكنه قبل أن ينتهي من نزوله، ارتفع صوت أثار فزع الجميع. نظر بيرد وشاري وجريج إلى مصدر الصوت.
لقد تحطم الدرابزين الذي كان يستند عليه ميتشل.
صرخ ميتشل وهو يقع على الأرض: (لا).
طارت الكوفيتان من حول رقبته كجناحي طائر. ودار ميتشل نصف دورة في الهواء. قبل أن يسقط أرضا على ظهره، وقد تجمدت عيناه من الخوف والذعر.
سكت ميتشل للحظة. ثم عاد ليصرخ من جديد (قدمي أوه.. قدمي).
كانت الكاميرا والصورة مازالتا في يد جريج، وهو يجري مع شاري وبيرد ناحية ميتشل، حيث سقط.
قالت شاري لميتشل الذي كان ما يزال مستلقيا على ظهره وآهات الألم، تصدر فيه: (لا تخف، سنعاونك).
ومن أعلى السقف. جاءهم صوت صرير.
إنها خطوات أقدام!!
بعضهم يمشي في الحجرة العلوية!!
هناك أحد بالمنزل!!
إنه يقترب الآن من درجات البدروم!!
خطواته تشير إلى ذلك!!
هذا المجهول سوف يتمكن منهم ويمسك بهم!!


5

صوت اقتراب الخطوات، يعلو أكثر!!
الأصدقاء الأربعة، تبادلوا نظرات الخوف!!
قالت شاري همسا: (علينا أن نخرج من هنا، مازال صرير السقف ينذرنا بالمجهول).
قال ميتشل وهو يتحامل على نفسه، لينهض واقفا: (لا تتركوني هنا).
قال له بيرد آمرا: (أسرع بالوقوف).
ميتشل معترضا: (لا أستطيع الارتكاز على قدمي هذه).
قالت شاري: (سوف نساعدك).
وهي تستدير بعينيها إلى بيرد: (سوف أمسك بذراع، وأنت بالأخرى).
تقدم بيرد، وأمسك بذراع ميتشل، ووضعها حول كتفه.
همست شاري وهي ترفع ميتشل من الجانب الآخر: (أوكي. فلنتحرك!).
سألها بيرد وهو يلهث: (ولكن كيف سنخرج؟).
صوت اقتراب الخطوات، يزداد ارتفاعا، وصرير السقف يشتد أكثر!!!
همس ميتشل، هو يستند بكل ثقله على بيرد، وشاري: (من الصعب أن نصعد الدّرج.. هذا مستحيل!).
قال جريج وهو يشير بأصبعه: (هناك سلّم آخر.. خلف الفرن).
تساءل ميتشل، وهو يعاني الآم قدمه: (وهل يقود هذا الدّرج إلى الخارج؟).
قال جريج: (احتمال).
ثم أخذ يقودهم إلى الطريق، قائلا: (أدعو ألاّ يكون الباب، الذي يوصلنا هذا السلّم إليه.. موصدا).
متكئا على شاري، وبيرد.. يتحامل على السير، وهو يعرج. بينما الجميع متجهون إلى صعود الدّرج الذي خلف الفرن. كانت الدرجات تؤدي إلى باب خشبي كبير، ذي ضلفتين.
قال جريج: (إنني لا أرى مقبض الباب).
ثم أردف بصوت كله رجاء: (أرجوك.. أيها الباب، انفتح!).
من خلفهم، تناهى إلى أسماعهم، صوت رجل غاضب: (هاي.. من هناك في البدروم؟).
قال ميتشل متلعثما: (إنه.. إنه سبايدي).
وبسرعة. قالت شاري وهي تستحث جريج بدفعة خائفة من الخلف: (أسرع.. هيا بنا).
وضع جريج الكاميرا فوق الدرجة العلوية للسلّم. ثم مد ذراعه، وأمسك بمقبض الباب، ذي الضلفتين.
وبصوت أشد غضبا، وأكثر اقترابا من آذانهم: (من هناك بالبدروم؟).
همس جريج في تردد: (يبدو أن الباب مغلق من الخارج!).
قال بيرد متوسلا: (ادفع الباب، يا رجل).
شهق جريج نفسا عميقا، حاشدا كل قوته، وهو يندفع إلى الباب كالسهم، في تحدّ يائس. لكن الباب، لم يتزحزح!
قال جريج: (لقد وقعنا في في فخ!!).


6

تساءل ميتشل مذعورا: (وماذا بعد؟!!).
قال بيرد مستحثا جريج: (حاول مرة أخرى).
ثم انزلق بيرد من تحت كتف ميتشل، وهو مازال يخاطب جريج: (سأعاونك).
تحرك جريج، فأفسح مكانا لبيرد بجواره، ثم سأله: (هل أنت مستعد؟ إذن.. واحد.. اثنان.. ثلاثة.. هيا اندفع..).
وهكذا، اندفع الاثنان صوب الباب الضخم، بكل ما يملكان من القوة والإصرار. عندئذ، انفتح الباب!
صاحت شاري، بسعادة: (أوكي.. الآن سنخرج).
انحنى جريج، وأخذ الكاميرا. ثم تقدم المجموعة، في الخروج.
وصلوا إلى الفناء الخلفي للمنزل. كانت أرضه مغطاة بشجيرات جافة، وأوراق ذابلة.
كان ميتشل مازال يستند على بيرد، وشاري، حين قال له بيرد، باتفاق مع شاري: (هل تستطيع الآن أن تمشي.. عليك أن تحاول).
وهو مازال مستندا عليهما، دفع بقدمه إلى الأرض. خطا خطوة.. ثم خطا الثانية.. ثم قال، مندهشا: (نعم.. أنا الآن أفضل).
قال بيرد: (إذن.. هيا بنا سريعا، نرحل).
وانطلق الأربعة، مخترقين الفناء الخلفي، إلى الفناء الأمامي. وكان معهم ميتشل يجري دون مساعدة من أحد.
وأخيرا عبروا الباب الخارجي لحديقة المنزل، إلى الشارع.
صاح (بيرد): (لقد نجحنا).
وقف جريج يلتقط أنفاسه. نظر خلفه في اتجاه بيت آل كوفمان، مشيرا إلى أحد نوافذ حجرة المعيشة، وقال: (انظروا!).
كان هناك وجه خلف النافذة وجه غير واضح المعالم بسبب الظلام داخل المنزل. كان صاحب الوجه المجهول ينظر إليهم، ووجهه ملتصق بالزجاج المشروخ للنافذة.
قالت شاري: (إنه سبايدي).
وصاح ميتشل: (إنه يحدق فينا).
قال جريج: (هذا مخيف.. فلنذهب من هنا).
وهكذا، لم يتوقف الأصدقاء الأربعة عن الجري، حتى وصلوا إلى بيت ميتشل. كان واحدا من عدة بيوت خشبية متشابهة، حمراء اللون، وتحوطها الأشجار من كل جانب.
سأل جريج، ميتشل: (كيف حال قدمك؟).
أجاب ميتشل: (لقد خف الألم كثيرا.. أستطيع الآن أن أحركها بسهولة).
قال بيرد، هازا رأسه: (لا بد أن سبايدي قد أفزعه اقتحامنا للمنزل).
ثم تابع: (لقد رأيتم الطريقة التي كان ينظر بها إلينا من خلف النافذة).
قال جريج: (كان يبدو بملابسه السوداء كالجثة المتحركة).
ثم عاد مؤكدا: (لقد رآنا.. لقد رآنا.. لذا ينبغي أن نظل بعيدين عن هناك، ولا نعود ثانية).
تساءل ميتشل: (لماذا؟ إنه ليس منزله. إنه ينام هناك فقط. إننا نستطيع أن نطلب له الشرطة).
قال جريج معقبا: (ولكن. لو أنه مجنون بالفعل.. فإننا لن نستطيع التنبؤ بما سوف يقوم به!!).
قالت شاري بهدوء: (أوه.. إنه لن يفعل أي شيء. سبايدي لا يريد مشاكل. إنه فقط يريد أن يترك وشأنه).
رد ميتشل وهو يتحسس قدمه المصابة: (بالتأكيد. إنه لا يريد من أحد أن يطلع على خصوصياته. لذا فقد يعود للبحث عنا).
قال ميتشل، مخاطبا جريج: (هاي.. أين صورتي؟).
قال جريج: (ماذا؟!).
رد ميتشل: (تلك الصورة التي التقطها لي بالكاميرا التي عثرت عليها).
وتذكر جريج أنه مازال يحمل الكاميرا في يده: فوضعها بعناية على الحشائش أرضا.
ثم أدخل يده في أحد جيوب بنطلونه وهو يقول: (نعم.. نعم.. لقد وضعتها هنا حين بدأنا رحلة الفرار).
قال ميتشل: (حسنا.. هل نجحت الكاميرا في التقاط الصورة؟!).
والتف الأصدقاء الثلاثة حول جريج ليلقوا نظرة على الصورة في يده.
عندئذ صاح جريج، وهو يحملق في الصورة مندهشا: (هناك شيء غريب.. شيء غامض.. ترى ماذا يجري هنا؟!).


7

حملق الأصدقاء الثلاثة في الصورة التي في يد جريج، وقد فغرت أفواههم من الدهشة.
كانت الكاميرا قد التقطت مشهد ميتشل وهو يسقط من أعلى الدرج!
صاحت شاري: (هذا مستحيل!!).
صاح ميتشل وهو يخطف الصورة من يد جريج، لكي يراها من قرب: (لقد التقطها لي، قبل أن أقع!).
قال بيرد وهو يلقي نظرة أخرى على الصورة، من خلف كتف ميتشل: (إن ذاكرتك ضعيفة. لقد التقطها لك وأنت تسقط، إنها رمية من غير رام).
واستدار بيرد ليلتقط الكاميرا من فوق كتف جريج، قائلا: (إنها كاميرا ممتازة.. تلك التي سرقتها يا جريج).
رد جريج سريعا: (أنا لم أسرقها.. أعني أنني لم أتعمّد أخذها معي حين هربنا. لقد حدث ذلك دون وعي).
قال ميتشل، دون أن يرفع رأسه عن الصورة التي بين يديه، وهو يتفحصها من كل زاوية: (لم أكن قد سقطت بعد، وأنت تلتقط الصورة يا جريج، حاول أن تتذكر. لقد كنت واقفا.. وكنت أرتكز على الدرابزين.. وكنت أبتسم).
قال بيرد. وهو يعيد الكاميرا إلى جريج: (نعم أذكر ابتسامتك المتهكمة).
ثم واصل مبتسما: (هل هناك أقوال أخرى).
وضع ميتشل الصورة في جيب بنطلونه.. (ياه!!).
قال جريج وهو ينظر في ساعة يده: (ياه.. يجب أن أذهب الآن).
ودع جريج أصدقاءه واستدار آخذا طريقه إلى منزله.
كانت أشعة الشمس عند الأصيل، تشيع الدفء في المكان بينما أشجار النخيل تفرش ظلالها على جانبي الطريق. لقد وعد جريج أمه أن يعيد ترتيب حجرته. وأن يقوم بكنسها أيضا قبل العشاء. لذا فعليه أن يعود الآن.
ما هذه السيارة الغريبة التي يلمحها من بعد، أمام منزلهم؟! كان جريج مندهشا وهو يسرع الخطى إلى البيت. كانت السيارة زرقاء من ماركة (ستيشن واجن) جديدة تماما. لابد أنها السيارة الجديدة التي كان أبوه متعاقدا عليها. فتح جريج الباب الأمامي للسيارة ومال برأسه داخلها. إن للسيارات الجديدة رائحة مميزة. وأخذ جريج نفسا عميقا. كم هي جميلة هذه الرائحة المميزة!! أخرج رأسه وأغلق الباب بشدة. أعجبه الصوت الذي أصدره الباب عند غلقه.
ما أروع هذه السيارة الجديدة!!
وضع جريج الكاميرا أمام عينيه وتراجع عدة خطوات إلى الخلف. لابد أن ألتقط صورة للسيارة الجديدة لكي نتذكر في المستقبل، ما الذي كانت عليه السيارة، حين كانت جديدة. تراجع مرة أخرى إلى الخلف، ليلتقط صورة كاملة للجانب الأيسر للسيارة. تماما بمثل مالمحها وهو قادم من بعيد. ضغط على الزر. أزّت الكاميرا وأضاء الفلاش. ثم راحت الصورة تبرز ببطء من أعلى.
وحين أصبحت الصورة في يد جريج جرى داخلا إلى المنزل (أنا وصلت).
صاح جريج وهو يصعد الدّرج إلى الطابق الأعلى المؤدي إلى غرف النوم: (لقد وصلت. سوف أنزل خلال دقائق).
نادته أمه من الطابق السفلي: (أهو أنت يا جريج؟. أبوك عاد من العمل).
أجابها بصوت عال: (أعرف.. أعرف.. أنا قادم.. لحظات.. آسف لتأخريّ).
قال جريج لنفسه: (يستحسن أن أخفي الكاميرا، كي لا يراها أحد.
وإذا طال مكثه في الطابق العلوي، نادته أمه، متسائلة: (جريج هل رأيت السيارة الجديدة؟ هل ستنزل؟).
أجابها سريعا: (أنا قادم).
وأخذت عيناه تفتشان عن مكان يصلح لتخبئة الكاميرا بعيدا عن أعينهم.
تحت السرير. لا. فقد تكتشفها أمه فيما لو قامت بتنظيف المكان. هنا تذكر جريج المكان السري الموجود في دولاب ملابسه. ذلك المكان الذي اكتشفه منذ سنوات حين اشترى له أبواه غرفة نوم جديدة. وضع جريج الكاميرا في المكان السري ثم وقف أمام المرآة. مشط شعره الأشقر مسرعا. واستبدل قميصه بآخر. واتجه ناحية باب الحجرة. 
لكنه توقف عند العتبة. صورة السيارة الجديدة. ترى أين وضعها؟ ومضت ثوان قبل أن يتذكر. نعم لقد تركها على السرير. استدار عائدا إلى داخل الحجرة، فالتقط الصورة. ونظر فيها مليا. عندئذ صدرت منه صيحة دون أن يعي محدثا نفسه بصوت مرتفع: (لا.. لايمكن!).


8

تساءل جريج متعجبا: (ما هذا؟ ما الذي يجري هنا؟!).
ورفع الصورة لأعلى ليتأملها عن قرب. هذا غير صحيح! كيف يمكن أن يحدث ذلك؟!!
كانت سيارة والد جريج الجديدة، تبدو في الصورة في حالة يرثى لها. كانت تبدو وكأنها خرجت لتوها من حادث فظيع. فالزجاج الأمامي مهشم. وجسم السيارة محطم والباب الأمامي المجاور للسائق غائر تماما من شدة الصدمة التي تعرض لها.
قال جريج بصوت عال: (هذا مستحيل)!!
نادته أمه: (جريج، أين أنت. الطعام معد. نحن جميعا في انتظارك).
وهو مازال يتأمل الصورة العجيبة، في حجرته، أجاب جريج: (آسف يا أمي، إنني قادم).
ثم غادر الحجرة، بعد أن دفع بالصورة في الدرج الأعلى من دولاب ملابسه.
ونزل جريج الدرجات. كانت صورة السيارة المحطمة ما تزال تلهب مخيلته. ولكي يطمئن قلبه. وقبل أن يوافي والديه، دلف إلى حجرة المعيشة، ونظر من النافذة.
كانت السيارة الـ (ستيشن واجن) تقف في مكانها. جديدة. شامخة. لامعة. تبرق تحت أشعة شمس الأصيل الدافئة.
استدار جريج عائدا إلى حجرة الطعام، حيث جلس أخوه ووالداه حول المائدة.
قال جريج في محاولة منه لتناسي صورة السيارة المحطمة: (السيارة الجديدة. رائعة يا أبي).
ومع ذلك ظلت صورتها تداعب مخيلته بزجاجها المهشم، وهيكلها المقوس، وبابها الغائر.
قال والد جريج مبتهجا: (بعد الانتهاء من تناول العشاء، سآخذكم في نزهة بالسيارة الجديدة).


