الرئيسية » , , , , , » منزل الموتى + الحلقة التلفزيونية

منزل الموتى + الحلقة التلفزيونية


1

منذ اللحظة الأولى أحسست أنا وشقيقي (جوش) إننا لسنا سعداء بمنزلنا الجديد.
حقا.. كان منزلا كبيرا يبدو في هيئة القصر، حين نقارنه بمنزلنا القديم.
إنه بيت مستطيل، مبنيّ بالطوب الأحمر.. سقفه أسود منحدر.. ونوافذه صفوف متصلة سوداء.
عندما نظرت إليه من الشارع، بدا مظلما كئيبا، وكأنه شبح ضخم يختفي في ظلال الأشجار العتيقة، التي كانت أفرعها تنحني عليه.
كنا في منتصف شهر يوليو.
إلاّ أن أوراق الشجر الجافة المتساقطة، كانت تغطي الفناء الأمامي، حين راحت أحذيتنا تطحنها، ونحن الخمسة نعبر الممر.. أبي، وأمي، وجوش، وأنا، والسيد (راوز) السمسار.
كانت الأعشاب الضارة، تظهر في كل مكان، وسط الأوراق المتساقطة. كما كانت مجموعة من الأشجار، تغطي حوضا من الأزهار القديمة، بجوار الشرفة الأمامية.
وأحسست بالتعاسة تجتاحني أمام هذا المنزل الكئيب. ولابد أن (جوش) كان لديه نفس الإحساس بالتعاسة!!
أما مستر (راوز) -وهو شاب ودود، من مكتب العقارات المحلي- فقد توقف بالقرب من المدخل الأمامي، ثم استدار إلينا متسائلا، وهو ينظر إلى (جوش) ثم إليّ، بعينيه الزرقاوين: (هل كل شيء على ما يرام؟)
قال أبي موضحا: ((جوش) و(أماندا) ليسا سعيدين بالنقل).
أضافت أمي، وهي تبتسم في وجه السيد (راوز): (لا بد أنه صعب على (جوش) و(أماندا) الانتقال إلى هذا المكان الغريب، خاصة وقد تركا خلفهما كل أصدقائهما).
وضحك السيد (راوز) وهو يربت على كتف (جوش) قائلا: (إنه منزل قديم، ولكنه رائع!)
قال أبي وهو يبتسم: (إنه يحتاج لبعض العمل فقط يا (جوش)).
وأضافت أمي، وهي تعيد شعرها الأسود للخلف، وتبتسم: (ويحتاج لبعض الجهد. ولكن يا (جوش) سوف يكون لدينا حجرة نستعملها كخلوة. ما رأيك يا (أماندا)؟)
لكني لم أرد.
سأل السيد (راوز) أمي، وهو ينظر إلى (جوش) وإليّ: (كم عمرهما؟)
أجالت أمي: ((أماندا) عمرها اثنا عشر عاما. وأما (جوش) فقد أتم عامه الحادي عشر في الشهر الماضي).
قال السيد (راوز) لأمي: (إنهما متشابهان بدرجة كبيرة).
ولم أستطع أن أقرر، ما إذا كانت هذه مجاملة، أم لا.
وظنّي أنها حقيقة. فأنا و(جوش) كلانا قامته طويلة، وشعر كل منا لونه بني في مثل شعر أبينا. وكذلك لون عيوننا، بني غامق. وكل من يرانا معا يقول إن ملامحنا جادة. قد نبدو متشابهين، ولكن ليس إلى حد التطابق! فأنا أطول صبرا من (جوش)، وحساسة أكثر. ربما لأنني الكبرى، ولأنني فتاة.
كان (جوش) يتشبث بيد أبي، محاولا جذبه ناحية السيارة: (دعنا نذهب. هيا بنا يا أبي).
أعرف أن (جوش) لن ينال هذه المرة ما يتمناه. فنحن ننتقل إلى هذا المنزل، ما في ذلك شك. وهاهو ذا، أصبح خاليا تماما.
إن العم الأكبر لأبينا -والذي لم نعرفه- هو الذي أوصى قبل وفاته بهذا البيت لأبي. أبدا، لن أنسى وجه أبي، وهو يتسلم الخطاب من المحامي، إذ أطلق شهقة فرح عالية، وراح يرقص في أرجاء غرفة المعيشة، وهو يفض الرسالة قارئا، وقائلا: (لقد ترك لنا عمي الكبير (تشارلز) منزلا في وصيته، في مدينة اسمها: دارك فولز الشلالات Dark (أي: الشلالات المظلمة)).
صرخت أنا و(جوش): (هه! وأين تقع (دارك فولز) هذه؟)
هز أبي كتفيه بلا مبالاة.
عندئذ، قالت أمي، وهي تتحرك خلف كتف أبي لكي تقرأ الخطاب: (أنا لا أتذكر عمك (تشارلز)).
قال أبي: (ولا أنا. لكن من المؤكد أنه كان رجلا عظيما).
كان أبي مستشارا في سعادة. إذ كان دائم البحث عن سبب، يترك به وظيفته المملة، لكي يتفرغ كل الوقت للكتابة. وهذا المنزل -الخالي تماما- سوف يكون السبب الذي يحتاجه.
والآن، بعد مضيّ أسبوع.. نحن هنا في (دارك فولز) على بعد أربع ساعات من منزلنا القديم بالسيارة.
وها نحن نشهد منزلنا الجديد لأول مرة. لم ندخل فيه بعد. وهاهو ذا (جوش) يتشبث بيد أبي، محاولا أن يجذبه إلى السيارة.
عندئذ، انفجر أبي، فاقد الصبر، وهو يحاول أن يخلص يده من قبضة (جوش)، قائلا: (لا تشدني هكذا، يا (جوش)!)
ثم لاحت منه نظرة عاجزة، إلى السيد (راوز)، أدركت منها إلى أي حد، كان أبي متضايقا مما يفعله (جوش).
وقررت أني من الممكن أن أساعده. فقلت في هدوء: (هيا بنا يا (جوش)).
أصرّ (جوش): (سأظل بالخارج).
سألت أمي: (ألا تريد أن تختار حجرتك يا (جوش)؟)
غمغم (جوش) قائلا: (لا).
تطلعنا أنا و(جوش) إلى الطابق الثاني.
كان هناك نافذتان كبيرتان متجاورتين، وكأنهما عينان سوداوان تحدقان فينا.
قال السيد (راوز) متعاطفا: (الانتقال دائما صعب).
غمز لي بعينيه، وكان في ذقنه نغزة بدت جذابة وهو يبتسم قائلا: (دعونا ندخل. إنه لطيف).
تبعنا السيد (راوز)، ما عدا (جوش) الذي بدا في صوته التحدي وهو يوجه السؤال: (هل هناك أولاد آخرون في هذا المبنى؟)
أومأ السيد (راوز) برأسه قائلا، وهو يشير إلى الشارع: (إن المدرسة على بعد مبنيين من هنا).
قالت الأم مقاطعة: (انظر. إنه طريق قصير إلى المدرسة. لم تعد هناك الرحلة الطويلة بالأتوبيس، كل صباح).
قال (جوش) بإصرار: (لقد أحببت الأتوبيس).
أنا أيضا لا أحب فكرة النقل. ولكني أدرك إن وراثة هذا البيت الكبير، فرصة عظيمة لنا. فقد كان بيتنا الصغير ضيقا علينا.
فجأة، ومن داخل سيارتنا الواقفة في أول الطريق، وصلناصوت الكلب (بيتي) ينبح، ويعوي. و(بيتي) هو كلبنا. شعره أبيض. ومدرّب  جيدا.
صرخت فيه: (اهدأ يا (بيتي). اهدأ!)
عادة، كان يصغي إليّ. لكنه الآن لا يفعل.
أخذ (جوش) طريقه صوب السيارة، وهو يعلن: (سوف أخرجه).
قال السيد (راوز): (ربما يريد الكلب أن يستطلع المكان. إنه منزله أيضا. بعد بضع ثوان، جاء (بيتي) يجري بين أوراق الشجر البنية، وهو يعوي!
لعق (بيتي) وجه (جوش). وبعد برهة أنزله (جوش) إلى الأرض. تطلع (بيتي) إلى السيد (راوز)، ثم إليّ.
قال السيد (راوز): (دعونا ندخل).
وعندئذ فتح الباب. وظل ممسكا بالباب حتى ندخل. وبدأت أتبع والديّ إلى داخل المنزل.
قال (جوش) بإصرار: (سوف أظل هنا مع (بيتي)).
تبعنا السيد (راوز) إلى داخل الصالة.
تجوّل بنا السيد (راوز) في كل مكان بالمنزل، وبدأت أنفعل بالمكان. كان المنزل نظيفا. وبه حجرات ودواليب كثيرة.كانت حجرتي ضخمة، وبها حمام خاص، وكرسي عتيق بجوار النافذة، يتيح لي الجلوس, والنظر إلى الشارع.
تمنيت لو أن (جوش) كانمعنا بالداخل. لو انه رأى البيت بمثل ما نراه الآن.. لأصبح في غاية السرور.
لم أصدق عدد الحجرات بالمنزل.
ولم أنتبه إلى مرور الوقت. وأعتقد أننا نحن الثلاثة كنا في غاية الانبساط.
قال السيد (راوز) وهو ينظر في ساعته: (حسنا. لقد رأيتم كل شيء).
وراح يقودنا حتى الباب الأمامي.
قلت لهم بانفعال: (انتظروا. أريد أن ألقي نظرة أخرى على حجرتي).
نادتني أمي: (أسرعي يا عزيزتي).
وصلت الطابق الثاني. وعبرت الطرقة الضيقة، حتى وصلت إلى حجرتي الجديدة. كانت كبيرة جدا. وأحببت النافذة والكرسي.
مضيت نحو النافذة، وأرسلت البصر من خلال الأشجار. أستطيع رؤية سيارتنا، ومن خلفها منزل يشبه منزلنا. سوف أضع سريري أمام هذا الحائط، بالعرض من ناحية النافذة. ومكتبي هناك. وكذلك الكومبيوتر.
كنت متجهة ناحية الباب، أفكر في أي لوحاتي البوستر، سأحضرها معي، حين لمحت صبيا، واقفا عند الباب للحظة. ثم استدار واختفى في الطرقة.
وصدمت، إذ اكتشفت أنه ليس (جوش).
كان الصبي شعره أشقر. هاي! ناديت، وجريت نحو الطرقة، وتوقفت خارج حجرة نومي، أنظر في كلا الاتجاهين: (من هناك؟)
لكن الطرقة الطويلة كانت خالية.
كان أبي وأمي يناديان من الطابق التحتي.
ألقيت نظرة أخيرة على الممر المظلم، ثم أسرعت للحاق بهما.
قلت للسيد (راوز) وأنا أهبط الدرج: (هل هذا المنزل به أشباح؟)
ضاحكا، قال وهو ينظر إليّ بعينيه الزرقاوين: (لا. آسف. كثير من المنازل القديمة هنا، بها أشباح. ولكن هذا المنزل ليس منها).
قلت: (أظن أنني رأيت شبحا).
قالت أمي: (ربما هي مجرد ظلال، بسبب الأشجار.
اقترح أبي: (لماذا لا تذهبين إلى الخارج، لتخبري (جوش) عن المنزل؟ فأنا وأمك نريد التحدث إلى السيد (راوز)).
وذهبت، كي أخبر (جوش) عما فاته أن يراه معنا.
ناديت بشغف، وأنا أبحث عنه: (جوش). ولكن لم يكن أحد منهما موجودا.. لقد اختفيا.




2

في البداية ناديت على (جوش). ثم ناديت على (بيتي). ولكن لا أثر لأيّ منهما.
جريت نحو الطريق. وبحثت عنهما في السيارة. لم يكونا بها.
مازال أبي وأمي بالداخل، يتحدثان مع السيد (راوز).
احتويت الشارع بنظراتي. في كلا الاتجاهين، ولكن لم أجد لهما أي أثر.
أخيرا، ظهر أبي وأمي خارج الباب الأمامي، مذعوريّن أظن أنهما سمعا صيحاتي. من الشارع، قلت لهما بصوت عال: (لم أستطع أن أجد (جوش) أو (بيتي)!)
صاح أبي: (ربما هما في مكان ما.. وسوف يعودان).
اتجهت ناحية الطريق، أدوس الأوراق الجافة الميتة، جريا. كان الجو مشمسا في الشارع.
لماذا يملؤني الخوف؟
جريت بأقصى سرعة بجوار المنزل.
كان المكان خلف الفناء أكبر مما توقعت. فهو عبارة عن مستطيل طويل، ينحدر تدريجيا إلى أسفل، ليصل إلى سور خشبي في الخلف. ومثل الفناء الأمامي، كان هذا الفناء، يحتوي كمية هائلة من الأشجار العالية، ذات الأوراق البنية الكثيفة. وإذ سقط حجر من عش طائر، استطعت أن أرى من خلفه، جانب الجاراج المبني بالطوب. كان مظلما، مثل المنزل.
هاي جوش!
لم يكن هنا. توقفت، ورحت أحدق في الأرض، بحثا عن آثار أقدام أو أية علامة تدل على أن (جوش) جرى على الأوراق الكثيفة.
جاء أبي يعدو. غاضبا أكثر مما هو قلق. قال: (هل بحثت في السيارة؟)
قلت: (نعم. إنها أول مكان بحثت فيه. مثلما بحثت مرة اخرى في الفناء الخلفي).
قال أبي: (انت تعرفين أخاك عندما يتوه).
عندما رجعنا من بوابة المنزل،قالت أمي متساءلة: (أين هو؟)
هززنا كتفينا استهجانا. وقال أبي: (ربما وجد صديقا، وراحا يتجولان معا).
قالت أمي، وهي تحملق في الشارع: (ينبغي أن نجده. إنه لا يعرف المنطقة المحيطة. ومن المحتمل أنه راح يتجول، فضلّ الطريق.
أغلق السيد (راوز) البوابة الأمامية، ونظر من الشرفة قائلا: (إنه لم يذهب بعيدا. -مؤكدا بابتسامة لأمي-: (دعونا ندور حول المبنى، فأنا متأكد أننا سنجده).
أومأت أمي برأسها، وتطلعت إلى أبي بعصبية.
ربت أبي على كتفها.
فتح السيد (راوز) حقيبة السيارة وأخرج السويتر الأسود. ارتداه سريعا. ثم التقط قبعة كاوبوي سوداء واسعة، وأدخل فيها رأسه.
قال أبي، وهو يجلس على كرسي السيارة: (هاي.. يا لها من قبعة جميلة!)
قال السيد (راوز) وهو يغلق باب السيارة بشدة: (إنها تحمي من الشمس).
جلسنا -أنا وأمي- في الخلف. كانت قلقة مثلي.
غادرنا المبنى بهدوء. ورحنا نحن الأربعة ننظر من نافذة السيارة.
كل المنازل التي مررنا بها كانت قديمة. جيدة، ومدهونة بنظافة وعناية.
لم أر أحدا في هذه المنازل، أو الأفنية. ولم يكن هناك أحد في الشارع.
كانت المنطقة المجاورة هادئة وظليلة. كل المنازل محاطة بأشجار عالية. والأفنية الأمامية كلها مفروشة بالظلال. الشارع هو المكان الوحيد المشمس.
تساءل أبي وهو ينظر بحدةمن خلف زجاج السيارة: (أين ابني؟)
تمتمت أمي: (سوف أضربه!)
لم تكن هذه المرة الأولى التي تقول فيها هذا الكلام عن (جوش).
لقد درنا حول المبنى مرتين، ولم نجده. لا أثر له.
اقترح السيد (راوز) أن ندور حول المباني الموجودة في الجهة المقابلة. ووافقه أبي بسرعة..
قال السيد (راوز) وهو يستدير بالسيارة: (أتعشم ألاّ أضل الطريق. فأنا جديد هنا أيضا).
ثم قال وهو يشير إلى نافذة في مبنى عال من الطوب الأحمر: (هذه هي المدرسة. إنها تبدو من الطراز القديم ذي الأعمدة البيضاء).
استطرد السيد (راوز): (إنها الآن مغلقة بالطبع).
سألت أمي بصوت عال: (هل من الممكن أن يكون (جوش)، قد سار بعيدا هكذا؟).
قال أبي: (إن (جوش) لا يسير. إنه يجري).
قال السيد (راوز) بثقة: (إننا سوف نجده).
مررنا بناصية تلو الأخرى، في المبنى المظلم. وقرأنا لافتة كتب عليها: (طريق المقابر).
وبالفعل، برزت أمامنا مقابر كبيرة، وأضرحة من الجرانيت، تنحدر بطول تل منخفص ينحدر بدوره إلى أعلا وإلى أسفل، عبر سطح واسع ممتد، تحده صفوف من النقوش والآثار.
كانت بعض الشجيرات تزين المقابر، ولكن لم تكن هناك أشجار كثيرة.
قال السيد (راوز) وهو يوقف السيارة فجأة، مشيرا من خلال النافذة: (هذا هو ابنك!)
صاحت الأم مبتهلة: (أشكرك يا رب).
نزلت من السيارة. خطوت بضع خطوات على العشب، وناديته. في البداية لم ينتبه إلى صياحي.
يبدو أنه كان يجري بسرعة ليتفادى المقابر. كان يجري في اتجاه واحد. ما إن ينتهي منه، حتى يبدأ في اتجاه آخر.
لماذا يفعل ذلك؟
خطوت بعض خطوات أخرى، ثم توقفت، خائفة.
فجأة، عرفت لماذا يجري (جوش) بهذه السرعة، واثبا بين المقابر.
لقد كان هناك من يتعقبه.
شخص.. أو شيء.. كان وراءه!



