فن الإصغاء - إيريك فروم




مقدمة الترجمة العربية 


الدوغمائية والنسبوية تستبعدان الحوار 


يتفطّن الناقد الروسي ميخائيل باختين في كتابه عن دوستويفسكي لمسألة في الحوار على درجة كبيرة من الأهمية هي استبعاد النسبوية relativism والدوغمائية لكل حوار حقيقي، حيث تجعله النسبوية غير مفيد وتجعله الدوغمائية مستحيلاً. 



وتستوقفنا هذه الفكرة على وجه الخصوص بالنظر إلى اهتمامنا الشديد بالحوار بحثاً وترجمة، ولأنها لا تقتصر على إدراك خطر الدوغمائية على الحوار، كما جرت العادة، بل تتفطّن للخطر الآخر الذي لا يقل سوءاً وهو النسبوية. ويمكن القول إن النسبوية هي النفي المطلق لكل شمول، أو كما يعبر تودوروف، فعندها أن "كل شيء نسبي إذن... إلا مذهب النسبية، فهو شمولي!" ولكن الشمولية كامنة في القوانين العامة، وفي القواسم المشتركة، وفي وجود الواقع الموضوعي. وعلى حين تعتقد العقلانية بإمكانية الاقتراب من الحقيقة، وإمكانية جعل الرؤية أوضح وأشمل وأدقّ بالتدريج، لا تعتقد النسبوية بوجود أية حقيقة. وقد اتّخذ أحد النسبويين، وهو الروائي والسياسي الفرنسي موريس باريس Maurice Barrés (1862ـ 1923) من تبرئة دريفوس سنة 1906 في دعواه الشهيرة دعماً لفكرة النسبوية، حيث قال: "كان دريفوس خائناً إبان اثنتي عشرة سنة من خلال حقيقة قضائية (...) ومنذ أربع وعشرين ساعة، من خلال حقيقة قضائية جديدة، هو بريء. إنه درس عظيم أيها السادة، ولا أقول درساً في الريبية، وإنما في النسبوية، درس يدعونا إلى تهدئة أهوائنا." إنه يجعل مسألة براءة دريفوس أو إدانته مسألة نسبية تماماً، ولا مجال لمعرفة الحقيقة مهما درسنا مواد الإثبات أو النفي، لأن الحقيقة غير موجودة أصلاً. 


فالنسبوية هي تطرف في النسبية بنفي الشمول كلياً، كما يمكن لنفي النسبية أو تجاهلها أن يُدعى الشمولوية. وكلاهما تطرف؛ فالشمولوية تؤدي حتماً إلى الدوغمائية، والنسبوية إلى السلبية والانتهازية وتقهقر الفكر وانعدام الحوار. ولا يكون النظر السليم إلا في إدراك العام والخاص، والشامل والنسبي. والركيزة الأساسية للحوار هي الأسس المشتركة، وكما قال تودوروف، فإن "الشامل هو أفق التفاهم." والشمولية هي التي يتوقف عليها نجاح العلم، وعليها تنبني الأفكار التي تتجاوز إطار المصالح الضيقة، وتتأسس المنظومات الفكرية والمعرفية التي تجعل محورها إنسانية الإنسان. ويصف فرانسوا جوست الأدب المقارن بقولـه: "إنه علم بيئة على المذهب الإنساني، ونظرة شمولية تضمينية إلى العالم."


على أن باختين نفسه قد وقع في النسبوية في الكتاب نفسه الذي حذّر فيه من النسبوية والدوغمائية. وقد زعم أن الرواية الحوارية تقوم على بعدين هما: إما أن تؤخذ الأفكار لمضمونها، وعندها تكون صحيحة أو مغلوطاً فيها؛ وإما أن تؤخذ على أنها إشارات إلى نفسية الشخصيات. وتوهّم باختين أنه اكتشف حالة ثالثة في الفن الحواري، بعيدة عن الصواب والخطأ، وعن الخير والشر، وهي أن كل فكرة هي فكرة شخص، تتحدد بالنسبة إلى الصوت الذي يحملها، وبالنسبة إلى الأفق الذي تهدف إليه. وهكذا نجد تعددية وجهات النظر: فهناك وجهات نظر الشخصيات، ووجهة نظر المؤلف التي تستوعبها؛ ولا تعترف بالأفضليات أو الطبقية. وهذه هي النسبوية بعينها، النسبوية التي أدرك هو نفسه أنها تستبعد الحوار، فكيف تكون البعد الثالث للحوار! 


ولم ينجُ باختين من الدوغمائية كذلك، ولعل أبرز مثال على دوغمائيته هو اعتقاده أن أسطورة آدم التوراتية هي الوحيدة التي لا تدخل في علاقة تناصيّة مع أي نص سابق. يقول: "آدم فقط هو الوحيد الذي كان يستطيع أن يتجنّب تماماً إعادة التوجيه المتبادلة فيما يخص خطاب الآخر الذي يقع في الطريق إلى موضوعه. لأن آدم كان يقارب عالماً يتّسم بالعذرية، ولم يكن قد تُكلّم فيه، وانتُهك بوساطة خطاب الآخر."


فقد صار معروفاً أن أسطورة الفردوس السومرية "ديلمون" تكمن في أساس القصة التوراتية، وفيها جنة الآلهة التي تجري من تحتها الأنهار، وفيها أكْل إنكي من النباتات المحرّمة واللعنة التي انصبّت عليه لفعله هذا، وفيها امرأة تدعى "نين ـ تي" ومعناها "حواء" أو "السيدة التي تحيي" ومعناها كذلك "سيدة الضلع"، وفيها قصة عن الضلع تعدّ المصدر التفسيري لتكوين حواء التوراتية من ضلع آدم، وفيها ذكر للربات اللواتي يلدن من دون ألم أو عناء يوضّح خلفية اللعنة على حواء التي سيكون نصيبها أن تحبل وتلد الأولاد في ألم.  ولكن حتى هذه الأسطورة وكل الأساطير السومرية لا يمكن أن تعدّ البداية الأولى ذات البكورية بحيث لا تدخل في علاقة تناصيّة مع أي نص سابق. وكما قال كريمر: "على أن كتّاب الأساطير السومريين كانوا على العموم الورثة المباشرين للمغنين والزجّالين الأميين من أقدم الأزمان، وكان هدفهم الأول هو تأليف القصائد القصصية عن الآلهة التي من شأنها أن تكون جذابة وملهِمة ومسلية". وهكذا فإن الحلقة لا تنتهي. 


ولنحاول الآن بعد أن ذكرنا هذين العائقين للحوار، وهما النسبوية والدوغمائية، أن نعود إلى الشرطين اللذين لا بد منهما للحوار. 




شرطان للحوار


كنت في تقديمي للترجمة العربية لكتاب توينبي وإكيدا الحواري قد ذكرت أنه لنجاح أي حوار شرطان مسبقان. أولهما أن يفهم المرء أن للطرف الآخر، أي المشارك في الحوار، حقاً يساوي حقه جوهرياً. وهذا يعني أن يأخذ المرء رأيه بجدية، بوصفه رأياً ممكناً يستطيع أن يناقشه. ويترجم الفيلسوف الألماني أو. ف. بولنوف هذا الشرط إلى صيغة بسيطة بقوله: "إن الشرط المسبق الأول للحوار هو القدرة على الإصغاء إلى الآخر. والإصغاء بهذا المدلول يعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية، كذلك أكثر من فهم ما يقوله الآخر؛ إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئاً، شيئاً مهماً بالنسبة إليّ، شيئاً عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة، على تغيير رأيي."


أما الشرط المسبق الآخر فهو الثقة بالآخر، وتعني أن يكون المرء مستعداً للتصريح برأيه ولا يخشى الأذى. وقد قال الفيلسوف الصيني "لاوتسه": "إذا لم تثق بما فيه الكفاية، فلا أحد سيثق بك." ولا شيء كالحوار يخلق أساساً للثقة يترسّخ على نحو متقدم.
وبودي الآن أن أتعمق قليلاً وأطرح السؤال الجوهري التالي: كيف لي أن أصغي إلى الآخر وأثق به إذا كنت أساساً  لا أصغي إلى نفسي ولا أثق بها؟ 


ومن أبرز ما يلاحظه المرء حول انعدام الثقة بالذات على الصعيد العام وجود فريقين يعتقد كل منهما أنه على النقيض من الآخر، وهما يعبّران في الواقع عن الظاهرة نفسها: يرى أحدهما أن كل الأسباب لعدم تقدّمنا وتحقيق ما نصبو إليه هو الأجنبي الذي لا يدّخر وسعاً لعرقلتنا، في حين يرى الفريق الآخر أننا لا نستطيع أن نحقق ما نصبو إليه بأنفسنا ولا بد من تدخّل الأجنبي لتحقيق مصالحنا. إن كلا الفريقين يتّهم الآخر بشيء، ففريق يقول إن الآخر يجعل الأجنبي مشجباً يعلّق عليه كل شر، وتكون النتيجة عنده هي تبرئة الأجنبي أو تجاهل أخطاره، وفريق يقول إن الآخر يرضى بالتبعية ولا يؤمن بالوطن وما إلى ذلك ويكتفي بالشجب والشتيمة. ولكن كلا الفريقين يجعل للآخر الأجنبي القوة القاهرة التي لا يمكن لأية إرادة ذاتية أن تقف في وجهها، فإما هي قوة للشر وإما هي قوة للخير. ولا يحاول أي من الفريقين أن يدرس ويناقش القوة الداخلية والاستراتيجية التي نتخذها والأخطاء التي نرتكبها وإمكانية تحسين وضعنا ضمن الظروف الدولية الحاضرة. هل نقوم بأفضل ما في وسعنا؟


وحين يجري نقاش حول قضية من قضايا وجودنا، فإن الخلاف لا يحتدم على الأغلب إلا حول الأمور التي لم تحدث، فهذا يؤكد أن هذا ما سيحدث وذلك يؤكد أن ما سيحدث هو أمر آخر. إنهم لا يناقشون الوقائع وما يمكن أن تدل عليه، ولا يتنازعون على فهم ما يحدث، بل يتنازعون بسبب تباين الأحلام ـ أو حتى الكوابيس ـ التي تستولي عليهم. ولا يحدث الخلاف حول الوقائع إلا إذا تبيّن للحالم أن هذه الواقعة أو تلك تناقض حلمه بما سوف يحدث. ولكن فيما عدا ذلك، فالوقائع لا تهم كثيراً، ولا يجري الخلاف حولها، وكل الأهمية لما لم يحدث ـ للحلم أو الكابوس الذي يعيش فيه المرء. فهم في هذه الحالة لا يقرؤون الواقع، بل يجزمون بحدوث أمور لا يمكن أن يُستمد من الواقع مجرد الإشارة إليها. جلّنا إذن من الناس الذين يصفهم فروم في هذا الكتاب ـ "فن الإصغاء" ـ بأنهم أنصاف أيقاظ وأنصاف نيام. فهم، "ما داموا يعالجون مشكلات وجودهم الإنساني، فهم جهلة. وعندما يعالجون مسائل العمل، فهم يعرفون معرفة جيدة جداً. وعندئذ يعرفون كيف يترأّسون، وكيف يحتال المرء على الآخرين وعلى نفسه. ولكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الحياة فهم أنصاف أيقاظ أو أقل من أنصاف أيقاظ." فترى الناس بأحلامهم يتلاكمون، ولا أحد يصغي إلى الآخر، فجلّهم في حرب ومناجاة داخلية. 
فما السبب لعدم الإصغاء؟ 


الإصغاء والخلوة مع الذات 


يبيّن فروم في كتابه "الإنسان من أجل ذاته: بحث في سيكولوجية الأخلاق" أن شرط الوجود الاجتماعي هو الوجود في البيت، وشرط الإصغاء إلى الآخر هو الإصغاء إلى الذات. وإصغاء المرء إلى نفسه يواجه في ثقافتنا الحديثة صعوبات جمة. يقول فروم: "إن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة لأن هذا الفن يقتضي قدرة أخرى، نادرة في الإنسان الحديث: هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته. ونحن في الحقيقة قد أنشأنا رُهاب الانفراد؛ ونفضّل أتفه صحبة أو حتى أبغضها، وأكثر النشاطات خلواً من المعنى، على أن ننفرد بأنفسنا. ألأننا نعتقد أننا سنكون في صحبة بالغة السوء؟ أعتقد أن الخوف من أن نكون وحيدين مع من أنفسنا هو إلى حد ما شعور بالارتباك، يقارب الرعب من رؤية شخص معروف وغريب في وقت واحد؛ فنخاف ونولّي الأدبار. فنُضيع بذلك فرصة الاستماع إلى ذواتنا، ونستمر في جهلنا لأنفسنا." 


على أنه لا مندوحة للإنسان الذي يود أن يتقدم في الحياة من فهم نفسه بعمق إذا أراد أن يفهم الذين حولـه ويفهم العالم. فالمعرفة النفسية ليست اختصاصاً قد نميل إليه أو لا نميل، بل هي ضرورة لنا جميعاً مهما كانت اختصاصاتنا وتوجّهاتنا. ويقول فروم في كتابه "فن الإصغاء": "كيف للمرء أن يعرف العالم؟ كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ نحن المرشد، والقائد لهذا الـ "أنا" الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكوّن القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ "أنا"، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة." ويقول أيضاً: "إن التحليل النفسي ليس مجرد علاج، بل هو وسيلة لفهم الذات. أي أنه وسيلة في فن العيش، وهي في رأيي أهم وظيفة يمكن أن تكون للتحليل النفسي." 


وإذا كانت فصول هذا الكتاب قد وُجّهت أصلاً لفائدة المحللين النفسيين، فإنها قد راعت في الوقت نفسه أن تكون عوناً لكي يحلل كل إنسان نفسه ويفهمها ذاتياً. فمشكلة الإنسان ليست مستحيلة الحل، ولكن يجب مع ذلك عدم الاستهانة. ونحن نجد في ثقافتنا العربية عند بعضهم نوعاً من الميل إلى الاستهانة بالمشكلات الخطيرة التي تواجه المجتمع أو الأمة، توهماً من أولئك الناس أنهم يسهّلون حلها. وهم في الحقيقة في عدم تحليل المشكلة في مختلف أبعادها، وإيمانهم بحل سحري آت لا ريب فيه، إنما يعبّرون عن يأس عميق من حلها وعن ميل دفين إلى إسكات كل محاولة جدية للتغلّب عليها. ويقول فروم في هذا الكتاب: "وكل نوع من التشجيع المغلوط فيه قاتل، مؤذ، إلا إذا كان المريض في حالة ميؤوس منها إلى حد أن المرء لا يستطيع أن يتوقّع أن يكون للحقيقة الكاملة أي جدوى بعد ذلك." ويقول أيضاً: "فإذا شجّعتُ شخصاً وبالغت في تقليل شدة المشكلة، فإنني لا أقوم إلا بإيذاء الشخص، وذلك ببساطة لأنني أمنع طاقة الطوارئ من الظهور." 