9

قال تيري شقيق جريج، وهو يمضغ طعامه، ويتكلم في نفس الوقت: (الدجاج لذيذ جدا.. يا ماما).
قالت السيدة بانكس: (شكرا. على المجاملة).
ثم استطردت: (لكنه لحم بقري، وليس دجاجا).
انفجر جريج، وأبوه ضاحكين. وأحمر وجه تيري. وقال وهو مستمر في المضغ: (إنه لحم بقري جيد، لدرجة أن مذاقه جعلني أظنه دجاجا).
وقال السيد بانكس في محاولة من جانبه لتغيير الموضوع: (تيري. كيف تسير الأمور في مصنع الألبان؟).
قال تيري، وهو منهمك في تقطيع البطاطس بالسكين، ورفعها إلى فمه بالشوكة: (لقد انتهى كل المنتج من الجيلاتي، عصرا. وهذا ضايق زبائن المصنع كثيرا).
وتناول تيري قطعة أخرى من البطاطس، وابتلعها.
قال جريج، بعد أن فرغ من تناول عشائه، الذي لم يلمسه تقريبا: (أظنني، لن أتمكن من الخروج معكم للنزهة بالسيارة، أعني..).
ولم يدعه أبوه يكمل.. إذ قاطعه قائلا: (ولماذا لا تأتي معنا؟).
وراح جريج يبحث في مخيلته عن حجة مقنعة. لكن الذاكرة خانته. ثم هو أيضا لن يستطيع أن يخبرهم بالحقيقة.
حقيقة أنه التقط أيضا صورة لميتشل وهو واقف. وأظهرته الصورة وهو يسقط من أعلى السلم. وبعدها بلحظات سقط ميتشل.
والآن التقط أيضا صورة للسيارة الجديدة اللامعة. ظهرت صورتها محطمة متهالكة.
جريج لا يعرف يقينا، ما الذي يعنيه هذا. لكنه فجأة، شعر بقوى مخيفة تجتاحه من الداخل. إنه شعور غريب بالخوف. شعور لم يشعر به، من قبل. ولا يستطيع كذلك أن يخبر أحدا من أهله، عنه! إنه شيء مرعب ويدعو للدهشة، ذلك الذي حدث بخصوص الصور.
قال جريج، كاذبا، وهو يجيب أباه دون أن يرفع رأسه من طبقه: (لقد رتبت.. للذهاب إلى ميتشل).
قال جريج ذلك وهو ينظر في طبقه الذي لم تمسسه يده!
قال أبوه في عبارة حاسمة: (ستأتي معنا.. هذا أمر نهائي).
ثم استطرد وهو يتأمل وجه جريج في محاولة لفهم ما يخفيه: (لقد كنت تتوق إلى مجيء السيارة الجديدة.. والآن.. حقيقة أنا لا أفهم ما الذي اعتراك. وما هي مشكلتك؟!).
قال جريج لنفسه: (ولا أنا كذلك أعرف مشكلتي؟!).
إنني لا أفهم شيئا على الإطلاق. لماذا أخشى ركوب السيارة الجديدة؟ هل بسبب مجرد عطل في هذه الكاميرا الغبية؟ يالي من ساذج، لماذا أخاف ركوب السيارة الجديدة؟
كان جريج يفكر، وهو يحاول طرد الشعور بالخوف الذي اعتراه، وأفقده شهيته إلى الطعام.
قال جريج، وهو يغتصب ابتسامة خاطفة: (حسنا يا أبي. سوف آتي معكم).


10

قال السيد بانكس، وهو يزيد من سرعة السيارة، متجها إلى الطريق السريع: (إن قيادة هذه السيارة سهلة جدا!).
قال تيري وهو جالس بجوار جريج على المقعد الخلفي بينما ركبتاه ترتكزان على المقعد الأمامي: (البراح هنا في الخلف كبير يا أبي).
قالت والدة جريج: (هيه.. انظروا.. هنا رف يفتح لتقديم المشروبات عليه) وهي تشير إلى مكان الرف.. (إنه رائع).
قال تيري ضاحكا.. (نحن محظوظون. لم يكن عندنا رف لتقديم المشروبات من قبل).
أدارات السيدة بانكس رأسها للخلف، ووجهت حديثها إلى الصبيين: (هل ربطتما الأحزمة؟ وهل هي تعمل؟).
أجاب تيري: (نعم.. إنها تعمل جيدا).
قال السيد بانكس: (لقد تم اختبار الأحزمة في المعرض. قبل أن أستلم السيارة).
انحرف السيد بانكس في طريقه إلى الغرب وعن بعد كان لون الشمس الغاربة بأشعتها الحمراء، يزين السماء الصافية.
قال تيري: (انطلق يا أبي بأقصى سرعة).
ثم استطرد: (حتى تتعرف على أقصى إمكانات تلك السيارة).
ضغط السيد بانكس على بدال السرعة منصاعا إلى رأي ابنه. وانطلقت السيارة تسابق الريح.
قالت السيدة بانكس: (أخفض من سرعتك).
وهي تراقب عداد السرعة في قلق: (إنه يتجاوز 65 ميلا.. هذا ممنوع).
قال السيد بانكس منطلقا، وقد تجاوز عداد السرعة 75 ميلا: (إنني فقط، أتعرّف على إمكاناتها).
قالت السيدة بانكس: (أبطيء.. أرجوك..)
وفي نبرة هي خليط من الحزم والرجاء: (إنك تتصرف كمراهق طائش).
أجاب السيد بانكس ضاحكا: (هذا هو أنا بالفعل)
وكانت يده اليمنى مشغولة في البحث عن زرّ من الأزرار العديدة التي أمامه: (ترى أين زر الإضاءة.. لابد أنه هنا في مكان ما..).
واختلت السيارة -نظرا لسرعتها- بين يديه، فانحرفت باندفاع شديد، إلى يسار الطريق. عندئذ صرخ جريج بفزع: (انتبه يا أبي.. إلى تلك الشاحنة!).


11

دوى بوق الشاحنة عاليا. وفي لمح البصر، تصرف السيد بانكس تلقائيا، منحرفا بالسيارة إلى الجانب الأيمن من الطريق. عندئذ اعتدل المقود في يده. وتوازنت السيارة في سيرها.
(آسف).
قال السيد بانكس بصوت خفيض، وعيناه لا تحيدان عن الطريق: (آسف).
ثم آخذ يبطئ من سرعته.. ستون.. خمسون..
قالت السيدة بانكس في لهجة المؤنب: (ألم أطلب منك الإبطاء؟ كدت أن تقتلنا).
قال السيد بانكس وهو يضيء الأنوار الكاشفة: (كنت أبحث عن أزرار الإضاءة.. هاهي ذي).
ثم استطرد بعد أن تمالك نفسه واسترد أنفاسه: (هل أنتم على ما يرام يا أولاد؟).
قال تيري، وآثار الخوف ما تزال على وجهه: (كادت الشاحنة أن تقتلنا. كانت ستحطم الجانب الأيسر من السيارة؟).
أما جريج فكان رأيه أن يعودوا إلى المنزل.
قال السيد بانكس متعجبا.. (نعود إلى المنزل؟!.. ألا تريدون مواصلة الرحلة إلى ساننت كلارا لتناول المرطبات؟!).
وقالت السيدة بانكس: (يكفي هذا اليوم يا عزيزي، ودعنا نرجع إلى البيت).
وانصاع السيد بانكس إلى رأي زوجته، واستدار بالسيارة عائدا من حيث أتوا.

***
في حجرته، فتح جريج دولاب ملابسه فأخرج صورة السيارة، وأخذ يتأملها. كان الجانب الأيمن من السيارة -في الصورة- مقوسا إلى الداخل. وكان الزجاج الأمامي مهشما تماما!
قال جريج لنقسه: (غريب.. غريب جدا.. هذا الذي أراه في الصورة).
ثم هز جريج كتفيه وهو يضع الصورة الفوتوغرافية في مكانها السري في الدولاب بجوار الكاميرا ثم جذب الكاميرا، مخاطبا نفسه: (سأختبرها مرة أخرى).
أخذ الكاميرا بين يديه، وذهب بها إلى حجرة أخيه تيري.
كان تيري جالسا إلى مكتبه أمام شاشة الكومبيوتر. وكانت شاشة التلفزيون قد ألقت بشعاعها الأزرق على وجهه.
(تيري هل تمانع في التقاط صورة لك؟).
استمر تيري منشغلا أمام جهاز الكمبيوتر.
وبعد قليل أبعد وجهه عن الشاشة، ثم سأل جريج: (هيه.. من أين أتيت بهذه الكاميرا؟).
(لقد أعارتني إياها شاري) رد جريج بسرعة.
لم يكن جريج يميل إلى الكذب. لكنه أيضا لا يريد أن يخبر تيري كيف تسلل هو وأصدقاؤه إلى منزل: (آل كوفمان)، ثم كيف خرجوا منه، والكاميرا معه. ولهذا أجاب على سؤال أخيه قائلا: (لقد أعارتني إياها صديقتي شاري).
ثم أردف: (تيري.. استعد. أريد أن ألتقط لك صورة).
قال تيري مازحا: (نعم يا جريج تستطيع أن تلتقط الصورة قبل أن أكسر لك الكاميرا).
قال جريج: (هناك عطل بالكاميرا. عطل ما، لم أضع يدي على سببه. لذا أريد اختبارها بالتقاط صورتك).
قال تيري وهو يخرج لسانه، ويجعل عينيه حولاوين: (هيا.. ها أنا ذا).
ضغط جريج على الزر.. وبعدها بقليل خرجت الصورة من أعلى الكاميرا.
قال جريج، وهو يتجه إلى الباب خارجا: (شكرا.. إلى اللقاء).
قال تيري وهو يلحق بشقيقه عند عتبة الحجرة: (هاي.. جريج.. ألن تريني الصورة قبل أن تخرج؟).
قال جريج، وهو يسرع بالخروج، متجها إلى حجرته: (إذا ظهرت واضحة).
وفي حجرته.. جلس على سريره وهو يمسك بالصورة التي بدأت ملامحها تتضح ببطء، وألوانها تتبدل من الأصفر إلى الأحمر ثم إلى ظلال من اللون الأزرق.
قال جريج متعجبا، حين بدأ وجه أخيه يظهر في الصورة: (بالتأكيد، هناك خطأ ما في الكاميرا).
في الصورة، لم تكن عينا تيري حولاوين ولم يكن لسانه خارج فمه، بمثل ما كان عليه، أثناء التصوير لكنه كان في الصورة، يبدو شديد الانزعاج. بينما كانت نظراته تعكس خوفا شديدا.
فلما اتضح منظر الخلفية في الصورة، تلقى جريج صدمة أخرى!
إنها ليست حجرة تيري التي تم فيها التصوير. لكن الخلفية كانت عبارة عن أشجار ومنزل. وكأن الصورة التقطت لتيري وهو خارج حجرته. بل خارج منزله!!
وحملق جريج في المنزل الذي يظهر في الصورة. إنه يبدو مألوفا لديه. إنه ذلك المنزل الذي يقع عبر الشارع المجاور للملعب العام.
ألقى جريج نظرة أخرى على منظر تيري الفزع. ثم أخذ الصورة والكاميرا ودسهما في المخبأ السري دولاب ملابسه. أغلق الدولاب. وهو يقول لنفسه: (لابد أن هناك عطلا ما بالكاميرا!).
ثم اتجه إلى سريره. فقد قرر أن ينام لينسى أمر الكاميرا، والصورة والصور.
في السرير، وعيناه محدقتان في سقف الحجرة اتخذ جريج قراره، بألا يفكر في أمر الصور. وأما الكاميرا، فيها عطل ما لا يستحق أن يقلق بشأنه.
عصر يوم الأربعاء. وعقب الدراسة، خرج جريج للقاء شاري، ولمشاهدة فريق بيرد للبيسبول وهو يتبارى مع الفريق المنافس.
كان يوما دافئا. وكانت الشمس تسطع في سماء خالية من السحب. وكانت أوراق النخيل الرطب تعطر الجو برائحة محببة.
في الملعب حيث يتبارى الفريقان، كانت أصوات اللاعبين تختلط بصوت الكرة في المضرب.
وكان بالملعب بعض الآباء. وكثير من الأطفال. جاءوا جميعا لمشاهدة المباراة. كان بعضهم وقوفا. بينما جلس الآخرون. فلما لمح جريج شاري من بعد، اتجه ناحيتها، وكانت هي قد شاهدته فأقبلت عليه.
قالت شاري: (هل أحضرت الكاميرا؟.. عظيم!).
ومدت يدها لتأخذها من فوق كتفه.
قال مشيرا للكاميرا:( أعتقد أن بها عطلا ما. فصورها ليست جيدة).
قالت شاري مازحة: (قد يكون العيب في المصور وليس في الكاميرا).
(إذن سألتقط صورتك وأنت تلتهمين أصابعك).
وأمسك جريج بالكاميرا وهو يقترب من شاري. قفزت شاري إليه. وبسرعة اختطفتها منه وهي تقول: (بل أنا التي سألتقط صورتك وأنت تأكل الكاميرا).
قال جريج وهو يتقدم من شاري. مباغتا إياها، لكي يستعيد الكاميرا: (لماذا أخذت الكاميرا؟).
(أريد أن ألتقط صورة بيرد وهو يتحول إلى وطواط).
انشقت الأرض عن بيرد، فإذا هو واقف بينهما، متظاهرا بالغضب مما سمعه.
كان شكله مثيرا للضحك، وهو بملابس اللعب البيضاء. كان قميصه كبيرا عليه، وبنطلونه قصيرا جدا. لكن القبعة هي الشيء الوحيد المتوائم مع مقاسه. كانت القبعة زرقاء اللون وقد كتب عليها باللون الفضي اسم الفريق (الدولفينز) أي الدرافيل.
قال جريج، وهو يدير قبعة بيرد للخلف: (ما هو مدلول هذا الاسم بالنسبة لفريق بيسبول؟)
قال بيرد مدافعا عن اسم فرقته: (لقد سبقتنا الفرق الأخرى إلى اختيار الأسماء المناسبة. ولم يبق إلا ذلك الاسم فأخذناه).
نظرت شاري إلى بيرد من أعلى إلى أسفل وهي تقول: (من الأفضل لكم أن تكتفوا باللعب في الشارع).
أجابها بيرد: (شكرا على هذا التشجيع).
ثم اختطف الكاميرا: (هيه لقد أحضرتم الكاميرا.. هل بها فيلم؟).
قال جريج: (نعم أعتقد ذلك. دعني أتحقق).
وتقدم ليستعيد الكاميرا من بيرد. لكن بيرد أبعدها عن يديه.
وفجأة، انقضت شاري على الكاميرا واختطفتها من يد بيرد.
قالت شاري: (لقد طلبت من جريج أن يحضر الكاميرا لكي نصورك وأنت تلعب).
رد بيرد: (أنتم إذن تريدون أن تلتقطوا صورتي كمثل يحتذى به).
قالت شاري: (بل كمثل ينبغي ألا يحتذى به).
وهو يدير قبعته على رأسه، نحو الأمام، جاءه صوت كابتن فريق البيسبول: (هيه.. بيرد.. عد إلى أرض الملعب).
قال بيرد وهو يستدير راجعا. ليواصل اللعب مع الفريق: (نعم.. أنا قادم).
قال جريج: (لا.. انتظر. دعني ألتقط لك صورة سريعة الآن).
توقف بيرد متخذا وضعا خاصا للتصوير.
(لا.. دع هذا الأمر لي) قالت شاري بإصرار، وهي تقرب الكاميرا من عينها. وتوجهها إلى بيرد: (لا.. دع هذا الأمر لي).
وفي لمح البصر كان جريج يقترب من شاري، وينقض على الكاميرا، ويختطفها: (بل دعيني ألتقط أنا الصورة).
وضغط جريج على الزر. فدارت الكاميرا. وتوهج الفلاش. وخرجت الصورة من أعلى.
سألت شاري بغضب: (لماذا خطفت الكاميرا من؟!!).
قال جريج: (آسف. لم أكن أقصد ذلك).
مدت شاري يدها إلى الكاميرا فانتزعت الصورة من الكاميرا. وأمسكت بها بين يديها. عندئذ أقبل جريج وبيرد ليشاهدا الصورة وقد أخذت ملامحها وألوانها تتضح شيئا فشيئا.
صاح بيرد: (ما هذا؟!!!).
كان يحملق في الصورة وعلى وجهه ترتسم علامات الانزعاج. كانت ملامح الصورة قد اتضحت تماما الآن، وهذ هو الذي أزعجه!
صرخ بيرد، وعيناه لا تفارقان الصورة: بيرد ملقى على ظهره في أرض الملعب فاقد الوعي، وعيناه مغمضتان!!