3

حينئذ، وبينما خطوت بضع خطوات تجاه (جوش)، رأيته ينحني، ثم يغير اتجاهه، جريا، ويداه ممدوتان. وأيقنت أنني الآن فهمت الموضوع.
لم يكن هناك من يطارد (جوش). بالعكس. كان (جوش) هو الذي يطارد (بيتي).
ناديت (جوش) مرة أخرى.
وفي هذه المرة سمعني. استدار. كان يبدو قلقا عندما صرخ: ((أماندا).. تعالي ساعديني!)
((جوش).. ماذا بك؟)
وجريت نحوه بأقصى سرعة لأمسك به. لكنه ظل يقفز بين الأضرحة، ينتقل من صف لآخر.
(النجدة!!)
((جوش).. ماذا بك؟)
والتفت، لأرى أبي وأمي ورائي).
أوضح (جوش): إنه (بيتي). لا أستطيع إيقافه. لقد أمسكت به مرة، ولكنه هرب مني.
بدأ أبي ينادي الكلب: ((بيتي)!.. (بيتي)!)
لكن (بيتي) كان يتنقل من ضريح لآخر.. يتشمم كل واحد.. ثم يجري إلى الضريح التالي.
سأل أبي وهو يمسك بأخي: (كيف وصلت إلى هنا؟)
أجاب (جوش) وهو مازال قلقا: (كان لابد أن ألحق (بيتي). لقد جرى. كان يتشمم جذع الزهرة الميتة في الفناء الأمامي. وبعد ذلك بدأ يجري.
لم يتوقف حين ناديته. لم ينظر حتى للخلف. ظل يجري حتى وصل إلى هنا.
كان يجب أن أتبعه، وكنت أخشى أن أفقده.
وقف (جوش) وترك لأبي مهمة المطاردة.
حاول أبي بعض المحاولات. لكنه في آخر الأمر نجح في أن يمسك (بيتي).
في البداية قاوم (بيتي). لكنه استسلم. وعدنا به جميعا إلى السيارة. كان السيد (راوز) يقف بجوارها.
قال باهتمام: (من الأفضل إحضار سلسلة لتقييد هذا الكلب).
اعترض (جوش) وهو يجلس على المقعد الخلفي، قائلا: (بيتي) لم يتقيد أبدا).
قال أبي بهدوء: (حسنا، يجب أن نفعل ذلك).
وضع أبي (بيتي) في المقعد الخلفي.
وتربع الكلب بين يدي (جوش) بشغف وتكومنا جميعا في السيارة.
وعاد بنا السيد (راوز) إلى مكتبه.
وبينما نحن نسير، وصلت يدي إلىمؤخرة رأس (بيتي)، وربت عليها.
وتعجبت لماذا جرى الكللب هكذا؟! إنه لم يفعل ذلك من قبل.
وخمنت أنه قد تضايق أيضا من موضوع النقل. فقد قضى (بيتي) معظم حياته في منزلنا القديم. ومن المحتمل أنه قد أحس بما أحس به (جوش).
أوقف السيد (راوز) السيارة. أمام مكتبه الصغير. صافح أبي، وأعطاه (بطاقة). ثم وجه حديثه لأبي وأمي: (بإمكانكما أن تحضرا الأسبوع القادم. فسوف أنتهي من الأوراق القانونية كلها، وبعد التوقيع عليها، تستطيعان النقل في أي وقت).
فتح باب السيارة، ونظر إلينا جميعا وهو يبتسم.
قرأت أمي اسمه من الكارت (كامبتون راوز).
قالت أمي: (هذا اسم غير عادي. هل (كامبتون) اسم عائلة قديم؟
أومأ السيد (راوز) برأسه قائلا: (لا.. أنا كامبتون الوحيد في العائلة).
ثم خلع السويتر، واختفى داخل المبنى الأبيض.
ركب أبي السيارة، وبجانبه أمي. وبدأنا رحلة العودة إلى المنزل القديم.
قلت (لجوش): (سوف تحب حجرتك. المنزل كله عظيم بحق).
حملق (جوش) في وجهي بتمعن.. ولم يجب.
غمزته بكوعي، قائلة: (قل شيئا.. أم تسمع ما قلته؟)
لكن النظرة الفاحصة المتعمقة، لم تغادر وجه (جوش).
أوشك الأسبوع على الانتهاء. طوّفت حول المنزل، أفكر كيف لن أرى حجرتي ثانية؟ كيف لن أتناول إفطاري في هذا المطبخ مرة أخرى؟ وكيف لن أشاهد التليفزيون في حجرة المعيشة؟
لم أكن الوحيدة الغاضبة بسبب النقل.
كان أبي وأمي يعامل كل منهما الآخر بتوتر دون سبب واضح.
أما (جوش)، فقد كان عابسا طول الوقت. لم يتحدث مع أحد.
وكان (بيتي) منقبضا أيضا.
أظن، أن أصعب ما في النقل، هو وداع الأصدقاء.
كانت (كارول) و(آمي) في معسكر. وكان لابد أن أكتب إليهما.
لكن (كاثي) كانت بالمنزل. وهي أقدم وأعز صديقاتي، ومن الصعب وداعها.
أعتقد أن بعض الناس تدهشهم صداقتي (لكاثي)، لأننا مختلفتان. فأنا طويلة، ونحيفة، وسمراء. وهي بيضاء، وشعرها أشقر طويل، وممتلئة إلى حد ما.
لكننا صديقتان منذ الحضانة، ومن أفضل صديقاتي منذ السنة الرابعة.
عندما جاءتني في الليلة السابقة على النقل، كانت كل منا، في حالة ضيق.
قلت لها: (يجب ألا تكوني عصبية يا كاثي. فلست أنت التي سترحلين).
فقالت: (أنت لستمنقولة إلى (الصين)، أو ما شابه ذلك). -وهي تمضغ لبانتها بعصبية-: (إن (دارك فولز) على بعد أربع ساعات يا (أماندا)، وسوف يرى كل منا الآخر، كثيرا).
قلت: (نعم، أظن ذلك. ولكني لا أعتقد هذا، فأربع ساعات تبدو -على حد تفكيري- وكأننا في الصين. أظن أننا سوف نتحدث تليفونيا).
قالت، وهي تتظاهر بأنها متحمسة: (أنت محظوظة يا (أماندا)، لأنك ستتركين هذا المكان الرخيص، وتذهبين إلى منزل كبير.
فقلت بإصرار: (إنه ليس رخيصا).
قالت متنهدة: (لن تكون المدرسة، مثلما كانت، وأنت معي من سيساعدني في حصة الحساب؟)
ضحكت وقلت: (لقد كنت دائما أحب مساعدتك!)
تحدثنا لساعات، حتى نادتها أمها لكي تعود إلى البيت. فتعانقنا. وكنت قررت ألا أبكي، ولكني شعرت بالدموع في عيني، ثم انهمرت على خديّ. وتواعدنا أن نكون معا، في أعياد ميلادنا. ثم تعانقنا مرة أخرى.
كان اليوم التالي، يوم السبت، يوم النقل.. ممطرا. لم يكن هناك رعد أو برق. ولكن المطر والريح جعلا الرحلة بطيئة، وغير ممتعة.
كانت السماء تزداد سوادا، كلما اقتربنا من الجيرة الجديدة. وكانت الأشجار الكثيفة تنحني بفعل الرياح على الشارع.
قالت أمي محذرة: (هدئ السرعة يا (جاك)، فإن الشارع زلق).
لكن أبي ظل مسرعا، خشية أن تصل عربة النقل قبلنا، فيتركون العفش في أي مكان.
كان (جوش) يجلس في المقعد الخلفي متضايقا كعادته. وظل يشكو من أنه عطشان وجوعان. لكننا جميعا كنا قد أفطرنا جيدا، ولذلك لم يأبه أحد به. هو فقط، يريد لفت الأنظار إليه.
ظللت أحاول مداعبته، وأخبره كيف أن البيت كبير، وحجراته كبيرة، لأنه لم يرها بعد.
قالت أمي: (ياله من بيت جميل).
ولست أستطيع أن أقول، هل تسخر، أم ماذا؟ أعتقد أنها كانت سعيدة، لأن الرحلة الطويلة انتهت.
قال أبي: (على الأقل وصلنا قبل عمال النقل).
ثم قال: (أتعشم ألا يكونوا قد ضلوا الطريق).
وقال (جوش) شاكيا: (الجو في الخارج مظلم، وكأنه الليل).
كان (بيتي) يقفز إلى أعلا وإلى أسفل.
فتحت باب السيارة، فقفز منها مسرعا. ثم راح يجري ليعبر البوابة الأمامية).
قال (جوش) بهدوء: (على الأقل، يوجد هنا شخص سعيد).
جرى أبي نحو الشرفة وبيده المفاتيح، ونجح في فتح الباب الأمامي. ثم أشار إلينا أن ندخل قبل أن يشتد هطول المطر!
فأغلقت باب السيارة، ولحقت بهما. ولكن شيئا ما لفت نظري!!.
عندئذ توقفت. وتطلعت إلى النافذتين المتجاورتين، أعلا الشرفة.
فركت عينيّ لكي أتحقق مما أرى. نعم رأيته.
وجه في النافذة على اليسار.
الصبي.
نفس الصبي الذي رأيته من قبل، كان يحملق فيّ.



4

قالت أمي: (نظفوا أحذيتكم لا تدوسوا الأرضية النظيفة بأحذيتكم المليئة بالطين).
كان لصوتها صدى في حجرة المعيشة الخالية، ذات الحوائط العالية.
وقفت في الطرقة. كانت رائحة الطلاء تملأ البيت. فقد انتهى عمال الدهانات من عملهم يوم الخميس.
قال أبي: (إن مصباح المطبخ لا يضيء. هل عمال الطلاء، قطعوا الكهرباء، أم ماذا؟)
صاحت أمي بصوت عال: (وكيف لي أن أعرف؟)
وصرخت، وأنا أجفف قدميّ على الدواسة الجديدة، ثم أسرعت إلى داخل غرفة المعيشة: (أمي. يوجد شخص ما في الطابق العلوي).
كانت أمي تشاهد المطر من النافذة فاستدارت ناحيتي عندما دخلت: (ماذا؟)
قلت لها، وأنا أحاول التقاط أنفاسي: (يوجد صبي فوق. لقد رأيته من النافذة).
دخل (جوش) الحجرة من الطرقة الخلفية.
وضحك وهو يقول: (هل كان أحد يعيش هنا من قبل؟)
قالت أمي: (لا يوجد أحد فوق.. فدعاني أرتاح!)
قال (جوش): (ماذا فعلت؟)
قال أمي: (اسمعي يا (أماندا).. نحن مشغولون اليوم).
ولكني قاطعتها: (لقد رأيت وجهه يا أمي في النافذة إنني جادة!)
أرفق (جوش) قائلا: (ماذا تقولين؟)
عضت أمي شفتها السفلى قائلة: ((أماندا) تختلق مثل هذه الحكايات دائما! أنت رأيت خيال شيء ما. شجرة ربما).
واستدارات ناحية النافذة. كانت الأمطار تنهمر.
جريت فوق السلالم، وأحطت فمي بيدي، ورفعت صوتي إلى الطابق الثاني: (من هناك؟!)
لم يرد أحد!
وناديت بصوت أعلا: (من هناك؟!)
وضعت أمي يديها على أذنيها. واختفى (جوش) في غرفة الطعام.
وأصررت قائلة: (يوجد شخص فوق).
وبدأت أصعد السلالم الخشبية.
سمعت أمي تناديني: ((أماندا)).
لكني كنت غاضبة إلى درجة أني لا أريد التوقف. لماذا لم تصدقني؟ لماذا قالت إنه ظل شجرة! يجب أن أثبت لأمي أنني رأيت الصبي!
كان السلّم يحدث صريرا وأنا أتسلقه.
وفجأة، شعرت بالخوف. وقفت. وتنفست بصعوبة. انحنيت على (الدرابزين).
من يكون هذا؟ حرامي؟ أحد أبناء الجيران، دخل منزلا خاليا كنوع من الإثارة؟
وأدركت أنني أخطأت بالصعود.
ربما يكون الولد الذي في النافذة يمثل خطرا!
وناديت: (هل هنا أحد؟)
كان صوتي ضعيفا ومرتعشا. وكنت مازلت أنحني على (الدرابزين)، وأنصت.
وكنت أسمع وقع أقدام على الطرقة.
لا.. المطر. إنه المطر. صوت ارتطام المطر بالسطح.
لسبب ما، جعلني الصوت أشعر ببعض الهدوء. تركت (الدرابزين) ووقفت في الطرقة الضيقة الطويلة. كان الجو مظلما فيما عدا مستطيل من الضوء الرمادي، يلوح من نافذة صغيرة في الجهة الثانية.
خطوت بعض الخطوات. وقفت عند الباب من ناحية اليسار. كان مغلقا. وكانت رائحة الطلاء خانقة. وكان هناك زر كهرباء على الحائط بالقرب من الباب. لابد أنه خاص بإضاءة الصالة فضغطت عليه، ولكن الظلام ظل دامسا!
كانت يدي ترتعش، وأنا أدير مقبض الباب.
وجذبت نفسا عميقا، ودفعت الباب لأفتحه.
نظرت داخل الحجرة. كان الضوء الرمادي يتخلل النافذة. وضوء البرق جعلني أقفز ثم سرت في خفة وهدوء، خطوت خطوة داخل الحجرة. ثم خطوة أخرى.
لا أثر لأحد.
هذه كانت غرفة ضيافة. أو ربما تكون حجرة (جوش) فيما لو أعجبته.
عدت إلى الطرقة. كانت الحجرة الثانية في الطابق السفلي ستكون حجرتي. وكان بها أيضا نافذة تطل على الفناء الأمامي.
هل الصبي الذي رأيته يحملق فيّ.. موجود في حجرتي؟
مشيت إلى الطرقة. ووقفت خارج الباب الذي كان مغلقا.
أخذت نفسا عميقا. وطرقت الباب.
ناديت: (من هناك؟)
لم يكن هناك غير الصمت! واشتد صوت الرعد فتجمدت في مكاني، وكأني أصبت بالشلل، وأنا أمسك أنفاسي.
كان الجو حارا ورطبا. ورائحة الدهانات تصيبني بالدوار.
جذبت مقبض الباب: (هل هناك أحد؟)
بدأت في إدارة المقبض، عندما زحف الصبي من خلفي ليقبض على كتفي.