والكتاب غني بالأفكار التي تساعد الإنسان على الإصغاء إلى نفسه وإلى غيره، غني بالتجارب والخبرات والأمثلة التي تساعد على معرفة الإنسان وتقدمه إلى الأمام، وعلى كشف ما يبديه المرء من مناورات لمقاومة التغيّر والصحة والتقدم، ومنها الميل إلى التوفيقية، وتساعد كذلك على التغلّب عليها. 


وفي هذه المقدمة لا أود أن أقدّم تعريفاً تقليدياً بالمؤلف، الذي هو أستاذ عظيم في فن الإصغاء، بل سأحاول تقديم صورة وجيزة عن علم النفس لديه بمقارنته بنظرية الأنظمة الحية. 




فروم ونظرية الأنظمة الحية 


تحتل نظرية الأنظمة الحية في هذه الأيام مركز الصدارة في العلم. وتتم فيها رؤية التنظيم الذاتي، وبتعبير آخر، الاستقلال الذاتي، على أنه علامة الحياة الفارقة؛ وهذه الفكرة يتم سبرها في عدة أنواع من السياقات، فيدرسها على مستوى الخلايا هومبرتو ماتورانا Humberto Maturana وفرنشيسكو فاريلا Francisco Varela، وتدرسها على مستوى الأسرة مدرسة ميلانو، ويدرسها على مستوى المجتمع نيكلاس لومان Niclas Luhman. وفي كل هذه الحقول استكشف العلماء الأنظمة الحية، والكليات المتكاملة التي لا يمكن أن تُختزل خواصّها إلى خواص أجزاء أصغر منها. وتتيح نظرية الأنظمة طريقة جديدة في رؤية العالم وطريقة جديدة تُعرف بـ "التفكير على أساس الأنظمة" أو "التفكير النظامي" وهذا يعني التفكير على أساس السياق والعلاقات والنماذج والسيرورات. والأنظمة الحية ليست طولية ـ بل هي شبكات ـ على حين أن التراث العلمي التقليدي قائم على التفكير الطولي. وتقول نظرية الأنظمة إن ماهية الحياة لا تكمن في الجزئيات، بل في النماذج والسيرورات التي ترتبط بها هذه الجزئيات، ونماذج الحياة الأساسية هي طرق ترتيب العلاقات بين السيرورات البيولوجية. 


والتحوّل الذي كان بالغ الإثارة في الفيزياء الحديثة كان تحولاً من رؤية العالم الفيزيائي بوصفه مجموعات من الكينونات المنفصلة إلى رؤية شبكة العلاقات. فما ندعوه جزءاً هو نموذج في تلك الشبكة من العلاقات قابل للتمييز، لأن لـه بعض الثبات. ويعتقد علماء نظرية الأنظمة بهذه الطريقة بدقة. وهم يقولون إن الكائن الحي يحدَّد بعلاقته بالبقية. فخواص الأشياء تنساب من علاقاتها. ورؤية العالم في نظرية الأنظمة إيكولوجية هوليسية، وتعني هوليسية أنها كلية ولكن كليتها ليست مجموع الأجزاء. وهذه الرؤية هي أكثر من ذلك. إنها لا تنظر إلى شيء بوصفه كُلاًّ وحسب بل كيف يترسّخ هذا الكل في كُلاّت wholes أكبر. فكل نظام حي هو كل، والنظام الحي الأكبر هو الأرض. ويغدو هذا الأمر مهماً على وجه الخصوص عندما تُدرس الأنظمة الحية ـ الكائنات العضوية الحية، والأنظمة البيئية، وهلم جراً ـ ولكن يمكن أن يُستخدم كذلك بالنسبة إلى الأشياء غير الحية. والعالم هو، قبل كل شيء، كائن حي، ولم يعد نظاماً ميكانيكياً ميتاً بل هو نظام حي، لـه ذكاؤه، وله "تنبّهه"، كما قال غريغوري بيتسون Gregory Bateson. 


ويقول فروم في توضيحه لموقفه السيكولوجي: "الإنسان نظام ـ كالنظام البيئي أو السياسي، أو نظام الجسم أو الخلية؛ أو نظام المجتمع أو المنظمة. ولدى تحليل نظام "الإنسان" نفهم أننا نعالج نظام قوى وليس بنية ميكانيكية لجُزيئات سلوكية. ولنظام الإنسان، كأي نظام، تماسك شديد في داخله. ويُبدي مقاومة كبيرة للتغيّر؛ وفضلاً عن ذلك، فإن تغيُّر مفردة فيه يُزعَم أنها "سبب" مفردة أخرى غير مرغوب فيها لن يُحدِث أي تغيير في النظام في كليته."


وبناء على هذا الفهم فقد كان فروم يعي أن الإنسان نظام في شبكة من الأنظمة، فلذلك كان يؤكد تحليل البنية الخاصة لأي مجتمع مذكور، وهذا ما لم يفعله فرويد ويونغ. ويقول في "فن الإصغاء": "والرأي عندي أن التحليل الاجتماعي والتحليل الشخصي لا يمكن أن ينفصلا. إنهما جزء من الرؤية النقدية لواقع الحياة الإنسانية." وفي دراسة البنية الاجتماعية يؤكد فروم أهمية العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية والنماذج الثقافية، وينبّه على الدور التوجيهي لما يسميه "الطبع الاجتماعي" في تكوين الطبع الفردي. ويرى أن على المحلل النفسي ألا يكتفي بدراسة علم النفس لفهم الإنسان، ويقول في هذا الكتاب: "إن منهج التدريب على التحليل النفسي يجب أن يتضمن دراسة التاريخ، وتاريخ الدين، والأسطوريات، والرمزية، والفلسفة، أي كل المنتجات الأساسية للذهن الإنساني." وهو يوصي المحللين النفسيين بدراسة بعض النصوص الأدبية، كأعمال بلزاك ودوستويفسكي وكافكا، حيث سيجدون فيها من التبصّر العميق للإنسان ما لا يجدونه في الكتابات التحليلية النفسية. ويقول، "وما يمكن أن يفعله التحليل النفسي، يجب أن يفعله فيما يتعلق بالأفراد." 


وهذا الفهم للإنسان على أساس الأنظمة يفضي بفروم إلى افتراقه عن التحليل النفسي الكلاسيكي الذي كان يقتصر على المعالجة الجزئية، كما هي الحال بالنسبة إلى القلق، الذي هو داء العصر. ويقول في "فن الإصغاء": "والرأي عندي أن التحليل النفسي بالمعنى الكلاسيكي ليس كافياً لهذا النمط من الداء. والمطلوب هو نمط مختلف لأن هذا الداء يعادل مسألة التغيّر الجذري في الشخصية الكلية. ولا يمكن لمن يعاني من هذا الداء أن يحلَّل بنجاح من دون تغيّر جذري ومن دون تحوّل طبعه. والتغييرات الطفيفة والتحسينات الزهيدة لا تفعل أي خير. ويمكن لنظرية الأنظمة الحديثة أن توضح ذلك. وأنا أشير إلى أن مفهوم الشخصية ـ أو المنظومة ـ نظام. أي أنها ليست المجموع الكلي للأجزاء، ولكنها بنية."


ويقول أيضاً: "فإذا أحدث المرء في هذه البنية تغيّرات طفيفة، فإنها لا تتغير كثيراً. ولتقديم مثال بسيط أقول: كانت الفكرة الشائعة هي تغيير الوضع في حي فقير ببناء دور أجود في الحي الفقير. ماذا يحدث؟ إنه بعد ثلاث أو خمس سنوات تكون الدور الجميلة الجديدة مثل دور الحي القديم تماماً. لماذا؟ لأن التربية قد ظلت نفسها، والدخل قد ظل نفسه، والصحة قد ظلت نفسها، والنماذج الثقافية قد ظلت نفسها ـ أي إن النظام ينمو فوق هذا التبدّل الطفيف، هذه الواحة الصغيرة، التي تندمج بعد فترة في النظام الكلي. وليس بمقدوركم تغيير الحي الفقير إلا إذا غيرتم النظام الكلي ـ فغيّرتم في الوقت نفسه الدخل، والتربية، والصحة، ومعيشة الناس كلها. وعندئذ ستغيّرون الدور كذلك. ولكنكم إذا غيرتم جزءاً واحداً فليس ذلك كافياً. وذلك لا يمكن أن يقاوم تأثير النظام الذي ـ إذا جاز القول ـ يهتم ببقائه حياً." 


ويضيف: "وبالمعنى نفسه فالفرد نظام أو بنية. وإذا حاولتم القيام بتغييرات طفيفة فإنكم سرعان ما تجدون أن هذه التغييرات ستزول بعد مدة من الزمن، لأنه لم يتغيّر شيء في الحقيقة وأنه لن يُحدث التغيّر إلا التحول الأساسي جداً في نظام الشخصية. ومن شأن ذلك أن يشمل تفكيرك، وعملك، وإحساسك، وتحركك، وكل شيء. وإن خطوة واحدة تكون متكاملة، كلية، أشد نجاعة من عشر خطوات لا تسير إلا في اتجاه واحد. وأنتم ترون الأمر نفسه في التغيّر الاجتماعي، حيث لا يُحدِث تغيّر واحد أثراً دائماً كذلك." 
ويختلف فروم عن النظرية الفرويدية، التي يراها غريزوية في أساسها؛ وذلك يعني أن كل شيء قائم على الغريزة، ثم ولا ريب كيف جارت البيئة على الغرائز من خلال الطبع. ويختلف عن رؤية فرويد للعوامل التكوينية، أي العوامل الوراثية، التي هي العوامل الغريزية على أساس نظرية اللبيدو، ويرى فروم أن العوامل التكوينية تتجاوز ذلك كثيراً. فما بالك بانعدام التحليلات الأخرى للمجتمع وفهم الرمزية وما إلى ذلك، وكيف أدى ذلك بالإضافة إلى اقتدائه بأفكار الطبقة المهيمنة في المرأة والطفل إلى تحريف كبير للعلاج عنده. 


وقد برز في نظرية الأنظمة الحية منذ ثمانينيات القرن العشرين مفهوم "قابلية التعزيز" وله الآن الدور المهيمن. وليس ما يعزَّز في الأنظمة القابلة للتعزيز هو النمو أو التطور الاقتصادي. وإنما هو النسيج الكلي للحياة الذي يعتمد عليه بقاؤنا طويل الأمد. وبكلمات أخرى، يُقصد أن تكون الجماعة القابلة للتعزيز على نحو لا تتعارض فيه طرقها في العيش والاقتصاد، وبناها وتقنياتها المادية، مع القابلية المتأصّلة في الطبيعة لتعزيز الحياة. 


ويستخدم فروم مفهوم العقل استخداماً مشابهاً لقابلية التعزيز حين يتكلم عن الدوافع والرغبات العقلية والسلوك العقلي. يقول في "فن الإصغاء": "إن العقلي هو كل الأعمال والسلوك التي ترفد نمو البنية ونشأتها. وغير العقلي هو كل تلك الأعمال السلوكية التي تعوّق نمو الكيان وبنيته وتقضي عليه، سواء أكان الكيان نباتاً أم إنساناً. وقد تطورت هذه الأمور، وفقاً للنظرية الداروينية، لتكون الجانب الآمن من مصالح الفرد والنوع والبقاء على قيد الحياة. ومن ثم فهي ترفد أساساً مصالح الفرد والنوع ولذلك هي عقلية. فالرغبة الجنسية عقلية. والجوع والظمأ عقليان تماماً." فليس العقل هنا هو العقل الوسيلي، وإنما هو قريب من مفهوم هوايتهد للعقل كما يشير فروم: "إن وظيفة العقل هي ترقية فن الحياة." وواضح أن فروم بعدم إغفاله مصالح النوع قد توصّل، بمصطلحات مختلفة، إلى ما توصّلت إليه نظرية الأنظمة بعد وفاته، ولا سيما حين نقرأ تعريف لِسْتر براون Lester Brown في "معهد المراقبة العالمية" لمفهوم قابلية التعزيز: "إن المجتمع القابل للتعزيز هو المجتمع الذي يُشبع حاجاته من دون إقلال إمكانيات الأجيال القادمة." 


وتأسيساً على ذلك فإن لدى الإنسان عواطف قابلة للتعزيز، أو عقلية ترفد الحياة، حسب اصطلاحيات فروم، وعواطف غير عقلية. وينشأ عن هذا الفهم اختلاف مع فرويد حول مفهوم العُصاب. فمفهوم فرويد للعُصاب هو أنه نزاع بين الغريزة والأنا. أما فروم فيرى أن "المشكلة الأساسية ليست محاربة الأنا للعواطف، بل هي محاربة نمط من العاطفة لنمط آخر من العاطفة." 


ويميّز فروم غير مسبوق كذلك بين العُصاب الخبيث والعصاب غير الخبيث. ويعني بفكرة العُصاب الخبيث أحوال العُصاب التي تكون فيها بنية الطبع متضررة. ويكابد الشخص العصاب غير الخبيث أو الخفيف، إذا كانت لا تستولي عليه من حيث الأساس العواطف الخبيثة، بل كان عصابه ناجماً عن صدمات نفسية عنيفة. ويشرح فروم ذلك بمنتهى الوضوح في هذا الكتاب. 


وتؤكد نظرية الأنظمة الحية أن النظام الحي كلٌّ متكامل مع فرديته، ولديه النزعة إلى توكيد نفسه والمحافظة على تلك الفردية. وهو بوصفه جزءاً من الكل الأكبر، يحتاج إلى دمج نفسه في ذلك الكل الأكبر. ومن بالغ الأهمية أن نفهم أن هاتين النزعتين متعارضتان ومتناقضتان. ونحن بحاجة إلى توازن دينامي بينهما، وهو أساسي للصحة الجسدية والذهنية. 


وكل من يقرأ كتب فروم يرى أن الهاجس المحوري لديه هو حرية الإنسان الفرد واجتماعيته، وانفصاله واتصاله، وأشكال هذا الاتصال. وكان يرى أن ثمة "شكلاً واحداً من التواصل لا يعوق النمو ولا يسبّب الصدام أو تبديد الطاقة، وذلكم هو الحب الناضج؛ وبه أشير إلى الحميمية الكاملة بين شخصين، يحتفظ كل منهما باستقلاله الكامل، وبمعنى من المعاني بانفصاله. ليس الحب في جوهره صدامياً ولا مبدِّداً للطاقة، لأنه يوحّد حاجتين إنسانيتين عميقتين هما التواصل والاستقلال."




