الرئيسية » , , » فن الخطابة - ديل كارنيجي

فن الخطابة - ديل كارنيجي




  مقدمة   
                  
                                                                                  بقلم زوجة المؤلف
       منذ سنوات عديدة اقترن اسم دايل كارنيجي بكسب الأصدقاء والتأثير بالناس . إذ أن " كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر بالناس " هو من أشهر الكتب التي عادت عليه  بشهرة دولية . لكن هذا لم يكن أول كتاب له . ففي سنة 1926، ألف دايل كارنيجي كتابا بعنوان : " فن الخطابة والتأثير برجال الأعمال " الذي ما زال يعتبر حتى يومنا هذا أحد الكتب الرئيسية في " معهد دايل كارنيجي " المشهور عالميا . وقد بيعت ستمائة ألف نسخة من هذا الكتاب في السنوات العشر الأخيرة ومليون نسخة من مجلداته . ونشر في حوالي عشرين لغة وبيعت آلاف النسخ من ترجماته، لكنه لم يكن كتابا تعرفه العامة من الناس .

       فمنذ فترة من الزمن، تقدم الناشر : " أسوشيشن برس "، بفكرة وهي أن كتب زوجي الأخيرة ستكون أكثر شعبية اذا ما تم نشرها في سلسلة من كتب الجيب اذ شعر الناشر، مثلما شعرت، أن هذا الكتاب يشتمل على أفكار قيمة لحياتنا اليومية .

       لقد نشر " معهد دايل كارنيجي " فلسفته عبر العالم، وبلغ عدد خريجيه مليون شخص، هذا المعهد يساعد الناس على التوصل الى حياة سعيدة ومثمرة وذلك بتفجير المزايا الكامنة في أنفسهم .

       ان كتاب " تعلم فن الخطابة - كيف تكسب الثقة وتؤثر بالناس " وضع ليتذوقه القارئ العادي . وهو يشتمل على الكثير من الحكم التي ساعدت طلابنا في تحقيق أهدافهم . بعد قراءتي الكتاب للمرة الثانية، أدركت أهمية القواعد التي يشتمل عليها وذلك من حيث التغلب على الخوف وكسب الثقة بالنفس، وقد أضيف الى هذه القواعد طرق ومقترحات تساعد كل انسان على التوصل مع الناس كأفراد أو مجموعات، والتحدث اليهم بفعالية .

       آمل للقراء أن يستفيدوا من هذا الكتاب مثلما استفاد طلاب "معهد دايل كارنيجي" في الثلاثين سنة الأخيرة .

                                                                               دوروثي كارنيجي



الفصل الأول

تنمية الشجاعة والثقة بالنفس

          أكثر من خمسمائة ألف رجل وامرأة، منذ سنة 1912، كانوا أعضاء في معهدي المخصص لفن الخطابة . معظمهم كتب الي رسائل يقول فيها : " حين استدعيت للوقوف والتحدث أمام الناس، أصابني الارتباك والخوف حتى انني لم أستطع أن أفكر بوضوح، كما لم أعد أتذكر ما الذي كنت أنوي قوله . كنت أريد أن أكتسب الثقة بالنفس والقدرة على التفكير القويم، أن أرتب أفكاري بشكل منطقي، وأن أكون قادرا على التعبير بوضوح وإقناع أمام رجال الأعمال أو أمام  رواد النوادي أو أمام الجمهور ".

       لنتذكر حالة واقعية : منذ عدة سنوات، انضم سيد يدعى د. و. غانت الى معهدي في فيلادلفيا وبعد فترة قصيرة من بدء الفصل الدراسي، دعاني لتناول الغداء معه في نادي الصناعيين . كان رجلا في منتصف عمره، وقد عاش حياة حافلة بالنشاط اذ كان رئيسا لمؤسسة صناعية ومسؤولا في العمل الكنائسي والنشاطات المدنية . وفيما نحن نتناول طعام الغداء، انحنى على الطاولة وقال : " لقد دعيت عدة مرات لإلقاء كلمة أمام مختلف التجمعات، لكنني لم أستطع ذلك . اذ كنت أرتبك وأفقد القدرة على التفكير تماما، فابتعدت عن هذه الفكرة طيلة حياتي لكنني الآن رئيس مجلس أمناء الجامعة، ويجب علي أن أترأس اجتماعات المجلس، لذلك ينبغي أن ألقي بعض الخطابات . . . فهل تظن أن باستطاعتي أن أتعلم فن الخطابة في آخر حياتي ؟ ".

       أجبته قائلا : " هل أظن، يا سيد غانت ؟ هدف المسألة هي خارج نطاف ظني، فأنا أعرف أنك تستطيع ذلك . أعرف أنك تستطيع اذا ما تدربت واتبعت التعليمات والتوجيهات ".

       أراد أن يصدق ذلك برغم عدم اقتناع حيث أجاب : " أخشى أن تكون مسرفا في لطفك، وأنك تحاول فقط أن تشجعني ".

       بعدما أنجز تدريبه، فقدت الاتصال به فترة من الزمن، ثم التقينا فيما بعد ثانية في نادي الصناعيين . جلسنا في الزاوية ذاتها والى الطاولة نفسها . وعدما ذكرته بحديثنا الماضي وسألته عما اذا كنت متفائلا جدا حينذاك .تناول دفتر الملاحظات من جيبه وأشار الى لائحة بالخطابات التي ألقاها واعترف بأنه من خلال المقدرة على إلقاء الخطابات، اكتسب ثقة كبيرة بالنفس واستطاع بالتالي أن يؤدي المزيد من الخدمة للمجلس وهذه هي أهم الأشياء في حياته .

       قبل ذلك، عقد مؤتمر مهم بشأن نزع السلاح، في واشنطن، وحين علم ان رئيس الوزراء البريطاني يخطط لحضوره، أرسلت معمدانية فيلادلفيا برقية تدعوه لإلقاء خطاب في ذلك الاجتماع الضخم الذي سيعقد في المدينة . وقد أخبرني السيد غانت أن الاختيار وقع عليه من بين المعمدانيين في المدينة لتقديم رئيس الوزراء البريطاني الى الجمهور .

       هذا هو الرجل الذي جلس الى الطاولة ذاتها منذ أقل من ثلاث سنوات ليسألني عما اذا كنت أعتقد أنه يستطيع أن يخطب أمام الجمهور!

       فهل السرعة التي انطلق خلالها في القدرة على إلقاء الخطب هي غير اعتيادية؟ ليس على الإطلاق، فهناك مئات من الحالات المماثلة . فمثلا - لنأخذ حادثة معينة
أخرى - منذ سنوات، أمضى طبيب من بروكلين، اسمه الدكتور كورتيس، الشتاء في فلوريدا بالقرب من ملعب تدريب على لعبة البايسبول وبما أنه يستهوي هذه اللعبة، كان يذهب دائما لمشاهدة اللاعبين أثناء التدريب وبمرور الزمن، أصبح صديقا لهم ودعي لحضور مأدبة أقيمت على شرفهم .

       بعد تناول القهوة والمكسرات، دعي بعض الضيوف البارزين لإلقاء الخطب . وفجأة، وكأن انفجارا غير متوقع قد حدث، سمع الرامي يقول : وسأطلب من الدكتور كورتيس أن يتحدث حول صحة لاعب البايسبول ".

       فهل كان جاهزا لذلك ؟ طبعا، كان لديه أفضل تحضير في العالم، فقد درس علم الصحة ومارس الطب منذ ثلث قرن تقريبا . كان باستطاعته أن يجلس في مقعده ويتحدث عن الموضوع بطلاقة الى الرجال الجالسين الى يمينه ويساره، لكن الوقوف والتحدث عن الأشياء ذاتها الى جمهور صغير كان أمرا آخرا . تضاعفت دقات قلبه اذ لم يسبق له أن ألقى خطابا في حياته كما تلاشت الأفكار من رأسه .

       فما الذي سيفعله ؟ كان الجمهور يصفق ويهتف متطلعا اليه . هز رأسه، لكن ذلك صعد الصيحات التي ازدادت إلحاحا : " الدكتور كورتيس! تكلم! تكلم! ".

       كان في وضع محزن للغاية . فقد أدرك أنه اذا ما نهض للكلام، فانه سيفشل ولن يقدر على النطق حتى بجمل قليلة، وهكذا نهض، ومن دون التفوه بأية كلمة، خرج بهدوء من القاعة وهو يشعر بالذل والحرج .

       ليس من الغريب أن أول ما فعله لدى عودته الى بروكلين هو الانخراط في معهدي لتعليم فن الخطابة، فهو لا ينوي أن يقف محرجا كالأخرس مرة ثانية .

       كان من نوع الطلاب الذين يسر الأستاذ بهم، اذ كان مخلصا جدا، ومتحمسا لأن يصبح قادرا على التحدث بطلاقة، ولم يكن هناك أدنى شك برغبته هذه . كان يحضر خطبه مسبقا ويتدرب عليها بإصرار ولم يتخلف عن حضور أية ساعة طيلة الفصل الدراسي .

       فعل تماما ما يفعله أي تلميذ مجتهد عادة، اذ تطور بسرعة تعدت آماله كلها . وبعد الدروس القليلة الأولى، خف توتره وازدادت ثقته بنفسه وأصبح، خلال شهرين، نجم الخطابة بين أقرانه، وسرعان ما بدأ بقبول الدعوات لإلقاء الخطب، وهو الآن يزهو بشعور البهجة الناتجة عن ذلك، كما كسب، عن طريق الخطب، العديد من الأصدقاء .

       حين سمع عضو في حملة الجمهوريين الانتخابية بمدينة نيويورك احدى خطبه، دعاه لإلقاء خطب تساند الحزب الجمهوري . وكم كان سيندهش هذا السياسي لو علم أن هذا الخطيب غادر مأبة عامة منذ سنة وهو يشعر بالخجل والارتباك حين انعقد لسانه خوفا من الجمهور!

       ان كسب الثقة بالنفس والقدرة على التفكير بهدوء أثناء التحدث الى مجموعة من الناس، ليس أمر صعبا مثلما يتخيل معظم الناس . وهي ليست موهبة وهبها الخالق لأفراد قليلين، بل هي تشبه لعبة الغولف . وباستطاعة كل فرد أن ينمي طاقته الكامنة اذا ما كانت لديه رغبة كافية لذلك .

       هل هناك أي سبب يحول دون قدرتك على التفكير أثناء وقوفك أمام الجمهور مثلما تفعل حين تكون جالسا ؟ بالتأكيد، ليس هناك أي سبب وفي الحقيقة، من المفترض أن تفكر بشكل أفضل حين تواجه الناس لأن حضورهم يثيرك ويرفع من قدرتك . سيخبرك عدد كبير من الخطباء أن وجود الجمهور هو بمثابة محرك يدفع العقول للعمل بفعالية أكثر . ففي مثل تلك، الأحوال، تندفع الأفكار والحقائق والآراء التي تحسب أنك تمتلكها، وهكذا ليس عليك الا البحث عنها ووضع اليد الحافظة
عليها . هذا ما يجب أن تجربه وتتدرب عليه . وكن متأكدا من أن التدريب والممارسة ستزيل خوفك من الجمهور وتمنحك الثقة بالنفس والشجاعة التي لا مثيل لها .

       لا تتصور أن حالتك صعبة بشكل غير عادي، فمعظم الذين أصبحوا، فيما بعد، ممثلين عن أجيالهم، أصيبوا في بادئ الأمر بالخوف وضعف الثقة بالنفس .

       - وليم جينيغز براني، الذي كان مقاتلا شجاعا، اعترف أن ركبتيه اصطكتا لدى محاولته الأولى .

       - مارك توين، حين وقف يخطب لأول مرة، شعر وكأن فمه مليء بالقطن بينما تضاعفت سرعة نبضه .

       - غرانت ب . فيكسبورغ، قائد أعظم جيوش العالم نحو النصر، حاول أن يتحدث أمام الجمهور بما يشبه الاختلاج العام .

       - جان جورييه، أشهر الخطباء السياسيين الذين أنجبتهم فرنسا في عصره، بقي سنة كاملة منعقد اللسان في قاعة الاجتماعات قبل أن يتمكن من استجماع شجاعته كي يلقي الخطاب الافتتاحي .

       - جورج لويد، اعترف قائلا : " أول مرة حاولت فيها إلقاء خطبة أمام الجمهور، شعرت بحالة من اليأس . ان ما أقوله ليس مجرد كلمات، بل حقيقة أكيدة، فلساني التصق بأعلى فمي، وقلما استطعت التفوه بكلمة واحدة ".

       - جون برايت، الرجل الانكليزي الشهير الذي دافع خلال الحرب الأهلية في إنكلترا عن قضية الاتحاد والتحرر، شعر أمام الجمهور، الذي احتشد في مبنى المدرسة، بالخوف حتى أنه التمس من رفيقه أن يبعث بإشارة له حين يخطئ .

       - تشارلز ستيوارت بارنيل، الزعيم الايرلندي العظيم، كان في أول عهده كخطيب وطبقا لشهادة أخيه عصبيا جدا حتى أنه كان حين يمسك بقبضته بشدة تنغرس أظافره بلحمه ويتدفق الدم من راحة يده .

       - دزرائيلي، اعترف بأنه فضل قيادة كتيبة خيالة على مواجهة مجلس العموم لأول مرة . اذ كان خطابه الأول هناك فاشلا للغاية .

       والحقيقة هي أن أشهر الخطباء في إنكلترا بدوا متعثرين أول مرة، حتى أنه ساد اعتقاد في البرلمان أن هناك لعنة تحل بالشبان حين يلقون أول خطاب لهم .


       بعد الاطلاع على حياة الكثيرين من الخطباء، ومساعدة الكثيرين منهم، لا يستغرب المؤلف  دائما حين يجد لدى الطالب، في البداية، بعض الارتباك والتوتر العصبي .


       هناك بعض المسؤولية في إلقاء الخطبة، حتى ولو كانت موجهة الى عدد قليل من الرجال أو النساء . وهناك نوع من التوتر والإثارة . وقد قال سيرو، منذ ألفي سنة تقريبا، ان جميع الخطباء ذوي الجدارة الحقيقية يتميزون بالعصبية .

       يتعرض الخطباء لمثل هذا الشعور حتى حين يتحدثون عبر الاذاعة . فتشارلي تشابلن، الذي من المؤكد انه معتاد على جمهوره، شعر حين دخل الى غرفة الاذاعة وواجه المذياع بمعدته تتخبط تماما مثلما يشعر من يعبر الأطلسي خلال شهر شباط العاصف .

       مر بمثل هذه التجربة جايمس كيركوود، الممثل السينمائي الشهير، فقد اعتاد أن يكون نجما يخطب في المسرح، لكنه حين خرج من غرفة الاذاعة، بعد مخاطبة الجمهور غير الظاهر، كان يمسح العرق عن جبينه واعترف قائلا " ان ليلة من الافتتاح في برودواي ليست بشيء يذكر بالمقارنة مع هذا ان بعض الأشخاص يعانو من الارتباك دائما، رغم عدد الخطب التي كانوا ألقوها في الماضي، وذلك قبل دقائق قليلة من استجماع ثقتهم والوقوف على أقدامهم .

       حتى أن لنكولن ظل يشعر بالخجل في اللحظات الأولى من افتتاح خطبه ويقول مستشاره القانوني هرندون : " كان يتردد جدا في البداية، ويبدوا أن من الصعب عليه التأقلم بمحيطه، الا أنه كان يكافح وهو يشعر بالارتباك والحساسية، الأمر الذي يزيد من سوء مظهره . لقد رأيت السيد لنكولن مرارا وتعاطفت معه أثناء تلك اللحظات . حين يبدأ حديثه، يرتجف صوته ويبدو غليظا مزعجا، حتى أن وجهه الأسود المصفر وتجاعيده ومظهره العام يبدون أنهم ضده، لكن ذلك لا يحدث الا لوقت قصير اذ سرعان ما يستعيد رباطة جأشه ودفئه ووداعته، ويبدأ بالتالي خطابه الحقيقي ". ربما تكون تجربتك مماثلة لتجربته، فمن أجل الحصول على معظم ما تستطيع من جهودك لتصبح خطيبا جيدا أمام الجمهور، ولتحصل على ذلك بسرعة وفعالية، هناك أربعة اشياء ضرورية :

                    أولا : ابدأ برغبة قوية

       ان هذا ذو أهمية كبرى أكثر مما تتصور . فاذا استطاع الأستاذ أن ينظر الى عقلك وقلبك ويتأكد من عمق رغباتك، فان باستطاعته التنبؤ من سرعة التقدم الذي ستحرزه، فان كانت رغبتك شاحبة وهزيلة، فان انجازاتك ستأتي على منوالها، لكن اذا ما تتبعت موضوعك بإصرار وحيوية، فما من شيء تحت السماء يستطيع أن يهزمك.

       لذلك، وجه اهتمامك باتجاه دراسة الذات، عدد فوائدها بما ستعنيه لك وفكر بالثقة بالنفس والقدرة على الحديث بشكل مقنع أكثر أمام الجمهور، فكر بما يمكن أن يعنيه وما الذي يجب أن يعنيه ماديا . فكر بما يمكن أن يعنيه لك على الصعيد الاجتماعي . فكر بزيادة النفوذ الشخصي والزعامة التي سيمنحك إياها .

       قال تشونس م . ديبيو : " ليس هناك من إنجاز يستطيع أي انسان أن يحقق من خلاله ذاته ويضمن لنفسه مقاما رفيعا مثل القدرة على الحديث بشكل مقبول ".

       واعترف مرة خطيب قائلا : " قبل دقيقتين من البدء بالخطاب، أفضل لو أنني جلدت على أن أستهل خطابي، لكن بعد دقيقتين من البدء، أفضل أن أقتل على أن أتوقف ".

       لدى بذل أي مجهود، يصاب بعض الأشخاص بالوهن ويرتمون خلال الطريق، لذا يجب أن تظل تفكر بما ستعنيه لك تلك المهارة حتى تبقى رغبتك قوية صادقة . وباختصار، اجعل من امكانية المضي في ذلك أمرا سهلا . واجعل من التراجع عنه أمرا صعبا .

       عندما أبحر يوليوس قيصر عبر القناة ونزل مع جنوده الى ما يسمى اليوم إنكلترا . فما الذي فعله ليضمن نجاح جيشه ؟ فعل شيئا ذكيا : أوقف جنوده على صخور دوفر الكلسية وجعلهم ينظرون الى الأمواج المترامية على انخفاض مئتي قدم . ولما رأوا ألسنة النيران تلتهم السفن التي كانوا يركبونها، أدركوا أنهم أصبحوا في بلاد العدو، وفقدوا الروابط الأخيرة بالقارة بعدما احترقت وسائل التراجع، ولم يبقى سوى شيء واحد أمامهم : التقدم والفتح، وهذا تماما ما فعلوه . تلك كانت روح القيصر الخالدة لما لا تتخذها لنفسك في حرب إبادة ضد الخوف الأحمق من الجمهور ؟


          ثانيا : اعرف تماما ما الذي ستتحدث بشأنه

       لا يستطيع الانسان أن يشعر بالارتياح حين يواجه مستمعيه الا بعد أن يفكر مليا ويخطط حديثه ويعرف ما الذي سيقوله . لأنه ان لم يفعل ذلك، سيكون كالأعمى الذي يقود أعمى في مثل تلك الظروف، يجب أن يكون الخطيب واع لنفسه وأن يشعر بالندم والخجل لإهماله .

       كتب تيدي روزفلت في مذكراته : " أنتخبت الى المجلس التشريعي في خريف سنة 1881. وقد وجدت نفسي أصغر رجل في المجلس . ومثل سائر الشبان والإعضاء غير المتمرسين، وجدت صعوبة بالغة في تعلم الخطابة . وقد استفدت كثيرا من نصيحة رجل ريفي عجوز - الذي كان من دون وعي يشرح عن دوق ويلينغتون، الذي كان نفسه يشرح عن شخص آخر - والنصيحة هي : " لا تتكلم حتى تتأكد أن لديك ما تقوله، واعرف عما ستتحدث ثم قله واجلس ".

       كان يجب على الريفي الذكي هذا أن يخبر روزفلت بنصيحة أخرى تساعده في التغلب على العصبية، كان يجب أن يضيف : " ما يساعدك على القاء الإحراج جانبا هو أن تجد ما تفعله أمام الجمهور، أن تستعرض شيئا، أن تكتب كلمة على اللوح، أن تثير الى بقعة على الخريطة، أو أن ترفع بعض الكتب والأوراق، اذ ان أي نشاط جسدي يخفي هدفا وراءه، ربما يساعدك على الطمأنينة والارتياح ".

       حقيقة ليس من السهل دائما أن تجد سببا للقيام بمثل تلك الأشياء، لكن يبقى ذلك اقتراح استخدمه اذا استطعت، لكن في المرات الأولى فقط . فالطفل لن يتمسك بالمقاعد حين يتعلم المشي .


                    ثالثا : تصرف بثقة

       كتب أحد أشهر علماء النفس الذين أنجبتهم أميركا، البروفسور وليم جايمس، ما يلي : " يبدو أن الفعل يلي الشعور، وفي الواقع الفعل والشعور يسيران معا، ومن خلال تعديل الفعل الذي هو ضمن سيطرة الإرادة أكثر، نستطيع أن نعدل الشعور بشكل غير مباشر ".

       وهكذا، فان الممر الطوعي الى الفرح، اذا ما فقد فرحنا التلقائي، هو أن نتحدث وكأننا فرحين مسبقا . فان لم يستطع هذا التصرف أن يجعلنا نشعر بالفرح، لن يستطيع أي شيء أن يجعلنا كذلك حينئذ .

       وهكذا، لكي تشعر بالشجاعة، تصرف وكأنك شجاع . استخدم ارادتك كلها في سبيل ذلك، وهي المحتمل أن تحل موجة الشجاعة محل موجة الخوف .

       طبق نصيحة البروفسور جايمس . ولكي تنمي الشجاعة حين تواجه جمهورا، تصرف وكأن لديك تلك الشجاعة . وطبعا، اذا لم تكن مهيئا لذلك، فان كل التمثيل في العالم لن يفيدك جدا . لكن حين تعرف عما ستتحدث، تقدم بشجاعة وخذ نفسا عميقا . في الحقيقة، تنفس بعمق لمدة ثلاثين ثانية قبل أن تواجه جمهورك . فان زيادة الأوكسجين ستنعشك وتمنحك الشجاعة . لقد اعتاد المغني العظيم جان دي ريزكي أن يقول : " عندما تلتقط أنفاسك يزول التوتر العصبي ".

       يعجب الناس بالشجاعة في كل زمان ومكان، فمهما يغص قلبك الى الأعماق، تقدم بشجاعة، قف منتصبا وتصرف وكأنك تحب ذلك .

       قف مستقيما وتطلع في عيون الجمهور، ابدأ بالكلام بثقة وكأن الجميع يدينون لك بالمال . تخيل أنك كذلك، تخيل أنهم تجمعوا ليتوسلوا تمديد مدة الدفع . فالتأثير النفسي الناتج عن ذلك سيكون مفيدا .

       لا تعبث بأزرار معطفك بعصبية أو تلعب بمسبحتك أو تفر يديك واذا اضطررت للقيام بحركات عصبية، فضع يديك خلف ظهرك وافرك أصابعك هناك حيث لا يستطيع أحد أن يراك .

       وكقاعدة عامة، من السيء أن يختبئ الخطيب وراء الأثاث، الا أن ذلك يمنحك القليل من الشجاعة في المرات الأولى من وقوفك وراء طاولة أو كرسي حيث تمسك بها بشدة، أو تمسك بمسبحة بشدة في يدك .

       كيف استطاع تيدي روزفلت تطوير ميزة الشجاعة والاعتماد على النفس ؟ هل زودته الطبيعة بروج جريئة تقدم على المخاطر ؟ ليس الأمر كذلك . فهو يعترف في مذكراته : " كنت فتى مزعجا جدا، لكنني حين أصبحت شابا صرت عصبيا غير واثق بمقدرتي الخاصة . فكان علي أن أدرب نفسي بقساوة وإصرار، وذلك ليس لتطويع جسدي فحسب، بل لتطويع روحي أيضا ".

       ولحسن الحظ، أخبرنا كيف حقق هذا التحول، فكتب يقول : " حين كنت فتى، قرأت مقطعا في أحد كتب مارييت التي كانت تؤثر بي دائما، في ذلك المقطع، يشرح قائد جيش بريطاني كيف يكسب البطل ميزة اللاخوف، ثم قال ان كل انسان تقريبا يصاب بالخوف لدى إقدامه على أي عمل، لكن الأمر التالي يبقى على الانسان أن يحتفظ برباطة جأشه ويتصرف وكأنه غير خائف، فبعد مضي بعض الوقت، يتحول الأمر من التظاهر الى الحقيقة، ويصبح الانسان غير خائفا حقا . هذه هي النظرية التي أتبعها، وإزاء جميع أنواع الأشياء التي كنت أخشاها في البداية، من الدببة الى الجياد الى المسلحين، تظاهرت بأنني غير خائف، وتدريجيا زال الخوف عني . ويستطيع معظم الناس القيام بهذه التجربة ان أراد ". وأنت بامكانك أيضا أن تقوم بالتجربة ذاتها ان أردت، وكما قال المارشال فوش : " خلال الحرب، أفضل أنواع الدفاع هو الهجوم ". وهكذا ابدأ بالهجوم ضد مخاوفك، اخرج للقائها وتغلب عليها بشجاعتك وتأكد بأنك ستكون سيد المناسبة وسيد نفسك .


                  رابعا : تدرب! تدرب! تدرب!

       ان آخر نقطة نذكرها هنا هي في غاية الأهمية فربما نسيت كل ما قرأته حتى الآن، لكن تذكر هذا : ان أول وآخر طريقة فعالة لتوليد الثقة بالنفس في فن الخطابة، هي أن تقف وتخطب . ويختصر الأمر كله بكلمة أساسية هي : تدرب! التي من دونها لن تتوصل الى أي شيء .

       لقد حذر روزفلت قائلا : " ان أي مبتدئ هو عرضة للإصابة بوباء البق . ووباء البق يعني حالة من الإثارة العصبية تصيب الإنسان في أول مرة يخطب فيها أمام جمهور كبير، تماما مثلما يصيبه حين يرى البق لأول مرة، أو حين يخوض معركة . ان ما يحتاجه الانسان حينئذ ليس الشجاعة، ولكن السيطرة على الأعصاب ". هذا ما يمكنك الحصول عليه من خلال التدريب العملي . فالأعصاب تهدأ تماما من خلال العادة والتمرين الدائم لقوة الإرادة . فان كان لدى الانسان خطابا جيدا فانه سيجيد الكلام أكثر حين يردده وويتدرب عليه باستمرار .

       هل تريد أن تتخلص من الخوف من الجمهور ؟ لنرى ما هي أسبابه . يقول البروفسور روبنسون في كتابه " صناعة العقل " : " ان الخوف ناتج عن الجهل وعدم التأكد ". وبكلمات أخرى : انه نتيجة لعدم الثقة بالنفس .

       فما الذي يسبب ذلك ؟ انه نتيجة لعدم معرفة ما تريده في الحقيقة وعدم معرفة ما الذي تريده سببه قلة الخبرة . فعندما يكون لديك سجلا حافلا بالتجارب، تتلاشى مخاوفك وتذوب كما يذوب ضباب الليل تحت وهج الشمس .


       هناك شيء أكيد : ان الطريقة المقبولة لتعلم السباحة هي الغوص في الماء . لقد مر وقت على قراءتك الكتاب، لم لا تضعه جانبا الآن وتمارس شيئا عمليا . اختر موضوعا لديك معرفة سابقة به، وانشئ خطابا حوله مدته ثلاث دقائق تدرب على الخطاب عدة مرات ثم قم بإلقائه أمام مجموعة من رفاقك، وضع كل جهدك وقوتك أثناء قيامك بذلك .



الفصل الثاني

فن تحضير الخطاب

       كان من واجب المؤلف ومن دواعي سروره استلام وتحرير آلاف الخطابات في السنة منذ عام 1912، تلك الخطابات لم يحررها طلبة الجامعات، بل رجال الأعمال ورجال الاختصاص . وان كانت هناك أية تجربة تركت أثرا باقيا في نفسه، فهي هذه التجربة الضرورية الملحة لتحضير الخطاب قبل الشروع بإلقائه، وأن يكون لدى الإنسان شيئا واضحا محددا ليقوله، شيئا مؤثرا لا يجوز أن يبقى غير مقال . ألا تنجذب من دون وعي الى الخطيب الذي تشعر أن لديه رسالة حقيقية يريد أن يوصلها بإخلاص الى رأسك وقلبك ؟ هذا هو نصف سر فن الخطابة .

       عندما يكون الخطيب بمثل هذه الحالة الذهنية والعاطفية، فانه سيكتشف حقيقة مهمة وهي أن خطابه سيكون تعبيرا عن ذاته اذا كان محضرا بشكل جيد .

       ان السبب الرئيسي لرغبة معظم الناس في الحصول على مثل هذا التدريب، مثلما جاء في الفصل الأول، في الحصول على الثقة والشجاعة والاعتماد على النفس . والخطأ المميت الذي يقترفه الكثيرون يكمن في إهمال تحضير خطبهم، فكيف يأملون حتى في قهر الخوف والتوتر العصبي حين يخوضون المعركة بعدة فاسدة أو من دون أية عدة على الإطلاق ؟ فلا عجب، في مثل هذه الحالة، أن يشعروا بالطمأنينة نحو المستمعين . قال الرئيس لنكولن في البيت الأبيض : " أعتقد أنني لن أكبر كثيرا حتى أخطب من دون حرج حين لا يكون لدي ما أقوله ".

       اذا أردت الثقة بالنفس، فلماذا لا تفعل الأشياء الضرورية التي تمنحك إياها ؟ كتب القديس دجون : " ان المحبة الحقيقية تطرد الخوف "، وكذلك يفعل التحضير الحقيقي . اذن لماذا لا نحضر خطبنا باهتمام أكبر ؟ لماذا لا يفهم البعض بوضوح معنى التحضير ؟ ولا كيف نقوم به بتعقل، فيما يتذرع البعض الآخر بضيق الوقت، لذلك سنعالج هذه المسألة بشكل متكامل .


                 أولا : التحضير الصحيح

       ما هو التحضير ؟ هل هو قراءة كتاب ؟ هذا نوع واحد منه، لكن ليس بالنوع الأفضل . فالقراءة ربما تساعد، لكن اذا حاول أحد أن يأخذ الكثير من الأفكار
" المعلبة " من كتاب ويوردها كما هي، فستأتي خطبته هزيلة وناقصة . ربما لا يعرف الجمهور ما الذي ينقص، الا أنه لن ينجذب الى الخطيب .

       لنعط مثلا : منذ مدة، قام الكاتب بتدريس فن الخطابة لمجموعة من رؤساء المصارف في نيويورك . ومن الطبيعي أنه لم يكن لدى هذه المجموعة الوقت الكافي لتحضير الخطب بشكل ملائم .

       كانت المجموعة تلتقي كل يوم جمعة من الساعة الخامسة حتى السابعة، وفي يوم من أيام الجمعة، وجد أحد السادة - سندعوه بالسيد جاكسون لأسباب خاصة - أن الساعة أصبحت الرابعة والنصف . فما الذي سيتحدث بشأنه ؟ خرج من مكتبه واشترى نسخة من مجلة " فوريس "، وفي طريقه الى " بنك الموارد الفيدرالي " حيث تجتمع المجموعة، قرأ مقالة عنوانها " لديك عشر سنوات فقط للنجاح ". قرأها، ليس لأنه معجب بالمقالة، ولكن لأن عليه أن يخطب حول شيء ما، حول أي شيء، ليملأ وقته .

       وبعد ساعة، وقف وحاول أن يتحدث بشكل مقنع ومثير عن محتويات تلك المقالة، فما كانت النتيجة، النتيجة الحتمية ؟

       لم يفهم أو يستسغ ما الذي يحاول قوله . " يحاول قوله " هو التعبير الدقيق، لقد كان " يحاول " ليست لديه أية رسالة حقيقية يسعى الى إبلاغها، وقد عبر عن ذلك أسلوبه ونبرته . فكيف يتوقع من الجمهور أن يتأثر أكثر مما فعل هو ؟ كان يعود الى المقالة قائلا ان المؤلف قال كذا وكذا، كان لديه الشيء الكثير من مقالة الـ
" فوريس "، لكن القليل من السيد جاكسون .

       وهكذا خاطبه الكاتب بما يشبه التالي : " يا سيد جاكسون، نحن لا نهتم بالشخصية الخيالية التي كتبت المقالة . فهي ليست موجودة بيننا، كما لا نستطيع أن نراها، لكننا نهتم تك وبآرائك . أخبرنا بما تفكر به شخصيا، وليس بما قاله انسان آخر، ضع المزيد من أفكار السيد جاكسون . لم لا تتناول الموضوع ذاته في الأسبوع المقبل ؟ لم لا تقرأ المقالة ثانية وتتساءل عما اذا كنت تتفق مع المؤلف أم لا ؟ ان كنت كذلك، فكر بمقترحاته وزودها بملاحظات مأخوذة من تجربتك الخاصة . وان لم تتفق معه، أخبرنا بذلك وقدم لنا الأسباب، دع هذه المقالة تكون مجرد نقطة انطلاق تبدأ منها خطابك .