5

لم أستطع التنفس. لم أستطع الصراخ.
بدا قلبي وكأنه على وشك أن يتوقف. أحسست بصدري وكأنما سينفجر. وبمجهود بالغ الصعوبة والإحساس بالذعر، استدرت حولي.
صرخت : ((جوش). لقد أخفتني لدرجة الموت!)
تراجع خطوة إلى الخلف. فتحرر كتفي من قبضته. ثم بدأ يطلق ضحكة عالية تردد صداها في أرجاء الغرفة.
كان قلبي ينبض بصعوبة. وأطرافي ترتجف.
قلت بغضب: (ما الذي فعلته؟)
ودفعته تجاه الحائط: (لقد أخفتني).
عاود الضحك، وأخذ يتدحرج على الأرض.
حاولت دفعه مرة ثانية. لكنه أفلت مني.
ابتعدت عنه وأنا غاضبة، حين شاهدت باب غرفة نومي يفتح بهدوء.
شهقت غير مصدقة. تجمدت مفتوحة الفم، وأنا أحملق في الباب المتحرك.
توقف (جوش) عن الضحك. ثم انتصب واقفا وفي عينيه نظرة خوف.
إنني أسمع أحدا يتحرك داخل الحجرة..
أسمع همسا.
صوت قهقهة مثيرة.
(من.. من هناك؟)
قلتها بصوت نجحت في أن يكون عاليا.
فتح الباب، ثم أغلق.
تساءلت بقوة: من هناك؟
مرة ثانية جاءني صوت الهمس.. شخص ما يتحرك.
كان (جوش) يستند بظهره على الحائط. وكان يتجه ناحية السلّم.
كان يبدو على وجهه الفزع.
وكان صرير الباب، كالذي  نشاهده في أفلام الرعب. كان (جوش) قد اقترب من السلّم،وكان يحملق في وجههي، ويشير لي أن أتبعه.
لكني أمسكت بمقبض الباب، ووقفت أسد مدخل الغرفة: (من هناك؟)
كانت الحجرة خالية. وكان هدير الرعد يحدث ضجة عالية.
بضع ثوان استغرقتني، لكي أتحقق ممّا يجعل الباب يتحركّ.
كانت النافذة في الجدار المقابل مفتوحة قليلا. وكانت الرياح القادمة من النافذة هي التي جعلت الباب يفتح ويغلق.
من الذي ترك النافذة مفتوحة؟
لعلعهم عمال الطلاء، ربما.
أخذت نفسا عميقا بهدوء. وانتظرت أن يعود قلبي إلى نبضه الطبيعي.
وبينما يراودني الإحساس بأني حمقاء، جريت إلى النافذة، وأغلقتها.
همس (جوش) من الطرقة: ((أماندا).. هل أنت بخير؟)
شرعت في الرد عليه. لكن واتتني فكرة أفضل..
لقد أخافني منذ بضع دقائق. فلماذا لا أخيفه أنا أيضا؟ إنه يستحق ذلك.
ولذا لم أرد عليه..
سمعته يخطو خطوات خائفة تجاه حجرتي: ((أماندا).. (أماندا).. هل أنت على ما يرام؟)
مشيت على أطراف أصابعي حتى الدولاب، وفتحته قليلا، وانبطحت أمامه على ظهري. بما يجعل رأسي وكتفيّ داخل الدولاب، وبقية جسمي على أرض الحجرة.
صاح (جوش) مذعورا: ((أماندا)!!)
أصدرت أنينا عاليا: (أووووه)
((أماندا) -ما الذي يحدث؟)
إنه واقف بالباب. وسوف يراني في أي وقت ممددة في الحجرة المظلمة. ورأسي مختفية).
همس: ((أماندا)). ثم صرخ بأعلا صوته وسمعته يجري نحو الطرقة، وهو يصيح: (أمي، أبي).
وسمعت صوت حذائه على السلم الخشبي، وهو ما زال يصرخ، وينادي).
ضحكت في داخلي. وقبل أن أنهض، شعرت بلسان دافيء خشن يلعق وجهي. 
(بيتي!)
كان يلعق خدّيّ كأنما يحاول أن يعيدني للحياة، أو أنه يشعرني أن كل شيء على ما يرام).
قلت له: (تعال يا (بيتي)).
وأمسكت بوجهه اللاهث: (لا تخف يا (بيتي)).



6

هذه الليلة، كنت أبتسم لنفسي، وأنا أتوسّد مخدتي، وأنزلق في سريري.
كنت أفكر في (جوش) وكم كان غاضبا، لأنني خدعته.
بالطبع لم يعتقد أبي وأمي أن هذا كان مزاحا ممتعا.
فقد كانا عصبيين، لأن عربة النقل كانت قد وصلت لتوها، بعد أن تأخرت ساعة كاملة.
تمتم (جوش): (من الصعب ألا تخاف في هذا المكان القديم المروع.
ولكنّنا اتفقنا على وقف المزاح بيننا مؤقتا!
لقد بدت المنقولات غريبة وضئيلة في هذا المنزل الكبير.
حاولت أنا و(جوش) أن نبتعد عن أمي وأبي، وهما يعملان طوال اليوم في ترتيب الأشياء، وتفريغ الكراتين، ووضع الملابس.
يا له من يوم!
والآن بعد العاشرة بقليل، أحاول أن أنام في حجرتي الجديدة لأول مرة، استدرت على جنبي، ثم على ظهري.
ومع أن هذا هو سريري القديم نفسه إلا أنني لم أحصل على الراحة. أرغمت نفسي على البقاء، وأغلقت عينيّ. أحيانا عندما لا أستطيع النوم، أقوم بعدّ الأرقام الزوجية في صمت، متخيلة الأرقام بالطريقة التي أفكر فيها. وهذا عادة يساعدني على صفاء العقل، واستدراجي إلى النوم. حاولت هذا الآن. دفنت وجهي في المخدة، وأنا أتخيل الأرقام 4-6-8..
تثائبت بصوت عال. مازلت مستيقظة وقد بلغت الرقم 220.
لكني نمت دون أن أعي كيف نمت.
ولا أعرف كم من الوقت قد نمت. ساعة أو ساعتين على الأكثر. كان نوما خفيفا غير مريح. عندئذ، شيء ما أيقظني، فنهضت جالسة، وأنا مرعوبة.
لقد سمعت همسات.
شخص ما يهمس في أرجاء الحجرة.
(من - من هناك؟) كان صوتي هامسا أيضا.
شددت الأغطية حتى ذقني..
سمعت همسات أكثر. الستائر الطويلة التي علقتها أمي ظهر اليوم كانت ترفرف على النافذة. وقد فسر لي ذلك صوت الهمسات التي أصابتني بالرعب.
تثاءبت وتمطّيت، وغادرت السرير. شعرت بقشعريرة وأنا أزحف على الأرض الخشبية لكي أغلق النافذة.
فلمّا اقتربت من النافذة توقفت الستائر عن الانتفاخ، وانبسطت في مكانها ثانية.
أزحت الستائر جانبا، ومددت يدي لأغلق النافذة.
(أووه!) صرخت صرخة صغيرة، عندما أدركت أن النافذة كانت مغلقة.
هل كنت أتخيل أن الستائر تنتفخ؟ هل كانت عيناي تقومان بخداعي؟ تثاءبت، وأسرعت عائدة خلال الظلال الغريبة إلى سريري.
زشددت الأغطية فوقي قدر المستطاع، وقلت لنفسي: (اهدأي يا (أماندا) ولا تخيفي نفسك).
عندما نمت بعد بضع دقائق، حلمت حلما مخيفا. حلمت أننا جميعا قد متنا. أمي وأبي، وجوش، وأنا.
في البداية رأيت أننا كلنا جالسين حول منضدة العشاء في حجرة الطعام الجديدة.
وكانت الحجرة مضاءة تماما ولكني لم أكن أرى ما تحت شعورنا. لم يكن لنا وجوه.
جلسنا نأكل في هدوء. كانت أطباق العشاء، كما رأيتها مملوءة بعظام صغيرة.
في وسط المائدة طبق كبير ممتلئ بعظام خضراء رمادية.
وفي أثناء هذا الحلم، قاطع وجبتنا الهزيلة طرق عال على الباب، أخذ يعلو، ويعلو. إنها (كاثي) صديقتي.. رأيتها على الباب الأمامي منحنية عليه بكلتا يديها.
أردت أن أجيب على الطرق.
أردت أن أجري من حجرة الطعام وأفتح الباب، وأحيي (كاثي). أردت أن أتحدث إلى (كاثي).
أن أشرح لها أني مت وأن وجهي قد سقط بعيدا. ولكني لم أستطع أن أنهض من مكاني أمام المنضدة. حاولت وحاولت، ولكني لم أستطع.
استيقظت ومازال شبح الحلم المرعب يلازمني. حتى أنني مازلت أسمع الطرق في أذني.
إنه الصباح. أدركت ذلك من لون السماء الأزرق خارج النافذة.
الستائر، تنتفخ مرة أخرى، وترفرف بضوضاء، وهي تطير داخل الحجرة.
وقفت وحملقت. مازالت النافذة مغلقة!!



7

ونحن نجلس أمام الفطور، قال أبي: (سألقي نظرة على النافذة. لابد أن هناك هواء أو تسريبا، أو أي شيء).
وأنا مازلت أشعر بالخوف، قلت: (ولكن يا أبي - هذا شيء غريب.. الستائر كانت تنتفخ بشدة، وكانت النافذة مغلقة!).
اقترح أبي قائلا: (لابد أن أحد الألواح الزجاجية مكسور أو مفقود).
قالت أمي بحدة: ((أماندا)، عليك أن تتوقفي عن هذا، ما معنى أن الستائر تنتفخ. يجب أن تدركي أنك عصبية، وأن خيالك يعمل وقتا إضافيا).
وبدأت أقول: (لكن يا أمي...)
قال (جوش) مداعبا: (قد يكون هناك شبح خلف الستائر). ثم رفع يديه وقلد الشبح (ووووه).
قال أبي: (سنحتاج بعض الوقت نتأقلم على هذا المكان. ربما تكونين قد حلمت بأن الستائر تنتفخ يا (أماندا). أنت قلت إنك حلمت حلما مرعبا.. أليس كذلك؟!).
مر كابوس المرعب بمخيلتي. مرة أخرى رأيت طبق العظم الكبير على المنضدة. ارتعشت.
قالت أمي: (يجب أن نعترف أن هذا المكان كئيب).
نظرت من النافذة. تحولت السحب لتصبح رمادية اللون. وبدت الأشجار تنشر الظلام على الفناء الخلفي، وتساءلت: (أين (بيتي)؟)
أجابت أمي وهي تبتلع لقمة: (خرج، نهض مبكرا أيضا، لم يستطع النوم، ولذا سمحت له بالخروج.
سأل (جوش): (ماذا سنفعل اليوم؟)
قالت أمي وهي تنظر إلى الطرقة الخلفية المليئة بالكراتين المغلقة: (أنا وأبوك لدينا المزيد من الكراتين سنفرغها أما أنتما فتجولا في المنطقة المجاورة واستكشفاها. ربما وجدتما أطفالا في سنكما).
قلت: (بمعنى آخر.. تريدين أن ترتاحي منا!)
ضحك أبي وأمي، وقالا: (أنت ذكية جدا يا (أماندا) خذا (بيتي) معكما، وخذا سلسلة له. هناك واحدة عند السلّم الأمامي).
انتهيت من فطوري وأنا أفكر في (كاثي) وصديقاتي الأخريات. وتساءلت: (يا ترى ما نوع الأولاد هنا في (دارك فولز)؟ هل سأقدر على إيجاد أصدقاء جدد..
تطوعت لغسيل أطباق الإفطارلأن أبي وأمي لديهما الكثير من العمل. وكانت المياه الدافئة ناعمة على يدي، وأنا أنظف الأطباق بالإسفنجة. وضعت آخر طبق في المطبقية، وبحثت عن فوطة أطباق لأجفف يديّ.
لم يكن هناك أي فوطة.
جففت يديّ في مقدمة روبي، واتجهت إلى السلّم. ناديت (جوش) قائلة: (سوف أرتدي ملابسي في خمس دقائق - وبعدها نستطيع أن نخرج).
بدأت أنزل على درج السلّم الأمامي، ثم توقفت.
فوقي، عند عتبة السلّم وقفت فتاة غريبة في مثل عمري. شعرها قصير أسود.
كانت تبتسم لي ابتسامة خالية من الدفء!
لمست كتفي يد.
استدرت.
كان (جوش). قال لي: (لن أخرج لأتمشى، مالم آخذ معي كرة السلّة.
قلت له: ((جوش) من فضلك!. وجهت نظري إلى عتبة السلّم. وكانت الفتاة قد ذهبت.
شعرت ببرودة في جسمي كله. وكانت ساقاي ترتعشان. أمسكت بالدرابزين وناديت: (أبي، أبي!).
قال أبي -والواقف أسفل السلّم، مشغولا بالأشياء الموجودة في غرفة المعيشة-: (أنا مشغول يا (أماندا)).
قلت: (أبي.. إني رأيت شخصا ما).
-وأشرت بيدي-: (فوق هناك. إنها فتاة).
أجاب أبي: ((أماندا).. من فضلك، وقطّب وجهه: (توقفي عن رؤية الأشياء.. لا يوجد أحد في هذا المنزل سوانا نحن الأربعة.. لا يوجد أحد في هذا المنزل سوانا نحن الأربعة.. وربما بعض الفئران).
سأل (جوش) باهتمام مفاجئ: (فئران حقيقي أين؟).
قلت: (أبي. أنا لا أتخيل).
قال أبي: (انظري هناك يا (أماندا) -وحملق في عتبة السلم- ماذا ترين؟!)
تابعت حملقته. كان هناك كومة من الملابس على عتبة السلم. لابد أن أمي قد أخرجتها من الكارتونة.
قال أبي وقد نفد صبره، وجحظت عيناه: (ليست فتاة.. إنها ملابس).
قلت بهدوء: (آسفة).
لكني حقيقة لم أشعر بالأسف. كنت أشعر بالحيرة. ومازلت في رعب. هل من الممكن أني تخيلت كومة الملابس فتاة مبتسمة؟!!
لا. أنا لا أعتقد هذا!! أنا لست مجنونة. وقوة إبصاري جيدة.
إذن. ما الذي يحدث؟!!
فتحت باب حجرتي، وأضأت نور السقف، ورأيت الستائر تنتفخ أمام النافذة.
جريت نحوها. هذه المرة كانت النافذة مفتوحة.
من الذي فتحها؟
أظن أنها أمي.
كان الهواء الساخن الرطب يجوب أركان الحجرة. وكانت السماء ثقيلة ورمادية اللون.
التفتّ ناحية سريري، لأجد صدمة أخرى.
شخص ما وضع ملابسي على السرير.
من الذي وضعها هناك؟ أمي؟
وقفت على باب الحجرة، وناديتها: (أمي.. أمي؟ هل أحضرت هذه الملابس من أجلي؟).
سمعتها تقول شيئا من تحت السلّم. لكني لم أتبين ما قالته.
قلت لنفسي. اهدئي يا (أماندا). اهدئي. بالطبع أمي هي التي أحضرت الملابس ووضعتها هناك من أجلي.
بينما أقف عند الباب، سمعت صوت همس يدور في دولابي.
- إنها كارثة أخرى. ماذا يحدث هنا؟!
اندفعت نحو الدولاب وفتحت الباب. أزحت الملابس من طريقي. لم أجد أحدا هناك.
اعتقدت أنها الفئران. لكن، هل هي الفئران التي تحدث عنها والدي؟!
قلت بصوت عال: (لابد أن أخرج من هنا).
أدركت أن ما في الحجرة سيفقدني عقلي.
لا.. أنا التي سأدفع بنفسي إلى الجنون، إذ أتخيل كل هذه الأشياء المرعبة.
أخذت نفسا عميقا وأمسكته حتى عددت عشرة.
بوو!! Boo
قلت (لجوش) وأنا أبدو أكثر غضبا: (كفى يا (جوش).. أنت لا تخيفني).
قال وهو ينظر إلي من عند الباب: (دعينا نخرج من هنا هذا المكان يرعبني).
تعجبت قائلة: (ها.. أنت أيضا؟ ما هي مشكلتك؟)
خبط بقدمه الأرض وقال: (حلمت حلما مرعبا بالأمس!!)
قلت وأنا أتذكر حلمي المرعب: (حلم!)
-(نعم. كان هناك هذان الصبيان في حجرتي. إنهما سخيفان!)
سألته: (ماذا فعلا؟!)
قال (جوش) متحاشيا عينيّ: (لا أعرف، كل ما أتذكره أنهما أخافاني).
سألته وأنا أنظر في المرآة لأصفف شعري: (وماذا حدث؟!)
قال: (نهضت من نومي. ثم أضاف وقد نفد صبره: (هيا بنا).
سألته: (هل قال الصبيان لك شيئا؟!)
أجاب: (لا.. لا أعتقد ذلك، هما فقط ضحكا).
-(ضحكا؟!)
قال: (نعم.. قهقها.. شيء من هذا القبيل. أنا لا أريد التحدث عن هذا، هل سنخرج لنتمشى أم لا؟)
وضعت فرشة شعري. ونظرت نظرة أخيرة في المرآة: (هيا بنا نتمشى).
تبعته إلى أسفل. عندما مررنا بكومة الملابس على عتبة السلم، فكرت في الفتاة التي رأيتها تقف هناك. وفكرت في الصبي الذي رأيته  في النافذة عندما وصلنا أول يوم. وكذلك الصبيين اللذين رآهما (جوش) في حلمه.
لابد أنه خيالنا. أعني ماذا سيكون غير ذلك؟