تراث شفوي


بقي أن نقول إن هذا الكتاب هو من الكتب التي صدرت بعد وفاة فروم، ونشرها بعض علماء النفس المعاصرين من تلامذة فروم نقلاً عنه من المحاضرات التي كان يلقيها على طلابه من دون أن تكون لها أصول مكتوبة. وهذا فضل من هؤلاء العلماء الذين أرادوا أن تنتفع من تراث فروم أجيال جديدة ما كان لها أن تطّلع عليه لولا ذلك. وقد صدرت لفروم إلى الآن عدة كتب من هذا القبيل منها "الحب والدوافع الجنسية والنظام الأمومي: حول الجنوسة"، و"فن الوجود"، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو "فن الإصغاء". وقد أعدّه للنشر الدكتور راينر فونك Rainer Funk من جامعة مونيخ في ألمانيا استناداً إلى تسجيل المحاضرات وحلقات البحث باللغة الإنجليزية، وهو الذي قام بتبويب الكتاب ووضع العنوانات، باستثناء عنوان القسم الأخير، الذي صاغه فروم نفسه. 


وقد كانت المؤلفات القائمة على المرويات شائعة في تراثنا العربي، بل إن جُلّ كتب التراث قد وصلت إلينا من خلال هذه الطريقة. ونذكر من هذه الكتب "الأمالي" لأبي علي القالي و"أمالي الشجري" و"فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" لابن المرزبان. ولكن الاختلاف هو أنه ربما تصرّف النُّسّاخ قديماً إلى هذا الحد أو ذلك. ويختلف الأمر الآن، فتراث فروم الشفوي مسجّل بصوته بأكمله ومحفوظ في مؤسسة رسمية وتحمل كل وثيقة رقماً لسهولة التناول. والذي قام بالاختيار والتدوين والتبويب عالم معروف، وقد عزل إيضاحاته عن الأصل كما أشار في مقدمته. وله مؤلَّفان عن فروم، أحدهما كتبه وحده، والآخر بالاشتراك مع العالمين النفسيين "إيان بورتمان" Ian Portman و"مانويلا كونكل" Manuela Kunkel، وقد صدرت الطبعة الأولى منه سنة /2000/ بعنوان "إريك فروم: حياته وأفكاره". 


وقد أتاح لنا الدكتور راينر فونك فرصة ثمينة بعد كل هذه السنوات التي مرت على هذا الكلام المنطوق، فأثرى فكرنا وحياتنا ونحن نصغي إلى هذا المعلم الكبير في فن الإصغاء، كما كان طلابه المحظوظون يصغون إليه. 




محمود منقذ الهاشمي 

***




مقدمة المحرر 


صار معروفاً للكثير من الناس أن إريك فروم مختص بالعلاج النفسي. فقد زاول التحليل النفسي أكثر من خمسين سنة؛ وكان في أكثر من أربعين سنة نشيطاً في "نيويورك" و"مدينة مكسيكو" بوصفه مدرّساً ومشرفاً ومحاضراً جامعياً في معاهد تدريس التحليل النفسي والتدريب عليه. وما من شخص صاحبه في التحليل النفسي إلا آنس عدم هوادته بوصفه ناشداً للحقيقة ومرشداً نقدياً بمثل ما آنس قدرته الخارقة للعادة على التعاطف، وحميميته، وفورية علاقته بالآخرين. 


وعلى الرغم من أن فروم قد خطّط مراراً وتكراراً للكتابة والنشر عن منهجه العلاجي الخاص، لم تتحقق تلك الخطط. ولهذا فإن الإيضاحات المكتوبة عن أسلوب فروم في التفاعل مع المرضى الذين يقعدون قبالته ومع المحللين والزملاء الذين يتدربون على يديه ذات قيمة دائمة. وعلى المرء أن يذكر، قبل كل شيء، أعمال آر. يو. أكرت R. U. Akeret (1975)، ج. شرزانوفسكي (1977, 1993) G. Chrzanowski، ر. م. كراولي (1981) R. M. Crowley، د. إلكين (1981) D. Elkin، ل. إبشتاين (1975) L. Epstein، أ. هـ. فاينر (1975) A. H. Feiner، أ. غورِفيتش (1981) A. Gourevitch، أ. غراي (1992, 1993)  A. Grey     ، م. هورني إكارت (1975, 1982, 1983, 1992) M. Horney Eckardt، ج. س. كْوِيوِر (1975, 1991) J. S. Kwawer، ب. لانديس (1975, 1981, 1981a) B. Landis، ر. م. لسر (1992) R. M. Lesser، "ب. لوبان ـ بلوتسا" و"يو. إغلس" B. Luban - Plozza and U. Egles (1982)، م. نوريل (1975,1981) M. Norell، د. إ. شكتر (1971, 1981, 1981a, 1981b) D. E. Schecter، ج. سليبا غارسيا (1984, 1990) J. Silva Garcia، ر. شبيغل (1981, 1983) R. Spiegel، إ. س. تاوبر E. S. Tauber 
(1959, 1979, 1980, 1981, 1981a, 1982, 1988)، "إ. س. تاوبر" و"ب. لانديس" (1971) E. S. Tauber and B. Landis، إ. ج. فيتنبرغ (1981) E. S. Witenberg، ب. وولشتاين (1981) B. Wilstein، بالإضافة إلى إسهامات تلامذة فروم المكسيكيين التي ظهرت في مجلة Revista des Psicoanálisis, Psychiatry y Psicologia من 1965 إلى 1975 وفي المنشورات اللاحقة (Memoria, Anuario) التي أصدرها المعهد التحليلي النفسي في المكسيك، الذي أسّسه فروم. وإسهامات "م. باتشيا غالوبي"  M.Bacciaga- logia (1989, 1991, 1991a, 1993, 1993a)، "م. باتشياغالوبي" و"ر. بيانكولي" (1993) M. Bacciagaluppi and R. Biancoli، ر. بيانكولي (1987, 1992) R. Biancoli، د. بورستون (1991) D. Burston، م. كورتينا (1992) M. Cortina، ر. فونك (1993) R. Funk، ل. فون فيردر (1990) L. Von Werder تعتمد على الأعمال المذكورة أعلاه، وجزيئاً، على مخطوطات فروم غير المنشورة من قبل. 
ويمكن للمرء أن يعدّد على عجل ما نشره فروم في مسائل تتعلق بالعلاج التحليلي النفسي: الفصل الخاص بفهمه للأحلام في (E. Fromm, 1951a)، والنص المتصل بـ "حالة هانس الصغير" عند فرويد (E. Fromm, 1966k)، والتأملات المتعلقة بالمسائل العلاجية ـ التقنية (المتفرقة في كل كتاب E. Fromm, 1979a، وكذلك في قسم "إعادة النظر في العلاج التحليلي النفسي" في E.  Fromm, (pp. 70- 80) 1990. ومقابلة ريتشارد آي. إفانز Richard I. Evans' 1963 مع إ. فروم المتصلة بمسائل عن مفهوم فروم للعلاج، التي ظهرت في الإنجليزية والإيطالية وعدة لغات أخرى والتي نشرها إفانز ضد مشيئة فروم (E. Fromm, 1966f)، لا يمكن أن تفيد في أن تكون مصدراً، ما دامت "فيما أرى [فروم] لا تقدم أي تبصّر مفيد للعمل" ولا تمثّل "تمهيداً ولا نظرة عامة إلى العمل." وقد جرى نقل بعض العبارات التي قالها فروم في هذه المقابلة من الشريط كلمة بكلمة وتضمينها في الكتاب الحالي. 


وليست النصوص المنشورة بعد وفاة مؤلفها في هذا الكتاب كتاباً مدرسياً حول العلاج التحليلي النفسي؛ ولا هي بالبديل من عدم وجود شرح فروم لما يسمى تقنية التحليل النفسي. فليس مصادفة أن فروم لم يكتب كتاباً مدرسياً عن العلاج التحليلي النفسي ولم يؤسس مدرسته في العلاج. فالوجه الخاص لمنهجه العلاجي لا يمكن أن تحيط به "تقنية تحليلية نفسية" وهيهات أن يختبئ المحلل النفسي خلف "اعرف كيفية" توفير العلاج. 


إن الكتاب الحالي لا يتحدث عن التقنية التحليلية النفسية؛ وفعلاً، ففي رأي فروم، وضد زعم الكتب المدرسية عن التقنية التحليلية النفسية، لا وجود لمثل هذا الأمر. ومهما يكن، فالنصوص في هذا الكتاب تقدّم المعلومات عن فروم المعالج النفسي وطريقته في معالجة مكابدات الناس في زمننا. ولا يتمثّل منهجه العلاجي بالنظريات والتجريدات المسهبة، ولا بـ "الانتشالات" التشخيصية التفاوتية لـ "المادة المريضة"، بل بالأحرى بقدرته على الإدراك الفردي والمستقل للمشكلات الأساسية للإنسان. ورؤية فروم القائمة على المذهب الإنساني تسري في أفكاره عن المرضى وكيف يتعامل معهم. فلا يتمّ النظر إلى المريض على أنه النقيض؛ والمريض ليس شخصاً مختلفاً في الأساس. والتضامن العميق يمكن تبيُّنه بين المحلِّل والمحلَّل. ويفترض هذا التضامن أن المحلِّل قد تعلّم كيف يتعامل معه أو معها ولا يزال مستعداً للتعلّم بدلاً من الاختباء خلف "تقنية تحليلية نفسية". فالمحلِّل هو مريضه القادم، ويغدو مريضُه، بالنسبة إليه، محلِّله. وفي مقدور فروم أن يقيم وزناً للمريض لأنه يقيم وزناً لنفسه. ويستطيع أن يحلل المريض لأنه يحلّل نفسه بردود فعل التحول العكسي التي يثيرها المريض فيه. 


ولم يوجد أي نص من النصوص المنشورة في هذا الكتاب على شكل مخطوط؛ وإنما هي بالأحرى نسخ باللغة الإنجليزية منقولة من تسجيلات المحاضرات والمقابلات وحلقات البحث. وقد حاولت أن أحافظ على طابع الكلمة المنطوقة للنصوص التي تُنشر الآن أولَ مرة، وكانت في العادة تُلقى من دون أُمليات مطبوعة. وباستثناء القسم الأخير، فإن تقسيم النصوص وتسلسلها ووضع العنوانات قد تم اختيارها، أي هي من إضافتي. وفيما عدا ذلك، أشرت في النص إلى الإضافات المهمة بالإضمامات [ ]. والنسخ الإنجليزية المنقولة موجودة في محفوظات إريك فروم Germany) (Ursrainer Ring 24, Erich Fromm Archives ‎  D- 72076, Tűbingen, ‎. 


يحمل القسم الأول من الكتاب الحالي عنوان العوامل المؤدية إلى تغيّر المريض في المعالجة التحليلية ويؤلف نص المحاضرة التي قدّمها فروم في 25 أيلول، 1964 حول أسباب تغيّر المريض في المعالجة التحليلية في "جمعية هاري ستاك سوليفان" بمناسبة تخصيص البناء الجديد لـ معهد وليم ألانسون هوايت للطب النفسي في نيويورك. وهذه المحاضرة بارزة بوجه خاص لأن فروم يميّز فيها بين العُصاب الخبيث والعصاب غير الخبيث ويُظهر بوضوح شديد حدود المعالجة التحليلية النفسية (انظر كذلك: E. Fromm, 1991c، الذي نُشرت فيه هذه المحاضرة جزئياً.) 


ويشتمل القسم الثاني ("الجوانب العلاجية للتحليل النفسي") على مقتطفات من حلقة بحث كان فروم، بالاشتراك مع برنارد لانديس Bernard Landis قد قدّمها لطلاب علم النفس الأمريكيين في حلقة بحث مدتها ثلاثة أسابيع في لوكارنو Locarno سنة 1974. وفي السنوات التالية، كانت محاضرات حلقة البحث هذه، التي بلغ حجمها /400/ صفحة، قد أعدّتها سكرتيرته جوان هيوز Joan Hughes، على أساس التسجيلات ثم قام فروم بتنقيحها في بعض جوانبها. وكان فروم ينوي في الأصل أن يدمج أجزاء هذه النسخة المنقولة في كتاب عن العلاج التحليلي النفسي. وكان يُفترض أن يعالج القسم الأول من هذا الكتاب تحديدات الفهم الفرويدي. وكتب فروم مخطوط هذا القسم بعد أن أنهى كتابه أن نملك أو أن نكون في سنتي 1976 و1977. أما القسم الثاني، الذي من أجله نقّح نسخة حلقة بحث 1974، فقد كان يُفترض أن يعالج موضوعات المنهج العلاجي. ومهما يكن، فإن نوبة قلبية عنيفة في خريف 1977 قد حالت دون تواصل عمله في هذا الكتاب، وهكذا فإن القسم الأول منه، وهو البحث في التحليل النفسي عند فرويد، قد نُشر سنة 1979 بمعزل عن أن يكون القسم الثاني من الكتاب المخطط لـه (انظر E. Fromm, 1979a). 


والأجزاء المنشورة هنا من نسخة حلقة بحث 1974 تزوّدنا بمعلومات أصلية المصدر لا عن فروم المعالج وحسب (معلومات تُثريها بوجه خاص ملاحظاته حول بيان حالة يقدّمه برنارد لانديس في حلقة البحث)، بل كذلك عن إدراكه أحوال عصاب الطبع الحديث وضرورة المستلزمات الخاصة في معالجتها. وقد توسّع بعض أقسام حلقة بحث 1974 بالأقوال التي قالها فروم سنة 1963 في المقابلة التي سبق ذكرها. والقسم الأخير، الذي يحمل العنوان الذي صاغه فروم نفسه "التقنية" التحليلية النفسية ـ أم فن الإصغاء قد كتبه قبيل وفاته سنة 1980 وكان من المفترض أن يمهّد لنشر أجزاء المحاضرات المقدّمة في حلقة بحث 1974. 
توبنغن، كانون الثاني 1994. 
رايـنر فــونك 
***



القسم الأول


العوامل المؤدية إلى تغيّر المريض

في المعالجة التحليلية












الفصل الأول

العوامل الشفائية
حسبما ذكر زيغموند فرويد ونقدي لها




لدى التحدث عن العوامل التي تُفضي إلى الشفاء التحليلي، أعتقد أن العمل الأهم في الموضوع هو بحث فرويد، التحليل، محدَّد الأمد وغير محدَّد الأمد
(1937c)، الذي هو بحث من البحوث المتألقة، والذي إذا كان في وسع المرء أن يقول ذلك على هذا النحو، هو أحد أشجع أبحاثه، على الرغم من أنه لم يفتقر إلى الشجاعة في أي عمل من أعماله الأخرى. وقد كُتب قبل وقت غير طويل من وفاته، وهو إلى حد ما الكلمة الإيجازية الأخيرة عن جدوى الشفاء التحليلي. وأولاً سأُجمل باختصار أهم أفكار هذا البحث ثم سأعمد في القسم الأكبر من هذه المحاضرة، إلى التعليق عليها وتقديم ما هو بالإمكان من مقترحات ذات صلة بها.