12

تساءل بيرد وهو ينتزع الصورة من يد شاري، ثم يقلّب فيها: (ما هذه الكاميرا الغبية؟).
قال جريج وهو يهز رأسه: (إنها كاميرا سحرية).
قالت شاري: (اذهب إلى الملعب يا بيرد.. إنهم ينادونك).
صاح بيرد وهو يعيد الصورة إلى شاري، آخذا طريقه إلى الملعب: (إنني قادم).
سألت شاري جريج وهي تحدّق في الصورة: (كيف حدث هذا؟ إنني أرى بيرد راقدا على ظهره فاقد الوعي على ما يبدو. بينما كان يقف بيننا عند التقاط الصورة).
أجاب جريج: (لست أعرف كيف حدث ذلك.. حقيقة لا أعرف كيف قامت الكاميرا بذلك؟!).
وحمل جريج الكاميرا وهو يؤرجها بين يديه، ثم تبع شاري إلى حيث وقفت في مكان ظليل.
قالت شاري وهي تعيد النظر في الصورة: (انظر إن عنق بيرد يبدو هنا ملتويا للخلف. إن هذا شيء مرعب!).
قال جريج: (بالتأكيد هناك عطل ما بالكاميرا).
ثم بدأ يحكي لها عن الصورة التي التقطها للسيارة الجديدة، وعن الأخرى التي التقطها لأخيه.
قاطعته شاري، كمن تساعده على التذكّر: (وصورة ميتشل، التي أظهرته وهو يسقط من فوق الدرج، قبل أن يسقط بالفعل. ياله من أمر غريب حقا!).
قال جريج موافقا: (أعرف).
قالت شاري، وهي تجذب الكاميرا من يده: (دعني أر ذلك الشيء).
ثم سألته: (هل بداخلها فيلم؟).
قال جريج: (لست متأكدا. إنني لم أعثر على العداد الذي يوضح عدد الصور الباقية من الفيلم، مثل أي كاميرا أخرى).
أخذت شاري تفحص الكاميرا عن قرب، وهي تديرها بين يديها. قالت: (ليس بها ما يفيد إن كان بداخلها فيلم، أم لا. وعلى فكرة. أين مكان الفيلم بها؟).
اقترب منها جريج، وراح يعاونها في معاينة الكاميرا. ثم أشار إلى مكان معين في الخلف، وهو يقول لها: (هذا مكان الفيلم، كما أعتقد).
قالت شاري: (لا. لا أظن ذلك. فمعظم الكاميرات التي تحمّض تلقائيا يوضع فيها الفيلم من الأمام!).
وحاولت شاري جاهدة العثور على مكان وضع الفيلم، لكن بلا طائل. بل لم تعثر على أي فتحة في الكاميرا. كانت الكاميرا أشبه بالكتلة اللصمّاء!
تساءلت شاري: (أي نوع من الكاميرات هذه؟!)
قال جريج، وهو يتناول الكاميرا من شاري: (دعيني أتفحصها من جديد).
وأخذ يعاينها من كل جوانبها. من أعلاها لأسفلها. ومن يمينها لشمالها. لم ينس العدسة ولا الجانب الأمامي، وأيضا الخلفي.
نظر إلى شاري وهو يقول: (والأعجب إنها لا تحمل اسم ماركتها!).
قالت شاري وهي تخطف الكاميرا من يد جريج: (كيف تخلو أي كاميرا من علامة الماركة؟).
وأخيرا أعادت إليه الكاميرا: (أنت على حق يا جريج.. لا علامة، ولا اسم، ولا أي كلمة عن نوعها.. لا شيء.. يالها من كاميرا غبية؟!).
قال جريج: (لا تنسي أن تلك الكاميرا لا تخصني فقد أخذتها من منزل آل كوفمان، كما تعرفين).
قالت شاري: (إذن، فلنحاول على الأقل أن نتعرف على الطريقة التي نفتحها بها، لكي ننظر بداخلها).
أجابها جريج: (لقد حاولت، وحاولت. لكني لم أتوصل لأي شيء).
قالت شاري وهي تأخذ الكاميرا من يد صديقها: (أعطني إياها. لا بد أن هناك طريقة تساعدنا في فتحها. هذا شيء غريب!).
وحاولت شاري من جديد مع الكاميرا. استخدمت هذه المرة أسنانها وأظافرها ولكن بدون جدوى.
أعادتها شاري مرة أخرى إليه، وهي تقول: (إذن حاول أنت).
أخذ جريج الكاميرا، وقربها من وجهه ثم توقف، هنيهة. ثم صدرت منه صرخة مكتومة مباغتة!!
تسمرت عيناه على منظر أمامه. وقد فغر فاه.
أدارت شاري رأسها في اتجاه المنظر الذي ألجم جريج: (أوه.. لا يمكن!).
هناك بعيدا على أرض ملعب البيسبول. كان بيرد مستلقيا على ظهره. مفتوح الفم. مغمض العينين. ملتوي الرقبة. ويبدو فاقد الوعي!!


13

صرخت شاري: (بيرد!)..
واحتبس الهواء في حلق جريج، فلم ينطق. أحس كمن صعقه مس كهربي. أخيرا، استطاع أن يصرخ، بصوت مبحوح: (بيرد لا يتحرك!).
ومن فورهما، جريا معا، جنبا إلى جنب،.. وبأقصى ما لديهما من السرعة وصلا إليه. عندئذ ركعت شاري على ركبتيها بجوار بيرد، وهي تنتحب: (بيرد.. بيرد!).
وعندئذ أيضا، فتح بيرد إحدى عينيه، قائلا: (عليكم واحد). ثم ضحك ضحكة طويلة.
ومضى يقول: (لقد أردت فقط أن أؤكد لكما خطأ أفكاركما بخصوص الكاميرا الملعونة).
قال جريج: (لكن يا بيرد..).
قاطعه بيرد قائلا، وهو يزيل العشب الذي علق بملابسه: (إن بها مجرد عطل.. هذا كل ما في الأمر. إنك يا جريج تعتقد أنها كاميرا سحرية، لأنها أظهرت ميتشل في الصورة، وهو يسقط من أعلى الدرج. مع أن الأمر أبسط من ذلك. إن الكاميرا بها عطل ما، ليس إلا..).
بحدة، قال جريج: (أعرف. ولكن كيف تشرح ذلك؟).
قال بيرد: (لقد قلت لك يا رجل إن بها عطلا).
نادى صوت: (هيا يا بيرد إلى الملعب).
وهو يلوّح لشاري وجريج، انطلق بيرد جريا إلى الملعب، لينضم إلى فريقه. أما جريج، فقد حمل الكاميرا، آخذا طريقه مع شاري، إلى المدرّج المكشوف. وهناك، على أحد المقاعد.. جلسا. كان معظم الذين حضروا لمشاهدة مبارة البيسبول قد انصرفوا نظرا لضعف مستوى الفريقين المتنافسين.
وهكذا خلال الملعب، إلا من بعض أولياء الأمور، وبعض الأطفال الذين يتقاذفون كرة قدم بين أرجلهم.
قال جريج، وهو يتابع اللعبة: (إن بيرد.. حقا فتى طائش).
قالت شاري: (لقد أفزعني حتى الموت. لقد اعتقدت حقيقة أنه أصيب بأذى).
غمغم جريج: (يا له من مهرج!).
وراح الصديقان يتابعان اللّعب في صمت. لم تكن المباراة ساخنة. كان معظم اللاعبين تنقصهم الكفاءة.
ضحك جريج بملء شدقيه وهو يرى كرة تنطلق بعنف، بعد أن دفع بها أحد اللاعبين، لترتطم برأس بيرد، ثم ترتد ثانية، لترتطم برأس بيرد، ثم ترتد ثانية، لترتطم برأسه مرة أخرى.
صاح جريج وهو يضحك. وأجابته شاري بضحكات متواصلة: (إنها ثالث كرة ترتطم برأسه. اليوم).
قال جريج: (فلننظر، حتى ترد بيرد ما إذا....).
وقبل أن يكمل، عبارته، تعالت صيحات فزع، من أولياء الأمور، ومن اللاعبين أيضا.
إنها الكرة، قد ارتطمت مرة أخرى، في قوة وعنف، برأس بيرد!
كان جريج يراقب الموقف، مذعورا، حين أصابت الكرة رأس (بيرد). فلما ارتدت إلى الأرض المفروشة بالعشب.. كان (بيرد) ما يزال مجمدا في مكانه، واقفا، للحظة طويلة، وقد اتسعت حدقتا عينيه بشدة. بينما يداه كانتا قد استقرتا على مكان الضربة في رأسه، وهو ييصرخ عاليا، صرخة طويلة، كصهيل فرس. ثم خانته ركبتاه، فسقط على ظهره طريحا، فاقد الوعي. كانت عيناه مغلقتين، وفمه مفتوحا، فاقد الوعي. كانت عيناه مغلقتين، وفمه مفتوحا، وعنقه ملتويا.. وبلا حراك!!


14

في ثوان.. كان كل أعضاء الفريقين يلتفون حول اللاعب الذي وقع مصابا وفاقد الوعي.
صرخت شاري: (بيرد.. بيرد!) ثم جرت لتخترق دائرة الملتفين حول بيرد. ومن خلفها كان يعدو جريج، ولكنه توقف حين اصطدم وجهه بين الزحام فجأة، بوجه مألوف يعبر الشارع، مسرعا في طريقه إلى الملعب.
صاح جريج: (تيري!). ترى، لماذا جاء شقيقه تيري إلى أرض الملعب؟
ولماذا هو الآن، ليس في عمله المسائي، بمصنع الألبان؟
صاح ثانية: (تيري، ما الذي يحدث الآن؟).
توقف تيري. ليلتقط أنفاسه: (لقد.. قطعت.. الطريق.. كله.. جريا). قال جريج، وقد انتابه شعور مرضي: (ما هي المشكلة يا تيري؟).
ما إن اقترب (تيري)، حتى بدا وجهه بنفس مشاعر الخوف، التي ظهر عليها في التي التقطها له جريج. نفس مشاعر الخوف، وكذلك نفس البيت الذي ظهر في خلفية الصورة.. يراه الآن من ورائه، عبر الشارع!
لقد تحولت اللقطة الفوتوغرافية إلى حقيقة. تماما كاللقطة الخاصة ببيرد المنطرح الآن أرضا، فاقد الوعي!
(تيري ما الذي حدث) صرخ جريج (إنه أبي) ووضع تيري يهتده على كتف أخيه وهو يقول (علينا أن نعود للمنزل الآن. لقد أصيب أبي في حادث كبير).
سأل جريج: (حادث؟).
(نعم بالسيارة الجديدة). أضاف تيري وهو يضع يديه على كتفي أخيه المرتعشين.. واصل قوله: (لقد تحطمت السيارة الجديدة. تحطمت بالكامل). وشعر (جريج) أن ساقيه لا تقويان على حمله وشعر (تيري) بذلك. فأمسك به وهو يقول: (بسرعة يا جريج.. لابد أن نذهب لأبي).
كانت الكاميرا، ما تزال في يده، حين أطلق ساقيه خلف شقيقه. فلما وصلا إلى الشارع، تلفت جريج وراءه، ليرى على أرض الملعب، ما الذي يحدث الآن (لبيرد). كان أعضاء الفريقين متحلفين حوله.
ولكن -بدت على وجه جريج الدهشة- وهو يلمح شبحا أسود يتراءى له من وراء المدرج المكشوف.
هل هو شخص.. شخص ملفوف بالسواد.. مختبىء هناك.. مراقبا جريج؟ قال تيري مستحثا: (هيا).
حدّق جريج بشدة، في المدرج المكشوف.
كان الشبح الأسود قد اختفى تماما.
(هيّا يا جريج) صرخ جريج، وهو يتبع أخاه: (إني قادم).