9

بعد بضع ثوان خطونا إلى داخل الفناء الخلفي، لكي نأخذ (بيتي) معنا.
كان الجو حارا وغائما، بالرغم من أن السماء كانت رمادية اللون. لم يكن هناك رياح بالمرة.
اتجهنا نحو طريق الحصى جهة الشارع. داست أحذيتنا أوراق الأشجار الجافة.
كان (بيتي) يعدو في طريق متعرج إلى جانبنا، في البداية أمامنا وبعد ذلك خلفنا.
قطّب (جوش) وجهه.
وقفنا على الرصيف ننظر إلى منزلنا.
كانت النافذتان الناتئتان في الطابق الثاني تحملقان فينا وكأنهما عينان.
لاحظت لأول مرة المنزل الذي في الجهة المجاورة، كان نفس حجم منزلنا فيما عدا أنه مبني بالحجر وليس بالطوب.
كانت الستائر في حجرة المعيشة مسدلة. بعض النوافذ في الطابق العلوي كانت مغلقة. كما كانت الأشجار العالية تفرش ظلالها السوداء عليه أيضا.
سأل (جوش) وهو يوجه (بيتي): (أي طريق؟!)
أشرت له إلى الشارع، وقلت: (المدرسة هناك في هذا الطريق).
انحدر بنا الطريق إلى أعلى. لم نر أحدا في الشارع، أو في أي فناء من الأفنية، التي مررنا بها. لم تمر أي سيارة!!
بدأت أفكر في أن المدينة كلها مهجورة، حتى ظهر الصبي من خلف حافة بارزة من الحجر.
اندفع فجأة حتى توقفنا عن المشي أنا و(جوش). قال بخجل: (أهلا). ورفع يده لتحيتنا.
رددنا عليه التحية أنا و(جوش) معا: (أهلا).
وقبل أن نقترب منه جرى (بيتي) نحوه يتشمم حذائه، وبدأ يعوي، وينبح.
وقف الصبي ورفع يديه، وكأنه يحمي نفسه. كان الرعب باديا على وجهه فعلا. صرخت: (بيتي.. توقف).
سحب (جوش) الكلب وحمله لكنه لم يتوقف عن العواء.
قلت للصبي: (هو لا يعض، وعادة لا ينبح أيضا أنا آسفة).
قال الصبي: (لا بأس).
وحملق في (بيتي) الذي كان يقاتل ليفلت من يد (جوش).
صحت: (توقف يا بيتي -لم يكف الكلب عن العواء- أنت لا تريد السلسلة أليس كذلك؟!)
كان الصبي أشقر، ذا شعر قصير مموّج، وعينين لونهما أزرق فاتح. كان له أنف معوجة مضحكة لا تناسب وجهه الجاد. كان يرتدي قميصا بأكمام طويلة لونه رمادي، بالرغم من غيوم النهار. وبنطلون جينز أسود. كانت لديه قبعة (بيسبول) في الجيب الخلفي لبنطلونه الجينز.
قلت له: (أنا (أماندا بنسون) وهذا أخي (جوش)).
وضع (جوش) -في تردد- (بيتي) على الأرض.
قال الصبي: (أنا (راي ثرستون)).
كان يضع يديه في جيبي بنطلونه الجينز، وهو مازال ينظر بحذر إلى (بيتي).
بدا أنه ارتاح بعض الشيء، بعدما رأى أن الكلب قد توقف عن النباح والعواء.
فجأة أدركت أن (راي) شكله مألوف. أين رأيته من قبل (أين) حملقت فيه بشدة حتى تذكرت.
(راي) هو الصبي الذي رأيته في حجرتي.. الصبي الذي كان يقف في النافذة).
همهمت قائلة: (أنت، أنت كنت في منزلنا!)
بدا مرتبكا: (هاه؟)
قلت بإصرار: (أنت كنت في حجرتي.. أليس كذلك؟!)
ضحك: (لا أفهم.. في حجرتك!).
رفع (بيتي) رأسه وعوى بهدوء في اتجاه (راي)
قلت: (أعتقد أني رأيتك).
بدأت أشعر  بالقلق والشك.. ربما لم يكن هو.. ربما.
قال (راي): (أنا لم أكن في منزلكم منذ فترة طويلة).
قلت: (فترة طويلة؟!)
أجاب: (نعم. فقد اعتدت أن أعيش قي منزلكم).
حملقنا فيه أنا و(جوش) مندهشين: (هاه!!. منزلنا!!)
أومأ (راي) برأسه موافقا. قال: (عندما انتقلنا في البداية إلى هنا).
وسألته: (أين تعيش الآن؟)
رمى (راي) حجرا ثم أشار إلى الشارع.
سأل (جوش) (راي): (هل أحببت منزلنا؟) 
قال (راي): (نعم.. إنه متسع ومريح!)
صاح (جوش): (هل أحببته؟! أعتقد أنه ضخم ومظلم و...
قاطعه (بيتي) وبدأ النباح على (راي) مرة أخرى، بدأ يجري حتى أصبح على بعد بوصات من (راي)، ثم تراجع. تراجع (راي) للخلف حتى حافة الرصيف.
جذب (جوش) السلسلة من جيبه وقال: (آسف يا (بيتي)).
أمسكت بالكلب الذي كان ينبح حتى وضع (جوش) السلسلة في طوق رقبته.
قال (جوش) بعد أن نفذ صبره: (دعونا نعمل شيئا).
سأل (راي): (مثل ماذا؟)
أخذنا نفكر.
اقترح (جوش) على (راي): (هل نذهب إلى منزلكم؟)
هز (راي) رأسه نافيا: (لا.. لا أعتقد هذا.. ليس الآن على الأقل).
سألت: (أين بقية الناس؟!)
نظرت إلى أعلى وإلى أسفل في الشارع وقلت: (إن الجو هنا يشعرني بالموت!).
ضحك (راي) ثم قال: (نعم.. أظن أنك على حق. تريدان الذهاب إلى الفناء خلف المدرسة؟).
وافقت أنا و(جوش)!.
واتجهنا نحن الثلاثة إلى الشارع.
كان (راي) يقودنا وأنا أمشي على بعد خطوات وراءه.
أما (جوش) فكان يمسك بفرع شجرة في يد وسلسلة (بيتي) في اليد الأخرى وكان (بيتي) يجري في هذا الاتجاه، ثم في الاتجاه الآخر بما أرهق (جوش) بالفعل.
لم نر شلة الأولاد قبل أن نستدير عند الناصية.
كان هناك عشرة أو اثنا عشر، معظمهم صبية وبعض الفتيات أيضا.
كانوا يضحكون، ويصيحون، ويدفعون بعضهم البعض، وهم يلعبون. واقتربوا منا.
رأيت بعضهم في مثل سني. والبقية كانوا أكبر قليلا كانوا يرتدون (الجينز)، والـ (تي شيرتات) الغامقة. إحدى الفتيات وقفت كان شعرها أشقر وطويلا. وكانت ترتدي رداء أخضر ضيقا.
صاح صبي طويل ذو شعر أسود، وهو يشير نحونا: (هاي، انظروا!)
عندما رأوني أنا و(جوش) و(راي) هدأوا، ولكنهم استمروا في التقدم نحونا.
بعضهم قهقه وكأنهم يستمعون إلى نكتة.
توقفنا نحن الثلاثة. ورأيناهم يقتربون. ابتسمت وانتظرت تحيتهم.
كان (بيتي) يشد سلسلته وينبح.
قال الصبي الطويل ذو الشعر الأسود وهو مقطب الوجه: (أهلا يا أولاد).
ظن الآخرون أن هذا شيء مضحك لسبب ما. فضحكوا. دفعت الفتاة التي ترتدي الزي الأخضر الضيق الصبي ذا الشعر الأحمر دفعة قوية فارتمى ناحيتي.
سألت فتاة -شعرها أسود قصير- (راي) قائلة: (كيف حالك يا (راي)؟)
أجاب (راي): (لا بأس بي. أهلا يا أولاد).
والتفت إلينا أنا و(جوش) قائلا: (هؤلاء بعض أصدقائي. إنهم جميعا جيراننا).
قال (راي) وهو يشير إلى ولد ذي شعر أحمر قصير: (هذا (جورج كارنتر)). وأومأ الولد برأسه. و(جيري فرانكلين) و(كارين سومرست) و(بيل جريجوي).
سألتني إحدى الفتيات: (ما رأيك في (دارك فولز) هل أحببتها؟)
قلت لها: (أنا لا أعرف حقا.. إنه اليوم الأول لي هنا. إنها تبدو لطيفة.
سأل (جورج كاربنتر) (جوش): (ما نوع هذا الكلب؟)
أخبره (جوش) وهو يمسك السلسلة بقوة.
حملق (جورج) مليا في (بيتي) محاولا تفحصه وكأنه لم ير كلبا مثله من قبل.
(كارين سومرست) فتاة طويلة وجميلة. شعرها أشقر قصير، جاءت ناحيتي. وقالت بنعومة: (تعرفين أني تعودت أن أعيش في منزلكم).
سألتها: (ماذا؟!..)
لم أكن متأكدة أني سمعتها.
قاطعنا (راي) قائلا: (دعونا نذهب إلى الملعب).
لم يجب أحد على اقتراح (راي).
كلهم سكتوا حتى (بيتي) توقف عن النباح.
هل قالت (كارين) فعلا إنها تعودت أن تعيش في منزلنا؟! أردت أن أسألها ولكنها ذهبت لتقف في الدائرة.
فغرت فمي عندما أدركت أنهم كونوا دائرة حولي أنا و(جوش).
شعرت ببعض الخوف. هل أنا أتخيل؟ هل سيحدث شيء؟!!
فجأة، نظروا إليّ جميعا نظرة غريبة. كانوا يبتسمون. ولكن وجوههم كانت متوترة وحذرة كأنهم يترقبون حدوث متاعب.
لاحظت أن اثنين منهم كانا يحملان مضارب البيسبول. حملقت فيّ الفتاة ذات الرداء الأخضر العتيق، ونظرت إليّ من أعلى إلى أسفل تتفحصني.
لماذا يحملقون فينا هكذا؟!
حاولت أن أكون هادئة.
نظرت إلى (جوش). كان مشغولا بتهدئة (بيتي). 
كان الصبيّان اللذان يحملان مضارب البيسبول، يرفعانها عاليا ويتحركان إلى الأمام.
نظرت إلى الدائرة وشعرت بصدري يضيق من الخوف.
ضاقت الدائرة حولنا.