قبل كل شيء، يستأثر في البحث بالاهتمام أن فرويد يقدم نظرية التحليل النفسي التي لم تتغيّر في الحقيقة منذ الأيام الباكرة. فمفهومه للعُصاب هو أن العُصاب نزاع بين الغريزة والأنا. فإما أن الأنا فيه الكفاية من القوة، وإما أن الغرائز شديدة القوة، ولكن الأنا هو حاجز، على أية حال؛ وهو غير قادر على مقاومة القوى الغريزية، ولهذا السبب يحدث العُصاب. إن هذه النظرية على وفاق مع نظريته الباكرة ونتيجة لها، وهو يقدّمها كذلك في ماهيتها من دون أن يحاول تزويقها أو تعديلها. وما ينجم عن ذلك أن الشفاء التحليلي يؤدي أساساً إلى تقوية الأنا الذي كان في الطفولة شديد الضعف، فيمكّنه آنئذ من التغلّب على القوى الغريزية، في الفترة التي يكون في الأنا كفاية من القوة.


ثانياً، ما الشفاء وفقاً لفرويد؟ إنه يجعله ناصع الوضوح، ويمكن أن أقتبس هنا من بحثه، التحليل، محدَّد الأمد وغير محدَّد الأمد، (1937; S. E., vol. 23. 23, p. 219) Analysis,  Terminable and Interminable. إذا تحدثنا عن الشفاء، "أولاً لن يعود المريض يعاني من أعراضه [السابقة] وسوف يتغلّب على قلقه وكوابحه." ويوجد شرط بالغ الأهمية. ففرويد لا يفترض أن البرء من الأعراض، أي زوال الأعراض بمفرده، يشكل الشفاء. فلا يمكن للمحلل أن يكون مقتنعاً بأن المريض قد شُفي إلا إذا كان مقتنعاً أن ما يكفي من الأعراض المادية اللاشعورية قد انتقل إلى السطح، مما يفسّر لماذا زالت الأعراض [من الطبيعي على مستوى النظرية]، ومن غير المحتمل أن تتكرر أعراضه المرَضية السابقة. وبالفعل، يتحدث فرويد هنا عن تدجين الغرائز (cf. loc. cit., p. 220). فالعملية التحليلية هي تدجين للغرائز، أو هي، كما يقول كذلك، جعل الغرائز "يسهل أن تصل إليها كل تأثيرات الاتجاهات الأخرى للأنا (loc cit.,p. 225). أولاً، يؤتى بالغرائز إلى الإدراك لأنه كيف يسعك أن تدجّنها خلافاً لذلك؟- ثم يغدو الأنا في العملية التحليلية أقوى وينال القوة التي أخفق في أن يكتسبها في طفولته.


ثالثاً، ما هي العوالم التي ذكر فرويد في هذا البحث أنها تحدد نتائج التحليل ـ فإما الشفاء وإما الخيبة؟ إنه يذكر ثلاثة عوامل: أولاً، "تأثير الصدمات النفسية"؛ ثانياً، "القوة التكوينية للغرائز"؛ ثالثاً، "تغييرات الأنا" في عملية الدفاع في وجه اندفاع الغرائز (cf. loc. cit., p. 225).


وعند فرويد أن التكهّن بالسير السلبي للمرض، يكمن في القوة التكوينية للغرائز، بالإضافة إلى تعديل أو بالاتحاد معه، وهو تعديل سلبي للأنا في النزاع الدفاعي. ومن المعروف جيداً أن العامل التكويني لقوة الغريزة قد كان بالنسبة إلى فرويد أهم عامل في تكهّنه بشفاء المريض من مرضه. وإنه لأمر غريب أن يكون فرويد في أعماله، من أولى كتاباته حتى هذا البحث الذي هو آخر كتاباته، قد أكّد أهمية العوامل التكوينية، وأنه لم يقم الفرويديون وغير الفرويديين بغير البَرْقَلَة على أبعد تقدير تجاه هذه الفكرة، التي كانت شديدة الأهمية عند فرويد.


وهكذا، يقول فرويد إن أحد العوامل السلبية بالنسبة إلى الشفاء هو القوة التكوينية للغرائز، ويضيف، حتى لو كان الأنا قوياً بصورة طبيعة. ويقول، ثانياً، حتى لو أمكن أن يكون تعديل الأنا تكوينياً. وبكلمات أخرى، لقد كان لديه عامل تكويني في جانبين: في جانب الغرائز وفي جانب الأنا. ولديه عامل آخر غير محبّذ أو سلبي، وهو ذلك الجانب من المقاومة الذي لـه جذوره في غريزة الموت. وتلكم هي إضافة، ولا ريب، تأتي من نظريته الأحدث. ولكن من الطبيعي في سنة 1937، أن يرى فرويد أنها عامل سلبي للشفاء كذلك.


فما هو الشرط الإيجابي للشفاء وفقاً لفرويد؟ إنه لأمر لا يعيه الكثيرون عندما يفكرون في نظرية فرويد، وهو، بحسب بحث فرويد هذا، كلما قويت الصدمة النفسية كانت فرص الشفاء أفضل. وسأبحث في مسألة لماذا كان ذلك كذلك ولماذا أعتقد أنها كانت كذلك في ذهن فرويد، برغم أنه لا يتكلم عن ذلك كثيراً.


إن شخص المحلل النفسي هو العامل الآخر الذي يكون من المأمول فيه أن يكون في صالح الشفاء. ويقدّم فرويد هنا، في البحث الأخير هذا، ملاحظة تستأثر بالاهتمام كثيراً حول الوضع التحليلي الذي من المفيد ذكره: يقول، إن المحلل "يجب أن يكون لديه نوع من التفوق حتى يستطيع في أوضاع تحليلية معينة أن يتصرف بوصفه أنموذجاً لمريضه، وفي أوضاع أخرى بوصفه معلماً. 


وأخيراً، علينا ألا ننسى أن العلاقة التحليلية قائمة على محبة الحقيقة ـ أي على التعرّف بالواقع ـ وأنها تمنع أي نوع من الغش والخداع" (S. Freud, 1937; S. E., vol. 23, p. 248). وأعتقد أنه قول شديد الأهمية قدّمه فرويد هنا بمنتهى الوضوح.
وكلمة أخيرة عن مفهوم فرويد هنا، الذي لا يضعه بصراحة بل هو ضمني ويتخلّل كل أعماله إذا كنت أفهمها على الوجه الصحيح. لقد كانت لفرويد رؤية ميكانيكية إلى حد ما لعملية الشفاء. وكانت الرؤية في الأصل، هي أنه إذا كشف المرء أو اكتشف العواطف المكبوتة فإن العاطفة إذ تصير شعورية تخرج من النسق، إذا صح أن يقال ذلك؛ وكان هذا يسمى التفريج، وكان الأنموذج أنموذجاً ميكانيكياً للغاية، كخروج القيح من بقعة ملتهبة وما إلى ذلك، وكان يُفترض أن حدوث ذلك أمر طبيعي تماماً، وآلي تماماً.


ورأى فرويد وكثيرون من المحللين الآخرين أن ذلك ليس صحيحاً، لأنه لو كان صحيحاً، لكان من شأن الناس الذين يتصرفون عن منافاة للعقل أن يكونوا أكثر الناس صحة لأنهم يُخرجون السخافات من نظامهم ـ وهم ليسوا كذلك. ولهذا تخلّى فرويد والمحللون الآخرون عن النظرية. ولكن هذه النظرية قد استُبدلت بها الفكرة الأقل صراحة وهي أن للمريض تبصّراً، أو إذا أردتم استخدام مصطلح آخر، أنه يصبح مدركاً واقعه اللاشعوري، فتزول أعراضه المرَضية ببساطة. وفعلاً ليس على المرء أن يبذل جهداً خاصاً، باستثناء المجيء، والتداعي، ومكابدة أحوال القلق التي يشتمل هذا الأمر عليها بالضرورة. ولكنها ليست مسألة الجهد الخاص من المريض، الإرادة الخاصة ـ فالمرء سوف يتعافى شريطة أن ينجح في التغلّب على المقاومة، وستصل المادة المكبوتة إلى البروز. وليست هذه النظرية في درجة ميكانيكية نظرية فرويد الأصلية في التفريج البتة. ولكنها لا تزال ميكانيكية إلى حد ما، كما أراها. فهي تحتوي على مفهوم ضمني أن العملية عملية سهلة، بمعنى أنه، إذا كشف المرء المادة، تعافى المريض في هذه العملية.


وأود الآن أن أضع بعض التعليقات على آراء فرويد هذه في الأسباب التي تُحدِث الشفاء، بعض الإضافات إليها، وبعض التنقيحات لها. وأريد أولاً أن أقول إنه، إذا سأل المرء ما هو الشفاء التحليلي، فأعتقد أن ما يوحّد المحللين، أو ما هو مشترك بينهم، هو مفهوم فرويد الأساسي القائل بأن التحليل النفسي يمكن تعريفه بأنه منهج يسعى إلى كشف الواقع اللاشعوري لشخص من الأشخاص وهو يفترض أن الشخص في عملية الكشف هذه تكون لـه فرصةُ أن يتعافى. وما دام في ذهننا هذا الهدف، فإن القدر الكبير من الصراع بين المدارس لا بد أن يكون منقوص الأهمية إلى حد ما. وإذا كان في ذهن المرء ذلك حقاً، عرف كم هو عمل غدّار وبالغ الصعوبة أن يعثر على الواقع اللاشعوري في الشخص، ولن تثيره الطرق المختلفة التي يسعى بها إلى القيام بذلك، بل يسأل المرء أية طريقة، أية منهجية، أية مقاربة، هي الأكثر إيصالاً إلى هذا الهدف الذي هو هدف كل ما يمكن أن يُطلَق عليه التحليل النفسي. وأود أن أقول إن أي منهج علاجي ليس لـه هذا الهدف قد يكون عظيم القيمة من الناحية العلاجية؛ ولكنه لا علاقة لـه بالتحليل النفسي، وفي هذه الناحية بالضبط سأقدم تقسيماً واضح الحدود.


وبالنسبة إلى مفهوم فرويد أن العمل التحليلي هو تمتين الحاجز في وجه اندفاع الغرائز، لا أريد أن أحاجّ ضد هذه المسألة، لأنني أعتقد أنه يمكن أن تقال أشياء كثيرة لصالحها. وأعتقد، بوجه خاص، أننا إذا عالجنا مسألة الذُّهان في مقابل العُصاب، فإننا نعالج هشاشة الأنا والأمر الغريب أن شخصاً ينهار وشخصاً آخر لا ينهار تحت تأثير بعض الدوافع. ولهذا فأنا لا أُنكر صحة المفهوم العام أن قوة الأنا لها بعض العلاقة بالعملية. ولكن بالرغم من ذلك، ومع هذا التحفّظ، يبدو لي أن أهم مشكلة في العُصاب والشفاء ليس بالضبط أنه هنا تأتي الأهواء غير العقلية وهناك الأنا الذي يقي الشخص من أن يُمسي مريضاً.


إذ يوجد تناقض آخر، وهو المعركة بين نوعين من الهوى، أعني الأهواء القديمة النكوصية غير العقلية ضد الأهواء الأخرى داخل الشخصية. وسأكون أوضحَ قليلاً لأجعل نفسي مفهوماً. إنني أعني بالأهواء القديمة: التدميرية الشديدة للغاية، والتعلّق فائق الحد بالأم، والنرجسية المتطرفة.


وأعني بالتعلق فائق الحد التعلّق الذي أسميه التعلّق الرمزي، أو الذي من شأن المرء أن يطلق عليه بالمصطلحات الفرويدية التعلّق ما قبل التناسلي بالأم. وأعني ذلك التعلّق العميق الذي يكون فيه الهدف فعلاً هو العودة إلى رحم الأم أو حتى العودة إلى الموت. وأود أن أذكّركم أن فرويد نفسه قد أعلن في آخر كتاباته أنه قد استهان بأهمية التعلّق ما قبل التناسلي. فلأنه قد وضع في كل أعماله الكثير جداً من التأكيد على الارتباط التناسلي، استهان بمشكلة الفتاة. وبينما من المعقول بالنسبة إلى الصبي أن يبدأ كل ذلك بالتعلق التناسلي الجنسي بالأم، فلا معنى لـه في الحقيقة مع الفتاة. وقد رأى فرويد أن ثمة قدراً كبيراً من التعلّق ما قبل التناسلي بالأم ـ أي غير الجنسي بالمعنى الأضيق للكلمة ـ يوجد في البنات والبنين على السواء ولم يحفل به بصورة كافية في أعماله بوجه عام. ولكن هذه الملاحظة صارت مفقودة إلى حد ما في الكتابات التحليلية، وعندما يتحدث المحللون عن المرحلة الأوديبية والصراع الأوديبي وعن الأمر كله، فإنهم في العادة يفكرون على أساس التعلّق أو الارتباط التناسلي، لا على أساس التعلّق ما قبل التناسلي بالأم.


ولا أعني بالتدميرية التدميرية الدفاعية أساساً، التي هي في خدمة الحياة، أو حتى التي هي في الدفاع عن الحياة بصورة ثانوية، كالحسد، وإنما التدميرية التي هدفها الرغبة في التدمير. وقد دعوت تلك التدميرية "النكروفيليا" necrophilia
[إن التعلّق القوي بالأم، والتدميرية النكروفيلية، والنرجسية المتطرفة هي أهواء خبيثة] ـ خبيثة لأنها مرتبطة بالمرض الشديد للغاية ومسبِّبة له. وضد هذه العواطف الخبيثة توجد في الإنسان كذلك العواطف المضادة لها: عاطفة الحب، وعاطفة الاهتمام بالعالم ـ وكل ما يُدعى الإيروس Eros، الاهتمام لا بالناس وحسب، بل كذلك الاهتمام بالطبيعة، والاهتمام بالواقع، واللذة في التفكير، وكل اهتمام فني.