15

كانت حوائط المستشفى لونها باهت الخضرة. أما الأبيض فكان لون زي الممرضات. وكان البني والبرتقالي هو لون الأرضية التي تدق عليها أقدام جريج المسرعة وشقيقه، وهما يتسابقان إلى حجرة والدهما.
ألوان وأشكال غير محددة المعالم. هي كل ما استطاع جريج أن يستوعبه وهو سائر في طرقات المستشفى. مهموما بالقلق على ما جرى. كانت خطواته على أرضية المكان تدق في أذنيه عالية ليتردد صداها مع دقات قلبه.
أخيرا وصل الشقيقان إلى حجرة أبيهما. وهنا تحول كل شيء غير حقيقي إلى واقع حقيقي!
قفزت الأم من فوق مقعدها، لمرأى ولديها. من الواضح أنها كانت تبكي. واغتصبت الأم ابتسامة باهتة. لكن عينيها بلون الدم!
اتجه جريج بعينيه إلى أبيه. إنه مشهد حقيقي. والده يرقد على السرير تغطيه الضمادات.
رأس السيد (بانكس) يختفي تحت الشاش الأبيض. ذراعه اليسرى يغطيها الجبس. بجوار السرير يوجد حامل المحلول الذي ينسكب في عروق ذراعيه، قطرة قطرة.
سأل الأب: (كيف حالكم يا أولاد؟) كان صوته قادما من أغوار بعيدة. همّ جريج بالكلام: (أبي...).
قاطعته أمه: (كل شيء سيكون على ما يرام).
قال الأب: (أشعر أنني بخير). ثم استطرد: (إنها بعض كسور العظام. هذا كل شيء. أعتقد أني كنت محظوظا).
أجابت الأم بسرعة: (بل أنت محظوظ جدا).
تساءل جريج في نفسه. وهو ينظر إلى أبيه الذي يرقد على سرير المرض ولا يكاد يظهر من بين الضمادات: (أين هو الحظ الذي يتحدثان عنه؟).
مرة أخرى عادت إلى مخيلته، الصورة التي التقطها للسارة الجديدة. كانت اللقطة قد أظهرت السيارة محطمة تماما. كان زجاجها الأمامي مكسورا. هيكلها محطم وجانبها الأيسر مقوس إلى الداخل.
هل يحكي لهم عن ذلك؟ ترى، هل سيصدقونه لو أخبرهم؟ سأل تيري: (أبي.. ما هي نوعية الكسور؟).
أجابته أمه نيابة عنه: (إنها كسور بسيطة).
ثم استطردت: (ولكن الأطباء يخشون النزيف الداخلي. وهم يراقبون الحالة).
كرر الأب مبتسما لجريج: (لقد كنت محظوظا).
قال جريج فجأة: (أبي يجب أن أخبرك عن تلك الصورة التي التقطتها..).
ثم هو يتحدث بسرعة وبصوت مرتعش: (لقد التقطت صورة للسيارة الجديدة، و...).
قالت الأم: (السيارة تحطمت تماما. أنا سعيدة أنكم لم تروها).
ثم أضافت: (إنها حقا معجزة أن تقف إصابة أبيكم عند هذا الحد).
عاد جريج يقول من جديد: (هذه الصورة).
قالت الأم: (فلنؤجل حكايتك عن الصورة الآن).
وأحس جريج أن وجهه يلتهب من شدة الاحمرار. لكن أمر الصورة مهم. من المحتمل ألاّ يصدقوه. عموما.. من في قدرته أن يصدق، حكاية مجنونة كحكاية الصورة؟
سأل تيري: (هل في استطاعتنا شراء سيارة أخرى؟).
قالت السيدة بانكس: (عليّ أن أتصل بشركة التأمين للتشاور. سأتصل بهم عند عودتي إلى المنزل).
وبدأ النوم يستدرج السيد (بانكس)!
قالت السيدة بانكس وهي تنظر إلى زوجها: (ذلك، بفعل المهدئات والمسكنات التي تناولها).
ثم تناولت يده، وهي تقول: (سأذهب الآن وسوف أعود بعد أن تستيقظ).
وقفت السيدة بانكس.ثم أشارت لولديها برأسها ناحية الباب، واتجهت إلى الخارج. تبعها ولداها.
قال جريج بصوت خفيض: (سلام يا أبي).
وغمغم الأب برد التحية بصوت واهن لا يكاد يسمع. سأل تيري وخطوات الثلاثة تدب في طرقات المستشفى: (كيف وقعت الحادثة؟!!).
قالت الأم: (لقد حاول أن يتفادى بعض الصبية الذين عبروا أمام سيارته فجأة. لكنه فوجيء بأن الفرامل لا تعمل!!).
ثم هزت الأم رأسها وهي تقول: (لا أعرف ما الذي حدث تماما. عموما سوف يشفى بإذن الله).
مرة أخرى، قفزت تلك الصور إلى مخيلة جريج. إنها الصورة التي التقطها بالكاميرا العجيبة.. صور ميتشل، ثم تيري، ثم بيرد، ثم السيارة.
إنه شيء مرعب. ما حدث لهؤلاء لم يكن قد وقع قبل التقاط الصورة ولكن ما أظهرته الصورة، هو ما حدث لهم تماما!!!
ترى ما هي الحقيقة، بخصوص تلك الكاميرا!؟ وتعجب جريج. هل الكاميرا تكشف المستقبل؟!!
أم أنها هي التي تسبب في وقوع تلك الحوادث؟!!!


16

قال جريج. مخاطبا (شاري)، عبر الهاتف: (نعم. أعرف أن بيرد في حالة جيدة لقد رأيته أمس. كان محظوظا بالفعل، فهو لم يصب بارتجاج في المخ، أو بأية كسور.
بعد أن انتهى من حديثه عن بيرد.. عادت شاري -في التليفون- تكرر عليه، ما سبق أن طلبته منه: (أرجوك يا جريج.. أريد أن  تحضرها معك. إنه عيد ميلادي).
قال جريج بحدة: (لا يا شاري.. إنني حقيقة لا أريد ذلك).
كانت شاري، تريد من جريج أن يحضر معه الكاميرا.
قال جريج: (إنها كاميرا ملعونة.. لن أستعملها).
كان جريج على وشك أن يغادر المنزل، ذاهبا إلى حفل عيد ميلاد شاري، حين وصل أذنيه رنين التليفون.
كانت شاري على الخط الآخر، هي التي تتكلم: (هاي جريج. لماذا لم تحضر حتى الآن؟).
قال لها: (لأني على الخط معك).
قالت: (إذن هات الكاميرا معك).
كانت الكاميرا في مكانها السري. لم يكن جريج يجرؤ على لمسها. أو تحريكها من مكانها منذ الحادث الذي وقع لأبيه.
قال جريج: (لا أريد أن أحضرها معي. افهميني يا شاري.. لا أريدها أن تتسبب في إصابة شخص آخر).
- (أوه يا جريج)..
وراحت شاري تتحدث إليه. وكأنه طفل في الثالثة: (كيف لك أن تصدق أن الكاميرا تتسبب في إيذاء أي شخص؟!!).
سكت جريج لحظة. ثم قال: (لست أعرف ماذا يمكن أن أعتقد. كل ما أنا متأكد منه هو أن ميتشل أصيب أولا.. ثم تلاه بيرد.. ثم...)
ثم توقف جريج هنيهة، ليقول: (وبالأمس يا شاري رأيت حلما مفزعا).
قالت: (إن التصوير سيضفي نوعا من المتعة على حفل عيد الميلاد. ودعك من أحلامك المفزعة!).
ثم استطردت: (خاصة إنها ستكون أداة تسليتنا الوحيدة. حيث لا يوجد وسيلة أخرى للتسلية).
قال لنفسه، وهو يستشعر غصة في حلقه: (ما كان ينبغي أن أسمع كلام شاري!!).
ولكنه ذهب أحضر الكاميرا ويداه ترتعدان.


17

قال جريج وهو يخترق الشارع، ليعبر إلى الفناء الخلفي لمنزل شاري: (كيف حالك يا بيرد الآن؟!).
قال بيرد، وهو يرفع يده إلى أعلى مجيبا جريج: (أشعر بتحسن كبير).
عندئذ ظهر ميتشل بشعره الأشعث. كان يرتدي قميصا مزركشا تزينه ورود كبيرة. وكان واسعا عليه بشكل ملحوظ.
وسار الأصدقاء الثلاثة إلى منزل شاري حين جاءهم صوتها: (هل أتيت بها؟)
نظر جريج ناحية منزل شاري في اتجاه الصوت. رآها تتجه ناحيتهم، وقد لمت شعرها في خصلة واحدة مشدودة للخلف. كانت ترتدي بلوزة صفراء حريرية وبنطلونا أسود.
رددت بلهفة: (هل أحضرتها؟).
أجابها جريج: (نعم).
ردت عليه: (رائع).
قال جريج مهمهما: (حقيقة لم أكن أريد ذلك).
قالت: (بما أنه عيد ميلادي، فإن الصورة الأولى ستكون من حقي).
وبسرعة اتخذت شاري وضعا متكلفا، فأسندت ظهرها على جذع الشجرة التي تواجه منزلها، وجعلت يديها معقودتين خلف رأسها، وهي تقول: (هيا يا جريج.. صورة)..
انصاع جريج وهو يعد الكاميرا.
- (هل أنت متأكدة أنك تريدين ذلك يا شاري؟).
- (بالتأكيد. هيا أريد تصوير الجميع للذكرى بمناسبة عيد ميلادي).
قال جريج: (ولكن قد تخرج الكاميرا صورا مخيفة).
قالت: (أعلم ذلك)..
ثم استأنفت: (أريد أن نمرح ونضحك اليوم وستساعدنا الكاميرا العجيبة على ذلك. هيا يا جريج إلى التصوير).
صوب جريج العدسة ناحية شاري، وضغط على الزر. أحدثت الكاميرا الجلبة المعتادة ثم بدأت الصورة تخرج ببطء من أعلى.
قالت شاري: (والآن صور ميتشل يا جريج).
قال ميتشل وهو يبتعد عن المكان، متجها ناحية (نينا بلاك) صديقة شاري: (لا.. لا.. ليس بهذه الكاميرا مرة أخرى).
صورة جعلتني أقع من أعلى السلم. ولا أعرف إلى أين تأخذني الصورة الثانية).
لكن (نينا) تركته واقتربت من جريج وشاري قائلة: (فلنبدأ الحفل بالتقاط صورة فوتوغرافية لكل واحد فينا، يا شاري).
قالت شاري: (حسنا.. حسنا.. هيا بنا يا جريج).
وتذكرت شاري صورتها التي التقطها لها جريج، قالت: (جريج أريد أن أرى الصورة)
رفع جريج الصورة، ونظرا إليها معا.
سألته شاري: (أين أنا؟!!.. لقد أخطئتني).
كانت الشجرة التي ارتكزت عليها شاري واضحة في الصورة. لكن شاري كانت غائبة.
قال جريج متمتما: (كيف ذلك. لقد ركزت عليك عند التصوير!!).
قالت غاضبة: (لا.. لا لقد انحرفت يدك عني، فأنا لست موجودة على الإطلاق في الصورة!!).
جذبها جريج قائلا: (ولكن انظري.. إن جذع الشجرة الذي كنت ترتكزين عليه موجود في الصورة).
عادت تسأل: (ولكن أين أنا؟).
ثم أردفت: (عموما. التقط صورة أخرى لي).
واتخذت شاري نفس الوضع الأول في نفس المكان وخرجت الصورة الثانية. ولم تكن شاري موجودة بها أيضا!!!
قالت: (إنها حقا كاميرا عجيبة. إن بها عطلا ما. ولا يجب الاعتماد عليها).
جاءهم صوت الأم وهي تنادي على الجميع. فقد حان موعد إطفاء الشمع، وتناول كعكة عيد الميلاد.
ونظر الجميع حولهم. لا أثر (لشاري) وهرعت بعض الفتيات إلى داخل المنزل بحثا عن (شاري). لكن لم يعثروا عليها!
وارتفعت أصوات الفتية والبنات تنادي (شاري).. ولا من مجيب.
انطلق جريج خارجا عبر الشارع.. ودار حول المنزل.. وبحث عن شاري في كل مكان.. دون جدوى!
كانت شاري قد اختفت تماما!!


18

كان جريج جالسا على الأرض. مستندا بظهره على جذع الشجرة الذي كانت شاري تستند عليه أثناء التصوير. الكاميرا بجانبه عبىالأرض وهو يراقب رجال الشرطة، الذين انتشروا في كل مكان بملابسهم الرسمية ووجوههم التي تخلو من أي تعبير. كانت أصواتهم تصل إلى حيث يجلس، ولكن دون أن يميز ما يقولون.
كانت السيدة ووكر قد قامت باستدعاء زوجها، وكان يحضر مباراة في الجولف.
قال واحد من رجال الشرطة، وجنتاه حمراوان، وشعره أشقره: (لا أثر لها).
قالت السيدة ووكر وهي تهز رأسها متعجبة: (حقيقة. أنا عاجزة عن فهم ما حدث).
وسادت لحظة صمت قطعها رجل الشرطة قائلا: (سوف نستمر في البحث. إنني متأكد من أننا سوف نعثر على شيء يقودنا إليها).
واستدار الرجل مبتعدا عن الزوجين. ثم توقف أمام جريج: (أوه. هاي)..
وكان جريج لا يزال جالسا على الأرض مستندا على جذع الشجرة.
سأله رجل الشرطة: (هل ما زلت هنا يا بني؟ لقد غادر كل رفاقك المكان عائدين لمنازلهم).
قال جريج، وهو ممسك بالكاميرا: (نعم أعرف ذلك).
- (أنا الضابط رديك).
- (نعم أعرف).
- (لماذا لم تعد إلى منزلك. مثل زملائك. بعد أن تم استجوابك؟).
قال جريج: (ذلك لأني حزين جدا. (فشاري) من أعز أصدقائي، بالإضافة إلى أني أسكن في المنزل المجاور).
وأشار برأسه إلى منزله.
قال رجل الشرطة: (إذن.. يا بني يستحسن أن تعود لمنزلك).
ثم استطرد: (فالبحث قد يطول.. إننا لم نعثر على أي خيط يقودنا إليها حتى الآن).
قال جريج: (أعرف ذلك).
ثم قال لنفسه بصوت بين الهمس والهمهمة: (كما أعرف أيضا أن هذه الكاميرا هي السبب في اختفاء شاري).
وشعر بالحزن والخوف.
قال رجل الشرطة وهو ينظر في وجه جريج كأنه يبحث فيه عن إجابة: (كانت هنا.. وفي لحظة اختفت)!
أجابه جريج: (نعم هذا عجيب. إنه أغرب من أن يصدقه عقل).
ثم قال جريج لنفسه: (الكاميرا حولتها إلى إنسانة غير مرئية. لقد فعلتها الكاميرا!!).
اختفت شاري أولا من الصورة.
ثم اختفت ثانيا في الواقع.
الكاميرا هي التي فعلت ذلك بها. لا أعرف كيف؟!!
سأله رديك. وهو يضع يده دون وعي على المسدس بجيبه الخلفي: (هل لديك شيء إضافي تود أن تخبرني به؟ مثلا.. هل رأيت شيئا؟. شيئا قد يساعدنا في بحثنا عنها فتكون نسيت أن تخبرنا به حين سألناك من قبل؟).
قال جريج لنفسه: (هل أخبره عن الكاميرا؟!..ولكن لو أخبرته يجب علي أن أقول له من أين حصلت عليها. وكيف تسللنا إلى منزل آل كوفمان خلسة. وهذا قد يؤدي إلى كثير من المتاعب نحن في غنى عنها. لكن شاري قد اختفت. وهذا أهم من أي متاعب أخرى. ولكن ماذا لو أخبرته؟ هل سيصدقني؟!).
قال رديك: (يبدو عليك الاضطراب يا ولدي. ذكرني باسمك).
قال جريج: (جريج بانكس).
قال رجل الشرطة بهدوء مصطنع: (يبدو أنك مضطرب جدا يا جريج).
ثم تابع: (لماذا لا تخبرني عما يثير قلقك يا جريج فقد أستطيع أن أعاونك).
بدأ جريج يتكلم: (حسنا).
قال رديك: (واصل يا بني. هل تعرف أين (شاري) الآن؟).
قال جريج، وقد شعر أن الدم يكاد أن ينفجر في عروقه: (إنها تلك الكاميرا).
وسكت جريج ثم قال: (هل ترى هذه الكاميرا؟ إنها مسحورة).
سأله رديك بهدوء: (ماذا تعني؟)
قال جريج: (حين قمت بالتقاط صورتين لشاري بها. لاحظت أنها لم تظهر في الصورتين. اختفت من الصورتين.. وكل أثر لها اختفى!).
أغلق رديك عينيه ثم فتحهما: (لا. لا أستطيع أن أفهمك).
قال جريج: (كانت شاري مختفية من الصورة، في الوقت الذي ظهرت فيها كل الخلفية المحيطة بها. كل شيء صورته كان موجودا في الصورة، إلا هي. وبعدها اختفت هي في الواقع. أعتقد أن الكاميرا تتنبأ بالمستقبل. أو قد تكون هي السبب وراء ما يحدث من الأمور السيئة التي تقع).
أمسك جريج بالكاميرا وراح يقدمها للضابط. لكن الضابط لم يمد يده ليأخذها منه. ونظر بحدة إلى جريج.