10

كان (جوش) مشغولا بطوق (بيتي) فلم ير ماذا كان يحدث.
تعجبت أن (راي) لم يقل لهم شيئا ليوقفهم.
ضاقت الدائرة اكثر فأخذت نفسا عميقا وفتحت فمي لأصرخ: (هيه يا أولاد.. ماذا يحدث؟!!)
كان صوت رجل ينادي من خارج الدائرة.
كلهم التفتوا ليروا السيد (راوز) قادما بسرعة نحونا في خطوات واسعة. وسأل مرة أخرى: (ماذا يحدث؟)
يبدو أنه لم يلحظ أن عصابة الأولاد كانوا يقتربون مني أنا و(جوش).
قال (جورج كاربنتر) وهو يلف المضرب في يده: (نحن متجهون إلى الملعب، لكي نلعب البيسبول).
قال السيد (راوز) وهو يعيد ربطة العنق التي طارت على كتفه: (شيء جميل).
ونظر إلى السماء القاتمة وقال: (أتعشم ألا تمطر السماء عليكم).
العديد من الأولاد جاءوا وكانوا يقفون في مجموعات صغيرة. اثنان وثلاثة.
انكسرت الدائرة تماما.
سأل السيد (راوز) (جورج) قائلا: (هل هذا المضرب للبيسبول؟)
رد ولد آخر بسرعة: (جورج لا يعرف.. هو لم يضرب به أي شيء)
ضحك الأولاد كلهم. نظر (جورج) إلى الولد نظرة ازدراء متظاهرا أنه ذاهب إليه بالمضرب.
حيانا السيد (راوز) وبدأ يبتعد. لكنه توقف، واتسعت عيناه باندهاش وقال: (أهلا).
ثم قال: ((جوش) و(أماندا)، أنا لم أركما هناك..)
شيء غريب كنت أشعر بالارتباك. ومنذ لحظة.
كنت أشعر بالخوف الشديد. والآن كلهم يضحكون ويمرحون.
هل كنت أتخيل أن الأولاد يتجهون ناحيتنا. (راي) و(جوش) لم يلحظا أي شيء غريب. هل أنا فقط وخيالي النشط؟!
ماذا كان سيحدث لو أن السيد (راوز) لم يأت إلينا؟
بدأ (بيتي) ينظر إلى السيد (راوز) وهو ينبح ويشد سلسلته.
كان وجه السيد (راوز) تعلوه نظرة متألمة وقال: (أنا مندهش.. كلبكم مازال لا يحبني).
وزاد نباح (بيتي)!
قلت للسيد (راوز) معتذرة: (يبدو أنه لا يحب أي شخص اليوم).
تراجع السيد (راوز) وهز كتفيه بلا مبالاة: (لن أستطيع أن أكسبه على الإطلاق!).
وذهب تجاه سيارته وهو يقول: (أنا ذاهب إلى منزلكما لأرى ما إذا كان والداكما يريداني أن أساعدهما في شيء. اقضوا وقتا لطيفا يا أولاد).
شاهدته وهو يركب سيارته، وينطلق بها. قال (راي): (إنه رجل لطيف).
كنت مازلت أشعر بعدم الارتياح. يا ترى ماذا سيفعل الأولاد الآن بعد رحيل السيد (راوز)؟
لم يحدث شيء كل واحد منهم بدأ يتمشى إلى الملعب خلف المدرسة. كانوا يلهون، ويتحدثون بطريقة طبيعية. وكانوا يتجاهلونني أنا و(جوش).
بدأت أشعر أني حمقاء. من الواضح أنهم لم يحاولوا أن يخيفوني أنا و(جوش) فقد دعونا لنشترك في مباراة.
ربط جوش (بيتي) في السور، ثم جرى نحونا ليلحق بنا. نظم (جيري فرانكلين) الفريق.. أنا و(راي) كنا في نفس الفريق. (جوش) كان الفريق الآخر.
عندما دخل فريقنا الملعب، كنت منفعلة وعصبية. فأنا لست لاعبة بارعة. من الممكن أن أضرب الكرة جيدا. ولكن في الملعب أكون مرتبكة. ومن حسن حظي أن جيري وضعني في الملعب الأيمن حيث الكور قليلة.
بدأت السحب تنقشع قليلا والسماء تصفو. لعبنا جولتين كاملتين فاز الفريق الآخر 2:8 وكنت مبتهجة ومستمتعة. خسرت في لعبة واحدة فقط.
كانت متعة أن نتواجد مع مجموعة جديدة جديدة من الأولاد. فهم لطاف وبخاصة الفتاة التي تدعى (كارين سومرست) التي كانت تحدثني ونحن ننتظر دورنا في اللعب. و(كارين) لها ابتسامة جميلة مع أن أسنانها كلها ممسوكة بمشابك وكانت سعيدة بصداقتنا.
بدأت الشمس تسطع عندما كان فريقي يستعد لجولة ثالثة. وفجأة سمعت صوت صفارة عالية. ونظرت حولي فوجدت (جيري فرانكلين) يصفر بصفارة فضية.
ذهبنا إليه مسرعين. فقال. وهو ينظر إلى السماء االصافية: (من الأفضل.. أن نرحل لقد وعدنا أهلنا أن نكون في البيت وقت الغذاء.
نظرت في ساعتي. كانت الحادية عشرة والنصف. مازال الوقت مبكرا.
وأدهشني أن أحدا لم يعترض.
حيوا بعضهم، وبدأوا يجرون. وكأنهم يتسابقون.
جرت كارين، مثل الآخرين، ورأسها لأسفل. واستدارت نحوي قائلة: (لطيف أن قابلتك يا (أماندا) يجب أن نتقابل أحيانا).
قلت لها: (عظيم، هل تعرفين أين أسكن؟!)
لم أسمع إجابتها جيدا ولكنها أومأت برأسها وأعتقد أنها قالت: (نعم أعرفه).



11

بعد أيام اعتدنا أنا و(جوش) المنزل وأصدقاءنا الجدد.
في حجرتي، مازلت أسمع همسا بالليل وقهقة خافتة. ولكني كنت أرغم نفسي على نسيان ما أسمعه.
في إحدى الليالي فكرت أني رأيت فتاة كل ما ترتديه أبيض، تقف عند نهاية طرقة السلم. ولكن عندما ذهبت لأتفحص الأمر لم أجد سوى كومة من الملاءات، وأغطية السرير بالقرب من الحائط.
كنا أنا و(جوش) نتأقلم. ولكن (بيتي) كان يشعر أنه غريب.
كنا نأخذه معنا إلى الملعب كل يوم، ولكن كان لابد أن نربطه في السور، وإلا سيظل ينبح ويجري ناحية الأولاد.
كنا ننهي مباراة بيسبول مع (راي) و(كارين سومرست) و(جيري فرانكلين) و(جورج كاربنتر) ومجموعة أخرى من الأولاد. ونظرت إلى السور لأرى أن (بيتي) قد ذهب.
لقد كسر سلسلته وجرى بعيدا.
ظللنا نبحث عنه لساعات، وننادي عليه ونبحث من مبنى لآخر. وفي الأفنية الأمامية والخلفية، والغابات الخالية. وبعد أن بحثنا في المنطقة المجاورة مرتين، أدركت أنا و(جوش) أننا لا نعرف أين نحن. شوارع (دارك فولز) تبدو متشابهة، كلها مصفوفة بالمنازل المبنية بالطوب القديم أو الحجر. وكلها مظللة بالأشجار العتيقة.
قال (جوش) وهو ينحني على جذع شجرة محاولا التقاط أنفاسه: (لا أصدق هذا. لقد ضللنا الطريق).
تمتمت: (هذا الكلب الغبي -وكانت عيناي تبحثان في الشارع- لماذا فعل ذلك؟! لم يجر هكذا من قبل؟!!
قال (جوش) وهو يهز رأسه: (لا أعرف كيف ضل الطريق؟!).
ثم جفف جبينه وقال: (لقد قيدته بشدة).
قلت: (ربما يكون قد عاد إلى البيت).
قال (جوش). نعم، أراهن أنك على حق، يا (أماندا). من الممكن أن يكون بالمنزل..
وبدأنا نمشي. ولحسن الحظ عندما وصلنا إلى الناصية التالية، ظهرت الدراسة.
لقد أتممنا دائرة كاملة.
وكان من السهل التعرف على الطريق من هناك.
مررنا بالملعب.حملقت في المكان الذي كان فيه (بيتي) عند السور.
هذا الكلب المشاكس.. لقد كان يتصرف بحماقة منذ أن وصلنا (دارك فولز). هل سيكون بالمنزل عندما نصل؟! أتعشم هذا.
وبعد دقائق، جرينا أنا و(جوش) على طريق الحصى ننادي الكلب بأعلى صوتنا وفتحت أمي الباب الأمامي وكانت تربط شعرها بأستك  أحمر. وبنطلونها مترب. قالت: (أين كنتما؟ لقد حان وقت الغذاء منذ ساعتين!)
أجبت أنا و(جوش) معا: (هل (بيتي) هنا؟!)
تغير وجه أمي وقالت: ((بيتي) ظننت أنه معكما!)
كان صوتي المرتعش يعبر عن خيبة أملي: (لقد كان معنا ولكن جرى بعيدا).
توسل (جوش) قائلا: (يجب أن تساعدينا لكي نجده. جهزي السيارة. يجب أن نجده بسرعة).
قالت أمي: (أنا متأكدة أنه لم يذهب بعيدا، لابد أنكما جائعان هيا لتتناولا الطعام.
صاح (جوش): (لا.. ليس الآن).
جذبت (جوش) من ذراعيه، وسحبته داخل المنزل.
اغتسلنا وتناولنا بعض الشطائر.وبعد ذلك أخرجت أمي السيارة من الجراج، وانطلقنا نبحث عن (بيتي) في المنطقة المجاورة.
ولكن دون جدوى.
استدعى والدي البوليس المحلي. ظل أبي يقول: ((بيتي) لديه الإحساس بالطريق، وسوف يرجع في أي دقيقة!)
تناولنا نحن الأربعة عشاءنا بهدوء. وكانت أطول ليلة مرعبة بالنسبة لي.
قال أبي: (إن الكلاب تتفن في الهروب،لا تقلق فسوف يظهر.
نسيت أمي تماما أنهما مدعوان إلى حفل عشاء عند بعض الجيران.
وقال أبي وهو يتنهد: (أنا لا أشعر أني أريد الذهاب فأنا متعب من الدهانات طوال اليوم. ولكن أظن أننا لابد أن نوطد علاقتنا بالجيران. هل أنتم متأكدون من أنكم ستكونون على ما يرام هنا؟!)
قلت وأنا أفكر في (بيتي): (نعم أظن هذا).
وانطلق أبي وأمي إلى الحفل وظللت أنتظر (بيتي)، ولكن وقت النوم حان ولم يكن قد ظهر بعد.
صعدنا إلى فوق أنا و(جوش). كنت أشعر بالإرهاق والتعب من البحث عن (بيتي) والجري وراءه طوال اليوم. ولكني كنت أعرف أني  لن أخلد إلى النوم.
في الطرقة سمعت همسا من داخل حجرتي، ووقع أقدام. الأصوات المعتادة التي أسمعها في حجرتي. لم أكن خائفة على الإطلاق أو مندهشة.
دون تردد. دخلت حجرتي وأضأتها. كانت خالية. اختفت الأصوات الغامضة.
ثم رأيت الملابس ملقاة على السرير بعض البنطلونات (الجينز) وبعض القمصان.
هذاغريب. فأمي مرتبّة جدا. فإذا كانت قد غسلت كل هذه الأشياء، لقامت بتعليقها وترتيبها في دولاب ملابسي.
عاودني الخوف. وبدأت أجمع الملابس، وتركت لي أمر ترتيبها.
بعد نصف الساعة، كنت في سريري مستيقظة أحملق في الظلال التي تظهر على السقف.
لم أعرف كم مضى من الوقت وأنا مستيقظة أفكر في بيتنا وفي الأولاد الجدد الذين قابلناهم عندما سمعت باب حجرتي ينفتح.
((أماندا).. إنه أنا)
كنت مذعورة. وظللت هكذا لثوان، حتى عرفت مصدر هذا الهمس: ((جوش)! ماذا تريد؟)
نظرت لأجد ضوءا قويا يكاد يعشى بصري فحجبت عينيّ.
قال (جوش): (آسف، إنها بطاريتي.. أنا لم أقصد أن).
قلت وأنا أرمش بعينيّ: (إن ضوءها ساطع).
أضاء بها السقف وقال: (نعم إنها بطارية قوية!)
مازلت لا أستطيع الرؤية جيدا. فركت عينيّ، ولكن دون جدوى.
همس (جوش): (أنا أعرف أين (بيتي)، وأنا ذاهب لأحضره. هل تأتين معي؟)
نظرت إلى الساعة الصغيرة بجوار السرير: (إنها بعد منتصف الليل يا (جوش)!).
-(حقا؟! لن نأخذ وقتا طويلا).
حملقت في (جوش) على ضوء البطارية لاحظت للمرة الأولى أنه يرتدي ثيابه كاملة. البنطلون (الجينز)، وقميص بكم طويل. قلت: (أنا لا أفهم يا (جوش). لقد بحثنا عن (بيتي) في كل مكان. أين تظنه يكون؟)
أجاب (جوش): (في المقابر).
عندما أتينا إلى (دارك فولز)؟ جرى ناحية المقابر الموجودة بعد المدرسة.
قلت له: (انتظر لحظة).
لقد ذهبنا إلى هناك بعد الظهر. ولكن لم نبحث بداخلها. هو هناك يا (أماندا). أنا أعرف ذلك. وسوف أحضره سواء جئت معي أم لا.
قلت له: (اهدأ يا (جوش)).
ووضعت يدي على كتفيه. واندهشت عندما وجدته يرتعش، ليس هناك سبب ما لوجود (بيتي) في المقابر.
قال (جوش): (هذا هو المكان الذي ذهب إليه أول مرة..)
كان يبحث عن شيء ما في ذلك اليوم، أستطيع أن أقول ذلك. أنا أعرف أنه هناك ثانية يا (أماندا) هل ستأتين أم لا؟)
سألته: (هل ستذهب وحدك إلى المقابر، في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟).
قال: (أنا لست خائفا).
وأضاء الحجرة ببطاريته.
للحظة، ظننت أن الضوء كشف عن شخص ما خلف الستارة فتحت فمي لأصرخ. ولكن لم يكن أحد هناك.
ردد وقد نفد صبره.. ستأتين أم لا؟
قلت على مضض: (نعم، وهو كذلك.. اخرج لكي أرتدي ملابسي..)
واطفأ البطارية فأظلمت الحجرة: (قابلني تحت).
قلت له: (اسمع يا (جوش). نظرة واحدة خاطفة على المقابر، ثم نعود بسرعة.. أتفهم؟).
-(نعم. سنكون في المنزل قبل أن ترجع أمي وأبي من الحفلة).
قلت لنفسي: (هذه فكرة مجنونة جدا).
بحثت في الظلام عن ملابسي لأرتديها وكان هذا أيضا نوعا من الإثارة.
كان (جوش) مخطئا بدون شك.. لن يكون (بيتي) في هذه المقابر حتى الآن.. لماذا يكون هناك؟ّ!!
ولكن على كل حال، سوف لن نمشي كثيرا. وهي أيضا مغامرة. شيء اكتبه (لكاثي) عندما أعود.
بعد بضع دقائق، ارتديت ثيابي، وغادرت البيت، ولحقت بجوش عند أول الطريق.
أضاء (جوش) البطارية ووجهها إلى أقدامنا.
دسنا الأوراق الميتة بأقدامنا ونحن نتجه إلى المدرسة. ومن هناك فقط سوف نمر بمبنيين. وبعدها المقابر.
همست: (الجو مظلم جدّا).
كانت المنازل سوداء وساكنة. لم يكن هناك بصيص من الضوء على الإطلاق، وكأننا الوحيدان في هذا العالم.
وجريت لألحق (جوش): (ليس هناك أي شيء هل أنت متأكد أنك تريد الذهاب إلى المقابر؟!)
كانت عيناه تتابعان دائرة الضوء المنبعثة من البطارية: (أنا أعتقد أن (بيتي) هناك بالفعل).
مشينا في الشارع. بجوار الرصيف. مررنا بمبنيين. وعندها ظهرت المدرسة سمعنا وقع خطوات خلفنا على الرصيف.
وقفنا أنا و(جوش). خفّض الضوء. وسمعنا الأصوات. لم أتخيلها هناك شخص ما يتعقبنا.