إنه لمما يسير على الدُّرجة اليوم أن نتحدث عما يسميه الفرويديون وظائف الأنا ـ وهو ما أعتقد أنه تراجع يستدعي الشفقة واكتشاف لأمريكا بعد أن اكتُشفت بزمن طويل، لأنه لم يشك أحد من خارج الأُرثوذكسية الفرويدية أبداً بوجود وظائف كثيرة للذهن ليست نتيجة الغرائز بالمعنى الجنسي. وأعتقد أن المرء بهذا التأكيد للأنا قد قام ببعض التراجع عما كان الجانب الأثمن في تفكير فرويد، وأعني به تأكيد الأهواء. وفي حين أن قوة الأنا هي من بعض الوجوه مفهوم ذو معنى، فإن الأنا هو في أساسه منفّذ الأهواء؛ وهو منفّذ إما الأهواء الخبيثة وإما الأهواء غير الخبيثة. ولكن المهم في الإنسان، وما يحدد عمله، وما يصنع شخصيته، إنما هو أي نوع من الأهواء يحركه. ولتقديم مثال نقول: إن كل ذلك يعتمد على مسألة هل للشخص اهتمام عاطفي بالموت والدمار وكل ما هو غير حي، وهو ما دعوته "النكروفيليا" necrophilia، أم اهتمام عاطفي بكل ما هو حي، وهو الذي دعوتُه "البيوفيليا" biophilia. وكلتاهما عاطفة، وكلتاهما ليست نتاجاً منطقياً، وكلتاهما ليست الأنا. إنها جزء من الشخصية الكلية. وهاتان ليستا من وظائف الأنا. هاتان نوعان للعاطفة.


وهذا هو التنقيح الذي أود أن أقترحه فيما يتصل بنظرية فرويد: هو أن المشكلة الأساسية ليست محاربة الأنا للعواطف، بل هي محاربة نمط من العاطفة لنمط آخر من العاطفة.




***




الفصل الثاني

العُصاب الخبيث والعُصاب غير الخبيث
مع تاريخ حالة لعُصاب غير خبيث



قبل أن أمضي إلى السؤال: ما هو الشفاء التحليلي أو ما هي العوامل المؤدية إلى الشفاء التحليلي، من الطبيعي أن ينظر المرء ويفكر في السؤال: ماذا يوجد من أنواع العصاب؟ إنه توجد تصنيفات كثيرة للعصاب وتبدلات كثيرة في التصنيف. وقد افترض الدكتور منينغر Menninger مؤخراً أنه ليست لجلّ هذه التصنيفات قيمة خاصة، من دون اقتراح تصنيف جديد لـه مفهوم يزكّيه بوصفه مفهوماً تصنيفياً أساسياً. وأنا أود أن أقترح التصنيف التالي ـ وهو تصنيف بسيط جداً إلى حد ما ـ وذلكم هو الفارق بين العُصاب غير الخبيث والعُصاب الخبيث.


يكابد الشخص عصاباً غير خبيث أو خفيفاً، إذا كان ـ أو كانت ـ لا تستولي عليه من حيث الأساس إحدى هذه العواطف الخبيثة، بل كان عصابُه أو عصابها ناجماً عن صدمات نفسية عنيفة. وأنا هنا على أتم الوفاق مع ما قاله فرويد، أي أن أفضل فرص الشفاء تكمن بالضبط في تلك الأحوال العصابية حيث يعاني المريض من أعنف الصدمات النفسية. والمحاكمة العقلية لذلك هي أن المريض إذا أبقى صدمة نفسية قاسية من دون أن يغدو ذُهانياً أو أن يُسفر عن مظاهر مَرَضية مُُفزعة للغاية، فسيظهر بالفعل أنه أو أنها من وجهة النظر التكوينية لديه أو لديها قدر كبير من القوة. وفي تلك الأحوال العصابية التي لا يكون فيها ما أود أن أسميه نواة بنية الطبع قد تضرّر على نحو بالغ الشدة، أي الذي لا يتميّز بهذه الأحوال النكوصية الحادة، هذه الأشكال العنيفة من العواطف الخبيثة، أعتقد أن المحلل يجد فيها أفضل فرصة. ومن الطبيعي أن ذلك يقتضي العمل الذي يجب أن يتوضّح فيه كل ما كبته المريض، يجب أن يصل إلى الوعي؛ يعني: طبيعة العوامل الصادمة، وردود فعل المريض على هذه العوامل الصادمة ـ التي أنكرت، كما هو كثير التواتر، الطبيعة الحقيقية لهذا العامل الصادم.


وأريد أن أوضح العصاب غير الخبيث بمثال من تاريخ قصير لحالة امرأة مكسيكية أشرفت على علاجها. إنها غير متزوجة، في زهاء الخامسة والعشرين من العمر، وعَرَضها المرَضي هو السِّحاق. ومنذ سن الثامنة عشرة كانت لها علاقات سحاقية مع الفتيات الأخريات. وفي المرحلة التي تأتي فيها إلى المحلل لديها علاقات سحاقية مع مغنية ملهى، فتذهب كل ليلة لسماع صديقتها، وتسكر، وتكتئب، وتحاول الخروج من هذه الحلقة المرذولة التي تتفاقم فيها الصعوبات، ومع ذلك تخضع لهذه الصديقة، التي تعاملها معاملة بغيضة. وبالرغم من ذلك، يُفزعها كثيراً أن تتركها، ويُرهبها بشدة تهديد المرأة الأخرى بتركها، فتستمر في علاقتها بها.


والآن، فهذه صورة سيئة إلى حد ما: حالة سحاقية، ولكنها تتميز كثيراً بالقلق الدائم، والاكتئاب الخفيف، وانعدام الهدف في الحياة، وهلم جرا.


ما تاريخ هذه الفتاة؟ كانت أمها امرأة اتخذها رجل ثري خليلة لـه زمناً طويلاً، وكانت هي نسل هذه العلاقة، الابنة الصغيرة. وإلى حد ما كان الرجل شديد الدعم للمرأة والفتاة الصغيرة، ولكنه لم يكن أباً بادياً للعيان، فلم يكن ثمت حضور للأب. على أن الأم كانت امرأة كيّادة من جميع الوجوه ولم تستخدم الفتاة الصغيرة إلا لجني المال من الأب. كانت تبعث بالفتاة إلى الأب للحصول على المال منه، فتبتزّ الأب من خلال الفتاة، وتضعضع الفتاة بكل طريقة تستطيعها. وكانت شقيقة الأم مالكة لبيت دعارة. وقد حاولت أن تستميل الفتاة الصغيرة إلى البغاء، وبالفعل فقد ظهرت الفتاة الصغيرة ـ ولم تكن آنئذ صغيرة جداً ـ عارية أمام الرجال لتُجزى بالمال على ذلك. ومن المحتمل أن عدم تعريها أكثر من ذلك قد اقتضى منها الكثير من قوة الاحتمال. ولكنها كانت مرتبكة بصورة مريعة لأن أطفال مجمّع الأبنية، يمكن أن تتصوروا بأية أسماء ينادونها، بما أنها بصراحة لا مجرد فتاة من دون أب، وإنما لأنها ابنة أخت صاحبة مبغى.


هكذا نشأت حتى سن الخامسة عشرة لتصبح فتاة مرتاعة، متنحية عن الناس، لا ثقة لها بالحياة، أياً كانت. ثم أرسلها أبوها، وقد استبدّت به إحدى بَدَواته، إلى المدرسة، إلى كلية في الولايات المتحدة. ويمكن أن يتخيّل المرء تغيّر المناظر المفاجئ بالنسبة إلى هذه الفتاة الصغيرة، بمجيئها إلى كلية أنيقة نوعاً ما في الولايات المتحدة، وكانت فيها فتاة لطيفة معها أحبتها وعاملتها بمودة، وبدأتا علاقة سحاقية. والآن لا شيء يُدهش في ذلك. وأعتقد أنه من الطبيعي تماماً أن تبدأ فتاة شديدة الذعر، ولها ذلك الماضي، بصلة جنسية مع أي أحد، رجلاً، أو امرأة، أو حيواناً، إن أظهر نحوها عاطفة حقيقية؛ فهذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها من جهنم. ثم يتحقق لها وصال سحاقي آخر وتعود إلى المكسيك، تعود إلى الشقاء نفسه، مصحوبة بالحيرة دائماً، وهي مع الإحساس بالخجل على الدوام. ثم تصادف تلك المرأة التي تحدثتُ عنها والتي أبقتها في حالة الطاعة ـ وتلك حالتها عندما تأتي إلى المحلل.
وكان ما حدث في التحليل ـ وأعتقد أنه جرى في غضون سنتين ـ أنها تخلّت عن صديقتها السحاقية، ثم أقامت بمفردها بعض الوقت، ثم راحت تتواعد مع الرجال، ثم وقعت في حب أحد الرجال، ثم تزوجته ولم تكن حتى باردة. ومن الواضح أن هذه الحالة لم تكن من حالات الجنسية المثلية بأي معنى حقيقي. وأقول "من الواضح"ـ وقد يختلف معي بعضهم ـ ولكنها في رأيي فيها من الجنسية المثلية بمقدار ما هو من المحتمل أن يكون كامناً في جل الناس.


كانت هذه الفتاة بالفعل ـ ويمكن أن يرى المرء ذلك من أحلامها ـ ليست سوى مذعورة من الحياة إلى حد لا يطاق؛ كانت مثل فتاة تجيء من معسكر اعتقال،  وتكون مخاوفها كلها مشروطة بهذه التجربة. وفي زمن قصير نسبياً، إذا أخذنا في الاعتبار الزمن الذي يتطلّبه التحليل في العادة، تتطور هذه المريضة إلى فتاة سوية تماماً، ولها استجابات سوية.


أقدم هذا المثال لأشير بالضبط إلى ما أعني، وإلى ما أعتقد أن فرويد يعني، بالدور القوي للصدمات النفسية في نشوء العُصاب ضد العوامل التكوينية. ولا ريب أنني مدرك أن فرويد عندما يتحدث عن الصدمات النفسية يعني بها هذا الأمر المختلف عما من شأني أن أعنيه بها: إن من دأبه أن يبحث من حيث الأساس عن الصدمة ذات الطبيعة الجنسية؛ وأن يبحث عن الصدمة الحادثة في عمر أسبق. وأعتقد أن الصدمات في الكثير جداً من الأحيان تكون عملية مديدة تتبع فيها التجربة الأخرى، ويكون لك منها مجموع حقاً، وأكثر من المجموع، تكديس للتجارب ـ بطريقة أعتقد أنها لا تختلف كثيراً عن عصاب الحرب، حيث تأتي مرحلة التحطّم عندما يمرض المريض.


ومع ذلك، فالصدمة أمر يحدث في البيئة، التي هي تجربة حياتية، تجربة حياتية حقيقية. وينطبق هذا الأمر على هذه الفتاة وعلى هذه الأنواع من المرضى بالصدمات النفسية، حيث لا تكون نواة بنية الطبع في أساسها تالفة. فعلى الرغم من أن الصورة قد تكون بالغة الشدة حقاً في الخارج، فإنه تكون لدى المرضى فرصة طيبة جداً لأن يتعافوا ويتغلّبوا على العُصاب الاستجابي في زمن قصير نسبياً لأنهم سليمون من الناحية التكوينية.


وفي هذا السياق أود أن أؤكد أن خبرة الصدمة في العصاب غير الخبيث أو الاستجابي يجب أن تكون ضخمة حقاً لتكون تفسيراً لنشوء المرض العصابي. هل تظهر في حالة أب ضعيف وأم قوية؟ إن هذه "الصدمة" لا تفسّر إذن لماذا يكابد الشخص العصاب لأن ثمت الكثيرين الذين لديهم أب ضعيف وأم قوية ولا يصبحون عصابيين. وبكلمات أخرى، إذا أردت أن أفسّر العُصاب بحادثة صادمة فعليّ أن أفترض أن الحوادث الصادمة ذات طبيعة غير عادية بحيث لا يعتقد المرء أنه توجد أحوال لها الخلفية الصادمة نفسها وأصحابها معافون تماماً. ولهذا أعتقد في تلك الأحوال، عندما لا يكون لدى المرء ما يُظهره أكثر من أب ضعيف وأم قوية، فإن على المرء أن يفكر أنه توجد عوامل تكوينية تعمل عملها؛ أي عوامل تجعل هذا الشخص عُرضة للعصاب ولا يمكن لدور الأب الضعيف والأم القوية فيها أن يكون صادماً إلا لأن العامل التكويني ينزع إلى العصاب. وفي ظل الظروف المثالية فإن شخصاً كهذا يمكن أن يغدو مريضاً.


ولست راغباً في قبول الافتراض القائل بأن أحد الأشخاص يصير شديد المرض وكل تفسيري إنما هو تفسير يصدق على الكثير جداً من الآخرين الذين لا يُمسون شديدي المرض. وتجدون أسرة مؤلفة من ثمانية أطفال وأحدهم مريض وبقية الأطفال غير مريضين. وفي أغلب الأحيان يكون التعليل العقلي هو: "أجل ولكنه الولد الأول، الولد الثاني، الولد الأوسط، يعلم الله ماذا..." كان ذلك هو السبب الذي جعل تجربته تختلف عن تجربة كل الآخرين. وذلك يكون دقيقاً جداً عند الذين يودون أن يريحوا أنفسهم بأنهم اكتشفوا الصدمة النفسية، ولكنه بالنسبة إليّ تفكير شديد التهاون.


ومن الطبيعي أنه قد تكون هناك تجربة صادمة لا نعرفها، أي تجربة لم يرد ذكرها في التحليل. وإذا كان المحلل سيمتلك البراعة للعثور على تلك التجربة الصادمة القوية والحقيقية وغير العادية وسيستطيع أن يُظهر كيف كانت أساسية في نشوء العُصاب، فأنا سعيد للغاية. ولكنني لا أستطيع أن أدعو تجربةً صادمة ما يتبيّن أنه ليس تجربة صادمة في أحوال كثيرة أخرى. ويوجد عدد كبير من التجارب الصادمة التي هي غير عادية حقاً. ولهذا السبب قدّمت هذا المثال.