       قبل السيد جاكسون هذا الاقتراح، وأعاد قراءة المقالة فاستنتج أنه لا يتفق بتاتا مع المؤلف، وازداد موضوع المقالة عمقا عندما فكر به في لحظات الفراغ خلال الأسبوع .

       وعندما تحدث السيد جاكسون حول الموضوع، وكان لديه شيئا خاصا به، لديه المواد الخام التي استخرجها من منجمه الخاص، وقد تحدث بشكل أفضل لأنه لم يتفق في الرأي مع مؤلف المقالة . فليس هناك من دافع للإثارة كقليل من المعارضة، وهكذا نلمس الفرق بين الخطابين اللذين ألقاهما شخص واحد حول موضوع واحد، والفرق هو في التحضير الصحيح .


          ثانيا : التحضير يعني التفكير

       هل يعني تحضير الخطاب جمع بعض العبارات الصحيحة المكتوبة أو المستوعبة؟ كلا . هل يعني جمع القليل من الأفكار العرضية التي تستميلك قليلا ؟ كلا . بل هو يعني جمع أفكارك وآرائك وحوافزك، وأنت لديك مثل تلك الأفكار والحوافز، لديك إياها في كل يوم من حياتك اليقظة . حتى انها تأتي اليك عبر أحلامك . ان وجودك مليء بالمشاعر والتجارب . وتلك الأشياء تقع في أعماق عقلك اللاواعي كالحصى الملقاة على الشاطئ، ان التحضي يعني التفكير والاستنتاج والتذكر  واختيار ما يعجبك وصقله وجمعه في وحدة فنية من صنعك الخاص . لا يبدو ذلك برنامجا صعبا، أليس كذلك ؟ انه يحتاج فقط الى القليل من التركيز والتفكير الهادف .

       كيف حضر دويت ل. مودي خطبه التي جعلته مشهورا عبر التاريخ ؟ قال مجيبا عن هذا السؤال : " ليس لدي أي سر حين أختار موضوعا، أكتب اسمه على مغلف كبير، لدي الكثير من تلك المغلفات فاذا وجدت أثناء القراءة شيئا جيدا حول الموضوع الذي سأتحدث عنه، أنقله الى المغلف الصحيح وأضعه جانبا . ودائما أحمل معي دفتر ملاحظات، فان استمعت الى عبارات أثناء أي احتفال، تلقي ضوءا على الموضوع، أسجلها ثم أنقلها الى المغلف، وربما تركته جانبا لمدة سنة أو أكثر . وحين أريد أن ألقي بخطبة، أتناول ما أكون قد جمعته، فأجد مادة كافية مما أجده هناك أضافة الى اجتهادي الخاص ".

       وهنا نصيحة حكيمة من العميد براون في جامعة بيل الذي كان يدرب الآخرين على تحضير الأحاديث وإلقائها، وتوزيع بعض النصائح التي تفيد الخطيب اذا كان بائع قماش أو صانع أحذية وهكذا، أقتطف بحرية ما قاله العميد براون :

       " احتضن دراستك، احتضنها حتى تصبح يانعة فمن خلالها تحصل على قطيع كامل من الأفكار الناجحة، مثلما تسبب ذرات الحياة الصغيرة في الانتشار والنمو، ويستحسن أن تستمر هذه العملية فترة طويلة .

       وحين تنهمك في جمع مادة لاحتفال معين، اكتب جميع الأفكار المتعلقة بالمادة التي تخطر ببالك، دون جميع أفكارك ببضع كلمات كافية لتثبيت الفكرة ودع عقلك يبحث عن المزيد منها، تلك هي الطريقة التي من خلالها يتدرب العقل على الانتاج . وبها تبقى عملياتك الذهنية نشطة وبناءة .

       دون كل هذه الأفكار التي ولدها تفكيرك من دون مساعدة . فهي بالنسبة لتغذيتك الفكرية أثمن من الياقوت، دونها على قطع من الورق وستجد من السهل ترتيب وتوضيب هذه القطع حين تنظم مادتك .

       ثابر على كتابة جميع الأفكار التي ترد الى تفكيرك، ليس عليك الاسراع في هذه العملية فهي أهم عملية فكرية سيتاح لك الانهماك فيها . انها الوسيلة التي تدفع العقل للنمو لكي يصبح قوة حقيقية منتجة ".

       وإليك كيف حضر لنكولن خطبه ؟ لقد كان يعرف الحقائق لحسن الحظ . ان أحد أشهر خطب لنكولن كانت تلك التي تعلن عن رؤيته الشخصية : " ان البيت المنقسم على ذاته لا يستطيع النهوض ". لقد فكر بهذا الخطاب وهو في طريقه الى عمله المعتاد، وأثناء تناول طعامه وسيره في الشارع وفيما هو يحلب بقرته في الحظيرة أو خلال مشواره اليومي الى الجزار أو البقال وقد ألقى شاله الرمادي القديم على كتفيه وسلة التسوق فوق ذراعه وابنه الأصغر بجانبه يثرثر ويسأل ويشد على أصابع والده الطويلة الرفيعة ليحثه على التحدث اليه . لكن لنكولن يبقى مأخوذا بأفكاره، يفكر بخطابه، من دون أن يعي بوجود ابنه .

       من وقت لآخر، وخلال عملية توليد الأفكار، كان يدون الملاحظات على قطع يمزقها من أكياس الورق ويعلقها داخل قبعته ويحملها معه الى أن يتسنى له الوقت ليرتبها، فيكتبها ويراجعها حتى تصبح جاهزة للتسليم والإذاعة .

       خلال المناقشات المشتركة في سنة 1858، كان السيناتور دوغلاس يدلي بالخطاب ذاته أينما ذهب، لكن لنكولن كان يثابر على الدراسة والتأمل والتفكير حتى يسهل عليه تحضير خطاب جديد كل يوم عوضا عن ترديد خطابه القديم . فكان موضوعه يتسع ويتشعب في ذهنه .

       قبل انتقاله الى البيت الأبيض بفترة قصيرة، تناول نسخة من الدستور وثلاث خطب كمراجع له، وأغلق باب الغرفة الخلفية فوف المخزن في سبرينغفيلد، وهناك، وبعيدا عن كل تدخل أو مقاطعة، كتب خطابه الافتتاحي .

       كيف جهز لنكولن خطاب غيتسبرغ ؟ لسوء الحظ، حيكت حول ذلك تقارير كاذبة . لكن القصة الحقيقية هي مذهلة اليك بتلك القصة :

       عندما قررت اللجنة المسؤولة عن مقبرة غيتسبرغ إقامة احتفال رسمي، دعي إدوارد إفريت لإلقاء خطاب بالمناسبة كان السيد إفريت نائب مدينة بوسطن، ورئيس جامعة هارفرد، وحاكم ماساشوستس وعضو مجلس الشيوخ الأميركي، وعلى العموم، كان يعتبر أكفأ خطيب في أميركا . عين موعد الاحتفال في 23 تشرين الأول (أوكتوبر) سنة 1863، فأعلن السيد إفريت أنه يستحيل عليه التحضير الجيد . وهكذا تأجل الموعد الى 19 تشرين الثاني )نوفمبر(، أي حوالي الشهر، حتى يتسنى له الوقت الكافي لتحضير خطابه . وقد أمضى الأيام الثلاثة الأخيرة في غيتسبرغ، يتجول في أرض المعركة ليعود نفسه على كل ما جرى هناك، فكانت فترة توليد وخلق الأفكار بمثابة تحضير ممتاز . لقد بدت المعركة حقيقية بالنسبة اليه .

       وزعت دعوات الحضور الى جميع أعضاء الكونغرس والى الرئيس لنكولن وأعضاء مجلس الشيوخ . لكن معظم أولئك تجنبوا الحضور، وقد اندهشت اللجنة عندما وافق الرئيس لنكولن على المجيء . فهل يطلبوا منه أن يلقي خطابا ؟ هم لم يقصدوا أن يفعلوا ذلك، فارتفعت أصوات تعارض ذلك، اذ لم يكن لديه الوقت الكافي للتحضير . وحتى ولو كان لديه الوقت، فهل لديه القدرة على ذلك ؟ حقيقة أن باستطاعته تدبير الأمر بالنسبة لنقاش حول العبودية والاتحاد، لكن ما من أحد سمعه يقدم خطابا  احتفاليا . فهذه مناسبة عظيمة، ولا يجب أن يخاطروا . فهل يطلبوا منه إلقاء خطاب ؟ فكروا مليا بالأمر . . . وكم كانوا سيندهشون لو استطاعوا أن يتطلعوا الى المستقبل ويروا أن هذا الرجل الذي يتساءلون عن مقدرته في إلقاء الخطب، سيلقي خطابا في هذه المناسبة يكون أفضل ما نطقت به شفتا انسان حي .

     وأخيرا أرسلوا دعوة الى الرئيس لنكولن باعطاء " بعض الملاحظات المناسبة ". نعم، هذه هي الطريقة التي عبروا بها عما يريدونه : " بعض الملاحظات المناسبة ". تصور كتابة ذلك الى رئيس الولايات المتحدة !

       سرعان ما تحضر لنكولن لتجهيز ملاحظاته، فكتب الى ادوارد إفريت، وأمنم نسخة من الخطاب الذي سيلقيه هذا المعلم الكلاسيكي، وبعد وم أو يومين، وفيما هو ذاهب الى استديو التصوير، أخذ نسخة إفريت معه وقرأها في وقت الفراغ هناك . فكر بخطابه عدة أيام أثناء سيره الى ومن البيت الأبيض، واثناء استلقائه على المقعد الجلدي في المكتب الحربي وهو ينتظر التقارير الأخيرة . كتب نسخة مسودة على ورقة فولسكاب ووضعها داخل قبعته الحريرية . وكان يفكر بها من دون توقف، ومن دون أي توقف اتخذ الخطاب شكله، وفي يوم الأحد وقبل أن يدلي به، قال الى نوح بروح : " ان الخطاب لم يكتب نهائيا . وفي أي حال، لم ينته تماما، فقد أعدت كتابته مرتيث أو ثلاث مرات، ويجب أن أضفي عليه لمسة أخيرة ".

       وصل الى غيتسبرغ قبل ليلة الاحتفال، وكانت المدينة تغص بالجماهير، فسكانها الألف والثلاثمائة نسمة أصبحوا فجأة خمسة عشر ألفا . فازدحمت جوانب الطريق وصعب المرور هناك . بينما عدة فرق موسيقية أخذت تعزف والجماهير تغني وتتجمع أمام منزل السيد ويلز حيث يقيم لنكولن . هتفوا له وطلبوا منه أن يلقي بكلمة، استجاب لنكولن ببضعة كلمات عبرت بوضوح وكياسة بأنه لا يرغب في التحدث حتى نهار الغد . لكن الحقيقة هي أنه كان ينوي أن يقضي أمسيته في اضفاء اللمسة الأخيرة على خطابه، حتى انه ذهب الى منزل مجاور حيث يقيم السكرتير سيوارد وقرأ الخطاب أمامه لينتقده، وبعد تناول الفطور في الصباح التالي، أخذ يعمل على تنسيقه حتى قرع الباب كإشارة بأن الوقت  حان ليأخذ مكانه في الاحتفال وقد ذكر الكولونيل كار أن الرئيس جلس على جواده منحني الظهر واستغرق في تفكير عميق.

       ولا يمكننا أن نحدس الا أنه كان يضفي اللمس الأخيرة على خطابه المؤلف من عشر جمل خالدة .

       ان بعض خطب لنكولن التي لم تجذب اهتمامه كانت فاشلة، لكن قوة غريبة كانت تمتلكه حين يتحدث عن العبودية والاتحاد . لماذا ؟ لأنه كان دائم التفكير بهاتين المسألتين اللتان يشعر بهما في أعماقه .

       ربما تحتج وتقول : " ان هذا كله مثير للغاية، لكنيي لا أرغب في أن أصبح خطيبا خالدا، بل أريد أن ألقي ببضع خطب في المناسبات ".

       هذا صحيح، نحن ندرك ما تحتاجه تماما، فهذا الكتاب يهدف الى مساعدتك ومساعدة أمثالك لفعل ذلك . ولكي لا تأتي خطبك واهية، يمكنك الإفادة من الطرق التي اتبعها خطباء الماضي المشهورين .


          ثالثا : كيف تحدد موضوع الخطبة ؟

       ما هي المواضيع التي يجب أن تعالجها ؟ أي شيء يثير اهتمامك . حدد موضوعك مسبقا، حتى يتسنى لك الوقت للتفكير به مرارا . فكر به طيلة سبعة أيام واحلم به خلال سبعة ليال، فكر به أثناء خلودك الى الراحة، وفي الصباح وأنت تحلق أو تستحم، في طريقك الى المدينة، أو بينما تنتظر المصعد، عندما تكوي الثياب أو حين تطهو الطعام، ناقشه مع أصدقائك واجعله موضوع حديثك، اسأل نفسك جميع الأسئلة الممكنة التي تتعلق به . فاذا كنت تتحدث مثلا عن الطلاق، اسأل نفسك ما هي أسباب الطلاق وما هي نتائجه الاقتصادية والاجتماعية .

       من ناحية أخرى، لنفترض أنك قررت أن تتحدث عن عملك أو اختصاصك كيف تتهيأ لتجهيز خطاب بهذا الشأن ؟ ان لديك مادة غنية حول هذا الموضوع . والمشكلة هي في اختيار وتنسيق هذه المادة . لا تحاول أن تخبرنا إياها خلال ثلاث دقائق، لأن ذلك لا يمكن أن يحدث، وستأتي محاولتك استعراضية متقطعة، تناول مرحلة واحدة من موضوعك توسع بها فمثلا، لماذا لا تخبرنا كيف حدث أن عملت بمجال عملك أو اختصاصك هذا ؟ وهل كان ذلك نتيجة لحادثة معينة أو أنك اخترته بنفسك ؟ أذكر سعيك المبكر وفشلك وآمالك وانتصاراتك، أعط رواية انسانية مثيرة وصورة حياة واقعية ترتكز على تجارب حقيقية . ان الصدق في قصة حياة انسان ما - اذا ما رويت بتواضع ومن دون أنانية - هي مسلية جدا . وهي مادة لخطاب مثير جدا .

       أو تناول زاوية أخرى من عملك : ما هي مشكلاته ؟ وما هي النصيحة التي تمنحها للشبان الذين يدخلونه ؟

       أو تحدث عن الأشخاص الذين تقابلهم - الأشخاص الصالحين والمزيفين . تحدث عم مشكلاتك، وما الذي علمك إياه عملك بشأن أكثر المواضيع إثارة في العالم : الطبيعة البشرية ؟ اذا تحدثت عن الجانب التقني من عملك، فربما حديثك لن يثير اهتمام الآخرين . لكن الناس، الشخصيات لا يمكن للانسان أن يخطئ في استخدامها مادة له .

       وفوق كل ذلك، لا تجعل حديثك موعظة مجردة . لأن ذلك سيكون مملا اجعل حديثك مثل كعكة مزينة بالأمثلة والعبارات العامة . فكر بحالات مادية تكون قد اطلعت عليها، وبالحقائق الرئيسية التي تعتقد أنها تمثل تلك الحالات . وستكتشف أن هذه الحالات المادية أسهل على التذكر من الأشياء المجردة، ومن السهل أيضا الحديث عنها كما أنها تساعدك وتغني خطبتك .

       هنا طريقة يستخدمها كاتب مثير جدا، انها مقتطفة من مقالة كتبها ب . أ. فوريس حول مسؤوليات الرؤساء نحو معاونيهم .

       " ان شركاتنا الحاضرة كانت في الماضي من مسؤولية رجل واحد لكن معظمها تخطى هذا الحجم . وبما أن كل شركة ضخمة هي " الكل المطول للرجل الواحد "، فان ذلك استوجب أن يجمع المارد الجبار مساعدين مفكرين لمساعدته في الإمساك بجميع أمور الشركة .

       كانت إدارة شركة " فولاذ بيت لحم " من نوع " الرجل الواحد " طيلة عدة
سنوات . وكان تشارلز تشواب يتولى جميع الأعمال . ومع مرور الوقت، تطورت الشركة وقضت الضرورة باعتماد مساعدين إداريين للقيام معظم المهام الإدارية المستجدة .

       واعتمدت إدارة " ايستمان كوداك " في مراحلها الأولى على جورج ايستمان، الا انه كان حكيما كفاية لينشئ جهازا إداريا ذا كفاءة عالية يشرف على سير العمل وتطويره . وكذك الأمر بالنسبة لأضخم شركات الحفظ والتعليب في شيكاغو . وخلافا للاعتقاد السائد، لم تعد شركات البترول تعتمد على إدارة " الرجل الواحد " بعدما نمت وأصبحت مؤسسات ضخمة .

       جـ . ب . مورغان، رغم كونه ماردا، كان يؤمن في اختيار شركاء كفؤين يشاركونه أعباء العمل .

       وهناك رجال أعمال قيادين يرغبون في ادارة أعمالهم اعتمادا على مبدأ " الرجل الواحد "، لكنهم يجبرون، إزاء حجم العمليات الحديثة، الى تفويض المسؤولية للآخرين .

       بعض الرجال، خلال حديثه عن العمل، يقترف الخطأ الذي لا يغتفر وهو التحدث عن الجانب الذي يهمه ويهمل الجانب الآخر الذي يهم المستمعين، لذلك في أثناء التحضير، أدرس جمهورك فكر باحتياجاته ورغباته . كما من المستحسن القيام ببعض المطالعة لاكتشاف ما قاله وما فكر به الآخرون حول الموضوع ذاته، لكن لا تقرأ الا بعد أن تفكر بالموضوع جيدا . فهذا مهم للغاية، بعد ذلك اتجه الى المكتبة العامة وأوعز بما تحتاجه الى المسؤول هناك، أخبره بأنك تجهز خطابا حول موضوع معين واطلب منه المساعدة بصراحة . وان لم تكن لديك عادة القيام بالأبحاث، فربما ستندهش للمساعدات التي سيضعها بتصرفك، ربما تكون هذه ملفا خاصا حول موضوعك، أو تصاميم ومناقشات موجزة توفر النقاش الأساسي لجانبي المسائل العامة الراهنة، فهناك كتب تعطيك المقالات الصحيفة التي ظهرت حول مختلف المواضيع منذ بداية القرن، وهناك التقاويم والموسوعات ومختلف المراجع .


          رابعا : سر الطاقة الاحتياطية


       قال لوثر بوربانك قبل وفاته بقليل : " أنتجت مليون عينه نباتية لأجد واحدة أو اثنتان منها أفضل من سائر العينات، بعد ذلك أتلفت جميع العينات الرديئة ". وكذلك الخطاب - يجب أن يهيأ بروح الوفرة وحسن التمييز فاجمع منه فكرة، ثم أسقط تسعين منها .

       اجمع المزيد من المواد، والمزيد من المعلومات، أكثر مما يمكنك استخدامه . اجمعها من أجل التأكد من صحة ما لديك اجمعها في سبيل التأثير الذي ستخلفه في عقلك وقلبك وأسلوبك في إلقاء الخطبة . فهذا عامل أساسي مهم في التحضير .

       يقول آرثر دان : " دربت مئات البائعين والبائعات الذين يطوفون في المدن التماسا للأصوات والاشتراكات أو ترويجا للسلع . والضعف الأساسي الذي اكتشفته لدى معظمهم هو فشلهم في إدراك أهمية معرفة كل شيء ممكن عن منتجاتهم، والحصول على هذه المعرفة قبل البدء بالبيع .

       لقد جاء العديد من البائعين الى مكتبي، وبعد الحصول على وصف للسلع ونماذج لأحاديث البيع، انطلق محاولا البيع لكن لم يصمد معظم هؤلاء لمدة أسبوع، كما أن البعض لم يصمد ثمانية وأربعين ساعة .

      نتيجة لذلك، قمت بدفعهم الى دراسة العناصر التي تؤلف المنتجات التي يبيعونها، وغالبا ما وجدت بائعين ينفذ صبرهم في بداية الوقت المطلوب لدراسة سلعهم . وهم يقولون : " لن يتسنى لنا الوقت كي نخبر بائع المفرق بكل ذلك فهو دائما منهمك في العمل، واذا تحدثنا عن البروتين والكاربوهيدرات، فهو لن يستمع، وحتى اذا استمع الينا فهو لن يفهم عم نتحدث . ويكون جوابي : أنتم لا تحصلون على هذه المعلومات من أجل منفعة زبونكم، بل من أجل منفعتكم . فاذا عرفتم سلعكم من الألف حتى الياء، سينتابكم شعور من الصعب وصفه . اذ ستصبحون محضين ويقوى اسلوبكم الذهني، فلا تقاومون أو تغلبون ".

       حدثتني الآنسة إيدام . تاربل، المسؤولة التاريخية عن شركة " ستاندرد أويل " أنها منذ سنوات، حين كانت في باريس، أبرق لها السيد س. س ماك كلور، مؤسس مجلة " ماك كلور "، لتكتب مقالة قصيرة عن " أتلانتك كابل ". فذهبت الى لندن وأجرت مقابلة مع المدير الأوروبي للكابل الرئيسي، وحصلت على معلومات كافية لمقالتها، لكنها لم تكتف بذلك، بل أرادت موردا احتياطيا للحقائق، فدرست جميع أنواع الكابلات، حتى أنها ذهبت الى المصانع على أطراف لندن ورأت عملية تصنيع وانشاء الكابلات . لماذا جمعت عشرة أضعاف المعلومات التي تحتاجها فعلت ذلك لأنها شعرت أنها ستمنحها قوة احتياطية، ولأنها أدركت أن القليل الذي عبرت عنه كان تكثيفا للمعلومات الواسعة التي في حوزتها فجاء هذا القليل قويا ومقنعا .

       قال إدوين جايمس كاثل : " ان الخطب المجيدة هي تلك التي تتسلح بمادة احتياطية وافرة وفائضة - أكثر بكثير مما يستخدمه الخطيب ".


الفصل الثالث

كيف حضر أشهر الخطباء خطبهم ؟

       كنت موجودا في مأدبة عشاء أقيمت في نادي " روتري " بنيويورك عندما كان الخطيب الرئيسي موظف حكومي بارز . فالمركز المرموق الذي يشغله منحه احتراما وهيبة، وكنا ننتظر بشوق سماع خطابه . اذ كان وعدنا بأن يخبرنا عن نشاطات دائرته التي كانت محط اهتمام كل رجل أعمال في نيويورك .

       كان يعرف موضوعه جيدا، ويعرف عنه أكثر بكثير مما يستطيع استخدامه، لكنه لم يخطط لخطابه ولم ينتق مادته ولم ينسقها بشكل ترتيبي . وهكذا غاص بتهور في خطابه الى أين هو ذاهب، لكنه مضى في طريقه .

       وباختصار، كان عقله مجرد خليط، وكذلك كان الفطور الذهني الذي قدمه لنا، فقدم الآيس كريم في البداية، ثم وضع الحساء أمامنا وبعد ذلك جاء دور السمك واللوز، وفوق كل ذلك، بدا أن هناك مزيجا من الحساء والآيس كريم والحر الأحمر، ولم أر في أي مكان وزمان خطيب مرتبك مثله .

       كان يحاول أن يتحدث ارتجالا، لكن في غمرة يأسه، سحب رزمة من الأوراق من جيبه، معترفا أن سكرتيرته قد جمعتها له ولم يتساءل أحد عن صحة تأكيده . حتى ان الأوراق نفسها لا تزيد ترتيبا عن شاحنة قاطرة مليئة بكسارة الحديد . فكان يتعثر بها بعصبية وهو يحدق من صفحة لأخرى، محاولا توجيه نفسه وايجاد طريق يؤدي الى خارج الظلام، وحاول أن يتكلم وهو يسعى الى ذلك . فاستحال الأمر عليه، فاعتذر، ثم طلب ماء وشرب بيد مرتجفة، بعد ذلك نطق بمزيد من الجمل المبعثرة مكررا نفسه، حضر في الأوراق ثانية . . . ولحظة بعد لحظة، أصبح أكثر ضياعا وغربة وحرجا . تصبب العرق من جبينه، وارتجف المنديل وهو يمسحه . أما نحن الذين شاهدنا اخفاقه التام، فقد ثارت عواطفنا ومشاعرنا، وعانينا من الاحراج، لكن ذلك الخطيب تابع بعثرة الأوراق، وهو يعتذر ويشرب، وكل واحد، ما عداه، شعر أن المشهد يشارف على الكارثة الكلية، وارتحنا عندما جلس وتوقف عن كفاحه المميت . لقد كنت أكثر المستمعين قلقا، وكان هو أكثر خطيب إحراجا ومهانة، لقد جعل خطابه مثلما قال جان جاك روسو عن كيفية كتابة رسالة حب : بدأ من دون أن يعرف ما الذي سيقوله، وانتهى دون أن يعرف بما نطق .

       ان مغزى القصة هو كما قال هربرت سبنسر : " عندما لا تنسق معرفة الانسان، كلما حصل على المزيد منها، كلما ازداد ارتباك أفكاره ".

       ما من رجل عاقل يبدأ من ببناء بيت من دون وضع خطة له، لكن لماذا يبدأ بإلقاء خطابه من دون أي نوع من التصميم أو البرمجة ؟

       ان الخطاب هو رحلة ذات هدف، ويجب أن تكون ذا امتياز . والانسان الذي يبدأ بمكان غير محدد، ينتهي عادة هناك .

       ودددت لو أستطيع رسم قول نابليون بأحرف حمراء فوق كل باب في الأرض حيث يتجمع طلاب فن الخطابة : " ان فن الحرب هو علم حيث لا ينجح الأمر الذي لم يحسب له أو يفكر به ".

       والأمر صحيح في الخطابة تماما كما في القتال، ولكن هل يدرك الخطباء ذلك - أو، ان هم فعلوا - هل يستخدمونه دائما ؟ كلا، فمعظمهم لا يفعل ذلك . وغالبا ما يكون الخطاب أقل تنسيقا من طبق سمك مطهي .

       ما هو التنسيق الأفضل والأكثر فعالية لمجموعة محددة من الأفكار ؟ لا يمكن لأحد الاجابة حتى يدرها . وهي دائما مشكلا جديدا، ومسألة أزلية يجب أن يثابر الخطيب على السؤال والاجابة . فلا يمكن اعطاء قواعد ثابتة، لكننا نستطيع، في أي حال، أن نذكر بإيجاز، وضمن حالة واقعية، ما الذي نعني بالتدابير المنسقة .

       هنا خطاب ألقي منذ بضع سنوات أمام " الاتحاد الوطني لمجالس الأملاك الثابتة ". وفاز بالجائزة الأولى من بين سبعة وعشرين خطابا عن مدن مختلفة . بني الخطاب بأسلوب جيد، وهو مليء بالوقائع المذكورة بوضوح وسرعة وبشكل مثير . وهو يضج بالحياة والحركة، ويستحق القراءة والدراسة .

       " السيد الرئيس، أيها الأصدقاء :

       منذ 144 سنة، ولد هذا الوطن العظيم، الولايات المتحدة الأميركية، في مدينتي فيلادلفيا، وهكذا من الطبيعي أن يكون لدى هذه المدينة سجلا تاريخيا له روحا أميركية قوية لم تجعلها أعظم مركز صناعي في البلاد فحسب، بل أيضا من أضخم وأجمل المدن في العالم أجمع .

       ان مساحة فيلادلفيا توازي مساحة ميلوكي وبوسطن، باريس وبرلين . وقد خصص قسم من أفضل وأجمل الأراضي فيها لإنشاء المنتزهات والساحات والجسور، ليتوفر للسكان الأماكن الملائمة للترفيه والسعادة والبيئة الجيدة التي تناسب كل أميركي صالح .

       فيلادلفيا، أيها الأصدقاء، ليست فقط مدينة ضخمة، نظيفة، وجميلة، بل هي معروفة أيضا في جميع أنحاء العالم على أنها مصنع العالم، وطبقا للإحصائيات الدقيقة، ليست هناك أي مدينة توازي فيلادلفيا في إنتاج البضائع الصوفية والجلدية والقطنية والقبعات والصناعات الثقيلة والمعدات وغيرها من الأشياء الضخمة، نحن نبني قاطرة للسكة الحديدية في كل ساعتين، وأكثر من نصف سكان هذه المدينة العظيمة يقودون سيارات صنعت في مدينة فيلادلفيا . نحن نصنع سجادا وبسطا أكثر من بريطانيا العظمى وإيرلندا معا وفي الحقيقة، ان عملنا الصناعي والتجاري هائل حتى ان موجودات مصارفنا بلغت في السنة الماضية أرقاما خيالية .

       لكن أيها الأصدقاء، فيما نحن فخورين جدا بازدهارنا الصناعي الرائع، وفيما نحن فخورين جدا لكوننا أضخم مركز طبي وفني وثقافي في البلاد، الا أننا نشعر باعتزاز أكثر لأن لدينا منازل فردية في مدينة فيلادلفيا أكثر مما هناك في أية مدينة في العالم وما أريد أن ألفت انتباهكم الخاص اليه هو أن عشرات الآلاف من هذه المنازل يملكها عمال مدينتنا، وعندما يملك الانسان الأرض التي يقف عليها والسقف الذي يرتفع فوق رأسه، فانه لن يتأثر بالمناقشات المليئة بالأفكار المستوردة .

       ليست فيلادلفيا أرضا صالحة للفوضوية الأوروبية لأن منازلنا ومؤسساتنا الثقافية وصناعتنا الماردة تنتجها الروح الأميركية التي ولدت في مدينتنا، وهي موروثة عن أجدادنا القدماء . فيلادلفيا هي المدينة الأم لهذا البلد العظيم ومنبع للحرية الأميركية . انها المدينة التي صنع بها أول علم أميركي، وحيث اجتمع أول كونغرس في الولايات المتحدة انها المدينة التي فيها وقع إعلان الإستقلال وهي المدينة التي تشتمل على جرس الحرية الذي أوحى لعشرات الآلاف من رجالنا ونسائنا وأطفالنا، لذلك نؤمن أن لدينا مهمة مقدسة وهي أن ننشر الروح الأميركية ولتبقى شعلة الحرية تشتعل ولتبقى، بإذن الله، حكومة واشنطن، لنكولن، وثيودور روزفلت، مصدر وحي للإنسانية جمعاء".

       دعنا نحلل هذا الخطاب، لنرى كيف تم بناءه وكيف حقق رسالته . في الدرجة الأولى، لديه بداية ونهاية . وهذه ميزة نادرة - أكثر ندرة مما تعتقد . فهو يبدأ بمكان ما، ويتجه بشكل مستقيم كالأوزة البرية . فهي لا تميل، ولا تضيع الوقت .

       انه يتمتع بالحيوية والتفرد، فالخطيب يستهل بذكر شيء عن مدينته لا يستطيع سائر الخطباء أن يقولونه عن مدنهم : فهو يقول ان مدينته هي مركز ولادة الوطن .

       انه يذكر أنها أضخم وأجمل المد في العالم . لكن هذا الادعاء هو عام لن يؤثر كثير في نفس أي انسان، لقد عرف الخطيب ذلك، فساعد المستمعين على رؤية مساحة فيلادلفيا حين ذكر أنها توازي ميلوكي وبوسطن، باريس وبرلين، فهذا محدد وملموس ومثير ومدهش، انه يضع اشارة، ويدفع فكرته بأفضل مما تفعله صفحة كاملة من الأحصاءات .

       ثانيا، يعلن أن فيلادلفيا " تعرف في كل مكان على أنها مصنع العالم ". يبدو ذلك مبالغا به، أليس كذلك ؟ وهو يشن الدعاية . ولو أنه انتقل الى النقطة التالية على الفور، لما اقتنع أحد بكلامه، لكن لم يعقل . بل توقف ليعدد المنتجات التي فيلادلفيا هي رائدة العالم بإنتاجها : " البضائع الصوفية والجلدية والقطنية والقبعات والمنتجات الثقيلة والمعدات وغيرها . . . ".

       ان هذا لا يبدو كدعاية الآن، أليس كذلك ؟

       فيلادلفيا تصنع قاطرة سكة حديد كل ساعتين، وأكثر من نصف السكان في هذا البلد العظيم يقودون سيارات مصنوعة في مدينة فيلادلفيا ".

       ما الذي يفعله الخطيب بع ذلك ؟ يقفز عائدا الى موضوع حجم فيلادلفيا الذي ذكره في البداية، وقدم بعض الحقائق التي نسي أن يذكرها حينذاك ؟ كلا . ليس الأمر كذلك . فهو يلازم نقطته الى أن ينتهي منها . وبعدما يفعل ذلك، ! لن يحتاج للعودة اليها ثانية . لذلك تشعر بالامتنان العميق لهذا الخطيب . فأي شيء مزعج أكثر من الخطيب الذي ينتقل من شيء لآخر كالخفاش عند المغيب ؟

       لقد ذكر الكثير من الوقائع الباردة . لكنها ليست من النوع الذي يقلل من الفصاحة . فهذا الخطيب يهدف الى بناء العقدة وأن يلامس القلب ويثير المشاعر . وهكذا، وعلى امتداد البيوت، يعالج الجانب العاطفي، فيخبرنا ما الذي يعنيه صاحب البيت بالنسبة لروح المدينة . ويشجب الأفكار المستوردة . ويتغنى بفيلادلفيا على أنها " منبع الحرية الأميركية ". الحرية! كلمة سحرية، كلمة مليئة بالمشاعر والعاطفة التي بذل الملايين حياتهم من أجلها . هذه العبارة جيدة بمفردها، لكنها ستكون أفضل آلاف المرات لو أنه دعمها بمراجع محسومة من الأحداث والوثائق التاريخية والعزيزة على قلوب المستمعين . . " انها المدينة حيث صنع أول علم أميركي، وهي المدينة حيث اجتمع أول كونغرس في الولايات المتحدة، وحيث وقع الإعلان عن الإستقلال . . . جرس الحرية . . . مهمة مقدسة . . " لنشر الروح الأميركية . . . لتبقى شعلة الحرية مضاءة، وهكذا، بإذن الله، حكومة واشنطن، لنكولن، وثيودور روزفلت ربما تكون وحيا للإنسانية جمعاء ". هذه هي قدة حقيقية :

       ان هذا الخطاب كان من المحتمل أن يشرف على الاخفاق والفشل التام لو أنه قيل بأسلوب هادئ خال من الحياة والحيوية، لكن الخطيب ألقاه مثلما ألفه، بمشاعر وحماس هما وليدا الإخلاص العميق فلا عجب أن نال الجائزة الأولى .