12

كان (جوش) مذعورا. وسقطت البطارية من يده، فأحدثت ضجة في الشارع.
وعندما نجح (جوش) في التقاط البطارية كان هذا الذي يتعقبنا قد لحق بنا. استدرت لأراه. كان قلبي يخفق بقوة بين ضلوعي.
-((راي)! ماذا تفعل هنا؟!)
وجه (جوش) الضوء إلى وجه (راي) فوضع (راي) يديه على وجهه ونكس رأسه في الظلام. صاح خائفا: (ماذا تفعلان هنا؟!)
قال (جوش) بغضب: (أنت تخيفنا). ثم وجه البطارية إلى أقدامنا.
قال (راي): (متأسف، كان ينبغي أن أناديكما، ولكني لم أكن متأكدا منكما).
أخبرته وأنا مازلت أجاهد لألتقط أنفاسي: ((جوش) تراوده فكرة مجنونة عن مكان (بيتي) لهذا السبب نحن هنا).
سأل (جوش) (راي): (وماذا عنك أنت؟)
قال برقة: (أحيانا يهرب مني النوم).
سألته: (هل والداك لا يعاتبانك على تأخرك في الليل؟)
على ضوء البطارية رأيت ابتسامة شريرة على وجهه. قال: (إنهما لا يعرفان!)
سأل (جوش) بعد أن نفد صبره: (هل سنذهب إلى المقابر أم لا؟)
ودون انتظار الإجابة بدأ يجري. على ضوء البطارية! استدرت ولحقت به لكي أكون بالقرب من الضوء.
نادى (راي) وأسرع للحاق بنا: (أين تذهبان؟)
قلت له: (إلى المقابر).
قال (راي): (لا لن تذهبا).
كان صوته خفيضا ومهدّدا حتى أني توقفت وقلت: (ماذا؟!!).
ردد قائلا: (لن تذهبا إلى هناك).
لم أستطع أن أرى وجهه. كان متخفيا في الظلام وبدت كلماته متوعدة.
نادانا (جوش): (أسرعا!)
ويبدو أنه لم يلحظ التهديد في كلمات (راي).
نادى (راي): توقف يا (جوش) -كان أمرا أكثر منه طلبا- لن تستطيع الذهاب إلى هناك!)
سألت: (لم لا؟!).
كنت أحس بالخوف.. وتساءلت في نفسي: (هل يعرف (راي) شيئا لا نعرفه؟ أو أنا أنسج شيئا من لا شيء).
حملقت في الظلام محاولة أن أرى وجهه.
قال بإصرار: (ستتعرضان للمشاكل إذا ذهبتما إلى هناك!!)
بدأت أفكر أني حكمت عليه خطأ. هو خائف أن نذهب لهذا، يحاول أن يمنعنا.
سأل (جوش) وهو يسبقنا: (هل ستأتيان أم لا؟!)
قال (راي) محذرا: (لا أظن أننا يجب أن نذهب)
أصرّ (جوش): (لا داعي لذهابك أنت، ولكن سنذهب نحن).
قال (راي): (صدقاني إنها فكرة سيئة).
ولكن جرينا أنا وهو لنلحق (جوش).
قال (جوش): ((بيتي) هناك.. أنا أحس بذلك!)
توسل (راي): (أرجوك.. انتظر).
ولكن (جوش) لم يقلّل من سرعته ولا أنا. كنت مهتمة بالذهاب لأنهي هذا الموضوع.
كانت السحب ماتزال تحجب القمر، حين وصلنا إلى المقابر،توقفنا عند بوابة على الحائط السفلي. في الظلام رأيت صفوف الأضرحة المتعرجة. انتقل الضوء في يد (جوش) من قبر إلى قبر. يقفز أعلا وأسفل أثناء المشي. وفجأة نادى: ((بيتي)!)
أحسست أنه يقلق سكون الموتى وشعرت بالخوف.
قال (راي) وكان يقف قريبا مني: (إنها فكرة سيئة).
جوش ينادي: ((بيتي)! (بيتي)!)
قلت (لراي): (أعرف أنها فكرة سيئة. ولكني لا أريد أن يذهب (جوش) بمفرده).
أصر (راي): (ولكن يجب أن نغادر هذا المكان!)
بدأت أتمنى لو يذهب بعيدا عنا. لم يرغمه أحد على المجيء معنا.
نادى (جوش) وهو على بعد ياردات منا: (هاي.. انظرا!)
داس حذائي الأرض الطرية، وجريت بين صفوف الأضرحة. لم أدرك أننا سرنا كل هذه المسافة.
قال (جوش) مرة أخرى: (انظرا!)
كان ضوء البطارية ينعكس فوق بناء غريب على حافة الجبانة.
أخذت بعض الوقت لأدرك ما هذا. إنه شيء غير متوقع. إنه مسرح. من الممكن أن تسميه مدرّجا. إنه صفوف من المقاعد تنحدر كالسلم حتى القاعدة.
وتعجبت: (ما هذا بحق السماء؟!!)
نادى (راي): ((أماندا) انتظري).
جذبني من ذراعي، ولكني اندفعت جارية!
شيء غريب من الذي يبني مسرحا مفتوحا على حافة المقابر؟!!
نظرت للخلف لأرى ما إذا كان (جوش) و(راي) في أثري. وعندئذ أمسك شيء بحذائي!
وجّه (جوش) الضوء إليه.. إنه جذع شجرة ضخم.
على شعاع الضوء المتقطع، تابعت الجذر المخيف، ليوصلني إلى شجرة قديمة ضخمة على بعد بضعة ياردات. كانت الشجرة الضخمة تنحني على أرضية المسرح، تميل بانحناءة على زاوية منخفضة حتى بدت وكأنها ستسقط في أي لحظة.
صرخ (جوش): (يالها من شجرة!)
قلت في تعجب: (كم هي مخيفة! يا (راي) ما هذا المكان؟)
قال (راي) بهدوء: (إنه مكان التجمع -وكان يقف بجواري يحملق في الشجرة المنحنية- إنهم يستخدمونها كقاعة للمدينة. إنهم يعقدون اجتماعات المدينة هنا.
صحت قائلة: (في المقابر؟!). كان من الصعب عليّ أن أصدق هذا.
قال (راي) بعصبية: (دعونا نذهب).
نحن الثلاثة سمعنا وقع الأقدام. كانت خلفنا في صفوف المقابر. التفتنا، وكان ضوء بطارية (جوش) ينعكس على الأرض.
(بيتي!)
إنه هناك، يقف بين أقرب صف منخفض من شواهد الأضرحة التفت بسعادة جهة (جوش) وصحت: (أنا لا أصدق هذا.. لقد كنت على حق!!)
(بيتي)! (بيتي)! بدأنا أنا و(جوش) نجري ناحية كلبنا. لكن (بيتي) قوّس رجليه الخلفيتين استعدادا للجري. حملق فينا، وكانت عيناه حمراوين كالجواهر في ضوء البطارية.
صحت: ((بيتي)! أخيرا وجدناك!!)
نكّس الكلب رأسه وبدأ يهرول بعيدا.
- ((بيتي)!.. ارجع! ألا تعرفنا؟!!)
وبسرعة، لحقه (جوش)، وجذبه من الأرض: ((بيتي) ما الأمر؟!!)
وبينما كنت أعدو، رفع (جوش) (بيتي) من الأرض: (ياه رائحته عفنة!!)
صحت: (ماذا؟!)
أمسك (جوش) بأنفه وقال: ((بيتي) - إن رائحته عفنة وكأنه فأر ميت!!)
قلت: ((جوش) إنه ليس سعيدا برؤيتنا إنه لا يكاد يعرفنا.. انظر إليه!)
وبالفعل. سار (بيتي) إلى صف المقابر المقابل، ثم التفت وحملق فينا بغضب.
وفجأة شعرت بالغثيان. ماذا حدث لـ (بيتي)؟! لماذا يتصرف بصورة غريبة؟! لماذا لم يكن سعيدا برؤيتنا؟!
قال (جوش) وهو مازال مشمئزا من الرائحة: (أنا لا أفهم!!)
نادى (راي): (من الأفضل أن نذهب!) كان مازال على بالقرب من الشجرة المائلة.
ناديت الكلب (بيتي) - ماذا أصابك؟ -لم يرد- ألا تتذكر اسمك؟ (بيتي)؟ (بيتي)؟!)
تعجب (جوش): (إخ! يالها من رائحة!!)
قلت: (يجب أن نأخذه للبيت ليأخذ حماما!)
قال (جوش) بتمعن: (ربما لا يكون هذا (بيتي)).
مرة أخرى برقت عينا الكلب بلون أحمر في شعاع الضوء.
قلت بهدوء: (إنه هو.. انظر، إنه يجذب السلسلة. اذهب وأحضره يا (جوش). ودعنا نذهب إلى المنزل).
ولكن (جوش) رفض. ولم يكن لديّ خيار. قلت: (وهو كذلك. سأحضره. ولكن سوف أحتاج للضوء.
سحبت البطارية من يد (جوش)، وبدأت أجري ناحية (بيتي) وصحت: (اقعد يا (بيتي) اقعد). كان هذا هو الأمر الوحيد الذي يطيعه (بيتي).
ولكنه لم يستجب للأمر هذه المرة. بل، استدار وهرول بعيدا وهو ينكس رأسه لأسفل.
صحت هاتفة: ((بيتي) - قف! (بيتي)، تعال هنا!)
صاح (جوش) وهو يجري بجواري: (لا تتركيه يفلت).
قلت: (أوه.. لا.. لا تقل لي أننا فقدناه ثانية).
بدأنا نناديه. وصحت: (ماذا حدث لهذا الكلب!)
حركت شعاع الضوء إلى أسفل صف المقابر ثم حركته بسرعة أسفل الصف المقابل.
استقرت دائرة الضوء على واجهة ضريح من الجرانيت. توقفت قليلا لقراءة الاسم على الضريح.
ولهثت قائلة: ((جوش) - انظر!!)
قال ووجهه يعلوه الارتباك: (هه؟ ما الأمر؟!)
(انظر الاسم على الضريح).
كان اسم (كارين سومرست).
قرأ (جوش) الاسم. حملق فيّ مازال مرتبكا.
قلت: (هذه صديقتي الجديدة (كارين) التي أتحدث معها في الملعب كل يوم).
قال (جوش): (هه؟ لابد أنه اسم جدتها أو شيء من هذا القبيل!!)
قلت له: (لا.. انظر إلى التواريخ!!)
قرأنا التواريخ تحت اسم (كارين سومرست). 1960 - 1972. قلت: (لا يمكن أن تكون أمها أو جدتها. مازلت أوجه الضوء على الضريح رغم أن يدي كانت ترتعش. هذه الفتاة ماتت وعمرها اثنتا عشرة أيضا. هي أخبرتني بذلك.
قطب (جوش) وجهه ونظر بعيدا وقال: (أماندا).
ولكني تقدمت بضع خطوات وأشرت بالضوء إلى الضريح التالي كان عليه اسم لم أسمعه من قبل. ثم انتقلت إلى الشاهد المجاور. اسم آخر لم أسمعه.
صاح (جوش) قائلا: (أماندا)، تعالي!
كان الضريح التالي عليه اسم (جورج كاربنتر). 1975 -1988
ناديت (جوش) وقلت له: ((جوش) - انظر! إنه (جورج) الذي قابلناه في الملعب).
أصر (جوش) قائلا: ((أماندا). لابد أن نحضر (بيتي)).
ولكن لم أستطع أن أنسحب من أمام الأضرحة. ذهبت من ضريح إلى ضريح، موجهة البطارية إلى الحروف المحفورة. ولزيادة رعبي وخوفي وجدت اسم (جيري فرانكلين) و(بيل جريجوري).
كل الأولاد الذين لعبنا معهم البيسبول. جميعهم لهم أضرحة هنا.
قاومت لكي أمسك بالضوء وأنا أوجهه إلى آخر ضريح في الصف لأقرأ اسم (راي ثرستون) 1977-1988.
سمعت (جوش) يناديني ولكني لم أرد عليه.
دارت بي الدنيا. قرأت النقش المحفور مرة أخرى.
وقفت هناك أحملق في الحروف والأرقام. ظللت أحملق فيها حتى أصبحت لا شيء.. مجرد ضباب رمادي.
فجأة أدركت أن (راي) قد زحف ووقف بجوار الضريح يحملق فيّ. وقلت وأنا أوجه الضوء إلى الاسم المحفور على الضريح: ((راي) أهذا هو.. أنت!! توهجت عيناه كالجمرات الميتة.
قال بهدوء: (نعم، إنه أنا -اتجه ناحيتي- أنا آسف جدا يا (أماندا).. إنه أنا!!)



13

خطوت خطوة للوراء، فانغرس حذائي في الأرض الطرية.
كان الهواء ثقيلا وساكنا. وصمت كل شيء وسكن.
فكرت في أني محاطة بالموت.
ثم تجمدت كلية. لم أستطع التنفس. كان الظلام يلتف حولي كالدوامة، يلف الأضرحة في ظلالها السوداء. وفكرت ماذا سيحدث لي!
بدا صوتي خافتا وبعيدا.
-(راي؟ هل أنت ميت بالفعل؟!)
قال: (أنا آسف. كان يجب ألا تكتشفي ذلك).
(-لكن- كيف؟! أقصد.. لا أفهم..)
كان (جوش) على بعد بعض الصفوف تقريبا في الشارع مازال يبحث عن (بيتي).
همست: ((بيتي)!)
وكانت حنجرتي جافة، ومعدتي تنقبض من الرعب.
قال (راي) بنبرة منخفضة: (الكلاب دائما تعرف.. تعرف الأموات الأحياء).
-(هل تعني... أن (بيتي).. مات؟!)
أومأ (راي) إيجابا: (إنهم يقتلون الكلاب أولا).
صرخت وخطوت خطوة أخرى للوراء: (لا!)
قال (راي): (لم يكن من المفروض أن تري هذا).
كان وجهه النحيف وعيناه السوداوان تعكسان حزنا حقيقيا وهو يقول: (كان لا يجب أن تعرفي. على أي حال، أنا الحارس. كان من المفروض أن أقوم بالحراسة، لكي أتأكد من أنك سوف لن تشاهدي هذا إلا في الوقت المناسب).
صرخت: (أكنت تراقبني من النافذة؟! هل أنت الذي كنت في حجرتي؟!)
أومأ برأسه إيجابا ثم قال: (اعتدت أن أعيش في منزلكم).
أخذ خطوة أخرى ناحيتي ودفعني للخلف على الضريح المرمري البارد، وهو يقول: (أنا الحارس).
دفعت نفسي للنظر بعيدا، حتى لا أنظر في عينيه المتوهجتين.
كنت أود أن أصرخ لـ (جوش) ليجري ويطلب النجدة. ولكنه كان بعيدا جدا.
قال (راي): (نحن في حاجة إلى دم أحياء جدد).
صرخت: (ماذا؟! ماذا تقول!!)
-(المدينة لا تستطيع أن تعيش بدون دم أحياء جدد).
من خلال الضوء المتقطع، استطعت أن أرى (جوش) وهو يأتي مقتربا ناحيتنا.
قلت لنفسي اجر يا (جوش).. اجر.. أسرع.. ناد على أحد.. أي شخص.
لقد استطعت أن أفكر في الكلمات.. لماذا لا أصرخ بها؟
لمعت عينا (راي) بتوهج. كان يقف أمامي بالضبط. كانت ملامحه جامدة وباردة.
همس: أنا في ورطة!! أنا كنت الحارس. ولكني في مأزق!!
قلت: ((راي).. ماذا ستفعل؟!)
بدأ يرفع نفسه من فوق الأرض ويتجه ناحيتي.
شعرت بنفسي أكاد أختنق. لا أستطيع التنفس. لا أستطيع الحراك. فتحت فمي لأنادي (جوش) ولكن لم أستطع.
اقترب مني (راي). انقضّ عليّ، يخنقني. قلت لنفسي: (أنا مت.. مت).
الآن أنا ميتة أيضا.