وثمت مثال آخر وهو ما أريد أن أذكره بعينه، وهو ظاهرة شديدة الحداثة، وسؤال أصعب من أن يجاب عنه. كيف يكون رجل المنظمة الحديثة، في الحقيقة، مريضاً: مغترباً، نرجسياً، من دون ارتباط، من دون اهتمام حقيقي بالحياة، واهتمامه الوحيد هو بالآلات والأدوات الصغيرة، و"السيارةُ السبور" أشدّ إثارة لـه من المرأة. والآن، كيف يكون مريضاً إذن؟


ويمكن من بعض الوجوه أن يقول المرء إنه مريض تماماً، ولهذا تتتابع أعراض معينة: فهو مرتاع، وهو مضطرب، ويحتاج إلى التأكيد المستمر لنرجسيته. ولكن في الوقت نفسه يمكن أن يقول المرء إن مجتمعاً بأسره لا يكون مريضاً بهذا المعنى: فالناس يؤدون وظائف. وأعتقد أن المشكلة التي يثيرها هؤلاء الناس هي كيف يكيّفون أنفسهم مع المرض العام، أو ما يمكن أن يُطلق عليه "التغيّرات المرَضية في الحالة السوية". وتكون المشكلة العلاجية بالغة الصعوبة في هذه الأحوال. فهذا الإنسان يعاني من نزاع "نووي"، أي من اختلال عميق في نواة شخصيته: فيُبدي شكلاً متطرفاً من النرجسية والافتقار إلى محبة الحياة. ومع ذلك فمن أجل شفائه عليه أولاً أن يغيّر شخصيته الكلية. وعلاوةً، سيكون المجتمع بأسره ضده، لأن المجتمع بأسره لصالح عُصابه. وهنا تكون أمام مفارقة في أن يكون لديك شخص مريض إلى حد ما نظرياً، ولكنه، مع ذلك، غير مريض بمعنى آخر. إنه لأمر بالغ الصعوبة أن تقرر أي نوع من التحليل تقوم به، وأنا أجد ذلك مشكلة عويصة حقاً.


وإذا تحدّثنا عما أدعوه العصاب غير الخبيث، فالمهمة بسيطة نسبياً، لأنك تعالج بنية طاقة نووية، بنية طبع؛ تعالج أحداثاً صادمة تفسّر التشوّه المرَضي بعض الشيء. وفي جو التحليل، في الشعور بالكشف عن اللا شعور مع المساعدة التي هي العلاقة العلاجية بالمحلل، تكون لدى الناس فرصة طيبة جداً لأن يتعافوا.


وما أعنيه بفكرة العصاب الخبيث قد قلته من قبل. إنها أحوال العصاب التي تكون فيها نواة بنية الطبع متضررة، حيث تكون إزاء أناس لهم ميول متطرفة إما نكروفيلية، وإما نرجسية، وإما مفرطة التعلّق بالأم، وفي الأحوال القصوى، غالباً ما تسير هذه الميول كلها معاً وتنزع إلى التلاقي. وهنا تكون مسؤولية العلاج الشفائي هي تغيير وظيفة الطاقة ضمن البنية النووية. وسيكون من الضروري للشفاء تغيير النرجسية، والنكروفيليا، وكل الارتباطات بسفاح الحُرُم. وحتى لو لم تتغير تماماً، حتى لو وُجدت وظيفة طاقة صغيرة فيما يسميه الفرويديون تركيزَ طاقةِ هذه الأشكال المختلفة، فإن ذلك من شأنه أن يُحدِث للشخص اختلافاً كبيراً. وإذا كان من شأن هذا الشخص أن ينجح في تقليل نرجسيته، أو في تنمية البيوفيليا عنده إلى حد أكبر، أو في تطوير اهتمامه بالحياة وما إلى ذلك، فإنه تكون لدى هذا الشخص فرصة ما ليتعافى.


وإذا تحدثنا عن الشفاء التحليلي، ففي رأيي أن على المرء أن يدرك اختلاف فرص الشفاء في الأحوال الخبيثة والأحوال غير الخبيثة إدراكاً جيداً. ورُبّ قائل يقول إن ذلك بحق هو الاختلاف بين الذُّهان والعُصاب، ولكنه ليس كذلك، حقاً، لأن أحوالاً كثيرة مما أدعوها أحوال عصاب الطبع الخبيثة ليست ذُهانية. إنني أتكلم هنا عن ظاهرة تجدونها في المرضى العُصابيين الذين تظهر لهم أعراض مَرَضية أو لا تظهر، والذين هم ليسوا ذُهانيين، وليسوا حتى قريبين من الذُّهان، ومن المحتمل ألا يصبحوا ذهانيين، ومع ذلك تكون مشكلة الشفاء مشكلة مختلفة كل الاختلاف.


وما هو مختلف كذلك إنما هو طبيعة المقاومة. إنكم لتجدون في العُصاب غير الخبيث ـ بعد كل المقاومة التي هي وليدة التردد، وبعض الخوف وهلم جرا ـ أن المقاومة من السهل نسبياً التغلّب عليها ما دامت نواة الشخصية سليمة. ولكن إذا تناولتم مقاومة ماأدعوه أحوال العصاب الخبيث، بالغ الشدة، فإن المقاومة تكون عميقة الجذور، لأن على المصاب أن يعترف لنفسه ولكثيرين من البشر أنه أو أنها شخص نرجسي تماماً، وأنه لا يهتم في الحقيقة بأي حد. وبكلمات أخرى، عليه أن يحارب الفراسة بقوة أعظم بكثير من قوة الشخص الذي يكابد العصاب غير الخبيث.


ما منهج الشفاء للعصاب بالغ الشدة؟ إنني لا أعتقد أن المشكلة هي في أساسها تقوية الأنا. وأعتقد أن مشكلة الشفاء تكمن فيما يلي: أن يجابه المريض الجانب القديم غير العقلي من شخصيته بالجانب السليم، الراشد، الطبيعي وأن هذه المجابهة عينها تخلق النزاع. وهذا النزاع ينشّط القوى التي على المرء أن يتخذها إذا كان لديه الرأي أنه يوجد ثمت شخص ـ بقوة تزيد أو تنقص، وأعتقد مرة أخرى أن المجاهدة من أجل الصحة، المجاهدة من أجل التوازن الأفضل بين الشخص والعالم إنما هي عامل تكويني. وعندي أن ماهية الشفاء التحليلي تكمن في صميم النزاع الذي يُحدِثه التقاء الجانب العقلي مع الجانب غير العقلي في الشخصية.


وإحدى عواقب التقنية التحليلية هي أن على المريض أن يسير على سِكّتين: فعليه أن يَخبُر نفسه بوصفه طفلاً صغيراً، ولنقل ابن سنتين أو ثلاث سنوات بحيث يكون في حالة لا شعورية، ولكن عليه في الوقت نفسه أن يكون شخصاً بالغاً مسؤولاً يواجه هذا الجانب في نفسه، لأنه في هذه المجابهة يكتسب الإحساس بالصدمة والإحساس بالنزاع والإحساس بالحركة الذي هو ضروري للشفاء التحليلي.


ومن وجهة النظر هذه فإن المنهج الفرويدي لا يسدّ الحاجة. وأعتقد أننا نجد هنا تطرفين: والتطرف الفرويدي هو أن يجعل وضعًُ الأريكة، وقعود المحلل خلفها وما إلى ذلك المريضَ طفلاً بصورة مصطنعة، وهي الطقسية الكاملة للحالة. وقد توقّع فرويد، وفسّر رينيه سبيتس Rene Spitz هذا التوقع في مقالة له، أن هذا هو الغرض الحقيقي للتحليل النفسي، وهو جعل المريض طفلاً بصورة مصطنعة حتى يَبرز أكثرُ المادة اللاشعورية. وأعتقد أن هذا المنهج يشكو من أن المريض لا يجابه بهذه الطريقة نفسه مع المادة الطفولية القديمة؛ فيصبح لا شعورَه، يصبح طفلاً. كل هذا يخرج، كل هذا يدخل، ولكن المريض ليس هناك.


ولكنه ليس صحيحاً أن المريض طفل صغير. إن المريض (ولنفترض في الحال أنه ليس ذُهانياً خطيراً) هو، في الوقت نفسه، كائن بالغ عادي، لديه إحساس، ولديه ذكاء، ولديه كل أنواع الاستجابات التي تليق بكائن طبيعي. ولهذا يستطيع أن يستجيب لهذا الكائن الطفلي فيه. فإذا لم تحدث هذه المجابهة، كما لا تحدث عادة في المنهج الفرويدي، لم يظهر بالفعل هذا النزاع، ولم يتحرك هذا النزاع، وفي رأيي أن شرطاً من أهم شروط الشفاء التحليلي ينعدم في هذه الحالة.


والتطرف الآخر المبتعد عن فرويد هو منهج العلاج النفسي الذي يسمى في بعض الأحيان التحليل كذلك والذي يفسُد فيه الأمر كله ويؤول إلى محادثة بين المحلِّل والمريض البالغ، حيث لا يظهر الطفل على الإطلاق، وحيث يخاطَب المريض وكأنه لم تكن فيه تلك القوى القديمة، وحيث يأمل المرء أنه بنوع من الإقناع، وبأن يكون لطيفاً مع المريض ويقول له: "كانت أمك سيئة، وكان أبوك سيئاً، ولكنني سوف أساعدك، وستجد نفسك آمناً" سوف يشفيه ذلك. والعُصاب الخفيف جداً يمكن أن يشفى بتلك الطريقة، ولكنني أعتقد أن ثمت مناهج أقصر من خمس سنوات. وأعتقد أن العصاب الخطير لا يشفى ما لم تُنبش، كما قال فرويد، وتُكشف المادة اللاشعورية الكافية التي لها صلة وثيقة به.


وما أقترحه هنا هو ببساطة أن الوضع التحليلي هو بالنسبة إلى المريض وإلى حد ما بالنسبة إلى المحلِّل وضع ينطوي على المفارقة، فليس المريض مجرد الطفل والشخص غير العقلي الذي لديه كل أنواع الأُخيولات المهوَّسة، ولا مجرد الشخص البالغ الذي يستطيع المرء أن يحادثه بذكاء عن أعراضه المرَضية. فلابد للمريض من أن يكون في الساعة نفسها وفي الآونة ذاتها قادراً على أن يَخبُر نفسه بوصفه كليهما، ولهذا يَخبُر المجابهة القوية التي تهيئ شيئاً للخروج.


وعندي أن المسألة الأهم فيما يتعلق بالشفاء هي النزاع الحقيقي الذي تُحدِثه هذه المجابهة في المريض. وهي لا يمكن أن تتحقق نظرياً أو بمجرد الكلمات. وحتى لو تلقّى المرء أمراً بسيطاً، كأن يقول المريض: "كنت خائفاً من أمي"، فماذا يعني ذلك؟ إنه نوع من الخوف الذي تعوّدناه جميعاً؛ فنحن نخاف المعلم، والشرطي، ونخاف أن يؤذينا شخص ما ـ إنه ليس أمراً يهتز لـه العالم. ولكن قد يكون ما يعنيه المريض عندما يقول إنه كان خائفاً من أمه يمكن أن يوصف، مثلاً، بهذه المصطلحات: "أُوضَع في قفص. ويوجد أسد في ذلك القفص. ويضعني أحدهم فيه ويغلق الباب، فبماذا أشعر؟" إن هذا هو ما يبرز بالضبط في الأحلام، أعني التمساح أو الأسد أو الببر الذي يحاول مهاجمة الحالم. ولكن استخدام كلمات "كنت خائفاً من أمي" تقصّر عن ضرورة التغلّب على الخوف الحقيقي للمريض.


***










الفصل الثالث

العوامل التكوينية والعوامل الأخرى للشفاء



أصل الآن إلى بعض العوامل الأخرى، بعضها مؤاتٍ وبعضها غير مؤات. أولاً، العوامل التكوينية. وقد أشرت من قبل إلى أنني أعتقد أن العوامل التكوينية مهمة للغاية. وفي الواقع، لو سألتموني عن العوامل التكوينية قبل ثلاثين سنة وكنت قد سمعت شيئاً أقوله لكنت مُقِلاًّ جداً؛ وكنت سأدعو ذلك نوعاً من التشاؤم الرجعي أو الفاشي الذي لا يسمح بالتغيير وغير ذلك. ولكنني في بضع سنوات فقط من الممارسة التحليلية أقنعت نفسي ـ لا على أساس نظري، لأنني لا أعرف حتى أي شيء عن نظرية الوراثة، بل من خلال تجربتي ـ أنه ليس صحيحاً أبداً افتراض أننا نستطيع أن نفسّر درجة العصاب بمجرد أنها متناسبة مع الظروف الصادمة والبيئية.
سيكون كل شيء على ما يرام لو أنه كان عندك مرضى بالجنسية المثلية واكتشفت أن للمريض [منهم] أماً قوية جداً وأباً ضعيفاً جداً، ثم تكوّنت لديك النظرية التي تفسّر الجنسية المثلية. ثم كان لديك بعدئذ عشرة مرضى لهم ذلك الأب الضعيف وتلك الأم القوية، ولكنهم لم يتحولوا إلى أناس يَغْشَون الأمثال. إنك بإزاء عوامل بيئية متشابهة لها نتائج شديدة الاختلاف. ولهذا أعتقد حقاً أنه إذا لم تتعامل مع عوامل صادمة بالمعنى الذي كنتُ أتحدثُ به من قبل، فإنك لن تستطيع حقاً أن تفهم نشوء العصاب إذا لم تهتمّ بالعوامل التكوينية، بمعنى أن بعض العوامل التكوينية، إما وحدها، لأنها شديدة القوة، وإما على الأقل بالتعاون مع بعض الشروط، تجعل العوامل البيئية صادمة جداً وغيرها لا تجعلها كذلك.


ولا ريب أن الاختلاف بين الرؤية الفرويدية ورؤيتي هو أن فرويد يفكر، حين يتحدث عن العوامل التكوينية، في العوامل الغريزية من حيث الأساس، على أساس نظرية اللبيدو. وأنا أعتقد أن العوامل التكوينية تتجاوز ذلك كثيراً. ولا يمكنني أن أحاول هنا أن أشرح ذلك الآن أكثر، وأعتقد أن العوامل التكوينية تشمل لا مجرد العوامل، التي تُعرَّف غالباً بأنها المزاج ـ سواء بمعنى الأمزجة اليونانية أو بالمعنى الذي أراده شيلدون Sheldon، بل كذلك عوامل كالحيوية، ومحبة الحياة، والشجاعة، وأموراً كثيرة أخرى لا أريد حتى أن أذكرها. وبكلمات أخرى، أعتقد أن الشخص، في نيله حظه من الصِّبغيات (الكروموسومات)، يجري تصوُّر أنه كائن شديد التحديد. ومشكلة حياة الشخص هي، حقاً، ما تفعله الحياة لذلك الشخص المعيّن الذي يولد بطريقة معينة. وفعلاً، أعتقد أنها ممارسة بالغة الجودة أن يتفكر المحلل ماذا من شأن هذا الشخص أن يكون لو كانت شروط الحياة مؤاتية لما جرى تصوُّر أن يكونه ذلك النوع من الكائن، وما هي التعويجات والأضرار التي قامت بها الحياة والظروف نحو ذلك الشخص المخصوص.