19

حاول جريج أن يدفع بالكاميرا من جديد إلى يد الضابط. 
لكن الضابط هب واقفا، وهو يصوب عينيه في اتجاه جريج قائلا: (هذه الكاميرا تقوم بأعمال شريرة).
قال جريج: (في الحقيقة.. هذه الكاميرا -ليست ملكي. وفي كل مرة ألتقط فيها صورة....).
قاطعه رديك، واضعا يده بحنان على كتفه، محاولا أن يهدئ من روعه، إذ كان كل جسده يرتعد: (يا بني.. هذا يكفي.. ولست ألومك. إن اختفاء الفتاة، يحزن الجميع).
قال جريج، مشيرا إلى الكاميرا، وفي صوته نبرة الإصرار: (هذا حقيقي).
قال رديك، وهو يتطلع إلى جريج بأسى: (سوف أنادي ذلك الضابط، ليصحبك إلى منزلك. وسأطلب منه أن يخبر أهلك بأن الحادث قد أفزعك).
قال جريج لنفسه: (من المؤكد.. كان من المستحيل أن يصدقوني. لا أدري لماذا تصرفت بهذا الغباء؟ لماذا حدثته عن الكاميرا؟ لابد أنه الآن، سيعتقد أنني أعاني من حالة مرضية.
وإذ نادى الضابط أحد رجال الشرطة هب جريج من مكانه، وقد أمسك بالكاميرا، قائلا: (لا.. لا داعي. من الممكن أن أعود وحدي إلى منزلي).
قال رديك: (هل أنت متأكد من ذلك يا بني؟).
قال جريج: نعم.. نعم يا سيدي).
قال رديك: (عموما إذا عنّ لك شيء تريد أن تخبرني به بعد ذلك.. يمكنك أن تتصل بقسم الشرطة).
أجابه جريج وهو ينصرف ببطء متوجها إلى منزله: (بالتأكيد).
قال رديك: (لا تقلق يا جريج من أجل صديقتك.. سنبذل أقصى ما في وسعنا. وسوف نعثر عليها. ضع الكاميرا جانبا، وحاول الحصول على قسط من الراحة).
قال جريج مهمهما: (أشكرك).
وفي طريقه إلى منزله قال لنفسه: (لماذا تصورت أن الضابط يصدق مثل هذه القصة عن الكاميرا العجيبة؟ فأنا نفسي غير مصدق).
بعدها بدقائق، كان جريج يتسلل إلى الفناء الخلفي للمنزل. ويفتح باب المطبخ ويعبر إلى الردهة الرئيسية ثم علا صوته مناديا: (هل هناك أحد بالمنزل؟).
لم يجب أحد.
واتجهناحية حجرة المعيشة.
- (هل يوجد أحد هنا؟).
لا أحد.
كان تيري  بالعمل. ولابد أن أمه في المستشفى الآن تقوم بزيارة والده.
صعد الدرجات إلى حجرته كانت الكاميرا تتدلى من فوق كتفه. وعلى عتبة حجرته، توقف مشدوها. إنه لا يصدق ما وقعت عليه عيناه. ثم انطلقت منه صيحة فزع!
كانت كتبه قد تبعثرت على أرضية الحجرة وغطاء سريره ملقى على السجادة. أما أدراج مكتبه فكانت مفتوحة على مصرعيها. وقد تبعثرت محتوياتها أرضا.. وكانت محتويات دولاب الملابس هي الأخرى قد تناثرت في أرجاء الحجرة حيث اختلطت بالكتب.
لابد أن أحدهم اقتحم حجرته، وبعثر محتوياتها، وقلبها رأسا على عقب!!


20

تساءل جريج، وهو يحملق مرعوبا، في الحالة التي آلت إليها محتويات غرفته: (ترى، من يكون ذلك الذي عبث بالحجرة؟).
وخطر له أنه يعرف الإجابة: إنه يعرف من الذي قام بهذا الفعل. إنه شخص ما، يبحث عن الكاميرا شخص يريد أن يستعيد الكاميرا بأي ثمن. هل هو (سبايدي)؟
ذلك الرجل المخيف الذي يرتدي السواد. والذي يقيم في بيت آل كوفمان. ترى هل سبايدي هو صاحب الكاميرا؟
نعم. ولابد أن سبايدي هو الذي فعل ذلك بغرفته. إنه متأكد من ذلك. لقد كان سبايدي يراقب جريج. وكان يتجسس عليه حين كان في ملعب البيسبول. لقد عرف سبايدي أن الكاميرا مع جريج. وعرف أيضا أين يقيم.
وعاد جريج لينظر إلى حجرته، التي عبث بها سبايدي. وشعر جريج أنه لم يعد يقوى على جمع شتات نفسه. إنه ممزق. يريد أن يطلق صرخة مدوية. صرخة ألم. وفي نفس الوقت يريد أن يصيح طالبا العون. لكنه كان وحده بالمنزل. لن يسمعه أحد. ولن يعاونه أحد.
سأل نفسه: (وماذا بعد؟! وماذا بعد؟!).
فجأة قفزت إلى ذهنه فكرة صائبة. إنه الآن يعرف.. ماذا عليه أن يفعل!


21

- (أهلا يا بيرد. أنا جريج).
كان جريج ممسكا سماعة التليفون بيد. وبيده الأخرى يخلع السويتر.
لم يكن من قبل بمثل هذه الحيوية، ولا هذه السرعة.
سأله بيرد: (هل عثروا على شاري؟).
قال جريج وعيناه تمشطان حجرته بعد أن أعادها إلى حالتها الطبيعية: (لم يصلني ما يفيد ذلك. ولا أظن).
لقد أعاد كل شيء إلى مكانه بحيث لن يلحظ أبواه أي شيء مما حدث في الغرفة.
(اسمع يا بيرد. أنا لم أطلبك لأحدثك بشأن شاري. ولكني أريدك أن تتصل بميتشل، لكي تقابلاني فورا في أرض الملعب.
سأله بيرد متعجبا: (متى نقابلك؟).
قال جريج: (كما قلت لك. الآن فورا. الأمر غاية في الأهمية).
قال بيرد معترضا: (ولكنه موعد تناول العشاء).
ثم استطرد: (ولست أعرف، إن كان والداي...).
- (إنه أمر هام جدا)، وأخذ جريج يكرر بعد أن نفد صبره: (إنه أمر هام جدا. لابد أن ألقاكما).
ورد بيرد: (حسنا سأتصرف. ولكن على ألا يستغرق اللقاء أكثر من لحظات).
قال جريج وهو يهز رأسه: (شكرا يا أخي، ولا تنس (ميتشل) !!).
- (نعم .. نعم.. إلى اللقاء).
وضع جريج السماعة. ثم أطرق بأذنه لعله يسمع صوت أمه. لكنها لم تعد بعد من المستشفى. إنها لا تعرف حتى الآن، نبأ اختفاء شاري. من المؤكد أن اختفاء شاري، سوف يحزن والدته وكذلك والده.
سيكون حزنهما كبيرا. حزن قد يتساوى مع حزنه عليها.
وعلى ذكر صديقته المختفية، اتجه جريج إلى نافذة حجرته. ونظر إلى فناء منزلها المجاور لمنزله. لكن الفناء قد خلا الآن. بعد أن غادره والدا شاري. وبعد أن انصرف ضباط الشرطة.
شخص جريج ببصره إلى الشجرة الضخمة. الشجرة التي ظهرت في الصورة، دون أن تظهر شاري مستندة عليها. واستطاع جريج أن يلمح كعكة عيد الميلاد. إنها لا تزال في مكانها على الطاولة المستديرة، في فناء منزل شاري.
إنه أشبه بحفل عيد ميلاد للأشباح.
قال جريج لنفسه: (شيري مازالت حية).
وارتفع صوته: (سوف يعثرون عليها. إنها مازالت حية).
وبصعوبة انتزع جريج نفسه من أمام النافذة، ومن تأمل منزل شاري.
لقد كان متعجلا إلى لقاء صديقيه!


22

قال بيرد. وهو منكمش في مقعده، حيث الأصدقاء الثلاثة مجتمعون في ملعب الكرة: (لا.. لا يمكن).
ونزع جريج الكاميرا من فوق كتفه. وهو يشير ناحية ميتشل، متسائلا: (وأنت يا ميتشل؟).
- (أنا مع بيرد).
كان الملعب يكاد أن يكون خاليا إلا من بعض الصبية. فقد كان الوقت موعد تناول العشاء. كما كانت الشوارع شبه خالية من المارة.
قال جريج: (لقد ظننت أنكما ستوافقان على الذهاب معي إلى منزل آل كوفمان لإعادة الكاميرا إلى مكانها هناك).
ثم نظر إلى الآلة الفوتوغرافية وعاد يقول: (عليّ أن أعيد هذه الملعونة إلى مكانها. لابد من ذلك).
قال بيرد: (هذا مستحيل. لا تحاول).
ثم استطرد وهو يهز رأسه بعصبية: (لن أعود مطلقا إلى منزل آل كوفمان).
سأله جريج غاضبا: (هل أنت خائف؟).
أجاب بيرد بسرعة: (نعم).
سأل ميتشل: (ولماذا أنت مصر على إعادتها إلى مكانها هناك؟!).
ثم استطرد: (هناك طريقة أفضل).
سأله جريج: (طريقة أفضل؟.. ماذا تعني؟)
قال ميتشل: (من الممكن التخلص منها بإلقائها في مكان ما. تستطيع مثلا أن تقذف بها بعيدا بكلتا يديك لتسقط محطمة).
ثم عاد يواصل: (ويمكنك أن تلقي بها أيضا في أحد صناديق القمامة التي تبعد كثيرا عن هنا. أو نتركهاهنا في الملعب ونعود إلى منازلنا).
قال بيرد وهو يمد يده ليأخذ الكاميرا من جريج: (أعطني إياها لأخفيها أسفل هذا المقعد).
(إنكما لا تفهمان ما أعني).
قال جريج وهو يبعد الكاميرا عن يدي بيرد: (إنكما لا تفهمان ما أعني. إن إلقاء الكاميرا بعيدا لن يحل المشكلة).
سأل بيرد وهو يحاول ثانية اخذ الكاميرا: (ولماذا لا يحل المشكلة).
قال جريج: (لأن سبايدي لن يتوقف عن البحث، عن الكاميرا. إنه سيعود إلى حجرتي من جديد لينقب فيها. ولن يكف عن مطاردتي حتى يعثر عليها).
سأل ميتشل: (ولكن لو أننا أعدنا الكاميرا إلى مكانها في بيت آل كوفمان...).
ولم يدعه بيرد يكمل سؤاله. قاطعه قائلا: (قد يكون سبايدي هناك، ونحن نعيد الكاميرا. وعندئذ سيقبض علينا).
صرخ جريج: (أنتما لا تفهمان).
(إنه يعلم مكان إقامتي. لقد كان في منزلي. بل في حجرتي. إنه يريد استعادة الكاميرا الخاصة به).
قال بيرد: (إذن أعطني تلك الكاميرا. فليس من الصواب ان نذهب إلى ذلك المنزل. سنتركها هنا، وسوف يعثر هو عليها في هذا المكان).
حاول بيرد للمرة الثالثة أن يخطف الكاميرا من جريج. بينما جريج ينحّيها بعيدا عن يده. لكن بيرد الذي لم ييأس من تكرار المحاولة، استطاع ان ينقض على الكاميرا، وأن ينتزعها من يد جريج.
صاح جريج بفزع وهو ينظر إلى الصورة التي بدأت تخرج ببطء من أعلى الكاميرا: (لا يا بيرد!. لقد قمت بالضغط على الزر، دون قصد، فصورتني).
وأحس جريج أن ساقيه لا تقويان على حمله. وبينما يده ترتعش بشدة وهو يمسك بالصورة ليخرجها من باطن الكاميرا. ترى ما الذي تكشف عنه هذه الصورة؟!