14

ثم فجأة، انشقّ الظلام بالنور.
سطع الضوء الأبيض للبطارية على وجه (راي).
سأل (جوش) بصوت عصبي ونبرة عالية: (ماذا يحدث هنا؟!)
صرخ (راي) وارتمى على الأرض.
صرخ قائلا: (أطفئ هذا الضوء.. أبعده عني!)
لكن (جوش) ظل مسلّطا موجها ضوء البطارية على وجه (راي) وسأله: (ما الذي يحدث؟! ماذا تفعل؟!!)
استطعت التنفس مرة أخرى. وأنا أحملق في الضوء حرك (راي) يديه ليداري بها نفسه من الضوء. ولكني كنت أرى ما يحدث له. كان الضوء يسبب له ألما مبرحا!
كان جلد (راي) يذوب في الضوء. وجهه كله كان يتدلى ثم يسقط من على جمجمته.
حملقت في دائرة الضوء الأبيض، غير قادرة على النظر بعيدا.
كان جلد (راي) يتجعّد ويتدلى ثم يذوب.
تجمد (جوش) من الرعب، وهو ممسك بالبطارية.
وحملقنا نحن الاثنين في الجمجمة ذات الحفرتين المظلمتين تحملقان فينا.
ارتعشت قائلة (أووه!) بينما كان (راي) يأخذ خطوة ليقترب مني. ولكني أدركت أنه لا يستطيع المشي. كان يتساقط.
قفزت جانبا بينما كان يتكوم على الأرض.
ولهثت بينما كانت جمجمته ترتطم بقمة الضريح المرمري.
صرخ (جوش): (تعالى! (أماندا).. تعالي! جذبني من يدي محاولا إبعادي).
ولكني لم أستطع التوقف عن الحملقة في (راي)، وقد أصبح كومة من عظام داخل بركة من الملابس المكرمشة.
(أماندا)، تعالي!. وحينئذ. وقبل أن أدرك ما قاله كنت أجري.. أجري بجوار (جوش) بأقصى سرعة أسفل صف طويل من الأضرحة ناحية الشارع.
كان الضوء ينعكس على ضباب الأضرحة ونحن نجري على النجيلة الطرية المغطاة بالندى، نلهث في الهواء الساكن الحار. وصحت: (لابد أن نخبر أمي وأبي. يجب أن نرحل بعيدا عن هذا المكان).
لم يكن هناك أي إضاءة في الشوارع، ولا في نوافذ المنازل التي مررنا بها، ولا حتى ضوء السيارات).
هذا العالم المظلم الذي دخلنا فيه.. حان وقت الخروج منه.
جرينا بقية الطريق إلى البيت. ظللت أنظر ورائي خشية أن يكون أحد يتعقبنا. ولكني لم أر أحدا. كانت المنطقة المجاورة ساكنة وخالية.
كنت أشعر بألم حاد في جنبي كلما اقتربنا من البيت.
ولكني أرغمت نفسي على الجري في الطريق الحصى الذي تعلوه تلك الطبقة الكثيفة من الأوراق الميتة، وعلى الشرفة الأمامية. دفعت الباب بقوة لأفتحه وصرخنا أنا و(جوش): (ماما.. بابا؟ هل أنتما هنا؟)
أرجوكما أن تكونا هنا. بحثنا في المنزل. لم يكونا بالبيت.
وتذكر (جوش) فجأة: (إنهما في الحفلة هل هما ما زالا في تلك الحفلة؟!)
كنا نقف في حجرة المعيشة. كلانا يتنفس بصعوبة. والألم في جنبي خفت حدته قليلا. أضأت كل الأنوار، غير أن الحجرة مازالت كئيبة وقاتمة.
نظرت إلى الساعة الموضوعة على الرف. وجدتها الثانية صباحا قلت بصوت مرتعش وضعيف: (لابد أنهما سيعودان الآن).
-(أين ذهبا؟ هل تركا رقم تليفون؟)
كان (جوش) في طريقه إلى المطبخ. تبعته وبينما نسير كنت أضيء الأنوار. ذهبنا إلى نوتة المذكرات على المنضدة حيث كانا أبي وأمي دائما يتركان لنا ملاحظات. لم نجد شيئا. كانت النوتة خالية. صرخ (جوش): (لابد أن نجدهما! كان يبدو مذعورا).
وعيناه الواسعتان تعكسان خوفه: (لابد أن نرحل من هنا).
سأل (جوش) -بينما كنا في طريق رجوعنا إلى حجرة المعيشة وننظر من النافذة الأمامية في الظلام-: (هل نستدعي البوليس؟) قلت وأنا أضغط بجبهتي الساخنة على الزجاج البارد: (لا أعرف، أنا لا أعرف حتى نرحل جميعا). صوت فتاة من خلفي يسألني: (ولم العجلة؟!) صرخنا أنا و(جوش) واستدرنا لنجد (كارين سومرست) تقف في منتصف الحجرة، ويداها على صدرها.
قلت بدون تفكير: (ولكنك ميتة!!)
ابتسمت ابتسامة حزينة ومريرة.
وعندئذ ظهر صبيان آخران من الطرقة. أحدهما أطفأ الأنوار.
وقال: (الضوء هنا كثير). وتحركا ليقفا أمام (كارين).
ثم ظهر آخر، (جيري فرانكلين) -صبي آخر ميت- ظهر بجانب المدفأة.
ورأيت الفتاة ذات الشعر الأسود القصير التي كنت قد رأيتها من قبل على السلّم تتحرك خلال الستائر.
كانوا كلهم يبتسمون وعيونهم تتوهج باهتة في الضوء الخافت. كلهم يتحركون في اتجاهي أنا و(جوش).
صرخت بصوت لا أدركه: (ماذا تريدون؟! ماذا ستفعلون؟!!)
قال (كارين) بنعومة: (اعتدنا أن نعيش في منزلكم).
وأضاف (جيري): (والآن ماذا تتوقعان؟! الآن نحن ميتون في منزلكم).
بدأ الآخرون يضحكون ضحكات جافة بينما كانوا جميعا يضيقون علينا الخناق أنا و(جوش).



15

صاح (جوش): (سوف يقتلوننا!)
شاهدتهم يتحركون ناحيتنا في صمت.
نظرت حولي في الحجرة المظلمة بحثا عن طريق للهرب. ولكن لم يكن هناك أي طريق نهرب منه. قلت: ((كارين) أنت بنت لطيفة، خرجت مني الكلمات دون تفكير. لمعت عيناها قليلا وقالت بنبرة كئيبة: (كنت لطيفة حتى انتقلت إلى هنا).
قال (جورج كاربنتر) بنفس النبرة المنخفضة: (كلنا كنا طيبين.. ولكننا الآن موتى).
صاح (جوش) وهو يرفع يديه أمامه وكأنه يحمي نفسه: (دعونا نذهب.. أرجوكم.. دعونا نذهب!)
ضحكوا مرة أخرى نفس الضحك الجاف الخشن. 
في الحال. ولهذا السبب دعيتم إلى إلى المنزل.
صحت بصوت مرتعش: (! أنا لا أفهم).
-(هذا هو (منزل الموتى). هنا حيث عاش كل من أتوا إلى (دارك فولز) أول مرة، عندما كانوا أحياء).
بدأ (جوش) قائلا: (ولكن عمنا الكبير..)
أومأت (كارين) برأسها، توهجت عيناها بالضحك: (لا. آسفة يا (جوش). ليس هناك عم كبير. كانت فقط حيلة لإحضاركم إلى هنا. مرة في السنة، لابد أن يأتي شخص جديد إلى هنا في الأعوام الماضية كنا نحن. لقد عشنا في هذا المنزل - حتى متنا هذا العام.. وقد جاء دوركم.
قال (جيري فرانكلين) وعيناه تتوهجان في الضوء المعتم: (نحتاج إلى حياة جديدة.. كل عام نحتاج إليها!!)
تحركوا تجاهنا بهدوء حتى أحاطوا بنا أنا و(جوش).
أخذت نفسا عميقا. ربما آخر نفس. وأغلقت عينيّ.
وعندئذ سمعت طرقا على الباب.. طرقا عاليا تردد مرات عديدة. فتحت عينيّ كل الأولاد والأشباح اختفوا. الجو رائحته كريهة حملقنا أنا و(جوش) في بعضنا وقد أصابنا الدوار، وبدأ الطرق مرة أخرى عاليا.
صاح (جوش): (ماما وبابا!)
جرينا نحو الباب.
صحت: (ماما! بابا! -وفتحت الباب- أين كنتما؟!
مددت ذراعيّ لأحضنهما معا - ووقفت ويداي في الهواء، وفتحت فمي ونطقت بصرخة صامتة.
قال (جوش) متعجبا وهو يقف بجواري: (السيد (راوز).. لقد توقعنا...)
وصحت بفرح: (أووه. السيد (راوز)، أنا مسرورة برؤيتك).
فتحت له الباب فسألنا: (هل أنتم بخير يا أولاد؟)
نظر إلينا وكان وجهه يعلوه القلق. وصاح أشكرك يا رب! لقد وصلت في الوقت المناسب!
بدأت أشعر بارتياح وقلت: (السيد (راوز) -وكانت الدموع في عيني- (أنا)... جذبني من ذراعي وقال وهو ينظر خلفه في الشارع: (لا وقت للكلام). أستطيع أن أرى سيارته على الطريق - كان المحرك يدور. كانت أنوار الفرامل فقط مضاءة: (كان يجب أن آخذكم من هنا يا أولاد قبل فوات الأوان).
بدأنا نتبعه أنا و(جوش) ولكن ترددنا.
ماذا لو كان السيد (راوز) واحدا منهم؟!
قال (راوز) وهو يمسك الباب ويحملق بعصبية في الظلام: (أسرعا، أعتقد أننا في خطر داهم!!).
بدأت أقول وأنا أحملق في عينيه الخائفتين محاولة تقرير ما إذا كنا نثق فيه أم لا: (لكن...)
قال السيد (راوز): (لقد كنت في الحفلة مع والديكما، وفجأة كونوا دائرة -جميعهم- حول والديكما وحولي. إنهم.. إنهم بدأوا يضيقون الخناق علينا. -قال السيد (راوز) وهو ينظر على الطريق خلفه- كسرنا الدائرة وجرينا نحن الثلاثة.
أسرعا. يجب أن نرحل جميعا من هنا، الآن!.
قلت لـ (جوش): (هيا بنا). ثم استدرت نحو السيد (راوز) وقلت: (... أين أمي وأبي؟!!)
-(سوف تريانهما حالا.. إنهما في الأمان الآن..)
تبعناه خارج المنزل على الطريق جهة السيارة.
قال السيد (راوز) وهو يمسك الباب الخلفي المفتوح للسيارة إيذانا لي بالدخول: (هناك شيء غريب في هذه المدينة بأكملها).
كان (جوش) قد استقر على المقعد الخلفي.
وجلست في الكرسي المجاور لمستر (راوز)، وأغلق الباب خلفي بقوة.
قال وهو يقود السيارة بسرعة، تجاه الطريق: (يجب أن نجري من هنا بأسرع ما يمكن قبل أن يلحقوا بنا).
داس بقوة على دواسة البنزين.
سألت بقلق: (أين والدانا؟!!).
قال السيد (راوز) وهو يحملق في زجاج السيارة بعينيه الضيقتين ووجهه المتوتر: (هناك مسرح مفتوح أمام المقابر، مبنى داخل الأرض تخفيه شجرة ضخمة. لقد تركتهما هناك. أخبرتهما ألا يتحركا منه. أعتقد أنهما في أمان.
ضغط السيد (راوز) على الفرامل وهو يوقفها على جانب الطريق. كنا على حافة الجبانة.
خرجت بسرعة من السيارة وكلّي لهفة لرؤية والديّ.
قال السيد (راوز) بلهفة: (أسرعا، وأغلق باب السيارة بهدوء. أنا متأكد أن والديكما متلهفين لرؤيتكما).
اتجهنا عبر الشارع نمشي أحيانا، ونجري أحيانا أخرى. وكان (جوش) يمسك البطارية في يده.
وفجأة، توقف (جوش) على حافة عشب المقابر وصاح قائلا: ((بيتي). تابعت نظرته فوجدت كلبنا الأبيض، كلب الصيد، يمشي هادئا بمحاذاة منحدر من الأضرحة).
صرخ (جوش) وهو يئن (بيتي)! وبدأ يجري نحو الكلب. غاص قلبي في أعماقي. لم أجد فرصة لكي أخبر (جوش) بما قاله لي (راي) عما حدث لـ (بيتي).
ناديت (جوش) وقلت له: (لا يا (جوش)! كان السيد (راوز) مرتبكا وقال لي: (ليس لدينا وقت، يجب أن نسرع. ثم بدأ ينادي (جوش) بصوت عال ليرجع. وقال وهو يجري: (سوف أحضره)، وجريت بأقصى سرعة بمحاذاة صفوف المقابر أنادي أخي وقلت له: ((جوش)! (جوش)، انتظرا! لا.. لا تجر وراءه! (جوش)، (بيتي) مات!!)
وصل (جوش) للكلب الذي كان يسير متمهلا، يشم الأرض ولا ينظر إلى (جوش). وفجأة تعثر (جوش) في شاهد قبر منخفض. وصرخ وهو يقع. ووقعت البطارية من يده محدثة باصطدامها بالضريح صوت طقطقة. وبسرعة لحقت به، وقلت له: ((جوش) - هل أنت بخير؟!)
تردد (جوش) ثم قال: (انظري). وأشار إلى الضريح الذي تعثر به.
استدرت زنظرت إلى الضريح لأقرأ النقش عليه. وبهدوء نطقت الكلمات كما قرأتها: ((كامبتون راوز. أر. آي. بي). 1950 - 1980.
بدأت رأسي تدور. شعرت بدوخة. أوقفت نفسي وأمسكت بـ (جوش).
(كامبتون راوز)!!
لم يكن هذا والده أوجده. لقد أخبرنا أنه الوحيد في عائلته الذي سمي (بكامبتون).. إذن فالسيد (راوز) هو أيضا ميت.
إنه واحد منهم. واحد من الموتى.
حملقنا في بعضنا البعض في الظلام الأرجواني. فنحن محاطون.. محاطون بالموتى وسألت نفسي: (والآن ماذا؟!. الآن ماذا؟!)