       والآن كيف أنشأ أشهر الرجال خطبهم ؟

       كتب السناتور البرت ج بفريدج كتابا قصيرا ومثيرا جدا عنوانه " فن الخطابة ". قال هذا السياسي البارز : " يجب أن يكون الخطيب سيد موضوعه . ويعني هذا أن تجمع الحقائق وتنسقها وتدرسها وتفهمها وليس من ناحية واحدة، بل من جميع النواحي . كما يجب التأكد من أنها حقائق وليست مجرد افتراضات أو تأكيدات غير مبرهن عليها .

       وبعد أن تجمع وتنظم حقائق أي موضوع، فكر في الحل الذي تستلزمه هذه الحقائق، فيكتسب خطابك جدة وقوة يكون حيويا ومؤثرا . بعدئذ أكتب أفكارك بأقصى ما يمكنك من الوضوح والمنطق .

       بمعنى آخر، قدم الحقائق من كلا الجانبين ثم قدم النتيجة التي توضحها تلك الحقائق وتحددها .

       قال وودرو ويلسون حين سئل أن يشرح طرقه : " ابدأ بلائحة من المواضيع التي تريد تغطيتها، وبعد أن أنسقها في مخيلتي طبقا لعلاقتها الطبيعية - أي انني أربط الهيكل بعضا ببعض، بعد ذلكك أكتبه بطريقة الاختزال، اذ اعتدت على الكتابة بطريقة الاختزال لأنني أجدها وسيلة عظيمة لتوفير الوقت . وفور القيام بذلك، أنسخه على آلتي الكاتبة، فأغير العبارات وأصحح الجمل وأضيف الى المادة ما أريد ".

       أما ثيودور روزفلت فقد جهز خطبه في أسلوب مميز : ينقب عن الحقائق ويراجعها ويقيمها ويحدد أصولها الى أن يصل الى النتائج . انه يصل اليها بشعور من التأكيد الذي لا يمكن الشك به .

       بعد ذلك، وأمام رزمة من الورق، يبدأ في الإملاء يملي خطابه بسرعة ليدخل اليه روح الاندفاع والحياة والتلقائية . بعدئذ يراجع هذه النسخة المطبوعة فينسقها ويضيف اليها . وهو يقول : " لم أكسب شيئا من دون العمل الشاق والتخطيط الصائب والعمل التحضيري الدائب ".

       وغالبا ما كان يدعو الناقدين للاستماع اليه وهو يملي أو يقرأ خطابه أمامهم . وهو يرفض أن يتناقش معهم حول الأفكار التي يوردها لأن عقله يكون قد صمم على تلك الأفكار بشكل مطلق كان يريد أن يقال له، ليس ما يقول، بل كيف يجب أن تقال أفكاره . وكان يعود مرارا الى نسخاته المطبوعة ليبتر منها أو يصححها ويحسنها . ذلك هو الخطاب الذي تنشره الصحف، وبالطبع، لا يحفظه غيبا، بل يتحدث ارتجاليا، فكان خطابه يختلف عن الخطابات المنشورة والمصقولة . الا ان مهام الاملاء والمراجعة كانت تحضيرا ممتازا، اذ أنها جعلته معتادا على مادته ومنسقا لنقاطه ومنحته السلاسة التي قلما استطاع الحصول عليها من خلال أي أسلوب آخر . وقد وجد طلاب فن الخطابة أن من المفيد إملاء أحاديثهم أمام آلة التسجيل ومن ثم يستمعون الى أنفسهم . هل هذا مفيد ؟ أجل، وفي بعض الأحيان مدهش ورائع : انه تدريب بحد ذاته، وأنا أحبذ هذا النوع من التدريب .

       ان هذا التدريب على كتابة ما ستقوله يجبرك على التفكير ويوضح أفكارك ويشبكها في ذاكرتك، ويخفض تجولك الذهني الى الحد الأدنى . كما انه يحسن أسلوبك الكلامي .

       وقد نصحنا في الفصل السابق بتدوين ملاحظات بعد تدوين مختلف الأفكار والأمثلة على قطع من الورق، وهنا نشير الى ضرورة ترتيبها في سلسلة من الأفكار المترابطة بحيث تمثل النقاط الرئيسية من خطابك . بعدئذ اختر الأفضل منها مثلما ينتقى القمح ويوضع الشعير جانبا فلا تبقى سوى حبة القمح الجيدة .

       ونعود الى الرئيس لنكولن فعلى الرغم من أنه كان خطيبا ماهرا، الا أنه لم يلق أي خطب بعد دخوله البيت الأبيض، ولا حتى أي خطاب عادي أمام مجلس وزرائه، الا بعد أن يضعه مكتوبا بوضوح أمامه، وطبعا، كان ملزما بقراءة الخطاب الافتتاحي، وكان من المهم جدا أن يتقن كتابة خطب الدولة التاريخية . لكنه بعدما عاد الى ايللنوا، لم يعد يستخدم أية ملاحظات في خطبه فهو يقول : "انها دائما تتعب وتربك المستمع".

       ومن منا يناقضه في ذلك ؟ ألا تقضي الملاحظات على نحو خمسين بالمئة من إثارة حديثك ؟ ألا تمنع، أو على الأقل تصعب وجود الرابط الثمين بين الخطيب وجمهوره ؟ ألا تخلق جوا من التكلف ؟ ألا تمنع المستمع من الشعور بأن الخطيب لديه الثقة . القوة الاحتياطية التي يفترض أن يتميز بها ؟

       أكرر قولي، ضع الملاحظات خلال التحضير - استخدم بعضها واحذف البعض الآخر، وربما ترغب في العودة اليها حين تتدرب على انفراد على خطابك وربما تشعر براحة أكثر لو أنك تحتفظ بها بجيبك أثناء مواجهة الجمهور، لكن، مثل المطرقة والمنشار والفأس في عربة السائس، يجب أن تكون أدوات للطوارئ، لا تستخدم الا في حالة الاصطدام والتحطم الكلي والتهديد بالموت والكوارث .

       ان شعرت بضرورة استخدام الملاحظات، ا جعلها مختصرة جدا واكتبها بأحرف كبيرة . بعد ذلك، اذهب باكرا الى المكان الذي ستخطب فيه، وخبئ ملاحظاتك وراء بعض الكتب، استرق النظر اليها حين تضطر لذلك، لكن تأكد من تغطية ضغفك أمام الجمهور . لكن، وبرغم جميع ما قيل، هناك وقت يستلزم استخدام الملاحظات، فمثلا،
بعض الناس، خلال إلقاء خطبه القليلة الأولى، يعاني من العصبية والتوتر حتى انه لا يستطيع أن يتذكر خطبه التي جهزها . ما هي النتيجة ؟ ينسى المادة التي درسها بانتباه، فينزلق عن الطريق العالية ويسقط في الهاوية، لماذا لا يمسك مثل أولئك الأشخاص ملاحظات قليلة مكثفة بأيديهم خلال جهودهم الأولى ؟ فالطفل يتمسك بالأثاث لدى محاولاته الأولي للسير، لكن ذلك لا يستمر طويلا .

       وتجدر الإشارة الى حقيقة مهمة وهي أنه يجب ألا تقرأ و ألا تحاول أن تستظهر خطابك حرفيا، فان ذلك يستهلك وقتا ويؤدي الى كارثة . ومع ذلك، وبرغم هذا التحذير يحاول بعض من يقرأ هذه الأسطر أ، يفعل ذلك . فان فعل، فبما سيفكر حين يقف لإلقاء كلمته ؟ عن رسائله ؟ كلا، بل سيحاول أن يتذكر التركيب الانشائي، ويفكر بالأشياء السابقة، ولا يتطلع نحو الأمام، فيعكس عمليات العقل البشري، ويأتي خطابه جافا باردا لا لون له وبعيدا عن الطبيعة الانسانية . أرجوك، لا تنفق الساعات والطاقة بما لا يجدي .

       حين يكون لديك مقابلة عمل مهمة، هل تجلس وتستظهر حرفيا، ما الذي ستقوله ؟ طبعا لا . بل تفكر مليا حتى تتضح الأفكار في ذهنك . ربما تضع بعض الملاحظات وتعود الى بعض السجلات وتقول في نفسك : " سأركز على هذه النقطة وتلك . وسأقول يجب أن يبذل شيئا لهذه الأسباب . . . " بعدئذ تعدد الأسباب وتزودها بحالات مادية . أليست هذه هي طريقة تحضيرك لمقابلة عمل ؟ لماذا لا تستخدم المنطق ذاته أثناء تحضير الخطاب ؟

       عندما طلب روبرت إدوارد لي، القائد العام للقوات الجنوبية، من يوليسيس غرانت، أن يكتب بنود الاستسلام، ارتبك قليلا، لكنه لم يستسلم وقد كتب في مذكراته ما يلي : " حين أمسكت بالقلم والورقة لم أعرف بأية كلمة أستهل البنود، كنت أعرف فقط ماذا يجول في ذهني، وودت أن أعبر عنها بوضوح كي لا أورد أي خطأ .

       أيها القائد غرانت، لست بحاجة الى معرفة أول كلمة . لديك الأفكار، ولديك المعتقدات، ولديك ما ترغب بقوله، فقله بوضوح . وكانت النتيجة أن تزاحمت الجمل من دون أي جهد واع ". والأمر كذلك بالنسبة لأي انسان، وان كنت تشك في ذلك، وجه ضربة الى رجل، وحين يستعيد وعيه، سيكتشف أنه تائه، ولا يجد الكلمات التي يعبر بها عن نفسه .

       وبهذا المعنى كتب هوراس، الشاعر الروماني العظيم، منذ ألفي سنة ما يلي :
" لا تبحث عن الكلمات، ابحث فقط عن الحقيقة والفكرة، عندئذ تتدفق الكلمات من دون أن تسعى اليها ". 


الفصل الرابع

تحسين الذاكرة

       قال العالم النفساني الشهير، البروفسور كارل سيشور " لا يستخدم الرجل العادي أكثر من عشرة بالمئة من طاقة الذاكرة الفعلية لدية . فهو ينفق التسعين بالمئة الأخرى بانتهاك قوانين التذكر الطبيعية ".

       هل أنت واحد من أولئك الرجال العاديين ؟ ان كنت كذلك، فأنت مصاب بعاهة اجتماعية سائدة، وبالتالي ستستفيد بقراءة هذا الفصل عدة مرات . انه يصف قوانين التذكر الطبيعية ويوضح لك كيفية استخدامها في المحادثات الاجتماعية والعملية وفي فن الخطابة أيضا .

       ان " قوانين التذكر الطبيعية " هذه هي بسيطة جدا، وهي ثلاثة فقط، وكل ما يسمى " بجهاز الذاكرة " قد أنشئ على أساسها، وهي بإيجاز : الانطباع والتكرار وترابط الأفكار .

       ان أول قانون للذاكرة هو : احصل على انطباع عميق وسريع وراسخ عن الشيء الذي ترغب في تذكره ومن أجل القيام بذلك، يجب أن تركز تفكيرك . لقد أذهلت ذاكرة ثيودور روزفلت كل واحد قابله . هذه الميزة غير العادية سببها أن انطباع الأشياء لم يكن مكتبوبا على الماء بل محفورا على الفولاذ . فقد درب نفسه، من خلال المثابرة والتمرين، على أن يركز تفكيره حتى في أصعب الحالات . ففي سنة 1912، وأثناء مؤتمر " البول موس " في شيكاغو، كان روزفلت منزويا في غرفته يقرأ كتابات هيرودوتس، المؤرخ اليوناني، فيما الجماهير تتدفق عبر الشوارع هاتفة وملوحة بالشعارات والفرق الموسيقية تعزف الأناشيد الوطنية خارج نافذته . وفي رحلته عبر البراري البرازيلية، وحالما وصل الى مكان التخييم في المساء، وجد بقعة جافة تحت شجرة ضخمة، وتناول كرسيا وشرع يقرأ كتاب " انحطاط وسقوط الامبراطورية الرومانية "، وسرعان ما انغمس بالكتاب حتى أنه لم يعد يشعر بالمطر وبضجة ونشاط المخيمين وبأصوات الغابة الاستوائية فلا عجب أن يتذكر هذا الرجل ما يقرأ .

       ان خمس دقائق من التركيز الشديد تسفر عن نتائج عظيمة أكثر من قضاء عدة أيام في التأمل وفي هذا الصدد كتب هنري وارد بيتشر : " ان ساعة من التفكير المكثف تفيد أكثر من عدة سنوات حالمة ". وقال إيوجيني غرايس الذي كسب أكثر من مليون دولار حين كان رئيس شركة " فولاذ بيت لحم " : " ان كان هناك شيئا أكثر أهمية مما تعلمته ومارسته كل يوم ضمن أية ظروف، فهو التركيز على العمل الذي أقوم به ". هذا هو أحد أسرار القوة، وخاصة قوة الذاكرة .

       وقد وجد توماس أديسون أن سبعة وعشرين من مساعديه استخدموا ممرا يؤدي من مصنع " المصابيح " الى مركز الأعمال الرئيسي في مينلو بارك، في نيوجرسي، كل يوم، ولمدة ستة أشهر، وكان هناك شجرة كرز نامية الى جانب الممر، ومع ذلك لم يع وجودها أحد من هؤلاء عندما سئلوا عنها . ولهذا أعلن السيد أديسون بحرارة واندفاع : " ان ذهن الشخص العادي لا يلاحظ آلاف الأجزاء التي لا تلاحظها العين ".

       قدم الانسان العادي الى اثنين أو ثلاثة من أصدقائك . هناك فرصة في أن ينسى اسم واحد منهم بعد دقيقتين . لماذا ؟ لأنه لم يبد اهتماما كافيا بهم، لذلك لم يتأكد منهم جيدا، ومن المحتمل أن يخبرك أن لديه ذاكرة ضغيفة، كلا، بل لديه قوة ملاحظة ضغيفة، فهو لن ينتقد آلة التصوير لفشلها في التصوير أثناء الضباب، بل يتوقع في ذهنه أن يتذكر الانطباعات الواهية والمغطاة بالضباب، وذلك لا يمكن أن يحدث، طبعا .

       وضع جوزيف بوليتزر، مؤسس جريدة " نيويورك وود "، هذه الكلمات الثلاث فوق مكتب كل رجل في مكاتب التحرير : الدقة - الدقة - الدقة .

       وهذا ما نحن نريده . اسمع اسم الرجل بدقة، ركز عليه، أطلب منه أن يكرره، اسأل عن طريقة كتابته، فهو سيسر باهتمامك، وستكون قادرا على تذكر اسمه لأنك ركزت عليه، وبذلك تحصل على انطباع دقيق وواضح . 

       هل تعلم لماذا كان لنكولن يقرأ بصوت مرتفع ؟

       كان لنكولن في صغره يذهب الى مدرسة القرية حيث الأرض مكسوة بقطع الحطب، والصفحات القذرة الممزقة من الدفاتر تلصق على النوافذ وتستخدم عوضا عن الزجاج لتسمح للنور بالدخول . وكان هناك نسخة واحدة من الكتب متوفرة، والمعلم هو من يقرأ منها بصوت مرتفع، والتلاميذ يرددون الدرس من ورائه معا، الأمر الذي ينشئ هديرا مستمرا، حتى ان أحد الجيران أطلق على المدرسة اسم "مدرسة الثرثرة".

       في " مدرسة الثرثرة "، أنشا لنكلولن عادة لازمته طيلة حياته : كان يقرأ بصوت مرتفع دائما ما يرغب في تذكره، وفي كل صباح، حالما يصل الى مكتبه في سبرينغفيلد، كان يجلس على كرسيه الضخم ويمدد قدميه على كرسي مجاور، ويقرأ الصحيفة بصوت مرتفع . وقد قال شريكه في المكتب : " أزعجني فوق الحدود . فسألته لماذا تقرأ بهذا الشكل ؟ فأجابني : عندما أقرأ بصوت مرتفع، فان حاستين تلتقطان الفكرة : أولا، أرى ما أقرأ، وثانيا أسمعه، لذلك يمكنني أن أتذكر ما أقرأه بشكل أفضل ".

       كانت ذاكرته قوية جدا وبشكل غير عادي، وهو يقول : " ان ذهني كقطعة من الفولاذ - من الصعب أن تحفر أي شيء عليها، لكن من المستحيل، بعد أن تحفر شيئا، أن تمحوه ".

       ان مناشدة حاستين هي الطريقة التي استخدمها في الحفر إمض وافعل
مثله . . .

       ان الشيء المثالي ليس في أن ترى وتسمع الشيء الذي ترغب في تذكره، لكن أيضا في لمسه وتنشقه وتذوقه .

       لكن قبل أي شيء، شاهده فاننا نميل الى الشاهدة وتلتصق بأذهاننا الانطباعات العينية، وغالبا ما نستطيع أن نتذكر وجه الرجل مع أننا لا نستطيع أن نتذكر اسمه . فالأعصاب التي تؤدي من العين الى الدماغ هي أضخم بخمسة وعشرين ضعفا من تلك التي تؤدي من الأذن الى الدماغ . ولدي الصينيين حكمة تقول : " ضعفا واحدا من الرؤية يوازي ألف ضعف من السمع ".

       أكتب الاسم وتصميم الخطاب الذي ترغب في تذكره، أنظر اليه، ثم أغمض عينيك وتخيله بأحرف ملتهبة .

       ان اكتشاف كيفية استخدام الذاكرة العينية جعل مارك توين قادرا على التخلي عن ملاحظاته التي استخدمها في خطبه لسنوات . اليك قصته كما رواها لصحيفة
" هاربرز " : " من الصعب تذكر التواريخ لأنها تتألف من أرقام، والأرقام لا تتميز بمظهر مثير، فلا تعلق بأذهاننا، لأنها لا تشكل صورا، فلا تمنح العين فرصة التقاطها . بإمكان الصور أن تجعل الأرقام قابلة للالتصاق بأذهاننا، كما يمكنها أن تجعل أي شيء تقريبا يلتصق - خاصة ان كنت أنت الذي تضع الصورة بنفسك . أعرف ذلك من خلال التجربة . فمنذ ثلاثين سنة تقريبا، كنت أستظهر المحاضرات غيبا في كل ليلة، وكان علي، في كل ليلة، أن أستعين بصفحة من الملاحظات كي لا أرتبك . وكانت الملاحظات تتألف من بدايات الجمل في ملخص المحاضرة . هذه المحاضرات كانت تحميني من نسيان فكرة ما، لكنها كانت تبدو متشابهة في الصفحة، ولم تشكل أية صورة، كنت أتصورها في قلبي، الا أنني لم أستطع أن أتذكر بالتأكيد تتابعها، لذلك كان علي الاحتفاظ بهذه الملاحظات بالقرب مني والنظر اليها من حين لآخر، وحالما أفقدها، لا يمكنك أن تتخيل أهوال تلك الليلة . والآن أدركت أن علي اكتشاف وسيلة أخرى للحماية، وهكذا حفظت أول الأحرف غيبا بالتتابع وبعدما كتبت تلك الأحرف بالحبر على أظافري تأكدت أن ذلك لن يجدي أيضا، اذ تتبعت أثر أصابعي لفترة ثم تهت، وبعد ذلك، لم أعد متأكدا أي إصبع استخدمته أخيرا .

       بعد ذلك خطرت لي فكرة الصور! فتلاشت مشكلاتي . وخلال دقيقتين، رسمت ستة صور بقلمي، قامت بعمل الجمل الرئيسية تماما، ثم ألقيت بالصور حالما رسمتها، لأنني تأكدت أن باستطاعتي إغلاق عيني ومشاهدتها في أي وقت . حصل ذلك منذ ربع قرن تقريبا، وتلاشت المحاضرة في ذهني منذ أكثر من عشرين سنة، لكن باستطاعتي أن أكتبها ثانية من خلال الصور - لأنها هي التي بقيت عالقة في الذهن".

       ان جامعة الأزهر في القاهرة هو واحدة من أضخم الجامعات في العالم . انها مؤسسة اسلامية، يزيد عدد طلابها عن العشرين ألفا، يتطلب امتحان الدخول من الطالب أن يرتل القرآن غيبا . والقرآن هو بحجم الإنجيل العهد الجديد، ومن المفروض أن تستغرق قراءته ثلاثة أيام! كما يحفظ الطلاب الصينيون بعض الكتب الدينية والكلاسيكية .

       فكيف يستطيع هؤلاء الطلاب العرب والصينيين أن يؤدوا هذه الواجبات الصعبة ؟ بواسطة التكرار طبعا، أي بواسطة قانون التذكر الطبيعي الثاني .

       باستطاعتك أن تتذكر كمية لا متناهية من المعلومات اذا كررتها كفاية . أعد المعلومات التي تريد أن تتذكرها . استخدمها، استخدم الكلمة الجديدة في محادثتك، وادع الغريب باسمه اذا أردت أن تتذكره، كرر، خلال محادثتك، النقاط التي ترغب في إيصالها عبر خطابك . فان المعرفة التي تستخدم تلتصق بالذهن . بيد أن التكرار الأعمى ليس كافيا . بل انه التكرار الذكي، أي التكرار الذي نقوم به بواسطة جهد ذهني نبذله - هو ما يفيدنا، فمثلا، أعطى البروفسور ابنغوس طلابه لائحة من الكلمات التي لا معني لها ليحفظوها، مثل كلمة " ديوكس " و " كولي " وغيرها . . .  فوجد أن هؤلاء الطلاب يحفظون تلك الكلمات بعد إعادتها ثمانية وثلاثين مرة وعلى مدى ثلاثة أيام، مثلما استطاعوا حفظها بعد إعادتها ثمانين وستين مرة في جلسة
واحدة . . . وقد أظهرت تجارب العلماء النفسانيين نتائج مماثلة .

       ان هذا اكتشاف مهم جدا بشأن عمل ذاكرتنا . فهو يعني أن الانسان الذي يجلس ويكرر مرارا حتى يسيطر على ذاكرته، يستخدم ضعف الوقت والطاقة الضروريتان لتحقيق النتائج ذاتها عندما تجري عملية التكرار في فترات منفصلة .

       وغرابة الذهن - اذا أمكننا تسميتها كذلك - يمكن تعليلها بعاملين اثنين :

       أولا، خلال فترة الفراغ بين تكرار المادة، ينشغل العقل الباطن بتوثيق ترابط الأفكار، ومثلما يذكر البروفسور جايمس : " نحن نتعلم السباحة خلال الشتاء، والتزلج خلال الصيف ".

       ثانيا، ان الذهن باستخدام فترات الفراغ، لا يشعر بالارهاق الناتج عن التطبيق المتتابع، فالسير ريتشارد بورتون، مترجم " ألف ليلة وليلة " الى الإنكليزية، كان يتكلم 27 لغة، ومع ذلك، اعترف أنه لم يدرس أي من هذه اللغات أكثر من خمسة عشر دقيقة في الجلسة الواحدة، " لئلا يفقد الذهن نشاطه ".

       من المؤكد الآن، إزاء هذه الحقائق، أن ما من رجل يتباهى بذكائه، يؤخر تحضير خطابه الى ما قبل إلقائه بليلة واحدة، فان فعل ذلك، ستقوم ذاكرته، بسبب الضرورة، بالعمل ضمن نصف مقدرتها الممكنة .

       هنا اكتشاف مساعد جدا عن الطريقة التي بها ننسى . فقد أظهرت التجارب النفسية مرارا أن المادة الجديدة التي يجب أ، نتعلمها، ننساها خلال الساعات الثماني الأولى أكثر مما ننساها خلال الثلاثين يوما التالية . انها لنسبة مذهلة ! وهكذا، وقبل أن تذهب لحضور اجتماع عمل أو لقاء سياسي أو مواجهة فريق رياضي، راجع معلوماتك قبل إلقاء الخطاب، فكر بالحقائق الموجودة لديك، واملأ ذاكرتك بالنشاط .

       ان ما ذكرناه عن أول قانونين للتذكر هو كاف . لكن القانون الثالث، وهو ترابط الأفكار، هو المادة الضرورية للتذكر . وفي الحقيقة، انه تفسير للذاكرة نفسها وقد لاحظ البروفسور وليام جايمس أن " ذهننا هو بالأساس آلة ترابط الأفكار . . . لنفترض أنني قلت في لهجة آمرة : تذكر ! استمع أفكارك ! فهل تطيع قوة ذاكرتك هذا الأمر وتولد خيالا محددا عن الماضي ؟ كلا، بالتأكيد . بل انها تقف محدثة في الفراغ، وتتساءل : ما نوع الشيء الذي تريدني أن أتذكره ؟ ان ذلك يحتاج، باختصار، الى تلميح . لكن اذا قلت تذكر تاريخ ولادتك، أو تذكر ما الذي تناولته عند الفطور، أو تذكر تسلسل النوتات في السلم الموسيقي، عندئذ، تولد قوة ذاكرتك في الحال النتيجة المطلوبة : ان التلميح يجدد طاقتها الواسعة ويوجهها نحو نقطة معينة . واذا أردت أن ترى كيف يحدث ذلك، تجد بسرعة أن التلميح هو شيء ملموس مترابط بالشيء الذي نتذكره . فكلمات " تاريخ ولادتك " ترتبط برقم محدد وكلمات " فطور هذا الصباح "، تقطع جميع خطوط التذكر باستثناء تلك التي تؤدي الى القهوة واللحم المقدد والبيض . وكلمات " السلم الموسيقي " تقترن ب " دو ري مي فا صول لا سي دو " وفي الحقيقة، ان قوانين ترابط الأفكار تتحكم بجميع خطوط التفكير التي لا تقاطعها الأحاسيس الآتية الينا من الخارج . وكل ما يظهر في الذهن يجب أن لا يدخل من الخارج وهو بمثابة الرابط لشيء موجود هناك، وهذا صحيح بالنسبة لما تتذكره تماما مثل أي شيء تفكر به . . . والذاكرة المثقفة تعتمد على جهاز منظم من الأفكار المترابطة، وميزتها تعتمد على أمرين : أولا، استمرارية الترابط، وثانيا، ترابط
الأفكار . . . ان سر الذاكرة الجيدة هو اذن سر تكوين عدة أفكار مترابطة ومتعاكسة لدى كل حقيقة ترغب في الحصول عليها، لكن هذا التكوين للأفكار المترابطة - أليس هو مجرد التفكير العميق بالحقيقة ؟ وباختصار، من بين شخصين لديهما التجربة الخارجية ذاتها، من يفكر أكثر بتجربته ويحيكها ضمن علاقات مترابطة ؟ انه الذي يمتلك الذاكرة الأفضل ".

       هذا حسن جدا، لكن كيف نبدأ بحياكة الوقائع التي لدينا ونحولها الى علاقات مترابطة مع بعضها البعض ؟ الجواب هو : بإيجاد معناها، والتفكير الدائب بها . فمثلا، اذا سألت وأجبت على هذه الأسئلة المتعلقة بأية حقيقة جديدة، فان هذه العملية ستساعدك في حياكتها وتحويلها الى علاقة مترابطة مع وقائع أخرى :
أ - لماذا الأمر كذلك ؟
ب - كيف الأمر كذلك ؟
جـ . متى حصل ذلك ؟
د - أين حدث ذلك ؟
هـ - من قال أن الأمر كذلك ؟

       اذا كان الاسم شائعا مثلا، ربما يمكننا ربطه بأحد الأصدقاء الذين يحملون الاسم ذاته . ومن ناحية أخرى، ان لم يكن اسما عاديا، يمكننا أ، نستغل الفرصة لقول ذلك وهذا غالبا ما يقود الغريب الى التحدث عن اسمه . فمثلا، بينما كنت أكتب هذا الفصل، تعرفت الى السيدة سوتر، فطلبت منها أن تهجي ا سمها وأبديت ملاحظة حول غرابته، فأجابت : " نعم، انه غريب جدا . فهو كلمة يونانية تعني المخلص ". بعد ذلك أخبرتني عن أهل زوجها الذين أتوا من أثينا وعن المراكز العالية التي ارتقوا اليها في الحكومة هناك . وجدت من السهل استدراج الناس للتحدث عن أسمائهم، مما يساعدني على تذكرهم دائما .

       لاحظ جيدا نظرات الغريب . لاحظ لون عينيه وشعره، وانظر بعمق الى ملامحه، والى طريقة ارتدائه استمع الى أسلوبه في الكلام . احصل على انطباع واضح وحاد وسريع عن نظراته وشخصيته واربطها مع اسمه، فعندما تعود هذه الانطباعات الى ذهنك، فانها ستساعدك على تذكر اسمه .

       ألم يحدث أن تكتشف، بعد أن تقابل انسانا مرة أو مرتين، أنك رغم تذكرك نوع عمله أو اختصاصه، لا يمكنك أن تتذكر اسمه ؟ فالسبب هو أن عمل الانسان هو شيء محدد وملموس وله معنى ويلصق كالمواد اللاصقة . بينما يبقى اسمه يتدحرج كالبرد المتدحرج فوق سطح منحدر . ولكي تتأكد من مقدرتك على تذكر اسم انسان ما، كون عبارة عنه تربط اسمه بعمله، فليس هناك أدنى شك بفعالية هذه الطريقة . مثال على ذلك، التقى عشرون رجلا لا يعرف أحدهم الآخر في نادي " بن " الرياضي في فيلادلفيا . وقد طلب من كل واحد أن ينهض ويذكر اسمه ومهنته بعد ذلك أنشئت عبارة تربط الاثنين معا، وخلال دقائق قليلة، استطاع كل واحد منهم أن يكرر أسماء الآخرين والموجودين في الغرفة . وبعد اجتماعات كثيرة، لم تنس الأسماء ولا المهن، لأنها ربطت مع بعضها البعض .

       والآن كيف تتذكر التواريخ ؟

       ان أفضل طريقة لحفظ التواريخ هي في ربطها بتواريخ مهمة سبق أن ثبتت في الذهن . أليس من الصعب مثلا بالنسبة للأميركي أن يتذكر افتتاح قناة السويس عام 1869 أكثر من أن يتذكر أول سفينة عبرتها بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب
الأهلية ؟ اذا حاول الأميركي أن يتذكر أول معاهدة في أوستراليا سنة 1788، فمن المحتمل أن ينسى هذا التاريخ ويسقط من ذهنه مثلما يسقط الحزام الرخو من السيارة . ومن المحتمل أيضا أن يرسخ في ذهنه اذا ما ربط بتاريخ 4 تموز، 1776 وأنه حدث بعد اثنتي عشررة سنة من إعلان الاستقلال . ان ذلك يشبه تثبيت جوزة على حزام رخو، فتبقى عالقة .

       انه لأمر مفيد أن تتذكر هذا المبدأ لدى اختيارك رقم الهاتف . فمثلا، كان رقم هاتف الكاتب خلال الحرب 1776، ولم يجد أحد أية صعود في تذكرة . فاذا استطعت أن تحصل في شركة الهاتف على مثل هذه الأرقام 1492، 1861، 1865، 1914، 1918، فان أصدقاءك لن يسألوا عن رقمك لدى ادارة الهاتف وربما


الفصل السادس

سر الإلقاء الجيد

       بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التقيت بشقيقتين في لندن هما السير روس والسير كيت سميث . كانا أول من استقل طائرة من لندن الى أوستراليا، وفازا بخمسين ألف دولارا، قدمتهما لهما الحكومة الأوسترالية، وأثار الحماس في المملكة البريطانية، كما منح الملك كل منهما رتبة فارس .

       وقام الكابتن هرلي، المصور المشهور، بمشاركتهما جزءا من رحلتهما، حيث التقط صورا حية، ساعدتهما على تجهيز خطاب ممتع عن رحلتهما، ودربتهما على إلقائه، مرتين في اليوم، وعلى مدار أربعة أشهر، في قاعة الموسيقى في لندن، واحد يخطب بعد الظهر، وواحد في الليل .

       لقد قاما بتجربة واحدة، وجلسا جنبا الى جنب في طيارتهما التي طافت بهما حول نصف العالم . وألقيا الخطاب ذاته تقريبا . ومع ذلك، لم يظهر أ، خطابيهما متشابهين أبدا .

       هناك شيء ما الى جانب الكلمات المجردة في الخطاب . انه النكهة التي من خلالها يتم الإلقاء . " ولا يعتمد الأمر كثيرا على ما تقوله مثلما يعتمد على طريقة
إلقائه ".