وضمن العوامل التكوينية المؤاتية تقع درجة الحيوية، وخصوصاً درجة محبة الحياة. وأنا شخصياً أعتقد أن المرء قد يصاب بعصاب خطير نوعاً ما، مع قدر كبير من النرجسية، وحتى مع قدر كبير من الارتباط بسفاح الحُرُم، ولكن إذا كانت لدى المرء محبة الحياة كانت لـه صورة مختلفة كل الاختلاف. ولنقدم مثالين: أحدهما روزفلت والآخر هتلر. وكان كلاهما نرجسياً، ولا خلاف أن نرجسية روزفلت أقل من نرجسية هتلر ولكنه نرجسي بصورة كافية. وكان كلاهما مفرط التعلق بالأم، وعلى الأرجح أن تعلّق هتلر كان على نحو أخطر وأعمق من روزفلت. ولكن الاختلاف الحاسم هو أن روزفلت كان إنساناً مترعاً بمحبة الحياة، وكان هتلر مترعاً بمحبة الموت، وكان هدفه هو التدمير ـ وهو هدف لم يكن يصل إلى حد الهدف الشعوري، لأنه اعتقد في سنوات كثيرة أن هدفه هو الخلاص. إلا أن هدفه كان التدمير حقاً، وكل شيء يفضي إلى التدمير كان يجذبه. ـ وهنا ترون شخصيتين يمكن أن تقولوا إن عامل النرجسية، وعامل التعلق بالأم كانا موجودين فيهما بصورة واضحة، وإن كانت مختلفة. ولكن المختلف كل الاختلاف كان المقدار النسبي من البيوفيليا والنكروفيليا. وعندما أرى مريضاً يمكن أن يكون مريضاً تماماً، ولكنني أرى فيه كميات من البيوفيليا، أكون متفائلاً تماماً. وعندما أرى فيه بالإضافة إلى كل شيء آخر القليل جداً من البيوفيليا ولكن مع قدر كبير من النكروفيليا، أكون من ناحية التنبؤ بمآل المرض متشائماً تماماً.


وتوجد عوامل أخرى تؤدي إلى النجاح أو الإخفاق أود الآن أن أذكرها باختصار. وهي ليست عوامل تكوينية، وأعتقد أنها يمكن أن تُختبر بالأكثر في الجلسات الخمس أو العشر الأولى من التحليل.


(آ) إن المرء إذا كان مريضاً فقد وصل حقاً إلى غور معاناته. وأعرف معالجاً نفسياً لا يعالج إلا المرضى الذين اجتازوا كل منهج علاجي يمكن أن يوجد في الولايات المتحدة، وإذا لم ينجح عملياً أي منهج آخر، قَبِل المريض. وذلكم عذر بارع جداً لإخفاقه ـ ولكنه في هذه الحال اختبار حقاً، أي أن المريض قد ذهب إلى غور معاناته. وأعتقد أن اكتشاف ذلك من الأهمية بمكان. وقد تعوّد سوليفان Sullivan أن يؤكد هذه المسألة كثيراً جداً، ولو بمصطلحات مختلفة قليلاً: على المريض أن يثبت لماذا يحتاج إلى المعالجة. وهو لم يعنِ بذلك أن على المريض أن يقدّم نظرية في مرضه، أو أي شيء من هذا القبيل. ومن الواضح أنه لم يقصد ذلك. بل قصد أن على المريض ألا يأتي وفي رأسه هذه الفكرة: "طيب، أنا مريض. وأنت محترف يَعِدُ بشفاء المرضى، أنا موجود هنا". وإذا كنت سأضع على جدار مكتبي أي شيء، فسأضع عبارة تقول: الوجود هنا ليس كافياً.


وهكذا فإن مهمة التحليل الأولى شديدة الأهمية: مساعدة المريض على أن يكون متكدّراً بدلاً من تشجيعه. وفي الواقع فإن أي تشجيع على أن يخفّف معاناته، ويلطّفها، هو قطعاً ليست لـه دلالة؛ وهو حتماً سيئ لمزيد من التقدم في التحليل. ولا أعتقد أن أي امرئ تكون لديه مبادرة كافية، ودافع كافٍ، للقيام بالمجهود الهائل الذي يقتضيه التحليل ـ إذا قصدنا التحليل على الوجه الصحيح ـ ما لم يكن مدركاً المعاناة القصوى التي فيه. وليست تلك بالحالة السيئة أبداً. إنها حالة أفضل بكثير من أن يكون المرء في عالم غامض لا يكون فيه متألماً ولا سعيداً. والألم هو على الأقل شعور حقيقي جداً، وهو جزء من الحياة. وعدم إدراك الألم ومراقبة التلفزيون، أو أي شيء هو أمر خارج الصدد.


(ب) ثانياً، الشرط الآخر هو أن يكتسب المريض أو أن تكون لديه فكرة ما عما ينبغي أن تكون عليه الحياة، أو يمكن القول ـ رؤية لما يريد. وقد سمعت عن مرضى جاؤوا إلى المحلل لأنهم لم يستطيعوا أن يكتبوا الشعر. وهذا أمر فذّ قليلاً، على الرغم من أنه شديد الندرة كما يمكن أن يتوقّع المرء. ولكن الكثيرين من المرضى يأتون، لأنهم ليسوا سعداء. وليس كافياً تماماً ألا يكونوا سعداء. ولو قال لي مريض إنه يريد أن يحلَّل لأنه غير سعيد لقلت له، "طيب، معظم الناس ليسوا سعداء". إن ذلك ليس سبباً كافياً تماماً لتمضية السنوات في عمل مُجهِد ومتعب وصعب مع شخص واحد.


وليس الحصول على فكرة عما يريد المرء في الحياة مسألة تعليم أو مسألة فطنة. فيمكن أن يكون من الصحيح جداً ألا تكون للمريض رؤية لحياته. وعلى الرغم من أنظمتنا التعليمية الغامرة فالناس لا يحصلون فيها على أفكار كثيرة عما يريدونه في الحياة. ولكنني أعتقد مع ذلك أنها لمهمة التحليل النفسي كذلك في بدء التحليل النفسي أن يختبر هل المريض قادر على تكوين فكرة ما عما تعنيه الحياة غير أن تكون أسعد. وهناك كلمات كثيرة يستخدمها الناس في مدن الولايات المتحدة الكبيرة: إنهم يودّون أن يعبّروا عن أنفسهم، وما إلى ذلك بسبيل ـ حسناً، إنها صيغة كلام. فإذا تلهّى أحدهم بالموسيقى وأحبّ التسجيلات المطابقة للأصل وهذه القطعة، أو تلك، أو غيرها ـ فهذه مجرد عبارات. وأعتقد أن المحلل لا يمكن أن يكون راضياً بهذه العبارات، ويجب ألاّ يكون راضياً، بل عليه أن ينصرف إلى الواقع: ما هو في الحقيقة توتّر هذا الشخص ـ ليس نظرياً ـ بل ماذا يريد أو تريد حقاً، من أجل ماذا يجيء أو تجيء.


(ج) إن العامل المهم الآخر هو جدّية المريض. وإنكم لتجدون أناساً كثيرين من النرجسيين الذين لا يخوضون التحليل إلا لأنهم يحبون أن يتحدثوا عن أنفسهم. وفي الواقع، في أي مكان آخر يمكنكم القيام بذلك؟ إنه لا زوجة المرء ولا أصدقاؤه. ولا أولاده سوف يُصغون إليه في خلال الساعة وهو يتكلم عن نفسه: ماذا فعلتُ أمس، ولماذا فعلتُه، وهلم جرا. وحتى قيّم الحانة لن يصغي طويلاً لأن هناك زُبُناً آخرين. ولذلك يدفع المرء ثلاثين أو خمسين دولاراً، أو مهما كان الأجر، فيكون للمرء إنسان يصغي إلى كلامي كل الوقت. وحتماً عليّ أن أتمسّك، عندما أكون مريضاً، بأن أتكلم عن الموضوعات ذات المتات السيكولوجي. وهكذا يجب ألا أتكل‍ّم عن الصور واللوحات والموسيقى؛ يجب أن أتحدث عن نفسي، ولماذا لم أحبب زوجي أو زوجتي، ولماذا أحبه أو أحبها، أو ماذا لا أحب. والآن، فإن ذلك لابد أن يكون مستبعداً كذلك، لأنه ليس سبباً كافياً للمحلل، بالرغم من أنه سبب وجيه لجني المال.


(د) العامل الآخر الذي لـه صلة وثيقة جداً بهذا العامل هو قدرة المريض على التفريق بين التفاهة والواقع. وأعتقد أن محادثة جل الناس تافهة. وأفضل مثال يمكن أن أقدّمه على التفاهة هو المقالات التحريرية في "نيويورك تايمز"، إذا كنتم ستسامحونني. وما أعنيه بالتفاهة هنا، ما هو خلاف للواقع، وليس الأمر المفتقر إلى النباهة، بل إلى الحقيقة. فإذا قرأت مقالة في "نيويورك تايمز" عن الوضع الفييتنامي، بدت لي شديدة التفاهة. ولا ريب أن المسألة مسألة آراء سياسية ـ لمجرد أنها غير حقيقية فهي تتعامل مع الاختلافات، حتى إلى درجة أن السفن الأمريكية تطلق النار فجأة على أهداف غير مرئية لا أحد يعلم ما هي. ثم يكون لكل ذلك صلة بالخلاص من الشيوعية وبما يعلم الله ماذا. حسناً، هذا تافه. وعلى نحو شبيه بذلك، فإن الطريقة التي يتحدث بها الناس عن حيواتهم الشخصية تافهة، لأنها تتحدث عن أمور غير حقيقية: زوجي فعل هذا أو ذلك، أو حصل على ترقية أو لم يحصل على ترقية، وهل كان يجب أن أدعو خَدِيني أم لا.... إن كل ذلك تافه لأنه لا يُلمع إلى أي شيء حقيقي، إنه لا يُلمع إلا إلى التبريرات.


(هـ) العامل الآخر هو الظروف الحياتية للمريض. كم يمكن أن ينجح في التخلّص من العصاب ـ إن ذلك يعتمد كلياً على الوضع. فالبائع قد يتخلّص من أحد أشكال العصاب الذي قد لا يتخلص منه أستاذ في كلية. وأنا لا أقصد أن السبب هو اختلاف المستوى الثقافي، بل لمجرد أن السلوك النرجسي والعدواني والشديد ليس من شأنه أن يحدث في كلية صغيرة، فهم سيطردونه. ولكنه لو كان بائعاً لأمكن لـه أن يكون ناجحاً للغاية. وفي بعض الأحيان يقول المرضى: "حسناً، يا دكتور، أنا الآن لا أستطيع الاستمرار في ذلك"، ورَدّي المعهود على هذه الملاحظة الاستهلالية هو: "طيب، لا أفهم لماذا لا تستطيع. لقد داومت عليه ثلاثين سنة والكثير من الناس، بل ملايين الناس داوموا عليه حتى نهاية أيامهم، ولهذا لماذا لا تستطيع لا أستطيع أن أفهم. إنني أستطيع أن أرى أنك لا تريد الاستمرار، ولكنني بحاجة إلى دليل يفسّر لماذا لا تريد أو يفسّر أنك لا تريد". ولكن قولك "إنك لا تستطيع" هو ببساطة غير حقيقي؛ وهو كذلك صيغة كلام.


(و) المسألة التي أود أن أؤكدها أشد التأكيد هي المشاركة الفعّالة من جانب المريض؟ وأعود الآن إلى ما قلته من قبل. إنني لا أعتقد أن أي شخص يتعافى بالمحادثة ومن دون حتى كشف لا شعوره، كالقدر القليل الذي يحققه المرء في أي أمر مهم من دون بذل المجهود الكبير ومن دون القيام بالتضحيات، ومن دون المجازفة، ومن دون الذهاب ـ إذا كان لي أن أستخدم لغة رمزية كثيراً ما تظهر في الأحلام ـ عبر الأنفاق الكثيرة التي على المرء أن يجتازها في مجرى الحياة. وذلك يعني الفترات التي يجد المرء نفسه في الظلام، الفترات التي يكون المرء فيها مرتاعاً ـ ومع ذلك حيث يكون لدى المرء إيمان بأن ثمت جانباً آخر للنفق، وأنه سيكون ثمت نور. وأعتقد أن شخصية المحلل في هذه العملية بالغة الأهمية؛ أي إذا كان رفيقاً جيداً وكان قادراً على أن يفعل ما يفعله الدليل الجيد إلى الجبل، الذي لا يحمل زبونه إلى الجبل، ولكنه يقول لـه في بعض الأحيان: "هذا درب أفضل"، وفي بعض الأحيان يستخدم حتى يده ليمنحه دفعة صغيرة، ولكن هذا هو كل ما يستطيع أن يفعله.


(ي) وهذه المسألة تُفضي بي إلى المسألة الأخيرة: شخصية المحلل. ومن المؤكد أن في مُكنة المرء تقديم محاضرة في هذا الموضوع، ولكنني أريد الآن أن أؤكد بعض الأمور القليلة. وقد جعل فرويد أحدها بالغ الأهمية، ألا وهو غياب الغش والخداع. فيجب أن يوجد شيء في الموقف التحليلي والجو التحليلي يَخبُر به المرء من اللحظة الأولى أن هذا عالم مختلف عن العالم الذي يَخبُره المرء عادةً:إنه عالم الواقع وذلك يعني عالم الحقيقة، عالم الصدق ، من دون غش- وذلك هو كل ما هو ذلك الواقع. ثانياً، يجب أن يَخبُر أنه ليس من المفترض أن يتحدث بالتفاهات، وأن المحلل سوف يلفت انتباهه إلى ذلك، وأن المحلل لا يتحدث بالتفاهات كذلك. ولا ريب أنه للقيام بذلك لابد أن يعرف المحلل الفارق بين التفاهة وعدم التفاهة، وهذا أمر صعب إلى حد ما، ولاسيما في العالم الذي نعيش فيه.


والشرط الآخر المهم جداً بالنسبة إلى المحلل هو غياب الاسترسال العاطفي: فالمرء لا يَشفي مريضاً بأن يكون لطيفاً سواء في الطب أو في العلاج النفسي. وقد يبدو ذلك جافياً لبعضهم، وأنا على يقين أنه سيُستشهد بي على قسوة القلب التامة نحو المريض، وعلى التسلّطية وفقدان الحنوّ وما شاكل ذلك. حسناً، قد يكون الأمر كذلك. وإنها ليست خبرتي فيما أقوم به وليست خبرتي مع المريض، لأن فيها أمراً مختلفاً تماماً عن الاسترسال العاطفي، وذلك هو أحد الشروط الأساسية للتحليل: أن يعيش المرء في ذاته ما يتحدث المريض عنه. وإذا لم أعانِ في ذاتي ماذا يعني أن يكون المرء فُصامياً أو مكتئباً أو سادياً أو نرجسياً أو مذعوراً إلى حد لا يطاق، ولو أنني أستطيع أن أعاني ذلك في جرعات أصغر من جرعات المرضى، فإنني لا أعرف عمّ يتحدث المريض أبداً. وإذا لم أقم بتلك المحاولة، فلا أعتقد أنني أكون على اتصال بالمريض.