23

قال بيرد: (آسف لم أكن أقصد أن...).
وقبل أن يكمل عبارته قاطعه صوت يأتي من الخلف: (هاي.. ماذا معكم؟).
نظر جريج مذعورا.. إنهما صبيان يقفان خلف الأصدقاء الثلاثة، وكأن الأرض قد انشقت عنهما فجأة. كانت تعبيرات وجهيّ الصبيين شديدة القسوة. وكانت أعينهما مركزة على الكاميرا.
وفي الحال، عرفهما جريج. إنهما (جوي فريش) و(مايكي وورد). الاثنان في الفصل الدراسي التاسع. يشاكسان ويتشاكسان. يخطفان ما تقع عليه أيديهما من الصبية الأصغر منهم. وقد اشتهروا بالاستيلاء على دراجات الصغار البخارية، للتنزه بها ثم يتركانها في أماكن بعيدة.
كان حجم جوي ومايكي يفوق سنهما. وكان الاثنان متخلفين دراسيا. ورغم اعتيادهما على سرقة الدراجات وألواح التزحلق، وقيامهما بمشاكسة الصغار، وشجارهما المستمر مع الجميع إلا أنهما لم يتورطا أبدا في مشكلة خطيرة.
كان (جوي) أشقر الشعر قصيره. وكان (مايكي) مستدير الوجه ينسدل شعره الأسود على كتفيه. وكانا يرتديان قميصين متشابهين من الجلد الفضي مما يجعلهما أشبه برجال الفضاء.
قال بيرد بسرعة: (هاي.. علي أن أذهب للبيت).
وهبّ واقفا استعدادا للرحيل.
قال ميتشل وهو يقف ليتبع بيرد: (وأنا أيضا).
كان جريج قد وضع الصورة في جيب بنطلونه.
قال جوي وهو يخطف الكاميرا من يد جريج: (هيه. لقد عثرت على الكاميرا الخاصة بي. أليس كذلك؟!).
ثم أردف قائلا: (أشكرك يا رجل.. لأنك أعطيتني إياها).
قال جريج بحزم وهو يمد يده في محاولة لانتزاعها من مايكي: (أعد الكاميرا).
ثم عاد في صوت أقل حدة ليقول: (هيا يا أولاد أعيدوا لي الكاميرا).
قال مايكي: (إنها لا تخصك.. لأنني أنا صاحبها).
قال جريج لمايكي بصوت أعلى: (ينبغي عليّ أن أعيدها إلى صاحبها بالفعل. فأرجوك أن تعطيها لي).
قال مايكي: (لا، ليس عليك أن تعيدها إلى صاحبها. فقد أصبحت أنا صاحبها منذ هذه اللحظة. لقد أصبحت ملكي منذ الآن).
وراح مايكي يردد قوله، وقد التمعت عيناه، وهو ينظر بشراسة إلى جريج.
قال ميتشل هامسا في أذن جريج: (دعه يأخذها). لقد أردت التخلص منها. اتركها له إذن).
قال جريج بإصرار: (لا). ثم استطرد قائلا: (لن أتركها لهما).
سأل جوي ميتشل وهو ينظر إليه من أسفل إلى أعلى: (ما هي مشكلتك يا فتى).
رد ميتشل على الفور: (ليس هناك أي مشكلة).
قال مايكي وهو يوجه الكاميرا تجاه جوي: (هاي.. ابتسم.. سألتقط لك صورة).
اعترض جريج: (لا.. لا تلتقط الصورة).
سأله جوي متهكما: (ولماذا لا يلتقط الصورة؟!).
قال بيرد ضاحكا: (لأن وجهك سيكسر الكاميرا).
قال جوي ساخرا، وهو يسدد إلى بيرد نظرات حادة: (يا لك من خفيف الظل).
قال مايكي لجوي، وهو يشير إلى بيرد: (إنني أعرف هذا الصبي.. أعتقد أنه المهرّج).
وأخذ الصبيان يحملقان في وجه بيرد، بقصد أن يبثا الرعب في قلبه.
قال جوي: (إنه يشبه شيئا ما.. سحقته أمس بقدمي).
وراحت ضحكات الصبيين تعلو في سخرية، بينما بيرد يشعر بغصة الإهانة في حلقه.
قال جريج، وهو يمد يده يريد أن يستعيد الكاميرا: (استمعا لي أرجوكما.. إنني حقيقة في حاجة لهذه الكاميرا. إنها كاميرا رديئة.. وبها عطل ما. ثم إني لست صاحبها لكي أتنازل عنها).
قال ميتشل مؤكدا: (نعم. نعم. إنها بالفعل معطلة).
قال مايكي وهو يوجه الكاميرا إلى جوي، استعدادا لتصويره: (إذن علينا أن نتأكد من ذلك العطل. اضحك يا جوي).
قال جوي: (هيا يا مايكي).
- (لا)...
قال جريج لنفسه: لن أتركها لهم. لابد من إعادتها إلى منزل آل كوفمان. عليّ أن أعيدها إلى سبايدي.
وبحركة غير متوقعة، انقض جريج على الكاميرا فانتزعها من مايكي، وهو يطلق صرخة مدوية.
ثم قال لبيرد وميتشل وهو يجري والكاميرا بين يديه: (هيا بنا).
وهكذا، وبدون أن ينبس أحدهم بكلمة، أخذ الأصدقاء الثلاثة يجرون عائدين إلى منازلهم.
كان جريج ممسكا بالكاميرا، في استماتة، وهو يجري بأسرع ما يمكنه.
قال بيرد، وهو يواصل الركض، بكل ما أوتي من قوة: (ينبغي ألاّ يلحقا بنا.. وإلا تحولنا بين أيديهما إلى قطعة من العجين).
لم يجروؤ واحد من الأصدقاء الثلاثة، على النظر إلى الخلف. واصلوا الجري، حتى تجاوزوا الملعب.. ثم عبروا الشارع. وفي حركة لا شعورية، استدارت أعينهم إلى الخلف، معا، في نفس اللحظة.
لم يكن الصبيان يجريان خلفهما. بل كانا لا يزالان حيث تركوهما واقفين في مكانهما، غير أن صوت جوي وصلهم من بعيد، متوعدا: (حسابكم معي سيكون قريبا).
وتبعه مايكي: (نعم سوفتنالون منا مالا تحبون).
ثم ارتفعت ضحكات الاثنين مختلطة ببعضهما.
قال ميتشل وهو يلقف الكلمات من بين أنفاسه المتلاحقة المتقطعة: (إنهما يعنيان ما يقولان. سوف ينتقمان منا، حيت يمسكان بنا في وقت لاحق. سوف نتحول إلى ماض!).
قال جريج: (إنهما مجرد فقاقيع هواء).
قال ميتشل معلقا: (إذن لماذا تجري منهما بكل هذا الخوف؟).
قال بيرد متهكما: (ذلك لأننا تتأخرنا على موعد تناول العشاء).
ثم استطرد بيرد: (أسرعا يا أصدقاء. لقد تأخرنا بالفعل على موعد العشاء).
قال جريج: (ولكن الكاميرا؟).
قال ميتشل: (لقد تأخرنا).
قال بيرد: (ونستطيع أن نعيد الكاميرا غدا).
قال جريج: (إذن سوف تأتيان معي).
قال بيرد، دون أن يجيب على تساؤل جريج: (علي أن أذهب الآن).
قال ميتشل وهو يجري في اتجاه منزله: (أنا أيضا تأخرت).
وأدار ثلاثتهم أعينهم مرة أخرى ناحية الملعب. كان جوي ومايكي قد اختفيا.
واصل جريج الجري حتى بلغ الفناء الخلفي لمنزله. ثم تذكر الصورة التي التقطها له بيرد دون قصد. فمد يده إلى جيب بنطلونه. توقف وأخرجها، ورفعها أمام عينه، ونظر فيها، ثم صرخ: (لا.. لايمكن.. لا أستطيع أن أصدق ذلك!!).


24

صاح جريج، بصوت عال، وهو يفترس الصورة التي بين يديه المرتعشتين: (هذا مّستحيل!! كيف ظهرت شاري في الصورة؟! لقد تم التقاط هذه الصورة، في أرض الملعب العام، بعد أن كانت (شاري) واضحة جدا في الصورة. كيف تظهر هكذا، بعد اختفائها.
في خلفية الصورة.. كان ملعب البيسبول يظهر جليا.
وبجوار (جريج)، وقفت (شاري).
كان الاثنان يحدقان في شيء ما.. أمامهما.
كانت عينا (شاري)، وكذلك (جريج)، مملوءين بالخوف والفزع.
صرخ جريج، وهو يمسح بنظراته فناء منزله: (شاري.. هل أنت هنا؟ هل تسمعنني؟).
وأرهف أذنيه..
لم يجب أحد. لا شيء غير الصمت.
وحاول مرةأخرى: (شاري.. هل أنت هنا؟!).
ارتفع صوت ينادي: (جريج).
ارتفع الصوت أكثر: (جريج).
مرت لحظات قبل أن يكتشف جريج أنه صوت أمه. هي التي كانت تناديه وهي مازالت عند الباب الأمامي للمنزل.
قال جريج وهو يعيد الصورة إلى جيب بنطلونه: (أوه.. أمي).
سألته وهو يقترب منها: (أين كنت؟ لقد سمعت بما وقع لشاري. لقد حزنت جدا. أين كنت يا جريج؟).
قال وهو يقبل أمه: (آسف يا أمي. كان علي أن أترك لك رسالة حتى لا تقلقي).
بعد يومين.. كان الجو شديد الحرارة، حين عاد جريج من المدرسة، ودخل حجرته.
كان المنزل خاليا إلا منه، إذ كان تيري في عمله بمصنع الألبان. وكانت السيدة بانكس في المستشفى، حيث ذهبت من أجل أن تعود بزوجها، ليواصل علاجه في البيت.
كان مفروضا أن يكون جريج سعيدا بعودة أبيه إلى المنزل. لكنه كان مزدحما بالكثير مما يقلقه. إنها أمور معلقة، لا تفارق مخيلته، وتملؤه بالخوف.
كانت شاري مازالت مختفية. ورجال الشرطة لم يعثروا بعد عليها.. وهم يرجحون الآن أكبر الاحتمالات أنها اختطفت. كان أبواها لا يفارقان البيت، مرابطين بجوار التليفون، انتظارا لمكالمة من المختطفين، طلبا لفدية تعود بعدها شاري. ولكن لا شيء هناك يشير إلى مكان اختفاء شاري!
لا شيء. ولم يكن أمام الجميع غير الانتظار.
وكلما مر يوم، تزايد لدى جريج الشعور بعقدة الذنب. إنه على ثقة من أن شاري لم تختطف. إنه يعلم أن الكاميرا العجيبة هي التي جعلت شاري تختفي بطريقة ما. لكنه لا يستطيع أن يخبر أحدا بما يعتقده. لن يصدقه أحد. بل سيظن من يسمع القصة أنه مجنون!
الكاميرات ليست شياطين. الكاميرات لا تجعل الناس يسقطون من أعلى، أو تتحطم سيارتهم، أو يختفي أي أثر لهم! الكاميرات تسجل فقط، ما تراه العين!!
وأخذ (جريج) يحملق خارج نافذة حجرته. كان وجهه يلاصق الزجاج، وهو يتابع بنظراته الفناء الخلفي لمنزل (شاري).
صاح جريج: (شاري.. أين أنت؟).
كان صوته عاليا، وهو يخاطب الشجرة، في الجهة الأخرى، حيث كانت (شاري) تستند عليها.
كانت الكاميرا ماتزال في مخبئها بدولاب ملابسه، وأما بيرد، وميتشل، فهما لم يقبلا مرافقته من أجل أن يعيد الكاميرا إلى منزل آل كوفمان!
ومن ناحية أخرى فإن جريج يود الاحتفاظ بالكاميرا وقتا أطول. فقد يحتاجها في إثبات أمر ما يتعلق بشاري أو في حالة يضطر فيها إلى الإفضاء بمخاوفه إلى شخص ما.
لكنه من ناحية أخرى، كان يخشى عودة سبايدي إلى حجرته بحثا عن الكاميرا. إن هذا يخيفه أشد الخوف. بل يزعجه كل الازعاج. وترك النافذة.
كان جريج قد أمضى معظم وقته في اليومين الماضيين وهو يحملق في فناء شاري عبر نافذة حجرته.
أخذ يفكر ويفكر. تقدم من دولابه. وفتح الرف السري وأخرج صورتين من الصور التي يخفيها مع الكاميرا. كانت صور حفل عيد ميلاد شاري. نظر في الصورتين الواحدة بعد الأخرى. كانت الشجرة موجودة عند الفناء الخلفي لمنزل شاري.
ولكن (أين شاري؟).. (لا أثر لشاري!!!).
بعد لحظات من النظر في الصورتين خرجت آهة كالأنين من فم جريج.
لو لم يذهب إلى بيت آل كوفمان.
لو لو يلتقط أي صورة.
لو لم.. لو لم.. لو لم..
ودون أن يشعر تحولت الصورتان بين أصابعه إلى مزق صغيرة. لقد مزقهما بعصبية. ثم ألقى بالقطع الممزقة فتناثرت في أرضية الحجرة. وأغمض جريج عينيه. كان الشعور بالذنب لا يفارقه. كان يستبد به.
بعد ساعتين. دق جرس التليفون. رفع جريج السماعة التي تجاور سريره.
إنها شاري!!!


25

صرخ جريج في التليفون: (هل أنت شاري.. حقا؟!).
في صوت بدت فيه المفاجأة، باندهاش جريج: (نعم.. انا شّاري).
كاد تفكير أن يشل، ولم يعد يعرف ماذا يقول: (ولكن كيف.. أعني..).
قاطعته شاري: (لقد فاقت تنبؤاتك.. تنبؤاتي..)
عندئذ استسمحته لحظة. سمع صوت خطواتها وهي تبتعد عن سماعة التليفون. جاءه صوتها وهي تتحث إلى أمها: (كفاك بكاء يا أمي. لقد انتهى الأمر. أنا الآن معك في المنزل).
ثم عادت لتواصل حديثها مع جريج: (لقد عدت منذ أكثر من ساعتين، ومازالت امي تبكي وتولول حتى الآن).
قال جريج: (وكذلك أنا.. أشعر أني أريد البكاء. أنا لا أصدّق أنك عدت. شاري، أين كنت؟!).
سكتت شاري لحظات، ثم قالت: (لا أعرف).
صرخ جريج متعجبا: (ماذا؟!!).
قالت شاري: (لا أعرف بالفعل. كل ما أعرفه أنني كنت في حفل عيد ميلادي. وبعدها بدقائق كنت أقف أمام الباب الخارجي لمنزلي.. وعلمت أنه قد مر يومان على ذلك.. أي على الفترة بين عيد ميلادي ووقوفي أمام المنزل.. لكن أين كنت؟ لا أتذكر.. كيف عدت؟ لا أعرف.. ماذا حدث؟ لا أعلم.. لا أتذكر أي شيء).
سألها جريج في تردد: (لا تتذكرين أين كنت.. ولا كيف عدت؟!).
أجابت شاري: (نعم يا جريج إنها الحقيقة. لا أتذكر أي شيء).
صاح جريج: (شاري)..
ثم أكمل: (تلك الصورة التي التقطتها لك بالكاميرا المخيفة ولم تظهري فيها...!).
قالت تواصل ما يريد أن يقول:  (وبعدها اختفيت!).
قال: (شاري.. هل تعتقدين أن...؟).
قاطعته شاري متعجلة: (لا أعرف.. لا أعرف..).
علينا أن ننهي المكالمة الآن يا جريج. فرجال الشرطة يملأون المكان عندي. إنهم سوف يستجوبونني ولست أعرف ماذا أقول لهم. ترى ماذا سيظنون بي؟.. إن هذا يثير قلقي).
قال جريج: (ولكن علينا أن نتحادث. فالكاميرا...).
وقاطعته شاري بحزم: (لا. لا أستطيع الآن. فلنؤجل ذلك الحديث للغد مثلا).
ثم سمعها وهي تقول بصوت أكثر ارتفاعا مبتعدة بفمها عن السماعة: (نعم يا أمي.. أنا قادمة).
ثم وضعت السماعة بعد أن حيت جريج.
ووضع جريج سماعته أيضا ولكنه ظل يحملق فيها ثوان.
عادت شاري!؟
عادت منذ ساعتين أو أكثر قليلا؟!
منذ ساعتين أو أكثر قليلا، قام بتمزيق صورتي شاري، التي كانت مختفية منهما..!
ساعتان.. ساعتان.. ساعتان!
وداهمته فكرة مجنونة.. هل تمزيق الصور هو الذي عاد بشاري؟ وهل يعني هذا.. أن الكاميرا هي التي تسببت في اختفاء شاري؟
هل الكاميرا هي التي تتسبب بالفعلفي إحداث كل هذه الأشياء الشريرة التي تظهرها صورها؟ سقوط ميتشل.. تحطيم السيارة.. إصابة بيرد.. وأخيرا اختفاء شاري!
وأخذ جريج يحملق في التليفون، وهو مشغول بفكرة قيام الكاميرا بالتسبب في وقوع الأشياء الشريرة!!
إن عليه الآن وبالضرورة التحدث مع شاري. وعليه أيضا أن يعيد الكاميرا إلى مكانها.
في عصر اليوم التالي. التقى جريج بشاري.
كان اللقاء في أرض الملعب. الشمس مشرقة. وبعض الصبية يلعبون بالكرة محدثين أصواتا عالية.
قال جريج بصوت عال، حين لمحها مقبلة عليه من بعد: (هاي.. لا أصدق. أأنت شّاري؟ هل حتما أنت شاري؟!).
حين وقفت بجواره، أمسك بذراعيها، وقال: (هل أنت على ما يرام؟)
قالت دون أن تبتسم: (أشعر أني في حالة جيدة).
ثم استطردت قائلة: (وإن كنت أشعر ببعض التوتر، وبعض التعب. لقد أخذ رجال الشرطة يستجوبونني لساعات، وساعات. وحين انتهوا من ذلك بدأ استجواب والديّ.
قال جريج بهدوء: (آسف).
قالت شاري مندهشة: (أعتقد أن أبي وأمي يظنان أن وراء اختفائي خطأ ما ارتكبته).
قال جريج لنفسه، وهو يرفع عينيه إلى وجه شاري: (إنه خطأ الكاميرا).
ثم قال بصوت مسموع: (إنها كاميرا شريرة!).
ردت شاري باقتضاب: (جائز. لا أعرف. ماذا عليّ أن أفعل.. ولا ماذا أقرر.!!).
أخرج جريج من جيبه، الصورة التي يظهران فيها معا، جنبا إلى جنب، وأعينهما شاخصة إلى شيء ما أمامهما. إنها الصورة التي سجلتها الكاميرا لشاري، بينما كانت مختفية.
قالت شاري وهي تحملق في الصورة: (هذا مخيف!!).
قال جريج: (أريد أن أعيد الكاميرا إلى منزل آل كوفمان. أستطيع الآن أن أعود إلى حجرتي، لكي أحضرها، ثم نذهب لإعادتها.. فهل تساعدينني؟)
وقبل أن تجيب على سؤاله، أحست أن الكلام لا يريد أن يخرج من حلقها.
حينئذ، شاهدا معا طيفا أسود يحجل مسرعا، بهدوء، على العشب، في اتجاههما. وما إن بدأ يقترب منهما، حتى اكتشفا فيه الرجل الذي يتشح كله بالسواد. كانت ساقاه الطويلتان تنتفضان من الخطى السريعة، التي يقترب بها منهما.
إنه سبايدي!!
أمسك جريج بيد شاري، التي جمدها الخوف.
ومعا، لفّهما الرعب، إذ زحف إليهما ظل سبايدي، حتى غطاهما.