       جلست مرة الى جانب امرأة شابة في حفل موسيقي . كانت تقرأ النوتات الموسيقية لمعزوفة " مازوكا " لشوبان، التي كان باديروسكي يعزفها . لم تستطع أن تفهمها فقد كانت أنامله تلامس النوتات نفسها التي لامستها أناملها حين عزفت تلك المقطوعة، ومع ذلك، كان أداؤها عاما، بينما كان أداؤه يتميز بالايحاء والسحر والجمال مما أدهش المستمعين . لم يقتصر أداؤه على النوتات المجردة التي يلامسها، بل الطريقة التي يعزف بها . ان مشاعره وفنه وشخصيته التي وصفها في ملامسته هي التي كونت الفرق بين الانسان العادي والعبقري .

       وصحح برولوف، الرسام الروسي العظيم، مرة رسما لتلميذه . تطلع التلميذ بدهشة الى الرسم وقال : " لم تلامس الا جزءا صغيرا، ومع ذلك، أصبح الرسم شيئا آخر ". أجاب برولوف : " يبدأ الفن حيث يبدأ الجزء الصغير ". وهذا حقيقي في فن الخطابة مثلما هو حقيقي في الرسم وفي عزف باديروسكي .

       والأمر ذاته صحيح عندما يلامس المرء الكلمات . هناك حكمة قديمة في البرلمان الإنكليزي تقول ان كل شيء يعتمد على الأسلوب الذي يتحدث به الانسان وليس على الموضوع بحد ذاته .

       ان الإلقاء الجيد يجعل المادة الهزيلة تمضي طويلا . فقد لاحظت في المباريات الجامعية أن الخطيب الذي يتميز بأفضل مادة لا يفوز دائما، بل الخطيب الذي يستطيع أن يتكلم بشكل جيد للغاية، فتظهر مادته هي الأفضل .

       قال اللورد مورلي مرة بمرح سافر : " هناك ثلاثة أشياء مهمة في الخطاب، من يلقيه ؟، وكيف يلقيه ؟، وما الذي يقوله ؟، والشيء الأقل أهمية من بين هذه الصفات الثلاثة هي الأخيرة ".

       فهل هذه مغالاة ؟ أجل، لكن امسح ظاهرها وستجد الحقيقة تشع من داخلها .

       كتب ادمند بورك خطبا ممتازة جدا من ناحية المنطق والحكمة والانشاء، حتى انها تدرس كنماذج خطابية كلاسيكية في نصف جامعات أميركا، ومع ذلك، كان بورك خطيبا فاشلا، اذ لم تكن لديه القدرة على إيصال كنوزه الثمينة وإظهارها بطريقة لائقة، فأطلق عليه اسم " ناقوس عشاء " مجلس العموم . فعندما ينهض لإلقاء خطاب، يبدأ سائر الأعضاء بالسعال والتملص والخروج جماعات جماعات .

       لذا، انتبه جيدا لطريقة إلقائك .


ما هو الإلقاء ؟

       ماذا يفعل مخزن الثياب عندما يسلمك السلعة التي اشتريتها ؟ هل يلقي السائق بالرزمة في الحديقة وتيركها هناك ؟ وهل الحصول على الشيء من يدي انسان هو كاستلامه ؟ فساعي البريد الذي يحمل رسالة، يسلم الرسالة أو البرقية الى الشخص المرسلة اليه . ولكن هل يفعل ذلك جميع الخطباء ؟

       دعني أقدم مثلا ينطبق على الطريقة التي يتحدث بها آلاف الناس . حدث مرة أن توقفت في موران، المنتجع الصيفي في جبال الألب السويسرية . كنت أقطن في فندق تتولى إدارته شركة لندنية، حيث ترسل عادة خطباء من إنكلترا في كل أسبوع للتحدث الى الضيوف . واحدة من هؤلاء كانت كاتبة إنكليزية معروفة، وكان موضوعها
" مستقبل الرواية ". وقد اعترفت أنها لم تختر الموضوع بنفسها، وأن ليس لديها ما تقوله بشأنه، الا أنها تهتم بما تقوله لتجعله يستحق التحدث عنه . كانت تضع بعض الملاحظات بسرعة، وتقف أمام الجمهور . كانت تتجاهل مستمعيها حتى أنها لم تكن تنظر اليهم . وفي بعض الأحيان، تحدق فوق رؤوسهم أو في ملاحظاتها، وأحيانا تحدق في الأرض . كانت تستدعي الكلمات بلفظ بدائي، وعيناها تنظران الى البعيد .

       ان هذا النوع من الأداء ليس توصيلا لخطاب أبدا، بل انه استبطان ليس فيه أي صفة من صفات التواصل، وتلك هي أولى ميزات الخطاب الجيد : التواصل، يجب أن يشعر المستمع أن هناك رسالة موجهة من ذهن وقلب الخطيب الى ذهنه وقلبه . فالخطاب الذي وضعته الكاتبة، يمكن أن يلقى في غياهب صحراء " غوبي " الرملية . وفي الحقيقة، بدا وكأنه ألقي في بقعة مشابهة لها وليس أمام مجموعة من البشر .

       ان إلقاء الخطاب هذا، هو عملية سهلة جدا معقدة جدا في الوقت نفسه . كما أن غالبا ما يفهم خطأ ويستخدم بطريقة خاطئة .


              سر الإلقاء الجيد

       كتبت كمية كبرى من الثرثرة والكلام الفارغ حول الإلقاء . وصيغ ذلك في قواعد وطقوس جعلت من الإلقاء أمرا غامضا . وغالبا ما وصف " فن الخطابة " على الطراز القديم بشكل سخيف ومقيت . فرج الأعمال يتوجه الى المكتبة، فيجد مجلدات تافهة عن فن الخطابة . ورغم التقدم في النواحي الأخرى، ما يزال الطلاب ملزمين بدراسة خطب وبستر وأنغرسول - وهو شيء قديم العهد منفصل تماما عن روح هذا العصر كالقبعات التي كانت تعتمرها اليدة أنغرسول والسيدة وبستر .

       لقد انبثقت مدرسة جديدة لتدريس فن الخطابة منذ الحرب الأهلية الأميركية تمشيا مع روح العصر . لكن المنجزات الكلامية التي كانت رائجة في وقت من الأوقات، لم يعد يحتملها المستمع اليوم .

       ان الجمهور الحديث، سواء كان في اجتماع عمل أو تحت خيمة، يريد من الخطيب أن يتحدث بشكل مباشر مثلما يفعل خلال جلسة سمر، وفي الأسلوب العام كالذي يستخدمه أثناء محادثة واحد منهم .

       لدى انتهاء مارك توين من محاضرة ألقاها في مركز التعدين في نيفادا، اقترب منه منقب عجوز وسأله : " هل هذه نبرتك الطبيعية في الإلقاء ؟ ".

       ان هذا ما ريريده المستمع : " نبرتك الطبيعية في الإلقاء "، ولكن بشكل مضخم قليلا .

       تحدث الى أعضاء جمعية الصندوق الاجتماعي تماما مثلما تتحدث الى جون هنري سميث . فما هي جمعية الصندوق الاجتماعي، قبل أي شيء، سوى مجموعة من أشخاص يشبهون هنري سميث ؟ ألا تنجح الوسائل ذاتها التي تستخدمها معهم منفردين مثلما تنجح وهم مجتمعين ؟

       لقد وصفت لتوي إلقاء الكاتبة . وفي القاعة نفسها التي تحدثت فيها، أتيحت لي فرصة الاستماع، بعد ليال قليلة، الى السير أوليفر لودج . وكان موضوعه " الذرات والعالم ". وقد كرس له أكثر من نصف قرن من التفكير والدراسة والتجربة والتحقيق . وكان لديه شيء نابع من قلبه وذهنة وحياته، شيء يريد أن يقوله بإخلاص - وقد نسي - أحمد الله أنه نسي - أنه يحاول إلقاء خطاب . اذ أن ذلك أقل ما يقلقه . كان مهتما فقط في إخبار المستمعين عن الذرات، وإخبارنا ذلك بدقة وإخلاص . كان يحاول بصدق أن يستميلنا لنرى ما يراه هو، ولنشعر بما هو يشعر .

       فما كانت النتيجة ؟ ألقى خطابا رائعا . فكان جذابا وقويا، وترك أثرا عميقا . لقد كان خطيبا ذا مقدرة غير عادية . ومع ذلك، أنا متأكد أنه لم يعتبر نفسه كذلك في تلك الليلة . وأنا متأكد أن قلة من الناس الذين سمعوه يفكرون به كخطيب .

       اذا كنت تخطب أمام الناس فانك لن تستحوذ على استحسانهم الا عندما تخطب بأسلوب طبيعي لدرجة أن مستمعيك لن يحلموا أبدا بأنك تلقيت تدريبا على فن
الخطابة . فالنافذة الجيدة لا تجذب الاهتمام اليها . انها فقط تبعث النور . والخطيب الجيد يشبهها . فهو طبيعي جدا حتى ان مستمعيه لا يلاحظون أبدا أسلوبه في الإلقاء، بل هم ينصتون فقط الى مادته .


              نصيحة هنري فورد

       " جميع منتجات هنري فورد متشابهة تماما "، هذا ما اعتاد صانعها أن يقوله، " لكن ما من رجلين متشابهين تماما ". فكل حياة جديدة هي شيء جديد تحت الشمس، ليس هناك ما يماثلها من قبل، ولن يولد مثلها أيضا ثانية . على الشاب أن يدرك هذه الفكرة عن ذاته، ويجب أن يتطلع الى الشرارة الوحيدة في شخصيته التي تميزه عن سائر القوم، وينمي تلك الشرارة الى المدى الذي تستحقه . ربما تحاول المدارس والمجتمع أن تنميها له، لكنها تضعنا جميعا في قالب واحد . لكنني أقول، لا تدع هذه الشرارة تضيع، فهي سبيلك الحقيقي الوحيد الى الأهمية .

       هذا ضعف صحيح بالنسبة لفن الخطابة . فليس هناك أي انسان مثلك في العالم . مئات الملايين من الناس تمتلك العيون والآذان، لكن ما من أحد يشبهك تماما، وما من أحد لديه ميزاتك وطرقك وتفكيرك . فالقليل منهم يتكلمون ويعبرون عن أنفسهم مثلك عندما تتكلم بأسلوب طبيعي . وبمعنى آخر، لديك شخصيتك الفردية . وكخطيب، تمتلك أثمن هبة فتعلق بها وطورها . فهي الشرارة التي ستضع القوة والإخلاص في خطابك . وهي السبيل الحقيقي الوحيد الى الأهمية .

       تحدث السير أوليفر لودج بشكل مختلف عن الآخرين لأنه كان نفسه مختلفا . فأسلوب الانسان في الكلام هو بالأساس جزء من شخصيته، تماما مثلما الحال بالنسبة للحيته ورأسه الأصلع . فلو حاول أن يقلد لويد جورج، لكان مخطئا وانتهى بالفشل .

       ان أشهر المناظرات التي جرت في أميركا حدثت عام 1858 في مدن البراري في إيلليغوا، بين السيناتور أ . دوغلاس وإبراهام لنكولن . كان لنكولن طويل القامة، دميما . وكان دوغلاس قصير رشيقا . لم يكن الرجلان متشابها في شخصيتهما وتفكيرهما وأخلاقهما، مثلما كانا في مظهرهما .

       كان دوغلاس رجل العالم المثقف . بينما كان لنكولن ناشر قضبان الأسيجة الخشبية، الذي يتجه نحو الباب، مرتديا جوربا قصيرا في قدميه لاستقبال زائريه . كانت حركات دوغلاس رشيقة، بينما كانت حركات لنكولن ثقيلة . كان يعوز دوغلاس روح المرح  لكن لنكولن كان أعظم الروائيين . نادرا ما استخدم دوغلاس الابتسامة، بينما ناقش لنكولن دائما من خلال المقارنة ومن خلال تقديم الأمثلة . كان دوغلاس متكبرا مغرورا، الا أن لنكولنن كان متواضعا سموحا . فكر دوغلاس من خلال ومضات سريعة، لكن عمليات التفكير لدى لنكولن كانت أبطأ بكثير . تحدث دوغلاس بسرعة واندفاع الزوبعة، الا أن لنكولن كان أهدأ وأعمق وأكثر تلقائية .

       ان كلا الرجلين، رغم اختلافهما، كانا خطيبين قديرين لأن لديهما الشجاعة والقدرة على أن يكونا أنفسهما . ولو حاول أحدهما تقليد الآخر . لفشل فشلا ذريعا . لكن كلا منهما، من خلال استخدام مواهبه الذاتية، جعل من نفسه فريدا وقويا . فامض أنت وافعل مثلهما .

       هذا اتجاه سهل منحه . ولكن هل من السهل اتباعه ؟ كلا، بالتأكيد . ومثلما قال المارشال فوش عن فن القتال : " انه من السهل في المبدأ، لكنه للأسف معقد في التنفيذ ".

       ان ذلك يحتاج الى التدريب ليأتي الخطاب طبيعيا أمام الجمهور . الممثلون يعرفون ذلك . عندما كنت صبيا صغيرا تبلغ من العمر أربع سنوات، ربما كنت تستطيع اذا ما حاولت، أن تعتلي خشبة المسرح وتتكلم بشكل طبيعي أمام الجمهور . لكن حين تبلغ الرابعة والعشرين أو الرابعة والأربعين، ما الذي يحدث اذا ما اعتليت خشبة المسرح وبدأت في الكلام ؟ هل ستستعيد طبيعتك اللاواعية التي كنت تمتلكها في سن الرابعة ؟ ربما تفعل ذلك، لكن هناك إمكانية بأن تتصلب وتتكلف وتصبح آليا، وتنسحب داخل صدفتك كالسلحفاة .

       ان مشكلة تعليم أو تدري الناس على الإلقاء ليست من المميزات الصعبة الإضافية، بل انها مسألة إزالة العوائق وتحريرهم واستدراجهم للتحدث بشكل طبيعي مثلما يفعلون اذا ما صارعهم أحد .

       أوقفت الخطباء مئات المرات في منتصف خطابهم، ورجوتهم أن يتكلموا كبشر . ومئات الليالي عدت الى المنزل وقد أصبت بإرهاق ذهني وعصبي من جراء محاولتي توجيه وإجبار الناس على التحدث بشكل طبيعي . صدقني، ان الأمر ليس سهلا كما يبدو . والطريقة الوحيدة لاكتساب هذه الطبيعة هي التدريب، وفيما أنت تتدرب، اذا وجدت نفسك تتحدث بأسلوب متكلف، توقف وقل بحدة لنفسك : " ما الأمر ؟ انتبه ! كن انسانيا ". ثم اختر واحدا من المشاهدين، أحد الجالسين في الخلف، أبشع من يمكن أن تجد، وتحدث اليه . انسى وجود سائر الموجودين . تحدث اليه . تخيل أنه سألك سؤالا وأنت تجيب . اذا وقف أو تحدث اليك، فعليك أن تجيبه، ستجعلك هذه العملية تتكلم بأسلوب أكثر محادثة وطبيعية ومباشرة . لذلك، تخيل أن هذا الذييحدث .

       يمكنك الذهاب أبعد من ذلك، لتسأل أسئلة وتجيب عليها . فمثلا، في منتصف خطابك، تستطيع أن تقول : " تتساءل عن البرهان الذي لدي عن هذا بالتأكيد ؟ لدي دليل قاطع اليك به . . . " بعد ذلك ابدأ بالإجابة عن هذا السؤال الخيالي . يمكن القيام بهذا الشيء بشكل طبيعي جدا . فهو يقطع الرتابة من الإلقاء، ويجعله أكثر مباشرة ومرحا .

       ان الإخلاص والحماس والصدق يساعدك أيضا . فعندما يكون الانسان تحت تأثير مشاعره، تبرز ذاته الحقيقية، وتزال من أمامها القضبان . اذ أن حرارة عواطفه تحرق كل الحواجز . فيتصرف تلقائيا، ويتحدث بتلقائية . فيكون طبيعيا .

     وهكذا، في النهاية، يرجع موضوع الإلقاء الى الشيء الذي شددنا عليه في البداية : ضع قلبك في خطابك .


ملاحظات هامة

       سنناقش هنا بعض مظاهر الخطب الطبيعية لكي نجعلها أكثر وضوحا . لقد ترددت في القيام بذلك، لأن من الؤكد أن يقول أحد : " فهمت، يمكنني أن أدفع نفسي للقيام بتلك الأشياء فأصبح على أتم ما يرام ". كلا، لن تكون كذلك . ادفع نفسك للقيام بها، فتصبح متخشبا وآليا ".

       لقد استخدمنت معظم هذه المبادئ بالأمس خلال محادثتك، استخدمها من دون جهد عقلي مثلما التهمت عشاءك البارحة . فتلك هي الطريقة لاستخدامها . وهي الطريقة الوحيدة . وهي ستأتي، فيما يخص فن الخطابة، ومثلما قال سابقا، من خلال التدريب .


                     أولا : شدد على الكلمات المهمة،
                    إخفض الكلمات غير المهمة

       خلال المحادثة، نشدد على جزء من الكلمة، ونذكر بسرعة الأجزاء الأخرى، مثلما تمر سيارة الأجرة أمام مجموعة من المتشردين . ونفعل كذلك في الجملة . نشدد على الكلمات المهمة . وهذه ليست عملية غريبة أو غير اعتيادية . تستطيع أن تسمع ذلك يقال أمامك طيلة الوقت . وأنت نفسك فعلت ذلك مئة مرة أو ربما ألف مرة، نهار
أمس . ستفعلهه مئة مرة غدا، من دون شك .


                      ثانيا : غير طبقات صوتك

       تتدفق طبقات صوتنا، خلال المحادثة، نحو الأعلى والأسفل وبالعكس . فلا تستقر بل تبقى متموجة كسطح البحر . لماذا ؟ لا أحد يعلم ذلك، ولا أحد يهتم بذلك . لكن النتيجة تبعث على الارتياح، ذلك هو شأن الطبيعة . فليس علينا أن نتعلم ذلك ! بل جاء الينا حين كنا أطفالا من دون أن نبحث عنه أو نعيه . لكن دعنا نقف ونواجه الجمهور، فهناك مجال لأن تصدر أصواتنا جافة مملة ورتيبة كصحراء " نيفادا " القلوية.

       عندما تجد نفسك تتحدث بطبقة رتيبة - عادة تكون مرتفعة - توقف قليلا وقل في نفسك : " أنا أتكلم كالهندي الأخرق . كن انسانا، كن طبيعيا ".

       هل يساعدك هذا النوع من تعليم ذاتك ؟ ربما قليلا . ان التوقف ذاته سيساعدك . وعليك أن تحقق خلاصتك بالتدريب .

       يمكنك أن تؤلف أية جملة أو كلمة تختارها، قف كشجرة الغار الخضراء في الردهة الأمامية، وتكلم فجأة بطبقة صوتية منخفضة أو مرتفعة . لقد فعل ذلك كل خطيب مشهور .


                  ثالثا : غير معدل سرعة صوتك

       عندما يتكلم الطفل الصغير، أو عندما نتحدث خلال محادثة عادية، نغير عادة معدل سرعة كلامنا . ان ذلك يبعث على السرور، وهو طبيعي ويحدث من دون وعي، وهو في الحقيقة من أفضل الوسائل لإيضاح الفكرة .

       يخبرنا والتر . ب . ستيفنز في كتابه " تقارير لنكولن " الصادر عن جمعية
" ميسوري " التاريخية، أن هذه كانت أفضل الوسائل بالنسبة للنكولن من أجل إيصال فكرته :

       " كان يقول عدة كلمات بسرعة عظيمة، وعندما يصل الى الكلمة أو الجملة التي يرغب في التشديد عليها - يرفع صوته ببطء . ثم يندفع الى آخر جملته كالبرق . . . فكان يكرس وقتا لكلمة أو لكلمتين يرغب في التأكيد عليهما، أكثر مما يكرسه لستة كلمات تكون أقل قيمة منها ".


                            رابعا : توقف قبل وبعد الأفكار المهمة

       غالبا ما كان لنكولن يتوقف أثناء خطابه . فعندما يمر بفكرة عظيمة يرغب في ترسيخها بأذهان مستمعيه، ينحني الى الأمام ويحدق بعيونهم مباشرة للحظة من دون أن يقول شيئا . هذا الصمت المفاجئ له نتيجة الضجة المفاجئة ذاتها : فهي تجذب الانتباه . وهي تجعل كل انسان منتبه وواع لما سيتلو ذلك . مثلا، عندما كانت نقاشاته المشهورة مع دوغلاس تشرف على الانتهاء، وعندما تشير الدلائل الى هزيمته، ينتابه الأسى، والحزن الاعتيادي القديم يعود اليه في بعض الأوقات، فتأتي كلماته مصبوغة بالرقة . ففي نهاية خطبه، يتوقف فجأة ويقف صامتا للحظة، ثم ينظر الى الوجوه التي نصفها عدائي ونصفها حميم، بعينيه القلقتين العميقتين اللتين كانتا تبدوان مليئتين بالدموع التي لم تنهمر . ثم يفرد ذراعيه وكأنهما متعبتين من جراء قتال مميت، ويقول بنبرته الغريبة : " أيها الأصدقاء، هناك فرق بسيط بين انتخابي وانتخاب القاضي دوغلاس الى مجلس الشيوخ الأميركي . لكن المسألة العظيمة التي قدمناها لكم اليوم هي بعيدة جدا عن المصالح الشخصية أو المصير السياسي لأي رجل . يا أصدقائي "، هنا يتوقف ثانية، فيصغي الجمهور الى كل كلمة، " هذه المسألة ستعيش وتتنفس وتحترق عندما يصمت في القبر لسان القاضي دوغلاس ولساني الضعيف المتلعثم ".

       " هذه الكلمات البسيطة "، تقول احدى مذكراته، "لامست كل قلب في الصميم".

       كان لنكولن يتوقف بعد كل جملة يريد توكيدها . فكان يضيف الى قوتها من خلال الصمت، بينمام يغوص المعنى ويؤدي رسالته .

       ودائما ما كان السير أوليفر لودج يتوقف في خطابه قبل وبعد كل فكرة مهمة، يتوقف ثلاث أو أربع مرات في الجملة الواحدة، لكنه كان يفعل ذلك بشكل طبيعي . ومن دون تكلف .

       قال كيبلينغ : " من خلال صمتك تتكلم ". فالصمت ليس ذهبيا أكثر مما يستخدم عندما تتكلم . وهو أداة قوية ومهمة لا ينبغي إغفالها، ومع ذلك، فهي مهملة دائما من قبل الخطيب المبتدئ .


الفصل السابع

المنبر حضور وشخصية

       أجرت مؤسسة كارنيجي للتكنولوجيا مرة، تجارب ذكاء على مئة من رجال الأعمال البارزين . وكانت التجارب مماثلة لتلك التي استخدمت في الجيش خلال الحرب، وقد أدت النتائج الى إعلان المؤسسة أن الشخصية تساهم في نجاح العمل أكثر مما يساهم الذكاء الخارق .

       ان هذا الرأي مهم جدا : مهم جدا لرجال الأعمال والمثقفين والأخصائيينوللخطباء .

       فالشخصية - باستثناء التحضير - هي ربما العامل الأكثر أهمية في الخطاب . وقد قال ألبرت هابرد : " ان ما يفوز في الخطاب الجيد هو الأسلوب، وليست الكلمات". وبالأحرى، انه الأسلوب بالإضافة الى الأفكار . لكن الشخصية هي شيء غامض معقد، تتحدى التحليل كشذى النفسج . وهي مجموعة ميزات الإنسان : الجسدية والروحية والفكرية، ورغباته وميوله ومزاجه وتجربته وتدريبه . وكل حياته . وهي معقدة كنظرية النسبية عند آينشتاين، ومن الصعب فهمها .

       تتحدد الشخصية بالوراثة والبيئة، ومن الصعب جدا تغييرها . ومع ذلك، نستطيع، من خلال التفكير، أن نقويها الى حد ما ونجعلها أكثر صلابة وأكثر جاذبية . وفي أي حال، يمكننا أن نسعى لنحصل على أقصى ما نستطيعه من خلال هذا الشيء الغريب الذي منحته لنا الطبيعة . فالموضوع في غاية الأهمية بالنسبة لكل واحد منا . وإمكانيات التطوير، رغم أنها محدودة، ما تزال عظيمة كفاية لتسمح بالنقاشوالتدقيق .

       اذا كنت ترغب في الإفادة القصوى من شخصيتك، اذهب مرتاحا لمقابلة جمهورك . فالخطيب المتعب ليس جذابا . لا تقترف الخطأ الشائع بترك التحضير والتخطيط لآخر دقيقة، وبعد ذلك العمل بسرعة جنونية، محاولا التعويض عن الوقت المهدور . ان فعلت ذلك، فانك ستخزن سموم جسدية وإرهاق ذهني يتحول الى عبء رهيب تنوء من ثقله، فيمتص حيويتك ويضعف ذهنك وأعصابك .

       ان كان عليك إلقاء خطاب في اجتماع لجنة، تناول غداء خفيفا، اذا أمكنك، وتناول المرطبات . أخلد للراحة، فهذا ما تحتاجه جسديا وذهنيا وعصبيا .

       اعتادت جيرالدين فرار أن تصدم أصدقاءها الجدد بإلقاء تحية المساء والنوم باكرا، تاركة إياهم يتحدثون الى زوجها في بقية الأمسية . اذ كانت تعرف متطلبات فنها .

       وقالت مدام نورديكا أن كونها المغنية الأولى في الأوبرا يعني التخلي عن كل ما يحبه الإنسان : الشؤون الاجتماعية والأصدقاء والولائم الفخمة .

       وقالت مدام ميلبا : " عندما أغني في المساء، لا أتناول طعام الغداء، بل أتناول وجبة خفيفة جدا في الساعة الخامسة تتألف من سمك أو دجاج مع الخبز، وكوب الماء . ودائما أجد نفسي جائعة جدا لدى تناول العشاء عندما أعود الى البيت بعد الأوبرا أو الحفل الموسيقي ".

       كم كات ميلبا وبيتشر عاقلتين في تصرفهما . فأنا لم أدرك ذلك الا عندما أصبحت خطيبا محترفا، فحاولت أن ألقي خطاب يستغرق ساعتين كل مساء بعد أن أستهلك وجبة دسمة . لقد علمتني التجربة أن ليس باستطاعتي الاستمتاع بلحم الغنم والعجل والبطاطا المقلية والسلطة والخضروات والحلوى، ومث ثم أقف بعد ساعة لأقوم نفسي أو موضوعي ليتصارع مع اللحم والبطاطا . لقد كان باديروسكي على حق عندما قال انه حين يأكل ما يريد قبل الحفل الموسيقي، يندفع الحيوان بداخله ليصل الى رؤوس أصابعه فيربك عزمه ويعطله .


          لماذا يتقدم خطيب أكثر من خطيب آخر ؟

       لا تفعل شيئا يستهلك طاقتك . لأن الحيوية والنشاط والحمال من بين أهم الميزات التي أسعى اليها لدى الخطباء ومعلمي في فن الخطابة . فالناس تتجمهر حول الخطيب المفعم بالطاقة، حول مولد الطاقة البشري، مثلما تتجمهر الأوزات حول حقل القمح الريفي .

       شاهدت ذلك مرارا يحدث للخطباء في هايدي بارك، بلندن . وهي بقعة قرب مدخل ماربك آرك، حيث يلتقي بعد ظهر يوم الأحد، الخطباء من مختلف الألوان
والأجناس . ويستطيع المرء أن يختار ويستمع الى تحليل كاثوليكي عن عدم إمكانية التخلي عن البابا، والى إشتراكي يشيد بنظرية كارل ماركس الاقتصادية، والى هندي يشرح لماذا يحق للمسلم أن يتزوج أكثر من امرأة الخ . . . يتجمع مئات حول خطيب ما، بينما جاره ليس حوله سوى حفنة منهم . لماذا ؟ هل الموضوع هو الذي يفرق بين مختلف الخطباء ؟ كلا . ففي معظم الأحيان، نجد أن السبب يكمن في الخطيب نفسه : فهو أكثر تحمسا وأكثر إثارة للحماس . ويتحدث بحيوية ونشاط، ويشع حيوية وإلفة، مما يجذب الاهتمام .


             ما هو تأثير الملابس على الخطيب والمستمع ؟

       أرسل سؤال الى مجموعة كبرى من الناس من قبل عالم نفسي ورئيس جامعة، يتساءل عن التأثير الذي تتركه الملابس على أنفسهم . فأجمع كل الأفراد أنهم عندما يكونون بمظهر لائق وأنيق ويتأكدون، من ذلك، يشعرون بتأثير ذلك . ومن الصعب شرح ذلك الشعور، لأنه غير محدد، رغم كونه حقيقيا . فقد منحهم الثقة بالنفس ورفع من تقديرهم الذاتي . هذا هو تأثير الملابس على من يرتديها .

       ما هو تأثيرها على المستمع ؟ لاحظت مرارا أن الخطيب اذا كان رجلا ذا سروال فضفاض ومعطف تعوزه الأناقة وحذاء مهترئ، وتظهر في جيبه أقلام الحبر والرصاص ويمسك بيده غليونا وعلبة تبغ تملأ جيب معطفه، أو اذا كانت امرأة دميمة، تمسك بحقيبة منتفخة وملابسها الداخلية ظاهرة للعيان، لاحظت أن  الجمهور يكن احتراما ضئيلا لهذا الانسان مثلما يفعل الخطيب أو الخطيبة لمظهره . أليس من المحتمل الافتراض أن الذهن متأرجح كالشعر المشعث والحذاء المتسخ والحقيبة المنتفخة ؟

       عندما وصل الحنرال لي الى ساحة أبوماتوكس لتسليم جيشه، كان يرتدي ملابس فاخرة أنيقة ويتدلى من جانبه سيف ضخم ثمين . إلا أن غرانت لم يكن يرتدي  معطفا ولا يحمل سيفا، بل كان يرتدي قميصا وسروالا عاديا . فكتب في مذكراته يقول : " لا بد أنني كنت معاكسا تماما، أمام رجل أنيق، طوله ستة أقدام، وتام المظهر ". والواقع، أن عدم بروزه بمظهر أنيق في تلك المناسبة التاريخية جعله يندم أكثر مما ندم على أي شيء في حياته .

       ان لدى دائرة الزراعة في واشنطن مئات من قفران النحل موزعة في مزارع التجارب . وقد ركز على كل قفير زجاج مكبر، بالإضافة الى تزويده بالضوء الكهربائي، حيث يتمكن المرء من أن يراقب النحل عن كثب في أية لحظة . والخطيب يشبه ذلك القفير : فهو تحت زجاج مكبر، والأضواء مسلطة عليه . وكل خطأ يبدو في مظهره الخارجي يبرز بوضوح مثلما تبرز قمة بايك من السهول .


          ما هو دور الابتسامة المشرقة؟

       أكتب منذ عدة سنوات، قصة حياة مصرفي من نيويورك لمجلة " أميركان ". فسألت أحد أصدقائه أن يشرح سبب نجاحه فقال لي أن السبب الرئيسي يعود الى ابتسامة الرجل الساحرة . في بادئ الأمر، يبدو ذلك مغالى به . لكنني أظن أن الأمر صحيح للغاية . ربما يكون لدى مئات الرجال تجارب وقدرة مالية أفضل بكثير مما لديه، لكنه يمتلك موجودات إضافية لم يمتلكوها . كان يمتلك الشخصية الأفضل . ان الابتسامة المرحبة والدافئة من أبرز مظاهر تلك الشخصية . فهي تكسب الثقة في الحال، وتضمن حسن نية المرء بسرعة . جميعنا نود أن نرى مثل هذا الرجل ناجحا، ويسرنا أيضا أن نمنحه تقديرنا .

       تقول حكمة صينية : " من لا يستطع الابتسام يجب أن لا يفتح متجرا ". أليست الابتسامة المرحبة امام الجمهور مثلما هي وراء الآلة الحاسبة في المتجر ؟ أفكر الآن بطالب معين كان يحضر برنامج فن الخطابة الذي تم تدريسه في غرفة في بروكلين للتجارة . كان دائما يأتي أمام الجمهور وهو يشع بجو يعبر عن محبته لكونه هناك وأنه يحب العمل الذي أمامه . كان دائما يبتسم ويتصرف وكأنه سعيد لرؤيتنا، وفي الحال، يشعر المستمعون بحرارة نحوه فيرحبون به .

       لكنني رأيت خطباء متقدمون يتقدمون بأسلوب بارد متكلف وكأن عليهم القيام بمهمة مزعجة، فيحمدون الله لدى انتهائهم . ونحن أيضا نشعر بمثل ذلك . ان هذه الأساليب تنقل العدوى .

       يقول البروفسور أوفر ستريت في كتابه " التأثير بالسلوك الانساني "،
" الشبيه يولد الشبيه ". فاذا وجهنا انتباهنا لجمهورنا، يحتمل أن يهتم جمهورنا بنا . واذا تجهمنا، فانهم سيتجهمون داخليا أو ظاهريا نحونا . واذا كنا جبناء مرتبكين، فانهم بدورهم سيفقدون الثقة بنا . واذا كنا صفقاء متبجحين، فانهم سيتفاعلون لحماية ذاتهم . وحتى قبل الشروع بالكلام، غالبا ما يتم استحساننا أو استهجاننا . لذلك، هناك أكثر من سبب يدفعنا للتأكد من أن أسلوبنا يستدعي الاستجابة الدافئة .