16

قلت لـ (جوش) وأنا أهمس بصوت مرتعش: (لابد أن نرحل من هنا)
جذبتني يد بشدة من كتفي. استدرجت لأجد السيد (راوز)، بعينين تضيقان. وهو يقرأ النقش على ضريحه.
صرخت وأنا يائسة جدا، ومرتبكة، وخائفة، ومذعورة: (سيد (راوز) أنت أيضا!). قال بحزن تام: (أنا أيضا.. كل أهل المدينة!).
توهجت عيناه وهو ينظر إليّ: (لقد كانت هذه مدينة عادية وكنا أشخاصا طبيعين. معظمنا كان يعمل في مصنع البلاستيك على أطراف المدينة. ثم وقع حادث. تسرب شيء من المصنع. غاز أصفر طفا على المدينة بسرعة فائقة حتى أننا لم نره.. ولم ندركه. وعندئذ، كان الوقت قد فات. ولم تعد (دارك فولز) مدينة عادية مثلما كانت من قبل فقد متنا جميعا يا (أماندا). متنا ودفنا. ولكننا لم نسترح. لم نستطع النوم. (دارك فولز) هي مدينة الموتى الأحياء).
واستطعت أن أسأل: (ماذا.. ماذا ستفعل بنا؟!!)
كانت ركبتاي ترتعشان بقوة لدرجة أني لم أستطع الوقوف. رجل ميت يمسكني بقوة من كتفي. رجل ميت يحملق بشدة في عينيّ.
نهض (جوش)، وسأله، وهويقف أمامنا وينظر بحدة إلى السيد (راوز): (أين أمي وأبي؟!!)
قال السيد (راوز) بابتسامة باهتة: (إنهما بخير وفي أمان، هيا معي. لقد حان الوقت لكي تلحقا بهما).
حاولت أن أفلت منه لكن يده كانت تطبق على كتفي. صرخت: (دعني أذهب).
اتسعت ابتسامته، وقال بنعومة وملاطفة: ((أماندا) الموت غير مؤلم).
صاح (جوش): (لا!)، وبسرعة التقط بطاريته من الأرض.
صحت: (نعم! سلّط الضوء على وجهه يا (جوش)، فقد يحمينا هذا الضوء. وقد يهزم السيد (راوز) كما فعل في (راي). قد يدمره).
وتوسلت لـ (جوش): (بسرعة - أضيء على وجهه!!)
تحسس (جوش) البطارية ثم وجهها ناحية وجه السيد (راوز) المخيف وضغط على زر الإضاءة.
لا شيء. لا ضوء.
قال (جوش): (لقد.. لقد انكسرت.. أظن أنها قد تحطمت عندما اصطدمت بالضريح..)
خفق قلبي بشدة. نظرت إلى الخلف.. إلى السيد (راوز). وكانت الابتسامة على وجهه، ابتسامة انتصار.



17

قال السيد (راوز) لـ (جوش)ك (إنها محاولة لطيفة).
تردد (جوش).
قال (راوز) بحدة، وقد نفذ صبره: (قلت، هيا بنا). ترك كتفي وأخذ خطوة تهديد نحو (جوش).
نظر (جوش) إلى البطارية عديمة الفائدة. ثم جذب ذراعه للخلف وضرب السيد (راوز) على رأسه بالبطارية.
أصابت البطارية هدفها. لقد أصابت السيد (راوز) في منتصف جبهته محدثة حفرة واسعة في جلده.
ندّت عن السيد (راوز) صرخة منخفضة، واتسعت عيناه دهشة. حملق ومد يده يتحسس الحفرة حيث ظهر جزء من عظام جمجمته.
وصحت قائلة: (اجر يا (جوش)).
تبعته وأنا أجري بأقصى ما لديّ من السرعة.
بنظرة إلى الخلف رأيت السيد (راوز) يترنح وراءنا وهو مازال ممسكا بجبهته المشقوقة. خطا بعض الخطوات ثم توقف فجأة ونظر إلى السماء. كانت السماء مضاءة. وكانت هذه الإضاءة شديدة عليه، كما أدركت. كان لابد أن يبقى في الظل.
انحنى (جوش) خلف نصب تذكاري طويل من المرمر قديم، ومنحن قليلا. انحنيت بجواره لألتقط أنفاسي.
وبينما كنا ننحني على المرمر البارد، كانت أعيننا تطالع المكان على الجانبين. وكان السيد (راوز) بنظراته الكئيبة، يتجه ناحية المدرج، ومازال يمشي تحت ظلال الأشجار.
همس (جوش) قائلا: (هو... هولا يطاردنا).
قلت وأنا أمسك بشاهد قبر: (إنه يعود. ضوء الشمس شديد عليه. لابد أنه ذاهب هناك لإحضار أمي وأبي).
صرخ (جوش): (هذه بطارية غبية).
قلت وأنا أشاهد السيد (راوز): (لا تقلق بشأنها). -واختفى السيد (راوز) خلف الشجرة الضخمة المائلة- ماذا سنفعل الآن؟! لا أدري....
جذبني (جوش) بشدة من كتفي وقال: (انظري!) وأشار قائلا: (ما هذا؟!!) تابعت عينيه المحملقتين، فرأيت بعض الشخصيات المظلمة تجري بين صفوف الأضرحة. يبدو أنهم أتوا من الخارج، من لا شيء. هل بعثوا من مقابرهم؟!
إنهم يسيرون بسرعة، وكأنهم ينحدرون على الأرض المائلة الخضراء، متجهين ناحية الظلال. كلهم يسيرون وعيونهم تنظر أمامهم مباشرة. لم يتوقفوا ليتبادلوا التحية مع بعضهم البعض. فقد كانوا يسيرون قاصدين المدرج المختفي وكأنهم عرائس متحركة تجذبهم الخيوط الخفية.
همست وأنا أشير: (هناك تجلس (كارين). و(جورج) وبقية الأولاد).
كان الأولاد، يتحركون من منزلنا بسرعة، ويسيرون اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة، يتبعون الظلال الأخرى وهم صامتون كأي شخص آخر.
قلت لنفسي: (كلهم هنا ما عدا (راي) لأننا قتلناه.
سألني (جوش) مقاطعا أفكاري الكئيبة، وعيناه على الظلال المتحركة: (هل تعتقدين أن أمي وأبي موجودان فعلا في هذا المسرح الغريب. قلت وأنا آخذ يد (جوش) وأبعده عن النصب: (تعال، يجب أن نستكشف الأمر).
بهدوء أخذنا طريقنا أنا و(جوش) تجاه المدرج، وانحنينا خلف الأضرحة انحناءة قريبة من الأرض.
كنا نجاهد من أجل الحركة. كنت أشعر أني أزن خمسمائة رطل إنه وزن خوفي ورعبي!
كنت مشتاقة لأعرف هل أمي وأبي هناك أم لا؟!!
ولكن في نفس الوقت كنت لا أريد أن أرى.
كنت لا أريد أن أراهما، وقد سجنهما السيد (راوز) والآخرون.
كنت لا أريد أن أراهما.. مقتولين.
جعلتني الفكرة أتوقف. مددت يدي وأمسكت بـ(جوش).
كنا نقف خلف الشجرة المائلة نختفي وراء كومة جذورها الناتئة الضخمة.
خلف الشجرة، ومن أسفل المسرح استطعت أن أسمع همهمة أصوات خفيضة.
همس (جوش): (هل أمي وأبي هناك؟!)
بدأ يخرج برأسه من وراء جانب الشجرة المائلة ولكن جذبته بحذر.
همست قائلة: (كن حذرا. لا تجعلهم يرونك. فإنهم تحتنا بحذر).
همس (جوش) وتوسل وكانت عيناه خائفتين: (ولكن لابد أن أعرف.. هل أمي وأبي بالفعل هنا؟!!)
انحنينا على كومة الجذور.
وعندئذ رأيتهما.
أمي وأبي، كانا موثقين ويقفان في وسط الأرض في قاع المدرج أمام الجميع.
كان منظرهما مؤلما فقد كانا مذعورين. كانت أيديهما مربوطة بقوة على جانبيهما، كان وجه أبي متوهجا. وشعر أمي أشعث يسقط على جبينها، بينما رأسها مدلاة. حدقت في الظلام الذي تضفيه الشجرة، ورأيت السيد (راوز) يقف بجوارهما بمحاذاة رجل آخر أكبر منه ورأيت صفوف المدرج المبني داخل الأرض ممتلئة بالناس. لا يوجد مكان واحد خال.
وأدركت أن كل من في المدينة لابد أن يكون هنا.
كلمن في المدينة ما عدا أنا و(جوش).
سألني (جوش) وهو يجذب يدي ويمسك بها بخوف: (سيقتلون أمي وأبي.. سوف يجعلون أمي وأبي مثلهم).
كان أبي وأمي يدينان رأسيهما، وهما يقفان أمام الحشد الصامت. كلاهما ينتظر مصيره.
قلت: (ماذا سنفعل؟!ِ!)
ردد (جوش) بسرعة: (ماذا سنفعل؟!!)
فجأة عرفت ماذا سنفعل. لقد واتتني فكرة. وهمست وأنا أبتعد عن الشجرة: (ربما نستطيع أن ننقذهما.. ربما نستطيع عمل شيء).
ترك (جوش) يدي. حدق فيّ بلهفة.
همست وأنا واثقة من نفسي جدا لدرجة أني لم أصدق: (سندفع هذه الشجرة عليهم... وبذلك سيملأ ضوء الشمس المدرج بأكمله).
صاح (جوش) على الفور: (نعم!.. يجب أن يغمرهم ضوء الشمس!)
ورأيت أن كل من في المدرج قد وقف. كلهم يحملقون ويتحركون للأمام تجاه أمي وأبي.
همست: (تعال يا (جوش)، سوف نجري ونقفز ثم ندفع الشجرة عليهم. تعال!).
جرينا وغرسنا أحذيتنا في الأرض وتحركنا بأسرع مالدينا من قوة ومددنا أذرعنا وتأهبنا).
وفي ثانية ضربنا جذع الشجرة، ودفعناها بكل ما أوتينا من قوة.
دفعناها.. دفعناها ولكنها لم تتحرك!



18

صحت: (ادفع.. ادفعها ثانية).
تنهد (جوش) تنهيدة مرهقة: (لا أقدر يا (أماندا). لا أستطيع أن أحركها، ورجع للخلف.
قلت: (حاول مرة أخرى. بسرعة.. ادفعها!)
اندفعنا لأكتافنا بعنف ناحية جذع الشجرة.
-(ادفع! استمر في الدفع!)
كانت العروق في يديّ توشك أن تنفجر. ولم تتحرك الشجرة.
فقط مالت إلى اليمين. علت الأصوات من أسفل.
رجعت للخلف وأنا أسمع صوت طقطقة خافتة ثم علا هذا الصوت حتى وصل إلى قعقعة ثم إلى زئير، كما لو أن الأرض كانت تتشقق وتنفصل. سقطت الشجرة القديمة بسرعة. وزارت بصوت كالرعد وتحطمت وهي تهز الأرض.
جذبت (جوش) وقفنا مندهشين لا نصدق ما حدث. وملأ ضوء الشمس المدرج.
وعلى الفور علت الصيحات، صرخات خائفة وغاضبة، صرخات مسعورة وهائجة.
تحولت الصرخات إلى عويل، عويل من الألم وسكرات الموت.
لقد أطبق ضوء الشمس الذهبي على الموجودين في المدرج، الأموات الأحياء بدأوا يتساقطون فوق بعضهم، يجرون ويندفعون ويتسلقون محاولين تحسس طريقهم إلى الظلال.
ولكن فات الأوان.
لقد أصبحوا مجرد تراب ثم ذابوا في الأرض. وتحللت ثيابهم معهم. استمرت صرخاتهم المتألمة تشق الفضاء، وهم يسقطون متحللين.
سددنا آذاننا أنا و(جوش) حتى لا نسمع الصرخات المروعة. نظرنا حولنا غير قادرين على أن نرى المدينة بأكملها تسقط وتتحول إلى ترا، تتحطم بفعل الشمس الصافية الدافئة.
كان أمي وأبي يقفان بعيدا، موثقين، وكانت تعبيرات وجهيهما مزيجا من الرعب وعدم التصديق.
صحت ماما! بابا!
لن أنس ابتسامتهما حينما كنا نجري نحوهما.
لم يأخذ والدي وقتا في تعبئة حوائجنا والتجهيز لعمال النقل لكي يعودوا بنا إلى منزلنا القديم.
وصل أبي إلى الطريق وبدأ ينطلق بسرعة. وفجأة صرخت: (قف!)
لست متأكدة لم، ولكن انتابني شعور مفاجئ أني أريد أن ألقي نظرة أخيرة على المنزل القديم.
ناداني والداي وهما في حيرة. دفعت الباب لأفتحه وجريت عائدة على الطريق. وقفت في منتصف الفناء.
حملقت في المنزل، إنه خال، صامت. مازالت تكسوه طبقات كثيفة من الظلال الرمّادية الزرقاء.
وجدت نفسي أحدق في البيت القديم وكأنني تحت تأثير النوم المغناطيسي. لم أعرف كم من الوقت وقفت هكذا هناك. صوت عجلات السيارة على الطريق الحصى أفاقني من السرحان.
استدرت لأرى سيارة كبيرة حمراء تقف في الطريق.
صبيّان في عمر (جوش) نزلا من الخلف يتبعهما والداهما. حدقت في المنزل، يبدو أنهما لم يلحظاني. قالت الأم: (ها نحن قد وصلنا)، وابتسمت لهما قائلة: (منزلنا الجديد). قال أحد الصبية: (لا يبدو جديدا. إنه قديم)، ثم اتسعت عينا أخيه عندما رآني وسألني: (من أنت؟!!) استدارت بقية الأسرة لتحملق فيّ: (- أوه. أنا.. آه.. لقد كنت أعيش في منزلكم). وجدت نفسي أنطق بهذه الإجابة.
ثم استدرت وجريت بأقصى سرعة إلى الشارع.
أليس هذا هو السيد (راوز) يقف في الشرفة وبيده لوح خشبي للكتابة؟!!
تعجبت ورأيت شبحا مظلما وأنا أجري نحو السيارة.
لا.. غير ممكن أن يكون هذا الشبح هو السيد (راوز) ينتظرهم هناك، في الشرفة.
غير ممكن. لم أنظر للخلف. أغلقت باب السيارة بشدة وانطلقنا.. وفجأة شاهدت على جانب الطريق كلبنا الحبيب (بيتي) وهو يجري محاولا اللحاق بنا وهو ينبح.. وتوقفنا والتقطناه ثم انطلقنا.
 (تمـــــــــــــــت)


لتحميل الكتاب اضغط (هنا)


مسلسل صرخة الرعب:
حلقة منزل الموتى:
الجزء الأول:


الجزء الثاني:


الجزء الثالث:
المصدر
اقرأ الكتب والروايات استمتع بالبرامج والمسلسلات والأفلام والكرتون اون لاين بدون تحميل ويمكنك أيضا تحميلها كما يمكنك قراءة احدث المواضيع في العالم واغربها من تكنولوجيا وأجمل التصاميم.