26

أيقن جريج أن صور الكاميرا الشريرة، قد تحولت إلى حقيقة!
وبينما سبايدي يتقدم في اتجاههما كعنكبوت ضخم أسود.. انقض جريج على يد شاري، صائحا بحدة لم يعهدها في صوته من قبل: (اجري).
والواقع، أنه لم يكن في حاجة لأن يستحثها على الجري. إذ كانت شاري في نفس لحظة الانقضاض على يدها، قد أطلقت معه، ساقيها للريح. وها هما الآن يجريان. مخلفين وراءهما ساحة الملعب. متجهين إلى الشارع الرئيسي.
ونظر جريج خلفه. كان سبايدي يتعقبهما جريا.
قال جريج: (إنه سيلحق بنا).
كان وجه سبايدي مازال مختفيا تحت ظلال قبعة البيسبول السوداء، التي يعتمرها. وساقه الطويلتان تجريان.
قال جريج مستحثا: (أسرعي.. أسرعي يا شاري. إنه سريع الخطوات).
اقترب سبايدي، موشكا أن يدركهما.
إنه يقترب أكثر...
صرخ جريج، حين داهم أذنيه بوق سيارة، كادتىأن تصدمهما.
توقف جريج وشاري للحظة..
توقفت السيارة بجوارهما. أطل من وراء زجاج النافذة، وجه مألوف لكليهما. إنه جيري نورمان، الذي يقيم في نفس الشارع، بجوار منزل جريج.
قال جيري متحفزا: (هل هذا الرجل يطاردكما؟).
ودون أن ينتظر إجابة تراجع بسيارته للخلف تجاه سبايدي قائلا له: (سوف أستدعي رجال الأمن، يا سيد).
لم يجب سبايدي. لكنه استدار مسرعا، وأخذ طريقه في الاتجاه المعاكس.
ارتفع صوت جيري: (إنني أحذرك..).
ولكن سبايدي كان قد اختفى.
سأل جيري: (هل أنتما على ما يرام؟!!).
أجاب جريج من بين أنفاسه اللاهثة: (نعم. على ما يرام).
قالت شاري: (شكرا يا جيري).
قال جيري: (لقد اعتدت رؤية هذا الرجل وهو يتسكع في الطرقات. لكن لم يخطر ببالي أبدا أنه خطر).
ثم عاد يقول: (هل تحبان أن استدعي الشرطة).
قال جريج: (لا. لا داعي. انتهى الأمر)
قال جريج لنفسه: (إذا أعدت له الكاميرا، فسوف يتوقف عن مطاردتنا).
قال جيري وهو يلحظ علامات الفزع التي تركت بصماتها على وجه جريج وشاري: (إذن، عليكما توخّى الحذر).
ثم أدار جيري محرك سيارته، واندسّ بين السيارات الأخرى.
سألت شاري: (لماذا كان سبايدي يطاردنا؟).
أجاب جريج: (إنه يظن أن الكاميرا معي. إنه يريد استعادتها).
سكت لحظة وعاد ليقول: (شاري.. أرجوك انتظريني غدا أمام منزل آل كوفمان لتساعديني في إعادة الكاميرا إلى مكانها).
نظرت إليه شاري دون أن تجيب.
فقال محذرا: (سنكون جميعا في خطر، إذا لم نعد الكاميرا إلى مكانها هناك).
قالت شاري: (اتفقنا.. إلى اللقاء غدا.. هناك في منزل آل كوفمان).


27

كانت شاري تقف بجوار جريج يتأملان واجهة منزل آل كوفمان. كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة عصرا بدقائق. وكان الجو مشبعا برائحة عاصفة ترابية على وشك أن تهب.
قالت شاري: (هيا يا جريج. علينا أن ننتهي سريعا من مهمتنا، ونعود).
قال جريج: (بالفعل علينا الإسراع)..
ثم وهو ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم: (إن العاصفة قادمة لا شك فيها).
كان لحفيف الأشجار الضخمة الموجودة في فناء المنزل وقع مخيف على شاري وجريج أيضا.
قال جريج: (علينا أن نتأكد من أن سبايدي ليس بالداخل).
واتجه الاثنان ناحية نافذةالردهة المفتوحة دائما. عبراها إلى الداخل. وزمجرت السماء وفرقع الرعد فضاعف صوته من خوفهما.
قالت شاري: (إن المكان شديد الظلمة في الداخل. لا أستطيع ان أرى أي شيء).
قال جريج: (إلى البدروم. إنه المكان المكان الذي يقيم فيه سبايدي، الذي علينا أن نترك فيه الكاميرا).
وأخذ جريج وشاري وجهتهما إلى الداخل وهما يتحسسان الطريق إلى البدروم.
قال جريج: (أعتقد أن سبايدي غير موجود). وهذا لحسن الحظ. وأمسك جريج بالكاميرا يضمها بشدة.
قالت شاري: (هل أنت متأكد أنه غير موجود؟!).
كانت شاري تريد أن تظهر بمظهر الشجاعة. لكنها كانت خائفة.. بل خائفة جدا خاصة حين تقفز إلى ذاكرتها فكرة أنها كانت مختفية. ولا تعلم أين؟ ولا كيف؟ ولكن كان ذلك في الغالب بسبب الكاميرا. إن مجرد التفكير في ذلك يزيد من خوفها.
قالت شاري لنفسها: (ميتشل، وبيرد جبناء... ولكن قد يكونان هما الأكثر ذكاء).
وتمنت شاري أن ينتهي ذلك الموقف سريعا، لينتهي كل هذا الكابوس. واستمر تقدمها في أرجاء المنزل المهجور، يتحسسان الخطى في الظلام، إلى البدروم.
عندئذ، قفز الاثنان فزعا.. إذ اخترق سمعهما صوت دويّ هائل.. قادم من الخلف!!


28

قالت شاري، وهي تسترد صوتها: (إنه الباب!)..
ثم تابعت: (إنها العاصفة!)..
كانت الريح العاتية في الخارج، قد عصفت بالباب الأمامي للمنزل، محدثة هذا الدوي الهائل!
قال جريج هامسا: (فلننته من هذا الأمر سريعا).
قالت شاري، وهما يخطوان ببطء في ظلام المكان، متجهين إلى الدّرج الذي يؤدي إلى البدروم: (ما كان علينا أن نغامر بالمجيء إلى هنا.. إنها غلطة).
قال جريج: (ما حدث، قد حدث).
ثم وهو يجذب الباب المؤدي إلى الدرج: (لا طائل من هذا الكلام الآن).
ثم توقف منصتا: ما هذا الصوت الذي يأتي من هناك؟!)
تجمد الدم في عروق شاري. فقد طرق أذنيهما نفس الصوت.
قال جريج: (إنه شيش النوافذ المخلخل).
قالت شاري وهي تبتلع أنفاسها: (معظم شيش النوافذ هنا مخلخل).
قال جريج: (نعم.. نعم).
اقتحم صوت الرعد أرجاء المنزل المظلم. وفي قلبالظلام الدامس، توقف الاثنان لحظات في محاولة لأن يعتاد نظرهما على العتمة.
ملأ الخوف قلب شاري. فقالت: (لماذا لا نترك الكاميرا هنا دون أن ننزل للبدروم؟).
ثم استطردت (ونعود إلى المنزل؟!!).
كانت شاري تطرح سؤالها في صورة رجاء. أكثر منه اقتراح.
قال جريج بإصرار: (لا.. بل أريد أن أعيدها إلى مكانها السري في الطاولة بالبدروم).
قالت شاري وهي تستند على ذراع جريج: (ولكن يا جريج...).
قاطعها جريج حتى لا تسترسل، قائلا: (لقد اقتحم سبايدي حجرتي وقلبها رأسا على عقب. عبث بها وبعثر محتوياتها. بحثا عن الكاميرا. لذا أريده أن يجد الكاميرا في مكانها. لأنه إذا لم يجدها به، فسوف يعود إليّ ثانيا.. وهذا ما أخشاه).
قالت شاري: (فلنسرع إذن، كي ننتهي من هذا، ونعود إلى بيوتنا).
كان البدروم أكثر إضاءة من أعلى المنزل. بفعل النوافذ الأربعة الكبيرة التي يتسلل منها ضوء النهار. وزمجرت العاصفة في الخارج وأخذ بيت آل كوفمان يزمجر هو أيضا بفعل ضربات الشيش المخلخل. كل ما في البيت كان يزمجر بفعل العاصفة.
قالت شاري: (أين.. بالتحديد.. عثرت على الكاميرا؟).
قال جريج، وقد توقف أمام الطاولة ذات الباب السري: (هنا).
ثم تقدم من الطاولة،وقال مشيرا بأصبعه: (حين أدير تلك اليد، ينفتح الباب السري أعلى سطح الطاولة.. وبداخله كانت الكاميرا).
حرك جريج اليد..
انفتح الباب السري.
قال جريج مبتسما لشاري: (حسنا)
ثم وضع الكاميرا على الرف. فانغلق الباب من تلقاء نفسه محدثا جلبة.
قال جريج وقد شعر أنه أزاح عبئا ثقيلا من فوق صدره: (لقد انتهى الأمر).
وبالرغم من زمجرة الريح، وصراخ الشيش المخلخل، وصرير خشب الأرضية.. لم يكن جريج يشعر بالخوف.
قال لشاري: (هيا.. هيا).
وأشار إلى الدرج الذ سيقودهما إلى فوق. لكن شاري كانت قد سبقته. كانت قدماها تتعثران في علب الطعام المعدنية الفارغة محدثة جلبة، تداخلت مع ضجيج العاصفة.
كان جريج وشيري قد وصلا صعودا لمنتصف الدرج. كانت شيري في الأمام. وخلفها جريج يتخلف عنها بخطوة..
وكان سبايدي يقف أعلى الدرج الذي يصعدونه كان ينظر إليهما صامتا. ويسد عليهما طريق الخروج.