              اجمع جمهورك

       بما أنني أستاذ في فن الخطابة، تحدثت دائما الى جمهور صغير منتشر في قاعدة ضخمة بعد الظهر، والى حشد كبير متجمع في القاعة ذاتها ليلا . وقد ضحك الحشد المسائي من صميم القلب للأشياء التي جلبت الابتسامة فقط الى وجوه جمهور بعد الظهر . كما صفق الحشد المسائي بسخاء في الأماكن ذاتها التي كان جمهور فترة بعد الظهر يتجمع فيها من دون أي انفعال . لماذا ؟

       هناك سبب واحد، ان النساء والأطفال الذين يأتون في فترة بعد الظهر لا يمكن أن يتوقع منهم أن يكونوا متحمسين كجمهور الفترة المسائية . لكن ذلك ليس سوى تفسيرا جزئيا .

       والحقيقة أن ما من جمهور يشعر بالإثارة عندما يكون متفرقا . وما من شيء يقضي على الحماس كالفراغات الواسعة والكراسي الفارغة بين المستمعين .

       قال هنري وارد بيتشر : " غالبا ما يقول الناس : ألا تعتقد أن التحدث الى جمهور كبير يولد إيحاء أكثر من التحدث الى جمهور صغير ؟ . أقول : كلا، يمكنني التحدث الى اثني عشر شخصا بأسلوب جيد مثلما أستطيع التحدث الى ألف، شرط أن يكون الاثني عشر متجمعين حولي وبجانب بعضهم البعض ليلامس أحدهم الآخر . لكن حتى وجود ألف شخص تفصل بين كل اثنين منهم أربعة أقدام من الفراغ، فان ذلك يشبه الغرفة الفارغة . . . اجمع جمهورك، فتستطيع إثارته بنصف  الجهد ".

       ان الانسان وسط جمهور ضخم يفقد فرديته . حيث يصبح فردا من الجمهور، ويحرك بسهولة أكثر مما يكون فردا واحدا . وسيضحك ويصفق للأشياء التي تكاد لا تثيره حين يكون بين مجموعة صغيرة تستمع اليك .

       من السهل استدراج الناس للعمل كفريق أكثر من العمل كأفراد . مثلا، ان الرجال الذين يذهبون الى المعركة يرغبون في القيام بأخطر الأشياء وأكثرها تهورا في العالم - وهم يريدون الاجتماع معا . فخلال الحرب العالمية الأخيرة، اشتهر الجنود الألمان بالذهاب الى المعركة، في بعض الأحيان، وأيديهم متشابكة .

       الجماهير ! الجماهير ! انها ظاهرة غريبة . ان جميع الحركات الإصلاحية تتحقق بالمساعدة الفعلية من الجماهير .

       اذا كنا سنتحدث الى مجموعة صغيرة، يجب أن نختار غرفة صغيرة . واذا كان المستمعون متفرقون، أطلب منهم التجمع في المقاعد الأمامية قربك . أصر على ذلك قبل أن تبدأ الكلام .

       لا تقف أمام المنبر الا عندما يكون الجمهور ضخما، وهناك سبب يدعوك لذلك . إبق في مستوى مواز لهم . قف بالقرب منهم . حطم كل الرسميات، وأقم روابط حميمة، واجعل خطابك كالحديث .

       أبق الجو منعشا . ففي عملية الخطابة، من المعروف أن الأوكسجين هو لهم مثل الحنجرة والقصبة الهوائية والرئتين . وكل فصاحة شيشرون والجمال الأنثوي في قاعة روكيتيس الموسيقية، قلما تستطيع أن تبقي الجمهور يقظا في غرفة مسممة بالجو العابق . لذلك، بما أنني واحد من الخطباء، قبل أن تبدأ، أطلب من الجمهور أن ينهض ويرتاح مدة دقيقتين، بينما أترك النوافذ مفتوحة .

      
       طاف المايجور جايمس ب . بوند، طيلة أربعة عشر سنة، في الولايات المتحدة وكندا، عندما كان مديرا لهنري وارد بيتشر، واعظ بروكلين . وقبل أن يتجمع الجمهور، كان بوند يزور القاعة أو الكنيسة أو المسرح حيث سيبدو بيتشر، ليفحص الضوء والمقاعد والحرارة والتهوية . كان بوند قائدا عسكريا متقدما في السن ويحب أن يمارس سلطته، فاذا كان المكان دافئا جدا، أو الجو خانقا، ولم يستطع أن يفتح النوافذ، يحدق فيها ويسحق الزجاج . لقد كان يؤمن مع سبرجون أن " أفضل شيء للواعظ بعد نعمة الله، هو الأوكسيجين ".


              دع الضوء يغمر وجهك

       إملأ الغرفة بالأنوار واقرأ مقالات دايفيد بيلاسكو حول الإنتاج المسرحي، لتكتشف أن الخطيب العادي ليست لديه أدنى فكرة عن الأهمية البالغة للإضاءة المناسبة .

       دع الضوء يغمر وجهك . فالناس يريدون رؤيتك . لأن التغيرات التي تطرأ على تعابيرك هي جزء، وجزء حقيقي من عملية التعبير عن الذات . وهي تعني في بعض الأحيان أكثر مما تعنيه كلماتك . اذا وقفت تحت الضوء مباشرة، ربما يكسو الظل وجهك، واذا وقفت أمام الضوء مباشرة، من المؤكد أن لا يبدو واضحا . أليس من الحكمة اذن أن تختار قبل أن تنهض للخطاب، البقعة التي تمنحك أفضل إنارة ؟

       لا تختبئ وراء الطاولة . يريد الناس أن ينظروا الى الرجل بكامله، حتى انهم ينحنون الى جانب الممرات ليتمكنوا من رؤيته .

       من المؤكد أن شخصا حسن النية سيقدم لك طاولة مع إبريق ماء وكوب . لكن اذا جف حلقك، فان القليل من الملح أو نكهة الليمون سيثير لعابك أفضل مما تفعله شلالات نياغارا . أنت لست بحاجة الى الماء ولا الى الإبريق . كما لا تريد المعوقات البشعة غير المفيدة التي تملأ المنصة .

       ان  غرف العرض لدى مختلف صانعي السيارات في برودواي هي جميلة ومرتبه، تسر النظر . ومكاتب باريس لمصانع العطور والمجوهرات مجهزة بشكل فني رائع . لماذا ؟ هذا هو العمل الجيد . والانسان يكن المزيد من الاحترام والثقة والتقدير للأشياء الأنيقة كهذه .

       للسبب ذاته، يجب أن يكون لدى الخطيب خلفية مسرة . والترتيب المثالي، في رأيي، هو التخلي عن الأثاث كله . فلا شيء وراء الخطيب يجذب الاهتمام، أو على جانبيه، لا شيء سوى ستارة من المخمل الأزرق .

       لكن ما الذي يوجد دائما خلفه ؟ خرائط وإشارات وجداول وربما الكثير من الكراسي المغبرة المتراكمة فوق بعضها البعض . وما هي النتيجة ؟ جو مربك رخيص وقذر . لذلك تخلص من جميع الأشياء .

       قال هنري وارد بيتشر : " أهم شيء في فن الخطابة هو الإنسان ".

       لذلك، ليقف الخطيب مثل قمم جانغفرو الثلجية التي تناطح سماء سويسرا
الزرقاء .


              لا ضيوف في المنبر

       كنت مرة في لندن عندما كان سفير كندا يخطب . بعد قليل، دخل الحاجب مزودا بعمود طويل، وبدأ بتهوية الغرفة متنقلا من نافذة الى أخرى . ما الذي حدث ؟ تجاهل معظم الجمهور الخطيب فترة وجيزة وحدقوا في الحاجب وكأنه يقوم بأعجوبة .

       لا يستطيع الجمهور أن يقاوم - أو أنه لن يقاوم - إغراء التطلع الى الأشياء المتحركة . فاذا تذكر الخطيب هذه الحقيقة، يمكنه توفير بعض المتاعب والإزعاج الذي ليس هو بحاجة اليه .

       أولا، يستطيع الابتعاد عن تضييع وقته سدى، وعن العبث بملابسه والقيام بحركات عصبية تحط من قدره . أذكر مرة حين رأيت مستمعا من نيويورك يحدق بيدي خطييب مشهور مدة نصف ساعة حين كان يخطب ويعبث بغطاء المنبر في الوقت ذاته .

       ثانيا، يجب أن يتدبر الخطيب أمر جلوس الجمهور، اذا أمكنه ذلك، لكي لا يجذب انتباههم دخول الأشخاص المتأخرين .

       ثالثا، يجب ألا يلتقي الضيوف على المنبر . فمنذ سنوات قليلة، ألقي ريموند روبنز سلسلة من الخطب في بروكلين . ومن بين المدعوين، دعيت للجلوس معه في المنبر . تملصت من ذلك على أساس أن ذلك يسيء الى الخطيب . لاحظت منذ الليلة الأولى كم من الضيوف تململوا ووضعوا ساقا فوق ساق، ثم قاموا بعكس ذلك . وفي كل مرة، كان أحدهم يتحرك، ينقل الجمهور نظرهم عن الخطيب ليتطلع الى الضيوف . لفت انتباه السيد روبنز الى ذلك في اليوم التالي، وخلال السهرات المتبقية، شغل المنبر بمفرده .

       لم يسمح دايفيد بيلاسكو باستخدام الزهور الحمراء على المسرح لأنها تجذب الكثير من الانتباه . فلماذا اذن يسمح الخطيب لإنسان لا يهدأ بالجلوس قبالة الجمهور عندما يخطب ؟ يجب عليه ألا يفعل ذلك . وان كان حكيما، لا يقدم على فعل ذلك أبدا .

       أليس من الأفضل للخطيب ألا يجلس قبالة الجمهور قبل أن يبدأ خطابه ؟ أليس من الأفضل له أن يصل بمظهر نشيط على أن يبدو مرهقا ؟


       لكن اذا تودب علينا الجلوس، لننتبه الى طريقة جلوسنا . لقد رأيت رجالا يبحثون عن كرسي بحركات تشبه حركات الثعلب الجاثم بانتظار الليل . وعندما يجدون الكرسي، يهبطون عليه مثلما يهبط كيس من الرمل .

       ان الرجل الذي يعرف كيف يجلس، يغرق في الكرسي وهو يسيطر على جسده سيطرة تامة .


              كن متزنا  
       ذكرنا في صفحات قليلة سابقا أنه لا يجب العبث بملابسك أو مجوهراتك لأنها تلفت الانتباه . وهناك سبب آخر أيضا . فذلك يمنح انطباعا عن الضعف وقلة الثقة بالنفس . وكل دقيقة لا تضيف الى وجودك، تحط من قدرك . ليست هناك حركات حيادية . وهكذا، قف هادئا، وسيطر على نفسك جسديا، فذلك يمنحك انطباعا عن السيطرة الذهنية والاتزان .

       بعدما تنهض لمخاطبة جمهورك، لا تبدأ بعجلة . فهذه هي السمة المميزة للمبتدئ . تنشق نفسا عميقا . تطلع الى جمهورك للحظة، وان كانت هناك ضجة، توقف قليلا حتى تزول .

       أبق صدرك عاليا . لكن لم الانتظار لفعل ذلك أمام الجمهور ؟ لم لا تفعل ذلك يوميا حين تكون منفردا بذاتك ؟ عندئذ يمكنك أن تفعل ذلك تلقائيا أمام الناس .

       وماذا يجب أن تفعل بيديك ؟ لا تفكر بها . فاذا انسدلتا بشكل طبيعي الى جانبيك، يكون الأمر مثاليا . واذا كانتا تبدوان كعنقود من الموز، لا تتخيل أبدا أن
أحد ينتبه لهما أو لديه أدنى اهتمام بهما . لأنهما ستبدوان أفضل وهما مسترخيتان الى جانبيك، وسيجذبان أدنى اهتمام لهما . حتى ان المولع بالانتقاد لن يتمكن من انتقاد وضعك . هذا بالإضافة الى أنهما ستكونان متحررتين للقيام بحركات تلقائية عندما يستدعي الأمر ذلك .

       لكن لنفترض أنك عصبي للغاية، حتى أنك تجد أن وضعهما وراء ظهر أو ادخالهما في جيبيك أو إلقائهما على المنصة، يساعدك على التخلص من التوترات
ماذا يجب أن تفعل ؟ استخدم براعتك . لقد سمعت أن عددا من خطباء هذا العصر المشهورين . يضعون أيديهم داخل جيوبهم أثناء إلقاء الخطاب، وقد فعل ذلك برايان، وتشونسي م . ديبيو وتيدي روزفلت . حتى أن ديزرائيلي المتأنق والشديد الحساسية كان يخضع الى هذا الإغراء . لكن السماء لم تهبط، وطبقا للتقارير المناخية، اذا ما أسعفتني ذاكرتي، أشرقت الشمس في الوقت المحدد من الصباح التالي . فاذا كان لدى الإنسان ما يستحق البوح به، ويبوح به بإخلاص وإيمان، لا يهم، بالتأكيد، ما الذي يفعله بيديه ورجليه . واذا كان عقله مليئا وقلبه مثارا، لن تبرز هذه التفاصيل الثانوية كثيرا . فقبل أي شيء، ان الشيء الأهم في إلقاء الخطاب هو الجانب النفسي فيه، وليس موضع اليدين والرجلين .    


          أساليب غريبة واهية تلقى بسام الإيماء

       وهذا يأتي بنا الى مسألة الايماء التي تستخدم بشكل خاطئ . أعطى أول درس لي في فن الخطابة رئيس جامعة في الغرب الأميركي الأوسط . كما أتذكر، يدور الدرس حول الإيماء، ولم يكن بدون فائدة فحسب، بل كان أيضا مضللا ومؤذيا . تعلمت أن أترك ذراعي تنسدلان على جانبي . وكنت أمد ذراعي ضمن منحنى رشيق، ثم أؤرجح معصمي بشكل كلاسيكي وأفرد أصابعي تدريجيا . وبعدما تتم الحركة المنشطة والأنيقة، تعود الذراع للاسترخاء بجانب الساق . هذا الأداء جاف عديم الحيوية. لقد تعلمت أن لا أتصرف مثل أي أحد، ولا أتبع طريقة تفكير أحد .

       ليست هناك أية محاولة تستطيع استدراجي الى وضع شخصيتي في حركاتي، ولا أية محاولة تدفعني للقيام بالإيماءات، ولا أي مسعى يدفع دم الحياةفي هذه العملية، ليجعلها طبيعية لا إرادية ومحتمة . وما من شيء يحثني على المضي في ذلك وعلى تحطيم صدفة تحفظاتي  وتصرفاتي كإنسان . ان الأداء كله هو آلي كالآلة الكاتبة، لا يتمتع بالحياة كعش عصفور قديم .

       يبدو من غير المعقول أن مثل هذه الإيماءات السخيفة، يمكن أن تعلم في القرن العشرين . ومع ذلك، ومنذ سنوات قليلة، نشر كتاب عن الإيماء - كتاب كامل يحاول أن يجعل من الإنسان إنسانا آليا، فيخبره أية إيماءة يجب القيام بها عند قوله هذه الجملة، وأية إيماءة يقوم بها لدى قوله تلك . كما رأيت عشرين رجلا يقفون معا أمام الصف، يقرأون ويومئون طبقا لهذا الكتاب، جميعهم يقومون بالحركات ذاتها وينطقون بالكلمات عينها، وجميعا بدو سخفاء للغاية . ان ذلك زائف وآلي ومؤذ وقاتل للوقت - كما أنه أساء الى سمعة الكثير من الرجال .

       تسعة من عشررة من هذا الحشو المكتوب عن الإيماءات هو إضاعة، وأسوأ من إضاعة ورقة بيضاء وحبر أسود . وكل حركة مأخوذة من كتاب من المحتمل جدا أن تبدو مثله . فالمكان الصحيح لتناولها منه هو نفسك وقلبك وذهنك واهتمامك بالموضوع، ومن رغبتك الذاتية في استمالة الآخرين لرؤية ما تراه . والإيماءات التي تستحق القيام بها هي تلك المولودة في لحظتها . ان أونصة من التلقائية توازي طنا من القواعد .

       فالإيماء ليس شيئا يرتدى كبذلة العشاء . بل هو مجرد تعبير خارجي عن حالة داخلية كالقبلات والمغص والضحك ودوار البحر .

       يجب أن تكون حركات الإنسان، كفرشاة أسنانه، أشياء شخصية له . وبما أن الناس مختلفون، فان حركاتهم ستكون فردية اذا ما تصرفوا بشكل طبيعي . كما لا يجب أن يتعلم شخصان الإيماء بنفس الطريقة . تخيل أن لنكولن، ذو التفكير البطيء والمطول يقوم بحركات دوغلاس الذي يتكلم بسرعة واندفاع .  ن ذلك سيكون سخيفا .

       وطبقا لمؤرخه وشريكه القانوني هرندون، لم يومئ لنكولن بيديه مثلما كان يومئ برأسه . وكانت حركته هذه بارزة عندما يسعى الى تثبيت فكرته . وتأتي في بعض الأحيان سريعة وكأنها تقذف بشرارات كهربائية الى مواد مشتعلة . لكنه لم يتكلف الحركات ليبدو مؤثرا . . . وكلما مضى في خطابه، ازداد حرية واندفاعا، وازدادت حركاته تلقائية حتى انها كانت تبدو رشيقة . لقد كان يتمتع بطبيعة تامة وبشخصية فريدة تفرض احترامه . كان يكره التأنق المصطنع والمظاهر المتكلفة . . . وكان هناك عالم من المعاني والتوكيد باصبعه الدقيق الطويل، عندما يحشو الأفكار في أذهان مستمعيه . وفي بعض الأوقات، ومن أجل التعبير عن الفرح والسرور، كان يرفع كلتا يديه وكأنه يود احتضان الروح التي يعشقها . فاذا كانت عاطفته تتجه نحو شجب وانتقاد العبودية مثلا - ترتفع يداه وتتماسك قبضته تلوحان في الهواء، وبذلك يعبر عن عمق حبه وإيمانه . وتلك هي أكثر حركاته تأثيرا، كما أنها تشير الى عزمه الثابت لإلقاء موضوع كراهيته وتمريغه بالتراب .

       تلك هي طريقة لنكولن . أما تيودور روزفلت فكان أكثر قوة واندفاعا ونشاطا، تتدفق المشاعر من وجهه، وتنكمس قبضته ويمتلئ جسمه كله بالتعبير . وغالبا ما كان غلادستون يضرب الطاولة أو راحة يده بقبضته، أو يضرب قدمه بقوة بالأرض . واعتاد اللورد روز بري أن يرفع قبضته اليمنى ويلقيها على المنصة بقوة خارقة . لكن هناك قوة أولا في أفكار ومعتقدات الخطيب، وهذا ما يجعل حركاته تلقائية . فالتلقائية والحياة هما الخير الأسمى في العمل .

       لا يمكنني أن أعطيك أية قواعد للإيماء، لأن كل شيء يعتمد على مزاج الخطيب . وعلى تحضيره وحماسه وشخصيته وموضوعه، وعلى الجمهور والمناسبة .


الفصل الثامن

كيف تفتتح الخطاب ؟

       سألت مرة الدكتور لين هارولد هاف، الرئيس السابق لجامعة نورثوسترن، عن أهم ما علمته تجربته كخطيب . وبعد أن فكر لحظة، أجاب : " أن تفتتح بمقدماته مثيرة، وبشيء يأسر الانتباه في الحال ". لقد كان يخطط مقدما الكلمات الملائمة لكل من المقدمة والخاتمة . جون برايت فعل الشيء ذاته، وكذلك غلادستون ووبستر ولنكولن . وعمليا، كل خطيب يتمتع بالذكاء والتجربة يفعل ذلك .

       لكن هل يقدم على ذلك الخطيب المبتدئ ؟ نادرا . فالتخطيط يستلزم الوقت ويتطلب تفكيرا وقوة إرادة . وعمل العقل هو عملية شاقة . وقد علق توماس أديسون هذه المقتطفات من كتابات سير جوشوا رينولدز، على جدران مختبره : ليست هناك أية ذريعة يلجأ المرء اليها لتجنب عملية التفكير الحقيقية .

       يؤمن المبتدئ عادة بوحي اللحظة وبالبنتائج التي تصدر عنها، لذلك هاجم بالشرك والمقلاع الطرق التي بها سيمر .

       وقال اللورد نورثكليف الذي كافح عندما كان عاملا اسبوعيا بسيطا ليصبح مالك أغنى وأقوى صحيفة في المملكة البريطانية . ان هذه الكلمات التي اقتبسها من باسكال قد ساعدته جدا في النجاح أكثر من أي شيء قرأه :

" أن تتنبأ هو أن تسود "

       وهذا شعار ممتاز ينبغي أن تحتفظ به على مكتبك عندما تخطط خطابك . تنبأ كيف ستبدأ عندما يكون ذهنك نشيطا يستوعب كل كلمة تنطق بها . تنبأ الانطباع الذي ستخلفه في النهاية - عندما لا يلي شيء آخر يطمسه .

       منذ أيام أرسطو، قسمت الكتبب الى ثلاثة أقسام : المقدمة، الجسم، والخاتمة . وبعده أصبحت متمهلة كالعربة التي يجرها حصان واحد . وكان الخطيب راوية أخبار ومسليا، لكن الأشياء تغيرت جذريا، فقد سرعت الاختراعات الحياة في المئة سنة الأخيرة أكثر مما فعلت في العصور الغابرة . وأصبحت السيارات والطائرات تتحرك بسرعة مذهلة . لذا علىالخطيب أن يسير بسرعة الزمن النافذ الصبر . واذا أردت أن تستخدم مقدمة، صدقني يجب أن تكون قصيرة كلائحة الإعلان . لأن ذلك يتطابق مع مزاج المستمع الحديث الذي لسان حاله يقول : " هل لديك ما تقوله ؟ حسنا، لنستمع اليك بسرعة . لا تتأنق في الخطاب ! أعطنا الحقائق بسرعة واجلس ".

       عندما خاطب تشارلز شواب جمعية " بنسلفانيا " في نيويورك ولج الى الموضوع من خلال جملته التالية :

       " في أذهان المواطنين الأميركيين اليوم يوجد سؤال : ماذا يعني وجود هبوط في الأسعار وفي الأعمال، وماذا بشأن المستقبل ؟ أنا شخصيا متفائل . . . ".

       ولكن هل يحقق ذلك الخطباء غير المجربين بسرعة ونجاح من خلال المقدمة ؟ ان معظم الخطباء غير المدربين سيبدأون بإحدى الطريقتين التاليتين وكلتاهما سيئتان . دعنا نتحدث عنهما .


              احذر الافتتاح بما يدعى قصة مرحة

       غالبا ما يشعر المبتدئ، لسبب مؤسف أن عليه أن يكون مضحكا . وربما يكون متزنا وصارما كالموسوعة، تعوزه لمسة الخفة . ومع ذلك، ولحظة وقوفه للكلام، يتخيل أنه يشعر، او أنه يجب أن يشعر، بروح مارك توين تتصاعد بداخله . لذلك يميل الى المباشرة بقصة مرحة . فما الذي يحدث ؟ هناك فرصة أن يأتي سرده وأسلوبه ثقيلا كالقاموس أو كما في لغة هاملت الخالدة : " مملا وتافها ".

       ان جمهور المستمعين الذي من المفترض أن يثور وجهه، يستمع اليه من باب اللياقة ، باذلا الجهد لاصطناع بضعة ضحكات، بينما يرثي في أعماقه لفشل هذا الخطيب المتظاهر بالمرح ! وهو نفسه لا يشعر بالارتياح . ألا تشاهد مثل هذا الإخفاق التام من وقت لآخر ؟

       في مجال صناعة الخطاب، ما هو أكثر صعوبة وأكثر ندرة من القدرة على جعل المشاهد يضحك ؟ ان المرح هو مسألة شائكة، وهو أيضا مسألة فردية وشخصية .

       تذكر أنه من النادر أن تكون القصة مضحكة بحد ذاتها . لأن الطريقة التي تسرد بها هي التي تجعلها ناجحة . ان 99 رجلا من أصل مئة يفشلون للأسف عندما يسردون قصصا مشابهة لتلك التي جعلت مارك توين شهيرا . اقرأ القصص التي كررها لنكولن في فنادق القطاع القضائي الثامن في إيللنوا، وهي قصص دفعت الرجال مسافة أميال للاستماع اليها، وجعلتهم يسهرون الليل كله للاستماع اليها . كما أنها قصص، طبقا لشاهد عيان، سبب وقوع بعض المواطنين عن كراسيهم . إقرأ هذه القصص بصوت مرتفع لعائلتك، ولاحظ اذا استطعت أن ترسم ابتسامة على وجوههم . هنا قصة اعتاد لنكولن أن يسردها بنجاح باهر . لم لا تحاول أن تسردها ؟ لكن على انفراد، من فضلك وليس أمام الجمهمور . " كان مسافر متأخر يحاول أن يصل الى منزله عبر طرقات براري إيللنوا الموحلة، عندما واجهته العاصفة . كان الظلام دامسا كالحبر الأسود، فانهمر المطر عليه وكأن سدا في السماء قد انفجر، زمجر الرعد عبر الغيوم الغاضبة كإنفجار الديناميت . وأضاء البرق الأشجار المتساقطة على الأرض . كاد زئير الرعد يودي بسمعه . وأخيرا، صدرت ضجة عظيمة رمته أرضا، راكعا على ركبتيه . لم يكن يصلي عادة، لكنه همس : " يا الله، ان كان الأمر متساويا بالنسبة اليك، فامنحنا، من فضلك، المزيد من الضوء وقليلا من الضجة ".

       ربما تكون واحدا من أولئك الموهوبين المحظوظين الذين يمتلكون روح المرح . ان كان الأمر كذلك، نمي هذه الروح بكل الوسائل . فتكون موضع ترحيب أينما
خطبت . لكن اذا كانت موهبتك تقع في نواح أخرى، فمن السخف، بل من الخيانة العظمى، أن تحاول ارتداء قناع المرح .

       أخبرني أدوني جايمس أنه لم يسرد قصة مضحكة في سبيل الدعابة فقط . بل لأن لها علاقة بالموضوع الذي هو في صدده . يجب أن تكون الدعابة مجرد طبقة كريما فوق الكعكة، والشوكولا بين طبقاته، وليس الكعكة ذاتها لقد اتخذ ستريكلاند غيليلان، أفضل الخطباء المرحين في الولايات المتحدة، لنفسه قاعدة وهي ألا تسرد أية قصة مضحكة خلال الدقائق الثلاثة الأولى من خطابه . فإن وجد هذا التدبير ملائما، لم لا تفعل مثله ؟

       فهل يجب أن تكون المقدمة ثقيلة وضخمة وفي غاية الرزانة ؟ كلا، أبدا . سرب روح الدعابة، اذا استطعت، باللجوء الى أمثلة محلية، والى شيء يلائم المناسبة أو ملاحظات خطيب آخر . لاحظ بعض التناقض، صفه بشكل مضخم . فهذا النوع من المرح ينجح بنسبة أربعين ضعفا أكثر من النكات التافهة عن بات ومايك أو الحماة أوالعنزة .

       ربما أسهل طريقة لتوليد المرح هي في سرد نكتة عن نفسك . صف نفسك في وضع سخيف ومحرج . هذا هو أساس المرح . فالأسكيمو يضحكون حتى من فتى كسر ساقه . والصينيون يقهقهون لكلب ذكرت القصص، أنه سقط من الطابق الثاني قتيلا، نحن أكثر تعاطفا من ذلك، لكن ألا نبتسم لفتى يلاحق قبعته، أو ينزلق بقشر موز ؟  
       باستطاعة كل انسان تقريبا أن يضحك الجمهور بمهارة بتجميع الأفكار أو الصفات المتناقضة، كعبارة ذكرها كاتب صحفي، يقول فيها أنه " يكره الأطفال والكروش والديمقراطيين ".

       لاحظ كيف يثير رود يارد كيبلينغ الضحك بمهارة في افتتاحية احدى خطبه السياسية في إنلكترا . وهو يسرد هنا، ولا يصنع، سوى بعض تجاربه ويشدد بمرح على تناقضاتها .

       " أيها السيدات والسادة : عندما كنت في الهند، اعتدت أن أضع تقريرا جنائيا للصحيفة التي أعمل فيها . كان العمل مثيرا لأنه عرفني بالمزورين والمهربين والقتلة والرياضيين المشاركين بهذا المجال . )عبارة مضحكة( . في بعض الأحيان، وبعد أن أكتب تقريرا عن محاكمتهم، كنت أذهب لزيارة أصدقائي في السجن أثناء قضائهم فترة العقوبة )عبارة مضحكة( . أذكر رجلا حكم عليه بالسجن مدى الحياة بسبب اقترافه جريمة قتل . كان فتى ذكيا يعرف كيف يتحدث بلباقة، وقد أخبرني ما دعاه قصة حياته . فقال : استمع الي، عندما يعرج الانسان، فان الشيء الواحد يؤدي الى الآخر، حتى يجد نفسه في وضع يفرض عليه إقصاء انسان آخر عن الطريق كي يتقوم ثانية . حسنا، ان ذلك يصف تماما الوضع الحالي لمجلس الوزراء ". )عبارة مضحكة( .

       وتلك هي طريقة وليم هاورد تافت عندما تحدث بأسلوب مرح خلال الافتتاح السنوي لمدراء شركة " متروبولتان " للتأمين على الحياة . ان الجانب الجميل من خطابه يكمن في كونه مرتاحا وممتدحا الجمهور بسخاء في الوقت ذاته :

       " حضرة الرئيس، حضرات السادة :
       كنت خارج منزلي القديم منذ حوالي تسعة أشهر عندما استمعت الى خطاب ما بعد العشاء يلقيه سيد يرتعش . قال انه استشار صديقا له، لديه تجربة واسعة في تأليف الخطب المسائية، والذي نصحه بأن أفضل نوع من الجمهور الذي تخاطبه هو جمهور ما بعد العشاء، لأنه يكون ذكيا مثقفا ونصف متشدد . )ضحك وتصفيق( . والآن، كل ما أستطيع قوله هو أن ذلك الجمهور هو من أفضل الجماهي التي رأيتها . وهناك شيء يعوض عن غياب هذا العنصر في العبارة المذكورة )تصفيق( ويجب أن أفكر أنها روح متروبولتيان للتأمين على الحياة " )تصفيق أكثر( .


                 لا تبدأ بالاعتذار

       ان الخطأ الفاضح الثاني الذي يقترفه المبتدئ في المقدمة هو : الاعتذار . " أنا لست بخطيب . . . لست مهيأ للخطاب . . . ليس لدي ما أقوله . . . ".

       لا تفعل ذلك أبدا ! ليست هناك أية فائدة من الاستمرار ".

       في أي حال، اذا لم تكن مهيأ لذلك، فان بعضنا سيكتشف ذلك من دون مساعدتك . وآخرون لن يفعلوا، فلم تلفت انتباههم ؟ لماذا تهين جمهورك بالاقتراح أنك لا تفكر بأنهم يستحقون أن تحضر من أجلهم، وأن أي شيء قديم يكفي لخدمتهم ؟ كلا، نحن لا نريد الاستماع الى أعذارك . نحن هناك لتخبرنا وتثيرنا، وأن نثار، تذكر ذلك .

       ان لحظة بروزك أمام الجمهور، تستحوذ على انتباهنا بشكل طبيعي ومحتم . فليس من الصعب أن تستحوذ عليه في اللحظات الخمس التالية، لكن من الصعب أن تستحوذ عليه في الخمس دقائق التالية . فان فقدته مرة، فان صعوبة استرجاعه ستتضاعف . فابدأ بشيء مثير منذ الجملة الأولى، وليس منذ الثانية أو الثالثة . بل الأولى !

       ربما تتساءل : " كيف ذلك " ؟ . انه سؤال صعب، أعترف بذلك . وفي محاولة حصد المواد لملئها، يجب أن نسير في دروب صعبة وشائكة، لأن الأمر يعتمد عليك وعلى جمهورك وموضوعك ومادتك، وعلى المناسبة، الى ما غير ذلك . ولكن نأمل أن تعود المقترحات المجربة في نهاية هذا الفصل، بشيء مفيد وذا قيمة .


                   أثر الفضول       

       هنا افتتاحية استخدمها السيد هويل هيلي في خطاب ألقاه في نادي " ريان " الرياضي في فيلادلفيا . فهل تعجبك ؟ وهل تستحوذ على اهتمامك في الحال ؟

       " منذ 82 عاما، وفي حوال هذا الوقت من السنة، نشر في لندن مجلد صغير، أو قصة كانت خالدة . وقد دعاها الكثيرون أعظم كتاب صغير في العالم . وأول ما ظهر هذا الكتاب، كان الأصدقاء، حين يلتقون في الستراند أو البول مول، يسألون هذا السؤال : هل قرأته ؟ وكان الجواب واحدا : أجل، بارك الله فيه، لقد قرأته .

       بيعت ألف نسخة منه يوم تم نشره . وخلال ليلة، بلغ الطلب عليه خمسين ألف نسخة . ومنذ ذلك الحين، تلاحقت الطبعات وترجم الى كل لغة العالم . وقد باع ج . ب فورمان منذ سنوات قليلة، النسخة الأصلية بثمن باهظ، وهو يتصدر الآن مع الكنوز القيمة الأخرى، معرض الفن  العظيم بمدينة نيويورك .