29

لا إراديا، أغمض جريج عينيه، وفتحهما، ثم هز رأسه، كمن يود لو أنه يطرد منها صورة هذا الوجه الغامض المحملق فيه، مكفهرا من أعلى الدرج!
صرخت شاري: (لا).
ثم خانتها ساقاها، فسقطت على الأرض، أمام جريج، الذي كان مرتكزا على الدرابزين الذي انهار تحت ثقل ميتشل، أثناء زيارتهم الأولى المشئومة لهذا البيت. واستطاعت شاري، لحسن الحظ، أن تستعيد توازنها،قبل أن يسقط بهما كليهما، إلى الطابق الأسفل.
برق الضوء من خلفهما، مرسلا شعاعا من النور، أضاء الطريق إلى الدرج. لكن الوجه الجاثم أعلى الدرج، بقي مغمورا بالظلام!
قال جريج، موجها حديثه إلى الرجل، في ضراعة من يطلب النجدة: (دعنا نذهب).
أردفت شاري بصوت يمزقه الخوف والفزع: (لقد أعدنا لك الكاميرا).
لم يجب سبايدي.
وإنما خطا خطوة تجاههما. ثم هبط درجة من درجات السلم، كمن يسد طريق الخروج.
وبحركة لا شعورية تراجع جريج وشاري إلى الخلف، مبتعدين عن الدرج. وأحدث خشب الدرج صريرا تحت وقع خطوات سبايدي الذي بدأ يهبط ببطء.
ولمع البرق، فكشف عن وجه سبايدي هذه المرة. ثم برقت السماء وغشى المكان ضوء باهر.
كان سبايدي عجوزا أكثر مما تصوره جريج وشاري. له عينان ضيقتان. وفم دقيق.
قالت شاري وهي تحملق مذعورة في الرجل الذي يزداد اقترابه منهما، هابطا السلّم: (لقد أعدنا الكاميرا).
ثم استأنفت حين لم تسمع إجابة: (هل يمكن أن نذهب الآن.. أرجوك)..
وأخيرا تكلم: (دعوني أتأكد إن كنتما قد أعدتما الكاميرا بالفعل).
تنفّس الاثنان الصعداء.
كان صوت سبايدي أكثر شبابا من تجاعيد وجهه، وأكثر دفئا من عينيه الباردتين.
سبقهما إلى الطاولة قائلا: (فلتأتيا.. هنا).
ترددا.. لكن لم يكن أمامهما خيار.
عادا إلى الطاولة، ذات الباب السّري.
قام سبايدي بتحريك اليد، فانفتح الباب أعلى الطاولة. مدّ يده، فتناول الكاميرا. ثم انغلق الباب تلقائيا، محدثا الجلبة المعتادة.
قرّب سبايدي الكاميرا من وجهه، وراح يتفحصها.
قال لهما، وهو مستمر في تقليب الكاميرا بين يديه: (ما كان ينبغي لكما أن تأخذاها).
ردت شاري على الفور: (نحن آسفون).
سأله جريج وهو يتجه إلى السلّم: (هل يمكننا أن ننصرف الآن؟).
قال سبايدي، وهو يحاصرهما بعينيه الضيقتين: (إنها ليست كاميرا عادية).
قال جريج: (نحن نعرف. فالصور التي تلتقطها.. تـ)..
وتوقفت الكلمات في حلق جريج، حين اتسعت حدقتا سبايدي، واكتسى وجهه بتعابير الغضب.
سأل وهو يصر على أسنانه: (هل التقطتم بها صورا؟).
أجابه جريج: (قليل جدا).
وتنبه إلى أنه كان ينبغي ألا يفتح فمه.. فلم يجد بدا من الاستطراد علّه يصلح خطأه: (الصور التي التقطناها.. لم تظهر بواقعها).
قال سبايدي وهو ينتقل بسرعة ليقف في منتصف الحجرة: (إذن، لديكم علم بشأن الكاميرا).
تساءل جريج في سره: هل يحاول أن يسد عليهما الطريق؟
ثم واصل آملا في مخرج من هذا المأزق: (أعتقد أن بها عطلا ما. أو شيئا من هذا القبيل).
قال الرجل ذو الوجه الطويل، والملابس السوداء: (ليس بها أعطال. فقط كل ما في الأمر أنها كاميرا شريرة).
ثم أشار إليهما بيديه وهو يقول: (اجلسا هناك).
تبادل جريج وشاري النظرات وكان لابد من الإذعان، فجلسا متلاصقين حيث أشار إليهما في ركن الحجرة. وعيناهما تنظران إلى أعلى السلم، أو طريق النجاة.
- (الكاميرا هي الشر!)
كرر سبايدي كلمته أكثر من مرة وهو واقف أمامهما ممسكا بكلتا يديه. ثم استطرد (وأنا ساعدت في هذا الاختراع).
قال جريج متملقا: (إذن أنت مخترع).
واتجه بعينيه إلى شاري كأنه يسألها: (هل أجدت؟).
قال سبايدي: (بل أنا عالم. وإن كان من الأجدر أن أقول (كنت عالما). واسمي الدكتور فريتز فردريكس).
ونقل الرجل الكاميرا من يد إلى أخرى، ثم عاود قوله: (شريكي في العمل. عالم هو الآخر اخترع تلك الكاميرا، وكانت مثار فخره، بمثل ما كانت تعكس حجم الشر الذي يختزنه بداخله.. كما أنها أيضا كانت سببا في ثرائه بإمكانياتها التي تعلمونها. فقد كان يؤجرها لمن يرغب في إيذاء الآخرين).
سألت شاري: (وماذا حدث له؟ هل مات؟)
قال الدكتور فريدريكس: (لا.. ما حدث كان أسوأ من الموت. فقد تفتق ذهني عن سرقة الكاميرا. كنت وقتها شابا شديد الغرور بنفسي. ويبدو إنني كنت شريرا أيضا مثله).
ثم نظر الرجل إليهما. وتوقف لحظة متوقعا رد فعل لكلامه.لكنهما ظلا صامتين.
وعاد الدكتور فريدريكس من جديد، يواصل قصة الكاميرا الشريرة: (حين نجحت في سرقة الكاميرا، اعتقدت أني ذكي. لكن شريكي كان أذكى مني. وكان كذلك متفوقا في أمور السحر الأسود).
ثم استطرد الرجل وكأنه يسترجع شريط الذكريات: (لقد زودها ببرنامج سحري يجعلني لا أتمكن من الاستفادة منها على أكمل وجه إذا انفردت بها).
سكت الدكتور فريدريكس لحظة وعاد يقول: (هل تعرفان لماذا يخاف القوم البدائيون من التقاط صور لهم؟.. ذلك لأنهم يعتقدون أن التقاط الصور يسلب أرواحهم من أجسادهم).
رفع الكاميرا بين يديه وهويقول: (هذه الكاميرا تسلب الأرواح بالفعل.. هذا هو سرها).
قال جريج: (لقد سرقت الكاميرا شاري بالفعل).
عاد الرجل يحكي: (لقد مات كثيرون بسبب تلك الكاميرا. وفقدت عددا من أهلي وأحبابي بها. لذا كان عليّ أن أتعلم كيف تعمل، لكي أتجنب أخطارها. وعرفت عنها ما أفزعني. عرفت أنه لا يمكن تدميرها أو الخلاص منها. فهي باقية بقاء الزمن. باقيةبشرها ولعنتها، توزع الشر حيثما حلت)..
وانتابت الرجل نوبة حادة منالسعال. عاد بعدها إلى الحديث: (لذا قررت الاحتفاظ بها بعيدا عن متناول الأيدي. لقد فقدت وظيفتي، وتركت مركزي العلمي، وابتعدت عن أسرتي. لكني مصر على الاحتفاظ بها في مكان لا يمكنها منه أن تتسبب في إيذاء أي شخص).
وسكت الدكتور فريدريكس عن الكلام. وبسرعة قام جريج واقفا وأشار إلى شاري كي تتبعه: (حسنا.. أ.. أظن أنه يستحسن بنا أن نذهب الآن.. لقد أحسنا صنعا بإعادتها)
ثم تابع جريج حين لم يجر الرجل جوابا: (أعتذر عما سببناه من مشاكل).
قالت شاري: (نعم.. نحن في شدة الأسف).
ثم استطردت: (أعتقد أنها عادت الآن، إلى أيد أمينة).
قال جريج، وكأنه حسم الموقف. إذ اتجه ناحية السلّم، تتبعه شاري: (وداعا. لقد تأخرنا. وعلينا أن نرجع الآن).
صاح الدكتور فريدريكس: (لا..)..
ثم تحرك مسرعا، ليسد عليهما الطريق: (إنني أسف. لا تنصرفا. فأنتما الآن تعرفان أكثر مما يجب)


30

 قال الدكتور فريدريكس، وهو يعقد ذراعيه حول صدره: (لا يمكن أن أترككما تذهبان)..
قال جريج في صوت خافت من الخوف: (لكننا لن نخبر أي شخص بأمر الكاميرا)
وعاد ليقول بصوت خفيض: (صدقني).
قالت شاري وعيناها المرعوبتان على وجه جريج: (سرك لن نبوح به لأحد)..
نظر إليهما فريدريكس دون أن ينبس.
قال جريج: (يمكنك أن تثق بنا)..
تبعته شاري قائلة: (ومن ناحية أخرى من سيصدقنا لو أخبرناه بأمر الكاميرا الشريرة؟)..
قال الرجل: (كفا عن الكلام.. لقد عملت طويلا وكثيرا لكي أحتفظ بسر الكاميرا).
وقامت العاصفة، فارتطمت بالنوافذ، محدثة عواء في المكان. وهطل المطر. وبدت السماء، من خلال نوافذ البدروم قاتمة السواد، بمثل ما تكون في عتمة الليل.
نظر فريدرك إلى شاري طويلا. ثم قال في صوت كله أسى: (آسف.. آسف جدا. لا خيار أمامي ولا بديل أيضا).
وتقدم نحوهما بالكاميرا.
تبادل جريج وشاري نظرات الرعب.
صرخ جريج: (ماذا تنوي أن تفعل؟!!)..
قالت شاري: (أرجوك.. لا.. لا..)..
تقدم فريدريكس منهما أكثر. اقترب من جريج، ووضع يده على كتفه، بينما الكاميرا في اليد الأخرى.
صرخ جريج: (لا.. دعني.. دعني)..
صاحت شاري: (اتركه)..
وفجأة تنبهت إلى أن يدي الدكتور فريدريكس مشغولتين. إذن قد تكون هذه فرصتهما الأخيرة. وعندئذ أخذت نفسا عميقا، ثم قفزت على الرجل، وانقضت على الكاميرا، بكلتا يديها، وانتزعتها منه على غرة.
قفز فريدريكس خلفها محاولا الإمساك بالكاميرا.
وبسرعة. أمسكت شاري بالكاميرا ووجهتها ناحية الرجل. ثم قربتها من وجهها لتنظر من خلال العدسة.
صرخ العجوز: (أرجوك. لا تضغطي على الزر).
ثم قفز ناحيتها، وانقض على الكاميرا محاولا انتزاعها، من يدي شاري.
كان جريج يحملق مذعورا من المشهد حيث يتنازع الدكتور فريدريكس وشاري الكاميرا. كل واحد منهما، يحاول أن يخلصها من يد الآخر ليستولي عليها لنفسه.
فلاش...
سقطت أضواء الفلاش. على ثلاثتهم واستولت شاري على الكاميرا.
قالت شاري صائحة: (اجري).


31

تطاير الغبار يملأ أرضية البدروم تحت وقع أقدام جريج المتسارعة، وهو يعدو في اتجاه الدّرج.
جريج وشاري جنبا إلى جنب، ينزلقان عابرين فوق صناديق الأطعمة، علب الطعام، والزجاجات الفارغة، فرارا من كابوس المكان.
رعدت الأمطار تتخلل بسيولها شيش النوافذ.
وعوت الريح، وهي تصفع الزجاج بهبوبها المستبد الضاري.
بينما صرخات الدكتور فريدريك الفزعة تصك الآذان.. آذان جريج وشاري!
سألت شاري: (هل التقطت الكاميرا صورتك أم صورته، يا جريج؟).
صرخ فيها جريج: (لا أعرف.. أسرعي.. أسرعي)..
كان الرجل العجوز يعوي كحيوان جريح. وامتزج وقع صرخاته بوقع زمجرة الريح والمطر. وبدت درجات سلّم الخروج، نائية البعد عن أقدامهما، بالرغم من أنها لم تكن كذلك.
بدت، وكأنهما -إلى الأبد- سيظلان يقطعان الطريق إليها!
نعم.. كان الدكتور فريدريكس يريد أن يحتفظ بشاري وجريج في الطابق الأسفل.. إلى الأبد!!
أخيرا وصلا إلى الدرج. لكنهما تسمرا فجأة في مكانهما. على صوت زمجرة الرعد الذي علا فجأة. وبحركة لا شعورية نظر جريج خلفه. وعلى غير ما توقع.. لم يكن الدكتور فريدريكس يلاحقهما. بمثل ما توقفت صرخاته الفزعة.
كان البدروم غارقا في الصمت.
سألت شيري من بين أنفاسها اللاهثة: (ماذا يجري هنا؟!!).
واستغرق الأمر من جريج بعض الوقت لكي يتبين حقيقة الأمر، إذ شخص ببصره نحو هذا الشيء الحالك الذي يجاور طاولة الكاميرا، حيث اكتشف أنه الدكتور فريدريكس. وكان منبطحا على ظهره أرضا.
سألت شاري من بين أنفاسها اللاهثة المتلاحقة، وهي مازالت متشبسة بالكاميرا: (ما الذي حدث له؟!)..
أجابها جريج وهو يلهث: (لا أعرف)..
وبخطوات مترددة، عاد جريج إلى الخلف. تبعته شاري ملتصقة به. ثم ندت منها صرخة عالية حين وقع بصرهما على وجه الدكتور فريدريكس. كانت عيناه جاحظتين، وفمه مفتوحا بطريقة تفصح عن الهلع. ولكن وجهه ينظر تجاههما. كان قد مات، وتخشب جسده!
مات الدكتور فريدريكس.
قالت شاري وهي تدير خطواتها لتبتعد عن منظر الوجه الفزع: (ماذا حدث؟!!)
أجابها جريج: (أعتقد أنه مات فزعا).
علقت شاري: (هيه.. الفزع)..
قال جريج: (لقد كان يعلم أكثر من أي شخص، ما الذي يمكن أن تسببه الكاميرا من أخطار. وفي اعتقادي، أن الصورة التي التقطتها أنت له.. قد أفزعته حتى الموت).
- (لم أكن أقصد إلى ذلك. كنت فقط أريد إبعاده عن طريقنا. كنت أريد الحصول على فرصة للنجاة.. ولم أتوقع أبدا.....)..
قاطعها جريج: (الصورة..! دعينا نرى الصورة)..
رفعت شاري الكاميرا.
كان النصف الأعلى للصورة يبرز من المقدمة. سحبها جريج بيد مرتعشة. ورفعها، لكي يتمكنا معا من النظر فيها.
صرخ جريج معبرا عن ذهوله: (واو!)..
كانت الصورة تظهر الدكتور فريدريكس وهو منطرح أرضا بجوار الطاولة، جاحظ العينين، فاغر الفم فزعا.
قال جريج: (فزع الدكتور فريدريكس).
ثم استطرد: (الفزع الذي قتل الرجل، كان داخل الكاميرا. كان مجمدا على الفيلم.. بمثل ما هو الآن على وجهه!
ضحية أخرى للكاميرا. ولكنه سيكون الضحية الأخيرة.
قالت شاري وهي تنظر محملقة في الجثة التي ترقد أسفل أقدامهما: (ماذا سنفعل الآن؟).
قال جريج: (قبل كل شيء يجب أن أعيد الكاميرا إلى مكانها)..
تناول الكاميرا من يد شاري، ووضعها بحرص على الرف الخاص بها. ثم أدار اليد، فانغلق الباب السري.
عندئذ.. داخله إحساس بالارتياح،وهو يلتقط نفسا عميقا طويلا. فقد انزاح عن صدره كابوس الكاميرا الشريرة.
قال جريج: (الآن بقي أن نعود إلى منازلنا.. وأن نستدعي الشرطة)..
بعدها بيومين. توقف الأصدقاء الأربعة بدراجاتهم أمام منزل آل كوفمان. وبالرغم من ضوء النهار، كان المنزل يبدو وكأنه يسبح في الظلام، بفعل ظلال الأشجار الضخمة التي تحيط به.
سأل بيرد، وهو شاخص ببصره، إلى نوافذ المنزل، المعتمة: (إذن أنت لم تخبر رجال الشرطة بأمر الكاميرا الشريرة؟).
قال جريج: (لا.. لأنهم لن يصدقوا).
ثم استطرد: (ومن جهة أخرى، أردت أن تظل الكاميرا في مكانها السري إلى الأبد. وأرجو ألا يعثر عليها أي أحد.
قالت شاري: (لقد أخبرنا رجال الشرطة أننا دخلنا المنزل كي نحتمي من المطر. وأثناء انتظارنا لانتهاء العاصفة، أردنا استكشاف المنزل. فنزلنا إلى البدروم حيث عثرنا على جثة الرجل).
سأل ميتشل: (ما سبب موت سبايدي؟)..
أجاب جريج: (قال رجال الشرطة بعد التشخيص الطبي أنه مات بأزمة قلبية. ولكننا نعرف الحقيقة).
قال بيرد: (واو.. لست أصدق أن كاميرا قديمة مستهلكة يمكن أن تسبب كل هذه الشرور!!).
قال جريج: (ولكني أعتقد في ذلك).
قال ميتشل، وهو يتهيأ إلى الانصراف: (هيا نترك هذا المكان. إنه يسبب لي قشعريرة).
وتبعه الأصدقاء الثلاثة. وهو يبتعدون في صمت.
داروا مع الطريق، وساروا في محاذاة الفناء الخلفي لبيت آل كوفمان. وفجأة برز وجهان مألوفان من بين الأشجار. جوي فيريس ومايكي وارد. كانا ينسلان خارجين إلى الطريق العام.
قال جوي لرفيقه: (هذان الغبيان تنقصهما الفطنة. فهما لم يلمحانا ونحن نراقبهما من خلف نوافذ البدروم، ذلك اليوم).
ضحك مايكي: (بالتأكيد هما غبيان).
قال جوي: (لم يستطيعا إخفاء الكاميرا عنا..)
ثم رفع جوي الكاميرا وأخذ يعاينها.
قال مايكي: (التقط لي صورة، على سبيل الاختبار)
أجابه جوي: (نعم.. ينبغي أن نقوم باختبارها).
ثم وهو يوجه الكاميرا تجاه رفيقه، ومنهمكا في ضبط العدسة: (ابتسم مايكي).
وابتسم مايكي..
ضغط جوي على زر التصوير..
ومض الفلاش بالضوء، مصحوبا بأزيز الكاميرا.
كانت الصورة قد التقطت..
وراح الصبيان، ينتظران صامتين.. حتى تتضح معالم الصورة!!!
(تمـــــــــــــــت)


لتحميل الكتاب اضغط (هنا)


مسلسل صرخة الرعب:
حلقة الكاميرا الملعونة:
الجزء الأول:

الجزءالثاني:
المصدر: 1
اقرأ الكتب والروايات استمتع بالبرامج والمسلسلات والأفلام والكرتون اون لاين بدون تحميل ويمكنك أيضا تحميلها كما يمكنك قراءة احدث المواضيع في العالم واغربها من تكنولوجيا وأجمل التصاميم.