       ما هو اسم هذا الكتاب العالمي الشهير ؟ انه أنشودة الميلاد للكاتب تشارلز ديكنز ".

       هل تعتبر هذا مقدمة ناجحة ؟ وهل جذبت انتباهك وأثارت اهتمامك بتطورها ؟ لماذا ؟ أليس لأنها أثارت فضولك وتشويقك ؟

       الفضول ؟ ومن ليس عرضة له ؟ لقد رأيت عصافير الغابة تحوم حولي وتراقبني من باب الفضول فقط . وأعرف صيادا في جبال الألب العالية كان يغري الظباء وذلك بإلقاء غطاء السرير على جسده والزحف لإثارة فضولها . ان الكلاب لديها الفضول، وكذلك القطط وسائر أنواع الحيوانات .

       وهكذا، أثر فضول جمهورك منذ أول جملة، تحوز على انتباههم واهتمامهم .

       اعتاد الكاتب أن يستهل محاضرته عن مغامرات الكولونيل توماس لورانس في الجزيرة العربية على هذا النحو :

       " يقول لويد جورج انه يعتبر الكولونيل لورانس واحدا من أبرز الشخصيات الرومنطيقية في العصور الحديثة ".

       لهذه الافتتاحية ميزتان . في المقام الأول، ان المقتطفات المأخوذة من انسان بارز لديها قيمة كبرى في جذب الاهتمام . ثانيا، انها تثير الفضول : " لماذا هو رومنطيقي؟ " هو السؤال الطبيعي، " ولماذا هو بارز ؟ ". "لم أسمع عنه سابقا . . . فما الذي أنجزه ". لقد بدأ لويل توماس محاضرته عن الكولونيل توماس لورانس بهذه العبارة :

       " كنت أسير ذات يوم في الحي المسيحي بالقدس عندما التقيت برجل يرتدي الثياب الشرقية الفضفاضة، معلقا بجانبه سيف ذهبي مقوس لا يحمله سوى المتحدرون من سلالة النبي محمد . لكن هذا الرجل لم يبدو عربيا أبدا . فعينيه زرقاوين، وعيون العرب هي دائما سوداء أو بنية ".

       ان هذا يثير فضولك، أليس كذلك ؟ وتريد أن تسمع المزيد . من يكون هذا
الرجل ؟ لماذا يبدو كالعرب ؟ ماذا يفعل ؟ وما الذي أنجزه ؟

       ان الطالب الذي يستهل خطابه بهذا السؤال :
       هل تعلم أن العبودية تسود في سبعة عشر بلدا من العالم اليوم ؟

       لا يثير الفضول فحسب، بل بالاضافة الى ذلك، يصدم المستمعين . " العبودية " ؟
اليوم ؟ سبعة عشر بلدا ؟ " يبدو ذلك غير معقول . ما هي تلك البلدان ؟ وأين تقع ؟ بإمكان المرء أن يثير الفضول اذا ما بدأ بالنتيجة، ومن ثم يشوق الناس لسماع
السبب . فمثلا، بدأ طالب بهذه العبارة المدهشة :

       " نهض عضو في أحد مجالسنا التشريعية مؤخرا في قاعة الاجتماعات واقترح إصدار قرار يمنع الشرغوفف )فرخ الضفدع( من أن يصبح ضفدعا على بعد ميلين من أية مدرسة ".

       أنت تبسمت فهل يمزح الخطيب ؟ كم هذا سخيف . وهل تم ذلك فعلا ؟ . . .
نعم .

       هنالك مقالة وردت في صحيفة " سترداي إيفننغ بوست "، بعنوان " مع العصابات "، وهي تبدأ : " هل العصابات منظمة حقا ؟ انها عادة كذلك، كيف . . . ".

       تلاحظ أن كاتب هذه المقالة يعلن عن موضوعه من خلال عشر كلمات، ويخبرك شيئا ما عنه، ويثير فضولك بالنسبة لكيفية تنظيم العصابات . ان هذا مستحسن جدا . وعلى كل انسان يرغب في إلقاء خطاب، أن يدرس الوسائل التي يستخدمها الصحافيون للاستحواذ على اهتمام القراء في الحال . اذ باستطاعتك أن تتعلم منهم أكثر مما تتعلم من خلال دراسة مجموعات من الخطب المطبوعة ؟    


              لم لا تبدأ بقصة ؟

       نحن نحب أن نستمع، بشكل خاص، الى روايات يسردها الخطيب عن تجربته الخاصة . لقد ألقى راسل إ . كونويل محاضرته : " هكتارات من الألماس "، أكثر من ستة آلاف مرة، وتلقى الملايين من أجل ذلك . كيف يفتتح محاضرته الرائعة هذه ؟

       " ذهبنا في سنة 1870 الى نهر التيغر . استعنا بدليل من بغدا ليطلعنا على برسيبوليس وبابل . . . " وبعد ذلك يمضي بقصته . ان هذا النوع من الافتتاحيات لا يفشل أبدا، بل انه يمضي قدما ونحن نتابعه، لأننا نريد أن نعرف ما الذي سيحدث .


                 ابدأ بتقديم مثل محدد

       يصعب على المستمع العادي أن يتتبع العبارات المجردة طويلا . لكن من السهل عليه الاستماع الى الأمثلة . لماذا اذن لا تبدأ بواحد منها ؟ من الصعب أن تجعل الخطباء يفعلون ذلك . أدرك ذلك، لأنني مررت بتلك التجربة . فهم يشعرون أن عليهم تقديم عدة عبارات عامة . ليس عليك فعل ذلك أبدا . افتتح بمثل، أثر الاهتمام، ثم تابع تقديم ملاحظاتك العامة .

      
               إلجأ الى الاستعراض

       ربما أسهل طريقة في العالم لجذب الانتباه هي بالقيام بشيء يتطلع اليه
الناس . حتى ان المتوحشين والإغبياء والأطفال في مهودهم والقردة والكلاب في الشارع سينتبهون لهذا النوع من الإثارة . ويمكن استخدام ذلك بفعالية مع أكثر الجماهير إتزانا . مثال على ذلك، افتتح السيد س . س . إيليس من فيلادلفيا، احدى خطبه بإمساك قطعة من النقود بإبهامه وسببابته، ورفعها فوق كتفه . طبيعيا، تطلع الجميع نحوه . ثم سأل : " هل وجد أحد منكم هذه القطعة النقدية في أحد جوانب الطريق ؟ وهو يعلن أن المحظوظ الذي وجدها  سيمنح كذا وكذا . . . لكن ما عليه سوى التقدم وإبرازها . . . " بعدئذ باشر السيد إيليس في انتقاد الممارسات المضللة واللا أخلاقية التي يمكن أن تواكب ذلك .


                           إسأل سؤالا

       تتميز افتتاحية السيد إيليس بظاهرة مهمة أخرى . فهي تبدأ بطرح سؤال، واستدراج  الجمهور الى التفكير مع الخطيب والتعاون معه . لاحظ أن المقالة التي وردت في صحيفة " سترداي إيفننغ بوست " حول العصابات، تبدأ بطرح سؤالين في الجمل الثلاثة : " هل العصابات منظمة حقا ؟ . . . كيف ؟ " ان استخدام هذا السؤال الافتتاحي هو واحد من أبسط وأضمن الطرق لفتح أذهان جمهورك والدخول عليها . وعندما تبدو الوسائل الأخرى فاشلة، تستطيع دائما اللجوء اليها .


          لم لا تفتتح بسؤال من رجل شهير

       ان كلمات رجل بارز لديها قوة تجذب الانتباه . لذلك فان مقتطفات مناسبة هي من أفضل السبل لجذب الانتباه . هل تعجبك هذه الافتتاحية لنقاش حول النجاح في العمل ؟

       يقول ألبرت هابرد : " ان العالم يهب جوائزه الكبرى ماليا ومعنويا مقابل شيء واحد . هذا الشيء هو روح المبادرة . وما هي روح المبادرة ؟ سأخبرك ما هي، انها القيام بالشيء الصحيح من دون أن يطلب منك ذلك ".

       وكجملة ابتدائية، فهي تتميز بعدة مظاهر مهمة . ان الجملة الابتدائية تثير الفضول، وتمضي بنا قدما، فنرغب في الاستماع الى توقف الخطيب بمهارة بعد الكلمات، فانه بذلك يشوقنا . ونتساءل : " لماذا يهب العالم جوائزه ؟ "، أخبرنا بذلك، بسرعة . ربما لا نتفق معك في الرأي، لكن أعطنا رأيك، . . . والجملة الثانيية تقودنا الى صلب الموضوع مباشرة . والجملة الثالثة، وهي سؤال، تدعو المستمع الى الدخول في النقاش، وأن يفكر ويقوم بشيء ضئيل . وكم يحب المستمعون أن يقوموا بفعل الأشياء . هم يعشقون ذلك ! الجملة الرابعة تعرف روح المبادة . . . بعد هذه الافتتاحية، يسرد الخطيب قصة انسانية مثيرة تمثل هذه الصفة .


          أربط موضوعك بمصالح مستمعيك الحيوية

       ابدأ ببعض الملاحظات التي تعالج مباشرة مصالح جمهورك الشخصية . فهذه من أفضل الوسائل الممكنة للبدء بالخطاب . ومن المؤكد أن تستحوذ على الانتباه . فنحن نهتم جدا بالأشياء التي تمسنا مباشرة .

       ان هذا ليس سوى منطقا، أليس كذلك ؟ ومع ذلك، فان استخدامه ليس شائعا . فمثلا، استمعت الى خطيب يستهل خطابه عن ضرورة الفحوص الطبية من وقت لآخر . كيف افتتح موضوعه ؟ بسرد تاريخ مؤسسة إطالة الحياة، كيف تم تنظيمها، والخدمات التي تقدمها . ان هذا سخيف ! فالمستمعين ليس لديهم أدنى اهتمام بكيفية إنشاء تلك المؤسسات، لكنهم يهتمون دائما وأبدا بأنفسهم .

       لم لا نتذكر هذه الحقيقة المهمة ؟ لم لا تظهر أن الشركة هي شيء حيوي بالنسبة لهم ؟ لما لا تبدأ بما يشبه : " هل تعلم مدة حياتك المتوقعة طبقا لجداول التأمين على الحياة ؟ ان مدة حياتك المتوقعة، مثلما تقول احصاءات التأمين هي ثلثي المدة بين عمرك الحالي وسن الثمانين فمثلا، اذا كنت تبلغ الخامسة والثلاثين من العمر، يكون الفرق بين عمرك الحالي والثمانين خمسة وأربعين، وتتوقع أن تعيش ثلثي هذا العدد، أي ثلاثين سنة أخرى . . . هل هذا يكفي ؟ كلا، فنحن نتوق بشدة للمزيد . ومع ذلك، ترتكز الاحصاءات هذه على ملايين السجلات . فهل نأمل أنا وأنت في تغييرها ؟ أجل، من خلال اتباع الحذر، يمكننا، كخطورة أولى، أ، نجري فحصا طبيا دقيقا . . . ".

       بعد ذلك، اذا شرحنا بالتفصيل ضرورة إجراء الفحص الطبي من وقت لآخر، ربما يهتم المستمع بإيجاد شركة تقدم هذه الخدمة . لكن الأمر سيكون مميتا ومأساويا اذا ما باشرت بالحديث عن الشركة بأسلوب غير ذاتي .

       لنأخذ مثلا آخرا، استمعت الى طالب يستهل خطابا عن أهمية المحافظة على الغابات . فاستهله كما يلي : " نحن، كأميركيين يجب أن نفاخر بمواردنا
المحلية . . . ". وانطلاقا من هذه الجملة، تابع ليظهر أننا نضيع الخشب بسرعة ومن دون جدوى . لكن افتتاحيته كانت سيئة، عامة جدا وغامضة جدا . فلم يجعل موضوعه حيويا . وكان من الأفضل لو بدأ على النحو التالي : " ان الموضوع الذي سأتحدث عنه يؤثر الى حد ما بسعر الغذاء الذي نتناوله والإيجار الذي ندفعه . ويمس رفاهيتنا جميعا ".

       فهل هذا يضخم أهمية المحافظة على غاباتنا ؟ كلا، لا أعتقد ذلك . بل يحاكي نصيحة ألبرت هابرت " لرسم صورة مضخمة وإبراز الموضوع بطريقة تسترعي الانتباه".


          قوة الانتباه الناتجة عن الحقائق المذهلة

       قال س . س . ماك كلور، مؤسس صحيفة دورية مهمة، " ان المقالة الصحافية الجيدة هي سلسلة من الصدمات ". فهي توقظنا من أحلام اليقظة وتسلب انتباهنا . اليك ببعض الأمثلة : استهل اليسد ن . د . بالانتاين من بالتيمور، خطابه حول " أعاجيب الإذاعة " بهذه العبارة : " هل تعلم أن صوت ذبابة تسير فوق لوح زجاج في نيويورك يمكن نقلها، عبر الإذاعة، لتصبح، في وسط أفريقيا، زئيرا كشلالات
نياغارا ؟ ".

       افتتح السيد هاري ج . جونز، رئيس شركة في نيويورك سيتي، خطابه حول الوضع الجنائي، بهذه الكلمات : " أعلن وليم هاورد ثافت، رئيس قضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة، أن دائرة قانوننا الجنائي تلحق خزيا بالحضارة ".

       لا تتميز هذه العبارة بأنها افتتاحية مذهلة، بل أيضا تتميز بأنها مقتطفة من أقوال أحد المسؤولين في المجال القضائي .

       استهل السيد بول جيبونز، الرئيس السابق لنادي " التفاؤل " في فيلادلفيا، خطابا عن " الجريمة " بهذه العبارات الساحرة :

       " يمتلك الشعب الأميركي أسوأ المجرمين في العالم . ورغم هذا التأكيد المدهش، الا أنه صحيح . ففي كليفلاند وأوهايو مجرمون يبلغ عددهم ستة أضعاف عدد المجرمين في لندن . ولصوص يبلغ عددهم مئة وسبعون ضعفا يسرقون المزيد من الناس في كل سنة . وهناك قتلى في نيويورك أكثر مما هناك في فرنسا وألمانيا وإيطاليا أو الجزر البريطانية . والحقيقة المؤسفة هي أن المجرم يذهب من دون عقاب . وان اقترفت جريمة، هناك فرصة أقل من واحد في المئة أنك ستعاقب بالإعدام . وأنت، كمواطن مسالم، هناك احتمال مقداره عشرة أضعاف، أن تموت من جراء مرض السرطان، على أن تعدم اذا ما أطلقت النار على رجل ".

       هذه الافتتاحية ناجحة، لأن السيد جيبونز يضع القوة المطلوبة والصدق وراء كلماته . فهي تنبض بالحياة .


          قيمة الافتتاحية التي تبدو طارئة

       هل ستعجبك هذه الافتتاحية ؟ ولماذا ؟ خطبت ماري إ . ريتشموند في الاجتماع السنوي لاتحاد النساء المقترعات قبل إقرار النظام المعادي للزواج المبكر :

       " تذكرت البارحة، فيما كان القطار يمر عبر المدينة، زواجا حدث منذ سنوات
قليلة . ولأن معظم الزيجات التي تحدث في هذه المقاطعة كانت متسرعة ومأساوية كتلك، سأبدأ بما سأذكره اليوم بالتفصيل عن تلك الحادثة .

       في 12 تشرين الأول، التقت فتاة الخامسة عشرة لأول مرة بفتى في الكلية المجاورة، والذي بلغ سن الرشد حديثا . وفي 15 تشرين الأول، أي بعد ثلاثة أيام فقط، عقدا زواجا مزورا بعدما أقسمت الفتاة أنها بلغت الثامنة عشرة وأنها ليست بحاجة الى موافقة ذويها . وبعدما غادرا مكتب المدينة بالعقد، اتجها الى الكاهن )كانت الفتاة كاثوليكية(، لكنه رفض تزويجهما . وبطريقة ما وربما عن طريق الكاهن، عرفت الأم بخبر محاولة الزواج . ولكن قبل أن تجد ابنتها، كان قاضيا قد زوج الاثنين . بعد ذلك نقل العريس عروسه الى الفندق حيث أمضيا يومين وليلتين ثم تركها ولم يعش معها ثانية ".

       أنا شخصيا، أحببت هذه الافتتاحية كثيرا . فالجملة الأولى جيدة لأنها تنبئ بحادثة مثيرة . ونحن نريد أن نستمع الى التفاصيل . وهكذا نصغي السمع الى قصة إنسانية مثيرة . بالإضافة الى ذلك، تبدو طبيعية جدا . فهي ليست نتيجة دراسة، وليست رسمية . . . " تذكرت البارحة، عندما مر قطار عبر المدينة، زواجا تم منذ  سنوات قليلة ". ان ذلك يبدو طبيعيا جدا وتلقائيا وانسانيا . كما انه يبدو وكأن
 إنسانا يسرد قصة مثيرة لإنسان آخر . فالجمهور يحب ذلك .


الفصل التاسع

كيف تختتم الخطاب ؟

       هل تود أن تعلم في أية أجزاء من خطابك تظهر عدم تجربتك ومهارتك
وبراعتك ؟ في الافتتاحية والخاتمة . هناك قول قديم عن المسرح يتحدث بالطبع عن الممثلين، وهو : " تعرفهم خلال دخولهم وخروجهم ".

       من خلال البداية والنهاية ! فهما من أصعب الأشياء التي تقوم بها خلال أي نشاط فمثلا، في الوظيفة الاجتماعية، أليس من أصعب الأعمال الدخول برشاقة والخروج برشاقة ؟ وخلال مقابلة عمل، أليس من أصعب المهمات أسلوب التقرب والانتهاء الناجح ؟

       ان الخاتمة في الحقيقة هي أكثر النقاط استراتيجية في الخطاب . فما يقوله الانسان في النهاية، أي ما يبقى يرن في آذان المستمعين - هو ربما الكلمات التي تبقى عالقة في أذهانهم . لكن المبتدئين نادرا ما يقدرون أهمية هذه الزاوية المفيدة . وغالبا ما تترك خاتمتهم بشكل لا يقبل به أحد .

       فما هي أخطائهم الشائعة ؟ لنناقش القليل منها ونبحث عن علاج لها .

       أولا : هناك من ينهي خطابه بـ : " هذا كل ما أملك قوله حول الموضوع، أظن أن من الأفضل أن أتوقف ".

       هذه ليست بنهاية . بل هي غلطة تفضح المبتدئ، وهي غير مغتفرة تقريبا . فان كان ذلك كل ما يمكنك قوله، لم لا تتوقف وتعود الى مقعدك من دون أن تتكلم عن التوقف ؟

       وهناك الخطيب الذي يقول كل ما عليه قوله، لكنه لا يدري كيف يختم خطابه . أعتقد أن جوش بيلينغ هو من نصح الناس بالإمساك بالثور من ذنبه . بدلا من قرنيه، لأن من السهل الإفلات منه . هذا الخطيب أمسك بالثور من قرنيه، ويريد التخلص منه، لكن برغم محاولاته، لن يستطيع التعلق بسياج أو شجرة . وهكذا يبقى ضمن الدائرة، يكرر نفسه، ويخلف انطباعا سيئا .

       ما هو العلاج ؟ يجب أن يخطط للخاتمة مسبقا، أليس كذلك ؟ فهل من الحكمة أن تحاول انشائها وأنت تواجه الجمهور فيما أنت واقع تحت ضغط وتأثير الخطاب، وفيما ذهنك مشغول بما تقوله ؟ ألا يقترح عليك المنطق فعل ذلك بهدوء ورصانة مسبقا ؟

       ان الخطباء المشهورين أمثال وبستر وبرايت وغلادستون، رغم معرفتهم الواسعة باللغة الانكيزية، شعروا أن من الضروري كتابة وحفظ الكلمات المناسبة لخاتمتهم .

       فاذا ما اتبع المبتدئ خطواتهم، فنادرا ما يندم على ذلك . ويجب أن يدرك بالتحديد الأفكار التي ينهي بها خطابه . ويجب أن يكرر خاتمته عدة مرات، من دون أن يستخدم بالضرورة الكلمات ذاتها خلال كل مرة، بل أن يترجم الأفكار الى كلمات .

       ان الخطاب المرتجل، خلال عملية الأداء، يجب أن يعدل في بعض الأحيان، وأن يقطع وينسق ليناسب التطورات غير المرتقبة ويتناغم مع انفعالات المستمعين، لذلك من الحكمة أن تخطط لخاتمتين أو ثلاثة . فان لم تتناسب إحداها، تتناسب الأخرى .

       بعض الخطباء لا يتوصل الى النهاية أبدا . ففي وسط رحلته، يبدأ بالتدخين والاختلال كالمحرك عندما يفرغ من الزيت . وبعد عدة اندفاعات يائسة، يتوقف تماما وينهار . انه بحاجة الى تحضير أفضل والى المزيد من التدريب والمزيد من الزيت .

       يتوقف الكثيرون من المبتدئين فجأة . وطريقتهم في الاختتام تنقصها السلاسة واللمسة الأخيرة . وبكلمات أوضح، ليست لديهم أية خاتمة . بل هم يتوقفون فجأة وبسرعة فتأتي النتيجة غير سارة وغير متقنة . وهي تبدو وكأن صديقا توقف فجأة أثناء محادثة اجتماعية، وتسلل من الغرفة من دون أن يخرج بلباقة .

       ما من خطيب أدنى من لنكولن اقترف هذا الخطأ في المسودة الأصلية لخطابه الافتتاحي الأول . ألقي هذا الخطاب في وقت عصيب . فقد كانت غيوم التفرقة والكراهية السوداء تعصف وتتجمع فوق الرؤوس . وبعد عدة أسابيع، أريقت الدماء وساد الخراب في الوطن . وعندما خاطب لنكولن سكان الجنوب، كان يقصد أن ينهي خطابه على هذا النحو :

       " ان مسألة الحرب الأهلية الراهنة هي بأيديكم يا رفاقي المواطنين، وليست بيدي . ان الحكومة لن تهاجمكم . لا يمكنكم أن تتنازعوا من دون أن تكونوا أنتم المهاجمين . وليس لديكم وعدا مسجلا في السماء للقضاء على الحكومة، فيما لدي وعد أهم أحافظ عليه وأحميه وأدافع عنه . باستطاعتكم مهاجمته . ولن أستطيع التملص من الدفاع عنه . ان مسألة السلام والحرب هي بين أيديكم، وليست بين يدي ".

       بعد ذلك قدم خطابه الى السكرتيرة سيوارد الذي أشار الى أن النهاية فظة جدا ومفاجئة ومثيرة . فحاول أ، يكتب الخاتمة، وفي الواقع، كتب اثنتين . وقد قبل لنكولن واحدة منها واستخدمها بعدما أجرى عليها تعديلا طفيفا . فكانت النتيجة أن فقد خطابه الافتتاحي الأول الفظاظة وعنصر المفاجأة المثيرة وبدا معتدلا وشاعريا :

       أكره أن أتوقف . فنحن لسنا أعداء، بل أصدقاء . ويجب ألا نكون أعداء . ومع أن عواطفنا قد توترت، فلا ينبغي أن تتحطم روابط الألفة بيننا . لتعزف أوتار الذاكرة الخفية، الممتدة من كل ساحة معركة وقبر وطني الى كل قلب حي وموقد في هذه الأرض الشاسعة، أنشودة الاتحاد لدى ملامستها ثانية مثلما تفعل عندما يلامسها أفضل ملاك لدينا ".

       كيف يستطيع المبتدئ أن يولد الشعور الملائم في نهاية خطابه ؟ هل من خلال قواعد آلية ؟

       كلا، فان ذلك كالتراث، دقيق جدا ولا يمكن معالجته كذلك . وهو مسألة شعور ووحي تقريبا . وعندما يشعر الخطيب أن ذلك تم بشكل متناغم ولائق، فكيف يمكنه أن يفعل ذلك بنفسه ؟

       لكن هذا الشعور يمكن أن ينمو، ويمكن لهذه التجربة أن تتطور الى حد ما، من خلال دراسة الطرق التي توصل اليها الخطباء المشهورين . هنا مثال، خاتمة خطاب ألقاه أمير وايلز أمام النادي الملكي في تورنتو :

       " أخشى أيها السادة أن أكون قد ابتعدت عن تحفظاتي عن نفسي القدر
الكثير . لكنني أردت أن أخبركم، كأعظم جمهور سنحت لي الفرصة التحدث اليه في كندا، عما أشعر به تجاه المسؤولية التي يفرضها علي مركزي ومسؤوليتي . يمكنني فقط أن أؤكد أنني سأسعى دائما للمحافظة على المسؤولية العظيمة وأن أكون جديرا بثقتكم ".

       ان الرجل الأعمى الذي يستمع الى هذا الخطاب، سيشعر أنه انتهى . فهو لم يترك يتأرجح في الهواء كالحبل المتدلي . ولم يترك بإهمال ودون إتقان، بل انه تم وانتهى .


              لخص أفكارك

       ان الخطيب ميال لتغطية أفكار كثيرة حتى في خطاب قصير تتراوح مدته بين ثلاث أو خمس دقائق . ومع ذلك، قلة من الخطباء تدرك ذلك . فهي تنقاد لافتراض أن تلك الأفكار واضحة وجلية في أذهانها، وبالتالي هي واضحة في أذهان المستمعين . لكن الأمر يختلف كليا . لأن الخطيب كان قد فكر مليا بما سيقوله . لكن أفكاره كلها هي جديدة بالنسبة للمستمع . وبعضها يعلق في الذهن، لكن معظمها يتدحرج باضطراب . والمستمع هو عرضة " لأن يتذكر مجموعة أشياء، ولكن ليس شيئا واحدا بوضوح ". مثلما قال إياغو .

       هنا مثل جيد . الخطيب هو منظم سير في أحد خطوط شيكاغو الحديدية :

       " باختصار أيها السادة، ان تجربتنا الخلفية بجهاز الخطوط، وتجربتنا في استخدامها في الشرق والغرب والشمال - والمبادئ الفعالة الكامنة وراء تشغيلها والمال الذي جرى توفيره في سنة واحدة من خلال الحؤول دون التحطم والحوادث، أثارني بصدق للإشادة بتجهيزات فرعنا الجنوبي الحالية ".

       هل تلاحظ ما الذي فعله ؟ تستطيع أن ترى ذلك وتلمسه من دون حتى أن تستمع الى بقية الخطاب . فقد جمع في جمل قليلة، في بضع كلمات، جميع النقاط التي ذكرها في خطابه .


              خاتمة مرحة

       قال جورج كوهان : " اتركهم دائما يضحكون عندما تقول وداعا ". اذا كانت لديك القدرة على فعل ذلك، يكون الأمر جيدا ! لكن كيف ؟ تلك هي المسألة، كما قال هاملت . وعلى كل انسان أن يفعل ذلك بطريقته الخاصة .

       قلما يتوقع المرء أن يغادر لويد جورج مجمع الميثودي ضاحكا بعدما يتحدث اليهم عن موضوع دون ويلسي تومب المتزمت . لكن لاحظ كيف تتدبر ذلك بذكاء . لاحظ أيضا كيف ينتهي الخطاب بجمال وسلامة :

       " أنا سعيد لأنكم تعهدتم إصلاح ضريحه . فقد كان رجل يمقت بشدة غياب النظافة والترتيب . وأعتقد أنه من قال : لنمنع أن يرى أحد ميثودي فقيرا . والأمر يعود اليه . اذ لم يرى واحدا منهم . ومن غير اللياقة أن تتركوا ضريحه من دون إتقان . تذكر ما قاله الى فتاة من دربي شاير كانت قد هرعت الى الباب عندما كان مارا وصاحت : " بارك الله فيك يا سيد وسلي ". فأجاب : أيتها الشابة، ستكون مباركتك أكثر قيمة لو أن وجهك وردائك نظيفان . هذا هو شعوره نحو الاتساخ . فلا تتركوا قبره وسخا . فاذا مر من هنا، سيتألم من ذلك أكثر من أي شيء . لذا اسعوا الى ذلك، فهو مزرا تذكاري مقدس . وهو في عهدتكم ".


              الاختتام بمقتطفات شعرية

       ليس هناك خاتمة أكثر استحسانا من تلك التي تأتي مرحة أو شعرية . وفي الحقيقة، اذا استطعت الحصول على قطعة شعرية ملائمة لنهايتك، يكون الأمر مثاليا . فهي تمنحك النكهة المطلوبة، وستمنحك الوقار والتفرد والجمال .

       اختتم السير هاري لودر خطابه أمام مندوبي نوادي الروتري الأميركية، أثناء مؤتمرهم في أدنبورغ على هذا النحو :

       " عندما تعودون الى منازلكم، ليرسل كل منكم بطاقة سياحية لي . سأرسل لكم واحدة اذا لم تفعلوا أنتم ذلك . وستعلمون بسهولة أنها مني لأنني لا ألصق عليها طابعا . لأنني سأكتب شيئا عليها وهو :

       " فصول تأتي وفصول تغيب .
       كل شيء يذوي في وقته، لكن هناك شيء ما زال يزهر كالندى،
       انه الحب والإخلاص اللذان أكنهما لكم ".

       هذه القطعة الشعرية تناسب شخصية هاري لودر، وما من شك في أنها تناسب نبرة خطابه . لذلك كانت ممتازة . ولو استخدمها شخص حازم متزمت في نهاية خطاب رسمي، لكانت غير ملائمة على الإطلاق، حتى أنها لتبدو في غاية السخف . وكلما مارست تعليم فن الخطابة، كلما اتضحت لي الرؤية والسرعة في الشعور أن من المستحيل تقديم قواعد عامة تناسب جميع المناسبات . فالأمر يعتمد كثيرا على الموضوع والزمان والمكان، وعلى الانسان نفسه . " فعلى كل إنسان أن يسعى لخلاصه " مثلما قال القديس بول .

       كنت ضيفا خلال حفل عشاء وداعي جرى تكريما لرحيل رجل اختصاصي من نيويورك . وقد نهض عدة خطباء لتحية وإطراء صديقهم الراحل، متمنين له النجاح في حقل نشاطه الجديد، من بين تلك الخطب، انتهى خطاب واحد بأسلوب لا ينسى، وهو الذي انتهى بقطعة شعرية، فالخطيب، مع العاطفة في صوته، التفت مباشرة نحو الضيف المغادر صائحا : " والآن، وداعا، أتمنى لك حظا سعيدا . أتمنى لك كل أمنية طيبة تتمناها لنفسك !

       انك لمست قلبي بأخلاقك الحميدة
       وتصرفاتك النبيلة :

       اني أدعو أن يشملك سلام الإيمان
       وأن تحوطك عناية رب العالمين
       في كل إيمانك
       انك لمست قلبي بأخلاقك الحميدة
       وتصرفاتك النبيلة
       فلنذهب في رعاية الله .

       تحدث السيد ج . أ . ايوت، نائب رئيس ل . أ . > . موتورز كومباني في بروكلين، الى موظفي شركته حول موضوع الإخلاص والتعاون .

       وقد انهى خطابه بهذه الكلمات القيمة :
والآن ها هو قانون الحياة، القديم والحقيقي
والانسان الذي يسير عليه يعيش بسعادة
أما الذي يخالفه فيبقى وحيدا .
ان سعادة الفرد في سعادة الجماعة، وتقدم
الإنسان رهن بتقدم المجتمع الذي يعيش فيه .


                    الذروة

       ان الذروة هي طريقة شائعة للاختتام . ومن الصعب تأليفها، وهي ليست بخاتمة لجميع الخطباء ولا لجميع المواضيع . لكن عندما تؤلف بإتقان، تكون ممتازة . فهي تعمل كقمة ترتفع جملها القوية تدريجيا والمثال الجيد عن الذروة نجدث في خاتمة الخطاب الذي فاز بالجائزة الأولى والذي يدور حول فيلادلفيا الذي مر معنا في الفصل الثالث . 

       لقد استخدم لنكولن الذروة في تحضير ملاحظاته لمحاضرة تدور حول شلالات نياغارا . لاحظ كيف أن كل مقارنة تأتي أقوى من السابقة، وكيف يحصل على نتيجة تصاعدية بمقارنة عمرها بعمر كولومبوس والمسيح وموسى وآدم، الى ما غير ذلك :

       " يعود ذلك الى الماضي الغابر - عندما اكتشف كولومبوس هذه القارة - عندما تعذب المسيح على الصليب - عندما قاد موسى بني إسرائيل عبر البحر الأحمر - بل حتى عندما خرج آدم لأول مرة من أيدي بارئه، عندئذٍ كانت شلالات نياغارا تخر . ان عيون العمالقة البارزين الذين تملأ عظامهم ركام أميركا، كانت قد حدقت بنياغارا، مثلما تفعل أعيننا اليوم . انها تعاصر الجنس البشري الأول، بل هي أقدم من الإنسان الأول، نياغارا هي قوية ونقية اليوم مثلما كانت منذ عشرة آلاف سنة . ان المومياء والمستودون )الحيوان البائد الشبيه بالفيل(، اللذان ماتا منذ زمن بعيد ولا تدل على وجودهما سوى بقاياها، كانا قد حدقا بنياغارا - التي لم تهدأ أو تجف أو تتجمد أو تستكين للحظة، منذ ذلك الزمن السحيق ".


                   حين  تشرف على الانتهاء

       اقتنص وابحث وجرب حتى تحصل على نهاية وبداية جيدتان . بعدئذٍ اربطهمامعا .

       ان الخطيب الذي لا يصيغ خطابه ليتناسب مع روح العصر السائدة والمتميزة بالسرعة، لن يكون موضع ترحيب، وفي بعض الأحيان، يثير كراهية الآخرين .

       حتى ان القديس سول من تارسوس أخفق في هذا المجال . ففي ذات يوم، وبينما هو يعظ، كبا أحد المستمعين واسمه إيتكوس وسقط من النافذة كاسرا عنقه . وربما لم يتوقف سول عن خطبته، فمن يدري ذلك ؟ وأذكر خظيبا، وهو طبيب، وقف مرة في نادي جامعة بروكلين . أثناء مأدبة عشاء طويلة تحدث خلالها عد من
الخطباء . كانت الساعة الثانية صباحا حين جاء دور ذلك الطبيب في الكلام . ولكن هل ألقى بضعة جمل وتركنا نعود الى منازلنا ؟ كلا . بل ألقى خطابا دام خمسا وأربعين دقيقة عن تشريح الأحياء ومناهضته لذلك . وقبل أن يصل الى منتصف خطابه، رغب المستمعون لو أنه يقع، مثل إيتيكوس، من النافذة، ويحطم شيئا، أي شي، حتى يصمت .

       ان أعظم خطاب ألقاه ألقاه المسيح، وهو " العظة على الجبل "، يمكن أن تكرر بخمس دقائق . وخطاب لنكولن في غيتسبرغ يتألف من عشر جمل فقط . وباستطاعة المرء أن يقرأ قصة الخلق في التوراة بوقت أقل مما يحتاجه لقراءة قصة جريمة في الصحيفة الصباحية . لذلك كن مختصرا !

       كتب الدكتور جونسون كتابا عن شعوب أفريقيا البدائية . فقد عاش بينهم وراقبهم طيلة تسع وأربعين سنة . وهو يقول أنه عندما يلقي خطيب خطابا طويلا جدا خلال اجتماع القرية، فان الجمهور يسكته بالصراخ : كفى ! كفى !

       ويقال أن قبيلة أخرى تسمح للخطيب بالتحدث طالما يستطيع وهو مرتكز على ساق واحدة . وعندما تلمس مقدمة ساقه الأخرى الأرض، يتوجب عليه التوقف عن الكلام .

       ورغم أن الجمهور العادي ربما يكون أكثر تهذيبا وتماسكا، الا أنه يكره الخطب الطويلة أيضا .

الفصل العاشر

كيف تجعل ما تعنيه واضحا

       خلال الحرب العالمية الأولى، تحدث كاهن إنكليزي شهير الى بضعة فرق غير مثقفة في معسكر آبتون . كانت تلك الفرق في طريقها الى الخنادق، لكن القليل منها كان لديه فكرة واضحة لماذا أرسل الى هناك . أعرف ذلك لأنني استجوبته . ومع ذلك، تحدث الكاهن الى أولئك الرجال تحت " الصداقة الدولية " وعن حق بلاد الصرب بمكان تحت الشمس ". أكثر من نصف الرجال لم يعرف ما اذا كانت الصرب مدينة أو مرض . وربما ألقى تأبينا جهوريا عن " الفرضية السديمية " )فرضية تقول أن النظام الشمسي نشأ عن سديم غازي( . ومع ذلك، لم يغادر أي جندي القاعة أثناء إلقائه الخطاب : فالشرطة العسكرية كانت جاهزة بأسلحتها لمنع كل من يحاول ذلك .

       لا أرغب في التقليل من شأن الكاهن . لأنه سيبدو قويا أمام جماعة من الجامعيين، لكنه فشل مع أولئك الجنود . وفشل تماما : لأنه لم يعرف جمهوره، ولم يعرف أيضا الهدف الحقيقي من خطابه ولا كيف ينجزه .

       فما الذي نعنيه بهدف الخطاب ؟ ان كل خطاب، ولا يهم ان كان الخطيب يدرك ذلك أم لا، لديه أربعة أهداف أساسية هي :

       1 - إيضاح شيء ما .
       2 - التأثير والإقناع .
       3 - الحث على التحرك .
       4 - التسلية .

       لنستعرض هذه الأهداف بسلسلة من الأمثلة الحسية :

       اخترع لنكولن، الذي كان دائما مهتما بالآلات الميكانيكية، آلة لرفع السفن الجانحة . كان يعمل في محل ميكانيكي قريب من مكتبه، حيث صنع نموذجا عن آلته . ومع أن آلته برهنت عن عدم فعاليتها، الا أنه قرر بحماس اكتشاف إمكانياتها . وعندما جاء أصدقاؤه الى مكتبه للاطلاع على النموذج، لم يكل من شرحها لهم . وكان هدف شرحه الإيضاح .

       وعندما ألقى خطابه الخالد في غيتسبرغ، وكذلك عندما ألقى أول وثاني خطاب افتتاحي، كان هدفه التأثير والإقناع . كان عليه أن يكون واضحا قبل أن يكون مقنعا مع أن الإيضاح لم يكن شرطا أساسيا في تلك المناسبات .

       خلال خطبه في المحاكم، كان يحاول الفوز بقرارات مهمة . وخلال خطبه السياسية، كان يحاول الفوز بالأصوات . فكان هدفه الحث على العمل .

       وقبل سنتين من انتخابه رئيسا، جهز لنكولن محاضرة حول الاختراعات . وكان هدفه التسلية . وعلى الأقل، يجب أن يكون ذلك هدفه، لكنه في الظاهر لم ينجح كثيرا في تحقيق ذلك . ومجرى حياته كخطيب غير سياسي كان فاشلا بوضوح . فلم يأت شخص واحد من المدينة للاستماع اليه .

       الا أنه نجح، ونجح نجاحا باهرا في الخطب الأخرى التي ذكرتها سابقا . لماذا ؟ لأنه في تلك الظروف، كان يعرف هدفه، وكان يعرف كيف يتوصل اليه . كان يعرف الى أين يريد الذهاب وكيف يصل الى هناك . ولأن معظم الخطباء يجهلون ذلك، يخفقون دائما ويحزنون .

       فمثلا : رأيت مرة أحد أعضاء الكونغرس الأميركي الذي أثار موجة من الاستهجان والصياح وأجبر على مغادرة مسسرح سباق الخيل القديم في نيويورك،
لأنه - من دون وعي - اختار الإيضاح هدفا له . كان ذلك خلال الحرب، وكان يتحدث عن كيفية تهيؤ الولايات المتحدة . فلم يرغب الجمهور أن يتعلم ذلك، بل أراد التسلية . فاستمع اليه بصبر وأدب مدة عشرة دقائق، ثم ربع ساعة آملا بانتهاء الخطاب
بسرعة . لكنه لم ينته . بل استمر في الحديث الى أن نفذ صبر الجمهور ولم يعد يتحمل المزيد . بدأ أحدهم يبدي استحسانه بسخرية، وخلال لحظة، كان آلاف الأشخاص يصفرون ويهتفون . لكن الخطيب كان بليدا ولم يستطع أن يتفهم شعور المستمعين، فتابع حديثه، وأثارهم واستمرت المعركة . ولما ضاق ذرعهم به، قرروا إسكاته . فارتفعت صيحات الاحتجاج . وأخيرا، أغرق غضبهم كلماته التي لم تعد تسمع حتى على مسافة عشرين قدما . فأجبر على الاستسلام والاعتراف بإخفاقهه والتراجع بذل .

       أفد من هذا المثل واعرف هدفك . إختره بحكمة قبل أن تباشر في التحضير لخطابك . إعرف كيف يتوصل اليه، ثم باشر بتنفيذه، والقيام بذلك بمهارة ومعرفة .


                استخدم المقارنة لزيادة التوضيح

       وبالنسبة للإيضاح : لا تستخف بأهميته أو صعوبته . لقد استمعت مرة الى شاعر إيرلندي أثناء أمسية قرأ خلالها عدة قصائد . فلم يفهم 10 % من المستمعين ما الذي يقوله . وهناك الكثيرون من الخطباء، الخصوصيين والعاميين، هم مثله .

       عندما تداولت مع السير أوليفر لودج في أصول فن الخطابة، شدد كثيرا على أهمية المعرفة والتحضير أولا وعلى بذل الجهد في سبيل الايضاح ثانيا .

       لدى اندلاع الحرب النفسية - البروسية، قال الجنرال فون مولتكي لقواده :
" تذكروا أيها السادة أن أي أمر لا يفهم جيدا لن يحقق جيدا ".

       لقد أدرك نابليون الخطر ذاته . وتعليماته الموجهة الى معاونيه كانت دائما :
" كونوا واضحين ! كونوا واضحين ! ".

       وعندما سئل الشاعر أحمد شوقي، لماذا يكت القصائد ذات الحكايات الخرافية قال : لأن الأمثال وحدها بدون حكاية عبارة جافة سرعان ما تنسى كما أنها لا تثير الإهتمام أما الحكاية فهي تستثير  اهتمام الطفل لمتابعة حوادثها حتى النهاية وبالتالي  لفهم العظة الأخلاقية التي هي هدف القصيدة ويقتنع بها .

       وعندما نتحدث عن موضوع غريب عن مستمعيك فهل تأمل أن تثير اهتمامهم بمجموعة من العموميات والألفاظ الطنانة الرنانة ؟

       هذا غير ممكن لأنك يجب أن تثير اهتمامهم أولا بموضوع الحديث ليكون لديهم الرغبة في السماع أولا والمتابعة ثانيا والفهم وهو المقصود أخيرا .

       ومتى تفهم الإنسان أي موضوع صار بإمكانه أن يحدد منه موقفا فإما أن يوافق ويؤيد وإما أن يعارض معارضة متفهمة، والإنسان عدو ما يجهل فاذا لم يتوصل الى فهم ما تريد وبأسلوب معقول فانه في أهون الحالات سيعارضك .

       ولكن في الكثير من الأحيان قد يصل الأمر حد إعلان العداء المباشر لما كنت تأمل منه تأييده .

       وكيف أوضح داوود رعاة ومحبة الله ؟

       ان الله هو راعيني، فلن أحتاج الى شيء . هو الذي يجعلني أستلقي فوق المروج الخضراء، ويقودني بجانب المياه الصافية الى المراعي الخضراء في هذه البلاد الجرداء، والى المياه الصافية حيث تستطيع الخراف أن ترتوي - فهؤلاء الفلاحون يستطيعون فهم ذلك .

       هنا مثال مدهش ونصف مسلي عن استخدام هذا المبدأ : كان بعض الإرساليات يترجم الإنجيل الى لغة قبيلة تعيش بالقرب من أفريقيا الإستوائية . وحين وصل الى هذا المقطع : " ومع أن خطاياك تكون قرمزية، فانها ستصبح بيضاء كالثلج ". فكيف يمكنه ترجمتها ؟ حرفيا ؟ لن يجدي ذلك . فالمواطنون هناك لم يجرفوا الثلج من جوانب الطريق في صباح شباطي أبدا . حتى لم يكن لديهم كلمة تعني الثلج . ولم يستطيعوا التفريق بين الثلج والفحم . لكنهم كثيرا ما يتسلقون شجر جوز الهند للحصول على عدد منها لأجل غذائهم . وهكذا شبهت الإرساليات المجهول بالمعلوم، وغيرت المقطع : " ومع أن خطاياك قرمزية، فانها ستصبح بيضاء كلب جوزة الهند ".

       في كلية المعلمين في وارنسبورغ، ميسوري، استمعت الى أستاذ يلقي محاضرة عن ألاسكا . وقد فشل في مختلف جوانب محاضرته فلم يكن واضحا ومثيرا، لأنه خلافا لتلك الإرساليات الأفريقية، أهمل الحديث عما يعرفه المستمعون . فقد أخبرنا مثلا أن مساحة ألاسكا 804،590 ميلا مربعا .

       نصف مليون ميل مربع - ما الذي يعنيه ذلك لرجل عادي ؟ القليل جدا . فهو ليس معتادا على التفكير بالنسبة للأميال المربعة . فلم يقدر على تخيل ذلك . ولم تكن لديه أية فكرة أن نصف مليون ميل مربع هي بحجم ماني أو تكساس تماما . لنفترض أن الخطيب قال ان الخط الساحلي في ألاسكا وجزرها هو أطول من المسافة التي تزنر الأرض، وأن مساحتها هي أكبر من مساحة فيرمونت وفلوريدا . ألن يعطي ذلك تعريفا واضحا عن مساحة ألاسكا ؟


              تجنب التعابير التقنية

       اذا كنت من ذوي الاختصاصات التقتنية - اذا كنت محاميا أو طبيبا أو مهندسا، فضاعف حذرك حين تتحدث الى الآخرين، وعبر عن نفسك بتعابير واضحة مقدما التفاصيل الضرورية .

       وأنا أقول ضاعف حذرك، فبصفتي كاختصاصي، استمعت الى مئات الخطب التي فشلت أمام هذه النقطة فشلا ذريعا . وبما أن الخطباء بدوا وكأنهم غير واعين جهل سائر الجمهور بالنسبة لاختصاصهم فما الذي حدث ؟ تحدثوا على نحو غير مترابط وقدموا أفكارا مستخدمين تعابير تناسب تجربتهم . لكنها بالنسبة لغير الخبراء، كانت بصفاء نهر المسيسيبي بعد مطر حزيران وتدفقه الى حقول الذرة في إيوا وكنساس .

       ماذا يجب أن يفعل مثل هذا الخطيب ؟ يجب أن يقرأ ويحفظ النصيحة التالية التي خطها السيناتور بيفردج، من أنديانا :

       " انه لعمل جيد أن تختار انسانا يبدو الأقل ذكاء من بين الجمهور وتحاول أن تثير اهتمامك بنقاشك، وهذا ما يمكن فعله فقط من خلال العبارة النيرة والتفكير الواضح . والطريقة الأفضل تكمن في أن تركز حديثك على فتى أو فتاة صغيرة تكون حاضرة برفقة والديها .

       قل في نفسك - وان أحببت، قل بصوت مرتفع - انك ستحاول أن تكون واضحا حتى أن الطفل سيتفهم ويتذكر شرحك للمسألة التي تناقشها، حتى ان ذلك الطفل سيكون قادرا على قول ما ذكرته ".

       أذكر أنني استمعت الى طبيب ذكر خلال حديثه : " أن التنفس البطني هو مساعد بارز لعمل الأمعاء التمعجي وهبة للصحة ". وكان على وشك البدء بجملة
مماثلة . فأوقفته وطلبت ممن فهم هذا المبدأ أن يرفع يديه ويخبرنا كيف هذا النوع من التنفس يفيد الصحة، وبم يختلف عن سائر أنواع التنفس . ونتيجة الاقتراع أذهلت الطبيب، فعاود وشرح بإسهاب :

       " ان الحجاب الحاجز هو عضلة دقيقة بمثابة أرضية للصدر في أسفل الرئتين، وسقف للفجوة البطنية . وعنما لا تبذل جهدا، وخلال تنفس الصدر، تنحني كوعاء الغسيل .

       والتنفس البطني، مع كل نفس، يدفع هذا القوس العضلي حتى يصبح مسطحا تقريبا، وباستطاعتك أن تشعر بأن عضلات معدتك تضعك على حزامك . هذا الضغط السفلي من قبل الحجاب الحاجز ينشط ويثر الأعضاء العليا في الفجوة البطنية - أي المعدة والكبد والبنكرياس والطحال والضفيرة الشمسية )شبكة من الأعصاب في فم المعدة( .

       عندما تتنفس ثانية، تضغط على معدتك وأمعاؤك على الحجاب الحاجز وتتلقى تدليكا آخرا . هذا التدليك يساعد في عملية الإفراز .

       ان كثيرا من العلل تنشأ في الأمعاء . وأكثرية سوء الهضم والإمساك والتسمم الذاتي ستختفي اذا ما تحركت الأمعاء والمعدة بشكل جيد من خلال التنفس البطني العميق ".


              سر وضوح لنكولن

       كان لنكولن يعشق تقديم المقترحات حتى تتضح الأمور للجميع . ففي رسالته الأولى التي وجهها الى الكونغرس، استخدم عبارة " مكسو بالسكر ". فاقترح عليه السيد ديفريز، الطابع المحلي الذي كان صديقه الشخصي، أن هذه العبارة، رغم صلاحيتها في خطاب شعبي يلقي في إيللنوا، الا أنها لا تناسب خطاب دولة تاريخي . فأجاب لنكولن : " حسنا يا دريفريز، اذا كنت تعتقد أن الوقت سيحين عندما لن يفهم الناس ماذا تعنيه عبارة " مكسو بالسكر "، فأظن أنني سأتخلى عنها ".

       وشرح ذات مرة الى الدكتور غاليفر، رئيس جامعة نوكس عن كيفية نمو حبه للغة السهلة، فقال :

       " من خلال ذكرياتي الباكرة، أتذكر عندما كنت طفلا أنني اعتدت على الإنزعاج من أي إنسان يتحدث الى بطريقة لا أفهمها .

       ولا أعتقد أنني كنت أنزعج من أي شيء غير ذلك في حياتي . لكن ذلك أثار غيظي دائما، أستطيع أن أتذكر العودة الى غرفة نومي الصغيرة بعد الاستماع الى حديث جرى بين الجيران ووالدي أثناء السهرة . فأقضي معظم الليل يقظا أحاول أن أجد معنى واضحا لبعض أقوالهم . لم أستطع النوم، برغم محاولتي الدائبة لذلك، وعندما أكتشف معنى فكرة، لا أقتنع الا بعد أن أكررها مرارا، وأصيغها بلغة سهلة يستطيع أي فتى أن يفهمها . هذا هو نوع من المحبة الذي بقي يلازمني منذ ذلك الحين ".

       محبة ؟ أجل، لقد تطور الأمر لديه ليصبح كذلك . وقد ذكر مدير مدرسة نيو سالم، منتور غراهام " علمت أن لنكولن كان يدرس لساعات الفكرة ليستطيع التعبير عنها ".

       والسبب الشائع لفشل الناس في الإيضاح هو : ان الشيء الذي يرغبون في إيضاحه ليس واضحا تماما لديهم . فتأتي تعابيرهم غامضة وأفكارهم غير واضحة . والنتيجة ؟ تعمل أذهانهم بضباب فكري مثلما تفعل الكاميرا في الضباب الحقيقي . ويجب أن ينزعجوا من الغموض والإبهام مثلما كان لنكولن . وعليهم أن يستخدموا طرقه .


          كرر أفكارك المهمة بطرق مختلفة

       ذكر نابوليون أن التكرار هو المبدأ المهم الوحيد في فن الخطابة . لقد أدرك ذلك، لأن الفكرة التي تتضح له يستوعبها الآخرون بسرعة . وكان يدرك أن تفهم الأفكار الجديدة يحتاج الى وقت طويل، وأن على الذهن أن يبقى مسلطا عليها . وباختصار، عرف بوجوب تكرارها، لكن ليس باللغة ذاتها . فالناس تنفر من ذلك، لكن اذا جاء التكرار بعبارات جديدة مختلفة، لن يعتبرها المستمعون تكرارا .

       لنأخذ مثلا محددا . قال السيد برايان :

       " لن تستطيع أن تجعل الناس يفهمون موضوعا الا عندما تفهمه أنت . وكلما اتضح الموضوع في ذهنك، كلما استطعت تقديمه بوضوح في أذهان الآخرين ".

       ان آخر جملة هنا هي مجرد تكرار للفكرة التي أتت في الجملة الأولى، لكن عندما تذكرا هاتان الجملتان، لن يتاح للذهن أن يدرك أنها مجرد تكرار . بل انه يشعر أن الموضوع قد ازداد وضوحا .

       نادرا ما أدرس جزءا واحدا ن برنامجي من دون الاستماع الى عدة أحاديث تكون أكثر وضوحا وتأثيرا، يستخدم الخطيب فيها مبدأ التكرار . لكن هذه الوسيلة يتجاهلها المبتدئ، وكم ذلك مؤسف !


          إستخدم أمثلة عامة ووقائع محددة

       ان احدى الوسائل المضمونة والسهلة التي توضح أفكارك هي إلحاقها بأمثلة عامة ووقائع محددة . فما هو الفرق بين الإثنين ؟ الأول، هو مثلما تعني الكلمة، عام، والآخر محدد .

       لنعط أمثلة تفرق بين الإثنين ونزودها بأمثلة مادية . ولنأخذ هذه العبارة :
" هناك رجال ونساء أخصائيون يكسبون أجورا مرتفعة جدا ".

       هل هذه العبارة واضحة جدا ؟ وهل لديك فكرة واضحة عما يعنيه الخطيب ؟ كلا،  والخطيب نفسه ليس متأكدا من المعنى الذي سيراود أذهان الآخرين . فهو ربما يدفع الطبيب في ريف جبال أوزراك للتفكير بطبيب عائلة في مدينة صغيرة، يتقاضى أجرا قدره خمسة آلاف دولار . وربما يدفع مهندس تنقيب الى التفكير برجال من ذوي اختصاصه والذين يكسبون أجرا قدره مئة ألف دولار في السنة . ان العبارة كما هي، غامضة جدا وهزيلة . وهي تحتاج الى شيء من القوة . ويجب تزويدها ببعض التفاصيل التي توضح نوع الاختصاص الذي يقصده الخطيب .

       " هناك محامون وملاكمون محترفون وكاتبو أغاني وروائيون وكاتبو مسرح ورسامون وممثلون ومطربون، يكسبون أكثر من رئيس الولايات المتحدة ".

       والآن، ألم يحصل الإنسان على فكرة أوضح عما يعنيه الخطيب ؟ ومع ذلك، لم يحدد، بل استخدم أمثلة عامة، وليس وقائع محددة . فقد قال " مطربون " وليس روزا بونسيلي، كيرستن فلاغستاد أو ليلي بونز .

       لذلك، فان العبارة ما تزال غامضة، ولا تستطيع الحصول على حالات محددة توضحها . ألا يجب أن يفعل الخطيب ذلك لنا ؟ ألن يكون أوضح اذا ما استخدم أمثلة محددة - مثلما استخدم في المقطع التالي ؟

       يجني المحاميان العظيمان صموئيل أنتر ماير وماكس ستيوير ما يقارب مليون دولار في السنة . ودخل جاك ديمبسي السنوي يقارب النصف مليون دولار . وجو لويس، الشاب الزنجي غير المتعلم والملاكم المحترف، كان يكسب أكثر من نصف مليون دولار . وكان سيدني كينغسلي يتقاضى عشرة آلاف دولار أسبوعيا لرواياته . واعترف هـ . ج . ويلز في مذكراته، أن قلمه أكسبه ثلاثة ملايين دولار . وكسب دياغو ريفيرا من خلال رسومه أكثر من نصف مليون دولار في السنة . كما كانت كاترين كورنيل ترفض باستمرار استلام خمسة آلاف دولار في الأسبوع مقابل عرض صورها .

       والآن، ألم يحصل الفرد على فكرة واضحة تماما عما يريد الخطيب قوله ؟

       كن واقعيا ومحددا . اذ أن صفة التحديد لا تزيد من الوضوح فحسب، بل انها تزيد من الإقناع والإثارة والتسلية أيضا .


              لا تنافس ماعز الجبل

       توقف البروفسور وليم جايمس في أحد خطبه ليذكر أن باستطاعة المرء أن يذكر نقطة واحدة خلال المحاضرة، والمحاضرة التي أشار اليها دامت ساعة . ومع ذلك، استمعت الى خطيب حدد وقت خطابه بثلاثة دقائق، استهل بالقول أنه أراد أن يلفت انتباهنا الى احدى عشرة نقطة . أي ستة عشرة ونصف ثانية لكل مرحلة من مراحل خطابه ! يبدو ذلك غير معقولا، أليس كذلك ؟ هل يحاول إنسان ذكي القيام بشيء سخيف كهذا ؟ صحيح أنني أقتبس حالة متطرفة، لكن الميل الى الخطأ على هذا النحو، ان لم يكن الى هذه الدرجة، تشل كل مبتدئ تقريبا . فهو كالدليل الذي يطلع السياح على باريس كلها في يوم واحد . وهذا ما يمكن فعله مثلما يمكن للمرء أن يسير عبر المتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي خلال ثلاثين دقيقة . لكن لن ينتج عن ذلك الوضوح ولا التسلية . وغالبا ما يفشل الخطاب لأن الخطيب يبدو وكأنه يسعى لإنشاء سجل العالم خلال وقت محدد . فيقفز من نقطة لأخرى بسرعة ورشاقة ماعز الجبل .

       يجب أن يكون معظم الخطب قصيرا، لذلك فصل القماش طبقا لها . فان كنت تتحدث الى نقابة عمال مثلا، لا تحاول أن تخبرهم خلال ثلاثة أو ستة دقائق عن سبب نشوئها والطرق التي تتبعها والإنجازات الجيدة التي حققتها والشرور التي أبعدتها، وكيف تحل النزاعات الصناعية . كلا، فاذا كنت تسعى لفعل ذلك، لن يكون لدى أي واحد فهم واضح جدا لما تقوله . بل سيكون الأمر مختلطا وغامضا واستعراضيا .

       أليس من الحكمة أن تتناول موضوعا واحد عن النقابات العمالية، فتغطيه بشكل ملائم وتزوده بالأمثلة ؟ ان ذلك يفيد، وهذا النوع من الخطب يخلف انطباعا واحدا . وهو أيضا واضح يسهل الاستماع اليه وتذكره، لكن اذا غطيت عدة جوانب من موضوعك، من الأفضل أن تكون موجزا في النهاية .


الفصل الحادي عشر

كيف تثير اهتمام جمهورك ؟

       هذه الصفحة التي تقرأها الآن، وقطعة الورق التي تحدق فيها - هي عادية جدا، أليس كذلك ؟ لقد رأيت آلاف لا تحصى مثلها . حتى انها تبدو مملة وتافهة، لكن اذا أخبرتك حقيقة غريبة عنها، فمن المؤكد سيثار اهتمامك . لنرى ذلك ! تبدو هذه الصفحة كالمادة الجامدة . لكنها في الواقع تشبه خطيوط العنكبوت . فالعالم يدرك أنها تتألف من ذرات . وكم هو حجم الذرة ؟ لقد تعلمنا أن هناك الكثير من الذرات في نقطة المياه مثلما هناك نقطا ماء في البحر المتوسط، وأن عدد تلك الذرات يوازي عدد الأعشاب النامية في العالم . ومم تتألف الذرات التي تكون هذه الصفحة ؟ من أشياء أصغر من الذرات تدعى الإلكترونات والبروتونات . وتلك الإلكترونات والبروتونات تدور حول بروتون مركزي بعيد بعد بعد القمر عن الأرض . وهي تتأرجح في مدارها، بسرعة توازي عشرة آلاف ميل في الثانية . وهكذا، فان الإلكترونات التي تؤلف هذه الورقة التي تمسكها، تحركت منذ بدأت في قراءة أول جملة، مسافة تمتد بين نيويورك وطوكيو . . .

       ومنذ دقيقتين فقط، كنت تفكر أنها ساكنة ومملة لكنها في الواقع إحدى الغوامض الإلهية . وهي أعصارا متنوعا من الطاعة .

       اذا أصبحت مهتما بها الآن، فالسبب هو أنك تعلمت حقيقة جديدة وغريبة عنها . وهناك يكمن أحد الأسرار التي تثير الناس، ألا وهي الحقيقة التي يجب أن يفيد منها الإنسان في حياته اليومية . فالقديم لم يعد يجذبنا، نحن نريد أن نخبر بشيء جديد عن القديم . لا تستطيع مثلا أن تثير مزارع من إيللنوا بوصف كاتدرائية بورغز أو الموناليزا. فهي جديدة جدا بالنسبة اليه، ولا ترتبط باهتماماته القديمة، لكنك تستطيع إثارة اهتمامه بالقول ان المزارعين في هولندا يفلحون الأرض الى مستوى أدنى من مستوى البحر، ويحفرون حفرا تمثل أسيجة ويبنون الجسور لتكون كالبوابات . ان مزارع إيللنوا سيستمع فاتحا فاهه عندما تخبره أن المزارعين الدانماركيين يحتفظون بأبقارهم تحت السقف الذي يأوي عائلاتهم طيلة فصل الشتاء، وأن تلك الأبقار، في بعض الأحيان، تنظر عبر الستارات لتزيل الثلج عن النوافذ، انه يعرف الأبقار والأسيجة - وتمنحه معلومات جديدة عن أشياء قديمة . وهكذا سيندهش ويندهش إزاء هذه الحقائق، وسيسرد هذه القصة أمام أصدقائه .

       هنا خطاب آخر . وفيما أنت تقرأه، لاحظ ان كان يثيرك .
       ان كان يثير اهتمامك، هل تدري لماذا ؟  

          كيف يؤثر بك حمض الكبريتيك

       معظم السوائل تقاس عادة بواسطة البينت أو الكورت )ربع غالون(، الغالون أو البرميل . ونحن عادة نتحدث عن كورت نبيذ أو غالونات من الحليب وبراميل من الدبس. وعندما يتم اكتشاف مصد جديد للنفط، تتحدث عن مردوده بعدد البراميل التي تنتج في اليوم . هناك سائل واحد يصنع ويستهلك بمثل هذه الكمية الضخمة والتي تقاس بالطن. ذلك السائل هو حمض الكبريتيك .

       انه يتدخل في حياتك اليومية بعدة طرق . فلولا حامض الكبريتيك، لتوقفت سيارتك . وسيتوجب عليك العودة الى فرس المزرعة والى البوجيه، )العربة الخفيفة التي يجرها حصان واحد( . انه يستخدم في تنقية البنزين وزيت المحرك المصابيح الكهربائية التي تنير مكتبك والتي تشع على مائدة العشاء، والتي تنير لك طريقك الى السرير، لن تكون ممكنة من دونه .

       حين تنهض في الصباح وتدير المياة للاستحمام، تستخدم صنبورا مكسوا
بالنيكل الذي يحتاج الى حمض الكبريتيك في صنعه . كما أنه ضروري لإنجاز
مغطسك المصقول . قطعة الصابون التي تستخدمها، لا بد أن الزيوت والشحوم التي صنعت منها، قد عولجت بذلك الحمض . ومنشفتك كانت رفيقته قبل أن تصبح رفيقتك . شعيرات فرشاتك احتاجت اليه . مشطك السليلودي لا ينتج من دونه . ومن دون شك، فان شفرتك تحمضت به قبل أن تصبح صلبة .

       ترتدي ملابسك الداخلية، وتززر عباءتك الخارجية . ان الصباغ . وصانع الأصباغ استخدمه . ولا بد أن صانع الأزرار وجده ضروريا لإنجازها، والدابغ استخدم حمض الكبريتيك في صناعة حذاءك كما أنه يفيد ثانية عندما نرغب في تلميعه .

       تأتي لتناول الفطور . ان الفنجان والمقلاة وغيرها من الأوعية البيضاء، لن تكون كذلك من دونه . فهو يستخدم في التلميع والألوان الزاهية . كما أن ملعقتك وشوكتك وسكينك تعرضت لحمام في حمض الكبريتيك اذا كانت مطلية بالفضة .

       ان القمح الذي منه صنع خبزك لا بد أنه نما من جراء استخدام سماد فوسفاتي، يرتكز في تصنيعه على هذا الحمض .

       الى غير ذلك في يومك بأكمله، فان عمله يؤثر بكل ما لديك . اذهب حيثما تشاء، فأنت لن تستطيع أن تتجنب تأثيره . اننا لا نستطيع أن نذهب الى الحرب من دونه، ولا أن نعيش بسلام من دونه . وهكذا قلما يبدو معقولا أن هذا الحمض الضروري للإنسان، لا يعرفه الإنسان العادي . . .


          أكثر ثلاثة أشياء إثارة في العالم

       ما هي تلك الأشياء ؟ انها الجنس، الملكية، والدين بواسطة الأولى نجدد الحياة، وبواسطة الثانية نحافظ عليها، وبواسطة الثالثة نأمل في استمرارها .

       ان الجنس الذي نمارسه وملكيتنات وديننا هم الذين يثيرون اهتمامنا . واهتمامنا ينبع من ذواتنا .

       نحن لا نهتم بخطاب يدور حول " كيف تسجل الوصايا في البيرو "، لكننا نهتم بخطاب عنوانه : " كيف نسجل وصايانا ". لا نهتم بالدين السائد في الهند - الا من خلال فضولنا، لكننا نهتم بدين يضمن لنا سعادة أبدية في العالم الآخر .

       عندما سئل اللورد نورثكليف عما يهم الناس، أجاب بكلمة واحدة : أنفسهم . لا بد أن نورثكليف يدرك ذلك لأنه كان مالك أغنى صحيفة في بريطانيا العظمى .

       هل تود أن تعرف أي نوع من الناس أنت ؟ اننا نعالج الآن موضوعا مثيرا . فنحن نتحدث عنك، اننا نمسك بمرآة تظهر نفسك الحقيقية، فتراها كما هي تماما . راقب أحلام اليقظة لديك . ما الذي نعنيه من خلال عبارة أحلام اليقظة ؟ لندع البروفسور جايمس هارفي روبنسون يجيب على ذلك . هنا مقطع من كتاب " العقل في طور الصنع " :

       " نحن جميعا نبدو أننا نفكر طيلة الوقت أثناء ساعات اليقظة، ومعظمنا يدرك أننا نبقى نفكر أثناء نومنا، وبشكل يختلف عن يقظتنا . وعندما لا تقاطعنا مسألة علمية، ننشغل بأحلام اليقظة . فهذا أفضل أنواع التفكير التلقائي . اذ نسمح لأفكارنا أن تتخذ مجراها الذي تحدده آمالنا ومخاوفنا ورغباتنا التلقائية، وتحقيقها أو كبتها . فليس هناك أي شيء أحب الينا من أنفسنا . والفكر الذي لا ينشغل ويوجه، سيدور حول الأنا، انه لأمر مسل ان نراقب ميولنا وميول الآخرين . ونحن نسعى بدأب الى تخطي هذه الحقيقة، لكن اذا ما تجرأنا وفكرنا بها، فانها ستلهبنا كشمس الظهيرة .

       تشكل أحلام اليقظة الدلالة الرئيسية لشخصيتنا . وهي انعكاس لطبيعتنا التي تعدلها تجاربنا الخفية أو المنسية . . . وأحلام اليقظة تؤثر من دون شك بميولنا الى تضخيم ذواتنا وتبرير أنفسنا اللتان يتركز العمل عليهما .

       لذلك تذكر أن الناس الذين تتحدث اليهم يقضون معظم وقتهم، عندما لا ينشغلون بعمل المنزل أو بالأعمال المهنية، بالتفكير بأنفسهم وتبرير وتمجيد ذواتهم . تذكر أن الإنسان العادي يهت أكثر بالطباخ الغائب أكثر من اهتمامه بدفع ديون إيطاليا للولايات المتحدة . ويهتم بشفرة الحلاقة أكثر مما يهتم بثورة تقع في أميركا الجنوبية . وألم أسنان المرأة يحزنها أكثر مما يحزنها زلزال يقع في آسيا، يذهب ضحيته نصف مليون إنسان . وتفضل الاستماع الى شيء لطيف تذكره عنها على أن تحدثها عن أعظم الرجال في التاريخ ".


                كيف تكون محدثا جيدا

       ان سبب إخفاق الكثيرين في أن يصبحوا محدثين جيدين هو حديثهم عن الأشياء التي تثير اهتمامهم فقط . وربما يكون هذا مملا للآخرين . اعكس الآية . استدرج الشخص الآخر للتحدث عن اهتماماته وعمله وأهدافه في لعبة الغولف وعن نجاحه - أو، اذا ما كانت أما، عن أطفالها . إفعل ذلك واستمع بإصغاء فتمنحها السرور، وستعتبر محدثا لبقا - مع أنك لم تتحدث الا قليلا .

       ألقى السيد هارولد دويت من فيلادلفيا خطابا حقق نجاحا باهرا، خلال مأدبة عشاء اختتمت فصلا من فصول تعليم فن الخطابة، فتحدث عن كل رجل بمفرده، وأخبرهم كيف كانوا يخطبون في بداية الفصل، وكيف تطوروا، وأعاد قراءة الخطب التي ألقاها مختلف الأعضاء، والمواضيع التي ناقشوها، فسخر من بعضهم وبالغ في وصف أخطائهم، فأثار ضحك الجميع وأدخل السرور الى قلوبهم . فلا يمكن أن يفشل من خلال أسلوبه هذا . وليس هناك أي موضوع يمكن أن يثير اهتمام تلك المجموعة أكثر من ذلك الموضوع . فقد كان يعرف السيد دويت كيف يعالج الطبيعة البشرية .

          نوع المواضيع التي تجذب الانتباه

       ربما تسئم الناس اذا ما تحدثت عن الأشياء والأفكار، لكن قلما تفشل في جذب انتباههم عندما تتحدث عن الناس . غدا تجري ملايين المحادثات وراء أسيجة الحدائق في أميركا، وفوق موائد الشاي والعشاء - فما هي الأشياء التي تتمحور المحادثات حولها ؟ الشخصيات ! هو قال ذلك، السيدة فلانة فعلت هذا، رأيتها تفعل هذا وذاك .

       لقد خاطبت تجمعات كثيرة لطلبة المدارس في الولايات المتحدة وكندا، وأدركت، من خلال التجربة، أنه من أجل جذب اهتمامهم، يجب أن أسرد لهم قصصا عن الناس . وحالما أصبح عاما وأعالج الأفكار المجردة، يقلق جوني ويبدأ بالتململ، يتجهم تومي في وجه صديقه، ويلقي بيل بشيء عبر الممر .

       طلبت مرة من مجموعة رجال أعمال أميركيين في باريس أن يتحدثوا عن
" كيف تنجح ؟ ". معظمهم تحدث عن الفضائل وامتدحوها حتى أدخلوا السأم في
قلوب المستمعين .

       أوقفت تلك الأحاديث، وقلت : " نحن لا نريد أن نتعلم . وما من أحد يستمتع
بذلك . تذكر أنك يجب أن تكون مسليا، والا لن يكترث أحد بما تقوله . تذكر أيضا أن أكثر الأشياء إثارة للاهتمام في العالم هو الحديث عن الناس . فأخبرنا قصصا عن شخصين تعرفهما . أخبرنا لم نجح أحدهما وفشل الآخر . فنحن سنكون في غاية السرور للاستماع الى ذلك . تذكر هذا الشيء واستفد منه . لأنه أسهل بكثير من إلقاء المواعظ المجردة التافهة .

      
               كن موضوعيا

       كان لدى المؤلف، في معهد فن الخطابة، دكتورا في الفلسفة وشخصا فظا، لكن فعالا، أمضى شبابه، منذ ثلاثين سنة، في البحرية البريطانية . كان المثقف المهذب أستاذا جامعيا، ورفيقه مالكا لمؤسسة تصنع القاطرات . وما يثير الدهشة أن خطب صانع القاطرات، خلال الدورة، كانت تلقى استحسانا وشعبية أكثر بكثير من خطب الأستاذ الجامعي . لماذا ؟ كان الأستاذ يتحدث بلغة منمقة سليمة وبمنطق ووضوح ؟ لكن خطبه يعوزها عنصرا أساسيا، وهو الأحداث الواقعية . فكانت غامضة وعامة جدا . من ناحية أخرى، كان صانع القاطرات يتجه الى العمل في الحال . فكان محددا وواقعيا . هذه الصفة، بالإضافة الى قوته وعباراته التلقائية الجديدة، جعلت أحاديثه مسلية للغاية .

       لم أذكر المثال على أنه نموذج تطبيقي للرجال الجامعيين وصانعي القاطرات، بل لأنه يمثل قوة جذب الاهتمام التي تنشأ لدى الانسان - بعيدا عن تعليمه الرسمي - بحيث يكتسب عادة جيدة هي عادة التعبير بواقعية وتحديد أثناء الخطاب .

       ان هذا المبدأ مهم جدا، حتى اننا سنستخدم عدة أمثلة من أجل تثبيته في ذهنك ونأمل أن لا تنساه وأن تهمله أبدا .

       من المثير جدا أن تذكر أن ما رتن لوثر كان عنيدا عندما كان صبيا . ومن الأفضل القول انه اعترف بأن أساتذته كانوا يجلدونه خمسة عشرة مرة قبل الظهر .

       ان كلمة " عنيد " لديها قيمة ضئيلة لجذب الاهتمام، لكن أليس من السهل الاستماع الى عدد الجلدات ؟

       تعالج الطريقة القديمة في كتابة السير الذاتية الكثير من الأفكار العامة، التي دعاها أرسطو " ملاذ العقول الضعيفة ". بينما الطريقة الجديدة تعالج الحقائق الملموسة التي تعبر عن ذاتها . قال كاتب السيرة القديم ان جون و ولد في عائلة " فقيرة لكن شريفة ". بينما تقول الطريقة الحديثة أن والد جون دو لم يكن ليستطيع شراء حذاء . وهكذا عندما ينهمر الثلج، يتوجب عليه ربط كيس خيش حول حذائه البيتي لتبقى قدماه جافتين دافئتين . لكن برغم فقره، لم يضف الماء الى الحليب أو يبيع حصانا مصابا بالربو ويتظاهر بأنه يتمتع بصحة جيدة . ان هذا يظهر أن والديه كانا " فقيرين لكن شريفين "، أليس كذلك ؟ أليست هذه الطريقة أكثر إثارة من طريقة القول " فقير لكن شريف " ؟

       اذا كانت هذه الطريقة تفيد كتاب السير الحديثين، فانها تفيد الخطباء الحديثين أيضا .

       لنأخذ مثالا آخرا . لنفترض أنك ترغب في القول بأن القوة الكامنة التي تهدر في نياغارا يوميا هي مذهلة . لنفترض أنك قلت ذلك فقط، ثم أضفت، أنها اذا ما استخدمت وخصصت الأرباح لشراء ضروريات الحياة، فان الجماهير تتمكن من الحصول على الكساء والغذاء . فهل ذلك يجعل طريقتك في الأداء مثيرة ومسلية ؟ كلا . أليست هذه القطعة المأخوذة من " نشر العلوم اليومية "، وبقلم أدوين س . سلوسون، هي أفضل بكثير ؟

        " قيل أن هناك بضعة ملايين من السكان يعانون من الفقر وسوء التغذية في هذا البلد، ومع ذلك، يهدر في نياغارا حوالي 000،250 رغيفا من الخبز في الساعة . ونستطيع أن نرى في مخيلتنا 000،600 بيضة طازجة تسقط فوق المنحدرات في كل ساعة وتؤلف عجة عملاقة في الدوامة . واذا ما حيك القماش الخام على نول عرضه 4000 قدما كنهر نياغارا، فانه سيمثل القضاء على العري . وان وضعت مكتبة كارنيجي تحت الينبوع، فانها ستمتلئ بالكتب الجيدة خلال ساعة أو اثنتين . أو يمكننا أن نتخيل مخزن بضائع يتدفق من بحيرة إيزي في كل يوم، هادرا مختلف محتوياته على الصخور . ان هذا سيكون مشهدا رائعا ومثيرا للجمهور، كما أنه ليس من الصعب الحصول عليه . ومع ذلك، ربما يعترض البعض على أن هذا تطرف، وأن ما من أحد يعارض استخدام طاقة المساقط المائية ".


                   بناء الكلمات الموحية

       في عملية لفت الاهتمام، يوجد عنصر مساعد ووسيلة واحدة هي في غاية الأهمية، ومع ذلك يتجاهلها الكثيرون . ولا يبدو أن الخطيب العادي يعي وجودها، ولم يفكر بها على الإطلاق . وأشير هنا الى عملية استخدام الكلمات التي ترسم الصور .

       فالخطيب الذي يسهل الاستماع اليه و الذي يرسم صورا تتدفق أمام عينيك . والخطيب الذي يستخدم رموزا غامضة وعامة تخلو من الألوان، يجعل المستمعين يشعرون بالنعاس .

       ان الصور هي حرة كالهواء الذي تتنشقه . وزعها خلال خطاباتك وموحادثاتك، فتكون أكثر تسلية ونفوذا .

       مثال على ذلك، لنأخذ القطعة التي تناولناها منذ قليل، والتي تدور حول
نياغارا . أنظر الى الكلمات المصورة، فهي تقفز وتفر في كل جملة، مثلما تفعل الأرانب في أوستراليا  " 000، 250 رغيفا من الخبز، 000،600 بيضة تتساقط في المنحدر، عجة عملاقة في الدوامة، القماش الخام ينصب من أنوال الينبوع بعرض 4000 قدما، مكتبة كارنيجي الموضوعة في أسفل الينبوع، كتب، محزن كبير يتدفق ويتحطم على الصخور في الأسفل، المياه المتساقطة ".

       من الصعب تجاهل مثل هذا الخطاب أو المقالة، مثلما يصعب كبت أدنى انتباه الى مشاهد فيلم عظيم .

       في مقالته الصغيرة الشهيرة حول " فلسفة الإبداع "، أشار هربرت سبنسر منذ زمن بعيد الى أهمية التعابير التي توحي بصور زاهية، وهو يقول :

       " نحن لا نفكر بالأشياء العامة، بل بالأشياء المحددة . . . ويجب أن نتجنب جملا كتلك : " اذا كانت أخلاق وأساليب وعادات وترفيهات شعب قاسية وبربرية، لا بد أن يكون النظام القضائي هناك صارما ". بل يجب أن نكتب عوضا عنها : سيحاكم من يهوى المعارك والخلافات وصراع المجالدين، بالشنق أو الحرق أو بواسطة المخلعة، أداة التعذيب القديمة التي يمط عليها الجسم ".

       تتدفق العبارات الموحية عبر صفحات الإنجيل وصفحات شكسبير كالنحل المندفع الى عصارة تفاح . يقول كاتب محلي مثلا أن شيئا ما وافر وكأنه يحاول أن يحسن ما هو متكامل . لكن كيف عبر شكسبير عن الفكرة هذه ؟ عبر عنها بصورة ذهنية
خالدة : " يطلى الذهب الخالص، يلون زئبق الماء، يرش العطر على البنفسج ".

       هل توقفت مرة ولاحظت أن الأقوال المأثورة المتناقلة من جيل لآخر هي أقوال صورية موحية ؟ " عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة "، " بإمكانك أن تقود الحصان الى الماء، لكن لا يمكنك أن تدفعه الى الشرب ". كما ستجد عنصر التصوير ذاته في جميع التشبيهات القديمة والتي أصبحت مهترئة من جراء كثرة استخدامها :
" محتال كالثعلب "، " صلب كالصخرة ".

       تحدث لنكولن بأسلوب إيحائي دائما . وعندما ينزعج من التقارير الرسمية الطويلة والمعقدة التي ترده في البيت الأبيض، كان يعارضها، ليس بأسلوب جاف، بل من خلال عبارة صورية يستحيل نسيانها . وقال مرة : " عندما أرسل رجلا لشراء حصان، لا أريد أن أعلم عدد شعرات ذيله، بل أرغب فقط في معرفة مزاياه ".


            أهمية الأضواء في جذب الاهتمام

       استمع الى التهجم الذي وجهه ماكولي الى تشارلز الأول . لاحظ أن ماكولي لا يستخدم الصور فقط بل يسخدم أيضا جملا متوازية . فالأضداد الحازمة تستحوذ على اهتمامنا، وهي حجر الزاوية في بناء هذا المقطع :

       " نحن نتهمه بخرق وعده الملكي، في حين علمنا أنه حافظ على وعد الزواج ! ونتهمه بتسليم شعبه الى عقوبات أشرس وأكثر المطارنة ظلما وتصلبا، وكان دفاعه رفع طفله الى ركبتيهه وتقبيله ! نحن نشجبه لأنه انتهك بنود " عريضة الحقوق " بعد أن وعد باحترامها، لاعتبارات حسنة قيمة، وقد علمنا أنه اعتاد الاستماع الى الصلاة عند الساعة السادسة صباحا ! من أجل تلك الاعتبارات، إضافة الى زيه الفاندايكي ووجهه الوسيم ولحيته المشذبة، يعود سر شعبيته لدى الجيل الحالي ".


                الإثارة معدية

       تحدثنا كثيرا عن أنواع المواد التي تثير الجمهور . لكن يستطيع الإنسان أن يتتبع آليا جميع المقترحات المقدمة هنا، وأن يتحدث طبقا لـ كوكر، ويكون، مع ذلك، جافا مسئما . ان إثارة اهتمام الناس هو أمر دقيق، ومسألة تتعلق بالروح والشعور . وهي ليست كإدارة محرك بخارين ولا يمكن إعطاء قواعد محددة لها .

       تذكر أن الإثارة هي معدية . ومن المؤكد أن يلتقطها المستمعون منك . منذ مدة قصيرة، نهض سيد في معهدي في بالتيمور وحذر الجمهور من أن استمرار الطرق الحالية في صيد السمك الصخري في خليج تشيسابيك . وتخيلت أن معظم الجمهور يشاركني معرفتي الضئيلة واهتمامي الضئيل في ذلك . لكن قبل أن ينتهي الخطاب، التقطنا جميعا شيئا من اهتماماته . وربما رغبنا في توقيع عريضة نقدمها الى المجلس التشريعي، من أجل حماية السمك الصخري قانونيا .

       سألت مرة ريتشارد وشبرن تشايلد، عندما كان سفيرا في إيطاليا، عن سر نجاحه ككاتب مثير . فأجاب : " أشعر بالإثارة من خلال الحياة التي لا يمكنني تهدئهتها وإقرارها . وما علي سوى أن أخبر الناس عنها ". فما من أحد يستطيع أن يتجنب تأثير خطيب أو كاتب كهذا .

       استمعت مرة الى خطيب في لندن . وبعد أن انتهى، قال السيد إ . ف . بنسون، الروائي الإنكليزي الشهير، انه استمتع بالجزء الأخير من الخطاب أكثر من الجزء الأول . وعندما سألته عن السبب، أجاب : " ان الخطيب نفسه بدا مهتما جدا بالجزء الأخير، وأنا أعتمد على الخطيب في منح الحماس والإثارة ".

       كل إنسان يفعل ذلك . تذكر هذا دائما .


الفصل الثاني عشر

كيف تحسن أسلوبك ؟

       كان رجل إنكليزي عاطل عن العمل تعوزه الموارد المادية، يسير في شوارع فيلادلفيا بحثا عن وظيفة . دخل مكتب السيد بول جيبونز، رجل الأعمال الشهير في المدينة وطلب أن يجري مقابلة معه نظر السيد جيبونز الى الغريب في ارتياب . اذ أن مظهره الخارجي يبدو ضده . فثيابه رثة بالية، وكتبت على محياه علامات البؤس المادي . وبشيء من الفضول والشفقة، وافق السيد جيبونز على إجراء المقابلة . فقرر أول الأمر أن يستمع للحظة فقط، لكن اللحظات أصبحت دقائق والدقائق ساعة، وما زالت المقابلة مستمرة حتى انتهت باتصال السيد جيبونز بالسيد رولاند تايلور، أحد أكبر المتمولين في المدينة، الذي دعا هذا الغريب لتناول العشاء معه، ومنحه مركزا مرموقا في شركته . كيف استطاع هذا الرجل الذي تبدو عليه مظاهر الفشل، أن يحقق هذا الإنجاز العظيم في وقت قصير ؟

       ان السر يكمن تلخيثه بعبارة واحدة : إجادته اللغة الإنكليزية . لقد كان في الواقع خريج أوكسفورد، قدم الى هذا البلد بمهمة عمل انتهت بكارثة تركته مجردا من المال والأصدقاء . لكنه تعلم بلغته الأصلية بدقة وسحر، حتى أن المستمعين نسوأ أمر حذائه البالي ومعطفه الرث وذقنه غير الحليق . فكان أسلوبه جواز السف الذي أدخله الى أفضل دوائر العمل .

       قصة الرجل هذا غريبة بعض الشيء . غير أنها تعكس حقيقة أساسية وهي أننا نقاس كل يوم خلال حديثنا . وكلماتنا تعكس تفكيرنا الدقيق، وتخبر المستمع البصير عن معارفنا، وهي إشارات واضحة عن ثقافتنا وعلومنا .

       لدينا أربعة روابط مع العالم . ونحن نصنف ونقيم طبقا لأربعة أشياء : بما نفعله، وكيف نبدو، وبما تقوله، وكيف تقوله . ومع ذلك، يبقى الكثيرون يتخبطون في الحياة من دون أن يبذلوا أي جهد في سبيل إغناء تعابيرهم، بعد الخروج من المدرسة، حتى يجيدون معانيهم ويتحدثون بدقة ووضوح . وغالبا ما يستخدمون عبارات عامية مستهلكة في المكتب والشارع . فلا عجب أن يعوز خابهم الوضوح والتفرد . ولا عجب أنهم ينتهكون غالبا قواعد اللفظ المقبولة، ويخرقون قواعد اللغة الإنكليزية نفسها . لقد استمعت الى خريجي جامعات يتكلمون ويخطئون لغويا . فان كان أولئك الجامعيون يقترفون مثل هذه الأخطاء، فما الذي نتوقعه من الذين حرموا التعليم بسبب الحاجة المادية وضغوطها ؟

       منذ سنوات، وقفت ظهر أحد الأيام أحلم في مدرج روما القجيم تقدم مني رجل غريب، كان معمرا إنكليزيا، قدم نفسه، وبدأ يتحدث عن تجاربه في تلك المدينة الخالدة . ولم تمض ثلاث دقائق حتى بدأ يخطئ أخطاء لغوية مدهشة . في ذلك الصباح، عندما نهض من فراشه، لمع حذاءه وارتدى ثيابا أنيقة ليحوز على احترام الآخرين . لكنه لم يحاول قط أن يصقل تعابيره ويتحدث بأسلوب جيد .

       وهو ربما يخجل مثلا اذا لم يرفع قبعته لتحية سيدة، لكنه لم يخجل أبدا - حتى أنه لم يدرك - من انتهاك قواعد اللغة وإزعاج آذان المستمعين . لقد بدا واضحا من خلال كلماته، ومن استخدامه المحزن للغة الإنكليزي، أنه لم يكن من أهل العلم .

       أعلن الدكتور تشارلز . و . إليوت، بعدما كان رئيسا لجامعة هارفرد طيلة ثلث قرن : هناك مطلب ذهني ضروري هو جزء من تعليم السيدة أو السيد، ألا وهو الاستخدام الدقيق والصحيح للغة الأصلية ". ان هذا إعلان مهم للغاية، فاعمل به .

       ربما تتساءل كيف نصبح معتادين على الكلمات، ومنحها بأسلوب جميل
وصحيح ؟ لحسن الحظ، ليس هناك غموض أو شعوذة بشأن الوسائل التي يجب استخدامها . هذه الوسائل سر مفتوح . فقد استخدمها لنكولن بنجاح مذهل . ولم يستطع أي أميركي أن يحيك الكلمات بمثل براعته، أو يؤلف موسيقى مماثلة للتي ألفها نثره . فهل كان لنكولن، الذي كان والده نجارا بسيطا أميا، والذي لم تكن والدته من ذوات الميزات الخارقة، موهوبا منحته الطبيعة هبة تأليف الكلمات ؟ ليس هناك أي دليل يدعم هذا الافتراض .

       عندما انتخب في الكونغرس وصف لنكولن تعليمه في السجلات الرسمية في واشنطن، بصفة واحدة بأنه : " ناقص " فقد ذهب الى المدرسة أقل من اثني عشر شهرا في حياته . ومن كان أساتذته ؟ جميعهم أساتذة متجولون، يطوفون من ولاية لأخرى ساعين وراء معيشتهم، حيث يستطيعون أن يجدوا قلة من المثقفين والراغبين في استبدال اللحوم والذرة والقمح بالتعليم . وقد حصل لنكولن على مساعدة ضئيلة منهم، كما استوحى القليل من هم ومن محيطه اليومي .

       ان المزارعين والتجار والمحامين والقضاة الذين اختلط بهم في المحكمة القضائية الثامنة في إيللنوا، لم يمتلكوا الكلمات السحرية . لكن لنكولن لم يكن كذلك - وهذه حقيقة مهمة يجب تذكرها - اذ أن لنكولن لم ينفق وقته مع الذين بمستواه الفكري أو مع الذين هم أدنى منه . بل اختار رفاقه من نخبة المفكرين المغنين والشعراء في كل العصور . فكان باستطاعته أن يردد صفحات كاملة من برنز وبايون وبراوننغ . كما كتب محاضرة عن برنز . وكانت لديه نسخة من أعمال بايرون في مكتبه، وأخرى في منزله . وحتى عندما كان في البيت الأبيض، وكانت أعباء الحرب الأهلية المأساوية تثقل كاهله وتخلف خطوطا عميقة في وجهه كان دائما يجد وقتا لتناول نسخة نم أشعار هودرا وقراءتها في السرير . وفي بعض الأوقات كان ينهض في منتصف الليل ويفتح الكتاب لقراءة القصائد الساحرة والمؤثرة . كما ينهض بعباءة نومه ويتسلل عبر الغرف الى أن يجد سكرتيره ويقرأ قصيدة إثر القصيدة . في البيت الأبيض، كان يجد الوقت ليردد مقاطع طويلة من شكسبير، وينتقد إلقاء الممثل لها، ويعطي تفسيره الخاص حول ذلك . فكتب الى الممثل هاكيت يقول : " قرأت بعض مسرحيات شكسبير، وربما قرأتها كأي قارئ غير اختصاصي . قرأت مسرحية الملك لير، ريتشارد الثالث، هنري الثامن، هاملت، ومكبث . أعتقد أن ما من مسرحية توازي مسرحية مكبث . انها رائعة ! ".

       كان لنكولن يعشق الشعر . وهو لم يحفظه ويردده سرا وجهرا فحسب، بل كان يكتبه أيضا . وقد قرأ بعض أشعاره الطويلة خلال حفلة زفاف شقيقته . وفي منتصف حياته، ملأ دفتر ملاحظات بكتاباته الإنشائية . لكنه يخجل من تلك المؤلفات، حتى انه لم يدع أقرب أصدقائه يطلع عليها .

       يكتب روبنسون في كتابه : " لنكولن كرجل أدب " : هذا الرجل الذي علم نفسه بنفسه، كسى ذهنه بمواد الثقافة الرائعة . لم يذهب كثيرا الى المدرسة، بل يعلم نفسه بطريقة منقطعة . وطريقته هي دأبه على التعليم والتدريب ".

       هذا الفتى الأخرق الذي اعتاد أن يجني الذرة ويذبح الخنازير مقابل 31 سنتا في اليوم وفي مزارع بجيون كريك أنديانا، ألقى في غيتسبرغ إحدى أروع الخطب التي ألقاها كائن بشري وقد قال تشارلز سومنز بعد فترة قصيرة من وفاته، ان خطاب لنكولن سيبقى في الذاكرة حتى بعد نسيان تلك المعركة التي حارب فيها مئة وسبعون ألف رجل وقتل فيها سبعون ألفا . وان المعركة ربما تعود الى الذاكرة بسبب ذلك الخطاب فمن يشك بصحة هذه النبوءة ".

       تحدث أدوار د إيفريت لمدة ساعتين في غيتسبرغ، وقد نسي كل ما قاله منذ زمن بعيد . لكن لنكولن تحدث أقل من دقيقتين : وقد حاول مصور أن يأخذ له صورة أثناء إلقائه الخطاب، لكنه انتهى قبل أن تصبح تلك الكاميرا جاهزة لالتقاط صورته .

       نقش خطاب لنكولن على قطعة من البرونز ووضع في مكتبة أوكسفورد ليبقى مثالا لما يمكن فعله باللغة الإنكليزية . وهذا نص الخطاب الذي يجب أن يحفظه كل من يدرس الخطابة :

       " منذ سبع وثمانون سنة، أنشأ آباؤنا وطنا جديدا في هذه القارة، يعرف بوطن الحرية والمساواة . والآن ننهمك في حرب أهلية عظيمة تراهن عما اذا كان الوطن سيدوم طويلا . لقد تقابلنا في حلبة عظيمة في هذه الحرب وانتهينا بتكريس جزء من هذه الحلبة كمثوى أخير ولأولئك الذين قدموا حياتهم في سبيل بقاء الوطن . من المناسب جدا أن نفعل هذا . لكننا، اذا فكرنا مليا، لن نستطيع أن نكرس أو نقدس هذه الأرض . فالرجال الشجعان، الأموات منهم والأحياء، الذين كافحوا هنا، كرسوها لأغراض نبيلة، هي فوق طاقتنا الهزيلة . ان العالم لن يذكر أو يتذكر طويلا ما نقوله هنا، الا أنه لن ينسى ما فعلوه . الأمر يعود الينا، نحن الأحياء، لتكريس أنفسنا في سبيل المهمة العظيمة المتبقية أمامنا ولنتخذ العبرة من أولئك الموتى العظام الذين منحوا القضية آخر قطرة من دمهم . ونحن هنا نجزم بأن أولئك الموتى لم يسقطوا هباء، وبأن هذا الوطن، برعاية الله، ستتولد فيه الحرية من جديد وبأن حكومة الشعب المنتخبة من الشعب ومن أجله، لن تزول عن وجه الأرض ".

       هناك فكرة شائعة تقول ان لنكولن هو من ألف العبارة الخالدة التي اختتم بها خطابه . لكن هل ذلك صحيح ؟

       لقد قدم هرندون، الشريك القانوني، للرئيس لنكولن نسخة من كتاب خطب ثيودور باركر حيث قرأ الأخير ووضع خطا تحت هذه الكلمات التي جاءت في الكتاب : " ان الديمقراطية هي حكومة ذاتية مباشرة تحكم كل الشعب من كل الشعب، ومن أجل الشعب ".

       وربما استعار ثيودور هذه العبارة من وبستر الذي قال قبل أربع سنوات، في جوابه الشهير لـ هاين : " ان حكومة الشعب تؤلف من أجل الشعب وبواسطة الشعب وتستجب لكل الشعب ". وربما استعار وبستر بدون هذه العبارة من الرئيس جايمس مونرو الذي عبر عن فكرة مشابهة لها قبل ثلث قرن . لكن ممن استدان مونرو فكرت؟ قبل خمسمئة سنة من ولادة مونرو، قال وايكليف في مقدمته لترجمة الكتاب المقدس ان " ان هذا الانجيل هو من أجل حكومة الشعب، من الشعب، ولكل الشعب ". وقبل أن يحيا وايكليف، وقبل أربعمئة سنة من ميلاد المسيح، تحدث كلايون في خطاب له أمام رجال أثينا عن حكم " من الشعب وبواسطة الشعب ومن أجل الشعب ". ومن أي مصدر قديم استوحى كلايون فكرته يبقى أمرا تائها في ضباب وظلمة العصور القديمة .

       كم هي الأشياء الجديدة قلية ! وكم يدين الخطباء العظماء لقراءاتهم وارتباطاهم بالكتب ! الكتب ! هناك يكمن السر ! فمن يرغب في أن يغني ويوسع مخزن كلماته، ينبغي عليه أن يغسل ويصقل ذهنه باستمرار في روافد الأدب . قال جون برايت : " ما يحزنني حين أكون موجودا في مكتبة هو أن الحياة قصيرة جدا، ولا أمل لي بقراءة الماضي الممدود أمامي ". ترك برايت المدرسة في سن الخامسة عشر، وذهب للعمل في مصنع للقطن، ولم تسنح له فرصة التعليم ثانية . ومع ذلك، أصبح أحد أشهر الخطباء في عصره حيث اشتهر ببلاغته وجودة لغته الانكليزية . كان يدرس ويقرأ وينسخ دفاتر الملاحظات، ويحفظ مقاطع طويلة من شعر بايرون وميلتون وشكسبير . كان يقرأ " الفردوس المفقود للشاعر ميلتون كل سنة من أجل إغناء كلماته .

       قرأ تشارلز جايمس فوكس كتابات شكسبير بصوت مرتفع كي يحسن أسلوبه . وقد دعا غلادستون مكتبته " معبد السلام " حيث احتفظ فيها بخمسة عشر ألف كتاب . واعترف بأن ما ساعده هو قراءة أعمال سانت أوغسطين، بيشون باتلرا، دانتي، أرسطو، وهوميروس . كانت الإلياذة والأوديسة تطربانه حتى أنه كتب ستة كتب عن شعر وزمن هوميروس .

       يقال أن روبرت لويس ستيفنسون من أحب الكتاب في اللغة الانكليزية . كان ستيفنسون كاتبا لدى كاتب . فكيف نشأ لديه هذا الأسلوب الرائع الذي منحه الشهرة؟ لحسن الحظ، أخبرنا القصة بنفسه .

       " عندما أقرأ كتابا أو مقطعا يعجبني، حيث يقول شيئا ويترك تأثيرا ملائما، وحيث هناك قوة جاذبة في الأسلوب، أجلس في الحال وأهيئ نفسي لاكتساب هذه الميزة . لم أكن ناجحا . كنت أعرف ذلك، فحاولت ثانية، وفشلت ثانية . وكنت فاشلا دائما . وأخيرا، ومن خلال فشلي، أكتسب تدريبا في الإيقاع والتناغم والـتأليف والتجانس .

       وهكذا انكببت على قراءة هازليت ولامب وردسورث وسير توماس براون وديفو وهاوثورن ومونتاين ".

       هذه هي الطريقة لتعلم الكتابة، ان أعجبتك أم لا . وان استفدت منها أم لا، تلك هي الطريقة . انها الطريقة التي من خلالها تعلم كيتس، ولن يكون هناك أدب أكثر رقة من أدب كيتس .

       ان أسلوبه الذي يصعب تقليده هو النقطة العظيمة التي تتلألأ وتبقي بعيدة عن متناول الطلاب . دعه يحاول كيفما يريد، فهو متأكد من فشله، لكن هناك قول قديم حقيقي جدا وهو : الفشل هو الطريق الأكيد الى النجاح .

       يكفي الآن أسماء وقصصا . فالسر قد اتضح . اذ كتبه لنكولن الى شاب يتوق ليصبح محاميا ناجحا :

       " ان السر يكمن في الحصول على الكتب وقراءتها ودراستها بانتباه ان العمل هو الشيء الأساسي ".


تم الكتاب

لتحميل الكتاب اضغط (هنا)
اقرأ الكتب والروايات استمتع بالبرامج والمسلسلات والأفلام والكرتون اون لاين بدون تحميل ويمكنك أيضا تحميلها كما يمكنك قراءة احدث المواضيع في العالم واغربها من تكنولوجيا وأجمل التصاميم.