وهناك أناس لديهم فرط حساسية نحو بعض الأشياء. وأذكر أن سوليفان قد تعوّد أن يقول إن مريضاً يطغى عليه القلق لم يأت إلى مكتبه مرة ثانية لمجرد أنه لم يكن لديه تعاطف أو إحساس متبادل معه حيال هذا النوع من الشيء. حسناً، إن ذلك على ما يرام تماماً. وكل ما في الأمر بعدئذ أن المرء لا يعالج هذا النوع من المرضى، ولكن المرء يكون معالجاً جيداً لأولئك المرضى الذين يستطيع المرء أن يشعر بما يشعرون به.


إنه لمتطلّب أساسي أن يشعر المحلل بما يشعر به المريض. وذلكم هو السبب الذي يفسّر لماذا لا يوجد تحليل للمحللين أفضل من تحليلهم الناس الآخرين، لأنه في عملية تحليل الآخرين يكاد لا يوجد شيء في المحلِّل لا يَبرز، ولا يُلمس، شريطة أن يكابد المحلِّل أو تكابد المحلِّلة ما يكابده المريض. وإذا فكّر أو فكّرتْ: "حسناً، إن المريض شخص عليل مسكين لأنه يدفع"، فلا ريب أنه يظل مفكراً ولا يكون مقنعاً للمريض.


ونتيجة هذا الموقف هي أن المرء بالفعل لا يكون عاطفياً مع المريض، ولكن المرء لا يكون مفتقراً إلى الحنو، لأنه يكون لدى المرء إحساس عميق أنه لا شيء يحدث للمريض لا يحدث فيه كذلك. فلا تكون ثمت مقدرة لدى المرء على أن يكون قضائياً أو أخلاقياً أو ساخطاً عن أَنَفَة حيال المريض متى كابد ما يحدث للمريض وكأنه يحدث له. وإذا لم يعانِ المرء ذلك وكأنه معاناته، فلا أعتقد أنه يفهمه. وفي العلوم الطبيعية بوسعك أن تضع المادة على المنضدة وتستطيع أن تراها حيث هي موجودة وتستطيع أن تقيسها. وفي الوضع التحليلي ليس كافياً أن يضع المريض ذلك على المنضدة، لأنه بالنسبة إليّ ليس حقيقة واقعة ما دمت لا أستطيع أن أراه في نفسي بوصفه أمراً حقيقياً.


أخيراً، إنه من بالغ الأهمية أن ترى المريض بطلاً لمسرحية وألا تراه جمعاً من العقد. وفعلاً، إن كل إنسان هو بطل مسرحية. ولا أقصد ذلك بأية طريقة عاطفية. فهنا شخص يولد ومعه مواهب معينة، وهو في العادة يخفق، وحياته صراع هائل من أجل صنع شيء من ذلك الذي يكون معه حين يولد، وهي محاربة للمعوّقات الهائلة. وحتى أشد الناس تفاهة بمعنى من المعاني، إذا نظرت إليه من الخارج، إنما هو جدير بالاهتمام للغاية إذا رأيته بوصفه ذلك الشخص، ذلك الجوهر الحي الذي أُلقي به إلى الدنيا في موضع لا يرغب فيه ولا يعرفه، ويقاتل على نحو ما ويتقدم شاقاً طريقه. وبالفعل، إن الكاتب العظيم هو على وجه الدقة الذي يتميّز بأنه يستطيع أن يُظهر شخصاً يكون تافهاً بمعنى من المعاني ومع ذلك هو بطل بالمعنى الذي يراه به. وحسبُنا أن نقدّم مثالاً واحداً، هو شخصيات بلزاك ـ إن جلها لا تستأثر بالاهتمام ومع ذلك تصبح جديرة بالاهتمام للغاية بقدرة الفنان. ونحن لسنا بلزاكات، ولذلك لا نستطيع أن نكتب هذه الروايات، ولكن يجب أن نكتسب القدرة على أن نرى في المريض مسرحية إنسانية، بل حتى أن نرى ذلك في كل إنسان نهتم به، وليس مجرد شخص يأتي ومعه علامة أ ، ب ، ت ، ث.


وفي الختام أود أن أقول شيئاً ما عن التنبؤ بسير المرض. وأعتقد أنه توجد فيما دعوته أحوال العصاب غير الخبيث فرصة للشفاء جيدة جداً، وفي أحوال العصاب الخبيث ليست الفرصة جيدةً جداً. ولا أريد أن أخوض في النسب المئوية الآن لأن ذلك أولاً سر مهني أو سر تجاري، وثانياً على المرء أن يتحدث كثيراً عن ذلك. ومع ذلك أعتقد أنها خبرة مشتركة أن فرص الشفاء من العُصاب الخبيث، الخطير ليست جيدةً جداً. ولا أعتقد أنه يوجد أي شيء يدعو إلى الخجل بخصوص ذلك. فإذا كان لديك في الطب مرض خطير وكانت لديك، لنقل، فرصة شفاء بمنهج معين نسبتها خمسة بالمائة ـ وأظن أن الفرص في التحليل حتى أفضل قليلاً ـ شريطة ألا يوجد منهج أفضل وهذا كل ما بوسع الطبيب أن يفعله، فإن كل شخص، الطبيب، والمريض، وأصدقاءه، وأقاربه، إن كل شخص سوف يبذل أقصى الجهد لتحقيق الصحة، ولو أنه لا توجد إلا فرصة نسبتُها خمسة بالمائة. فمن الخطأ ألا ترى الفارق بين العُصاب غير الخبيث والعصاب الخبيث وأن تكون في حالة من شهر العسل في البداية وتفكر: "حسناً، التحليل يشفي كل شيء". أو إذا حاول المحلل أن يخدع نفسه بطريقة أو بأخرى، في نظره إلى المريض، بأن تلك الأمور ليست خطيرة وأن الأمل في شفائها ليس بقليل كما هي في بعض الأحيان. وحتى في تلك الأحوال التي يتعافى فيها المريض، فإن شرطاً واحداً على الأقل يكون قد تحقق في التحليل الجيد، وذلك هو أن الساعات التحليلية، إذا كانت حية ومهمة، سيكون من شأنها أن تكون أهم وأفضل الساعات التي قضاها في أي وقت من حياته. وأعتقد أن ذلك لا يمكن أن يقال حول المعالجات الكثيرة، وأنه على الأقل عزاء للمحلل الذي يجاهد مع مرضى تكون فرصة الشفاء لديهم على الأغلب شديدة الانخفاض فعلاً.


وفي أحوال العُصاب غير الخبيث تكون الفرصة أفضل بكثير. وبودي أن أقترح التفكير ملياً في أنه بين أشكال العُصاب الخفيفة يمكن أن يشفى الكثير منها ولكن بمناهج أقصر بكثير من سنتين في التحليل؛ أي بامتلاك الشجاعة في استخدام الاستبصار التحليلي لمقاربة المشكلة على نحو شديد المباشرة، ومن الممكن أن يقوم المرء في عشرين ساعة بما يشعر أنه مرغم على القيام به، بوصفه محللاً، في مائتي ساعة. ولا داعي إلى الاستحياء الكاذب من استخدام المناهج المباشرة حين يمكن استخدامها.




***






القسم الثاني


الجوانب العلاجية في التحليل النفسي








الفصل الرابع
ما التحليل النفسي؟




هدف التحليل النفسي


إن السؤال الذي أود أن أبدأ به هو في الوقت عينه سؤال أساسي لكل ما يلي: ما هدف التحليل النفسي؟ والآن إن ذلك سؤال جدّ بسيط وأعتقد أنه يوجد جواب جدّ بسيط. معرفة المرءِ ذاتَه. والآن فإن "معرفةَ المرءِ ذاتَه" حاجة إنسانية شديدة القدم، فمن اليونان إلى العصور الوسطى إلى العصور الحديثة تجدون أن معرفة المرء نفسَه هي أساس معرفة العالم أو ـ كما يعبّر ما يستر إكارت Meister Eckhart عن ذلك ـ في صيغة قوية التأثير جداً: "إن سبيل المرء الوحيد إلى معرفة الله هو أن يعرف نفسه". إن ذلك مطمح من أقدم المطامح البشرية. وهو مطمح أو مأرب لـه جذوره في عوامل شديدة الموضوعية.


كيف للمرء أن يعرف العالم؟ كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ نحن المرشد، والقائد لهذا الـ"أنا" الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكوّن القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الـ"أنا"، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة.


على المرء ألا يحسب أن الإنسان يوهَب بالغرائز مثل الحيوانات، فتقول لـه كيف يتصرف إذ ليس عليه أن يعرف أي شيء إلا ما تقوله لـه غرائزه. وهذه الفكرة تقتضي التحفّظ، لأنه حتى في المملكة الحيوانية يحتاج الحيوان، وحتى الحيوان من أدنى مستوى في التطور، أن يتعلم شيئاً ما. فالغرائز لا تعمل من دون حد أدنى من التعلّم على الأقل. ولكن ذلك التعلّم هو أصغر مسألة. فعلى العموم، ليس على الحيوان أن يعرف الكثير، برغم أن عليه أن يمتلك تجربة ما تنتقل إلى الذاكرة.
ولكن على الإنسان أن يعرف كل شيء لكي يقرر. فغرائزه لا تقول لـه أي شيء حول مسألة كيف يقرر باستثناء أنها تقول لـه إن عليه أن يأكل، ويشرب، ويدافع عن نفسه، وينام، ومن الممكن أنه ينبغي أن ينجب الأولاد. ويمكن أن تقولوا، إن حيلة الطبيعة هي أن تهبه لذة أو شهوة ما إلى الإشباع الجنسي. ولكن تلك الشهوة ليست قوية في الدوافع والبواعث الأخرى قوتَها في المطلب الغريزي. وهكذا فإن معرفة المرءِ ذاتَه شرط لا من وجهة النظر الروحية أو ـ إن أردتم ـ الدينية، أو الأخلاقية، أو الإنسانية وحسب، إنها مطلب من وجهة النظر البيولوجية.


لأن أفضل ما يمكن من الاقتدار في العيش يعتمد على الدرجة التي نعرف بها أنفسنا بوصفنا الأداة التي عليها أن توجّه نفسها في العالم وتكوّن القرارات. وكلما كنا أفضل معرفة لأنفسنا، فمن الواضح كانت القرارات التي نكوّنها أصحَّ. وكلما قلّت معرفتنا بأنفسنا، فلابد أن تكون القرارات التي نشكّلها أشد تشوّشاً.


إن التحليل النفسي ليس مجرد علاج، بل هو وسيلة لفهم الذات. أي أنه وسيلة للتحرر الذاتي، وسيلة في فن العيش، وهي في رأيي أهم وظيفة يمكن أن تكون للتحليل النفسي.


وأكبر قيمة للتحليل النفسي هي حقاً توفير التغيّر الروحي للشخصية، وليست الشفاء من الأعراض. وبمقدار ما يوجد التحليل للشفاء من الأعراض، فذلك رائع إذا لم تكن هناك شفاءات أجود وأقصر، ولكن الأهمية التاريخية والحقيقية للتحليل النفسي تسير في اتجاه تلك المعرفة التي تجدونها في التفكير البوذي. فهذا النوع من الإدراك الذاتي ـ التنبّه ـ يؤدي دوراً محورياً في الممارسة البوذية لتحقيق حالة وجودية أفضل مما يحقق الإنسان العادي.


ويزعم التحليل النفسي أن معرفة المرءِ نفسَه تفضي إلى الشفاء. حسناً، إن ذلك زعم قد سبق أن قيل في الأناجيل: "الحقيقة سوف تحرركم". (إنجيل يوحنا: 8: 3) فلماذا معرفة المرءِ لا شعورَه، أي المعرفة الذاتية التامة، تساعد الشخص على التحرر من الأعراض وحتى تجعله سعيداً؟




الهدف العلاجي عند زيغموند فرويد ونقدي له


أود بدايةً أن أقول كلمة عن الأهداف العلاجية في التحليل النفسي الفرويدي الكلاسيكي. وقد كان الهدف العلاجي، كما عبّر عنه فرويد ذات مرة، هو جعل الشخص قادراً على العمل وقابلاً لتأدية وظيفته جنسياً. وإذا صنفنا ذلك بمصطلحات موضوعية أفضل قلنا: إن هدف التحليل النفسي هو جعل الشخص قادراً على العمل وإعادة الإنتاج. وهذان هما بالفعل المطلبان الكبيران للمجتمع، يطالب بهما المجتمع كل فرد. ويعني ذلك أن يوحي إلى الناس ويلقّنهم تفسيراً للسبب الذي يجعل من واجبهم أن يعملوا وأن ينجبوا الأطفال. حسناً، نحن نقوم بذلك كيفما كان لأسباب كثيرة. إن الدولة لا تجد عناء كبيراً في استمالة الناس إلى القيام بذلك، ولكن إذا احتاجت في أي وقت إلى أطفال أكثر مما يُنجب، فإنها ستعمل كثيراً للحصول على العدد المرغوب فيه من الأطفال بكل أنواع الوسائل.


وتعريف فرويد لما هو في الحقيقة الصحة الذهنية تعريف اجتماعي من حيث الأساس. إنه القول بأن يكون طبيعياً بالمعنى الاجتماعي. إن الإنسان سوف يؤدي وظيفته وفقاً للمعايير المحتذى بها اجتماعياً. وكذلك العَرَض المَرضي محدَّد اجتماعياً: إن العَرَض المرَضي يكون عَرَضاً مَرَضياً عندما يكون من العسير عليك أن تعمل اجتماعياً على الوجه الصحيح. فإدمان المخدّرات، مثلاً، يُعدّ عَرَضاً مَرَضياً خطيراً. والتدخين الاضطراري ليس كذلك. لماذا؟ إنه الأمر نفسه من الوجهة السيكولوجية. ولكن الاختلاف كبير جداً، من الوجهة الاجتماعية. فإذا تعاطيتَ أنواعاً معينة من المخدّرات منعك ذلك من الأداء الاجتماعي الصحيح في أحوال كثيرة. وأنت نفسك تستطيع أن تدخّن حتى الموت ـ من يهتم؟ فإذا متَّ من سرطان الرئة، فهذه ليست مشكلة اجتماعية. والناس سوف يموتون على أية حال. ولكنك إذا متَّ من سرطان الرئة وأنت في الخمسين ـ طيب، عندما تكون في الخمسين لا تكون عندئذ مهماً من الوجهة الاجتماعية! ومهما يكن فقد أنجبت العدد المناسب من الأولاد، وعملت في المجتمع، وبذلت أقصى مستطاعك؛ إن هذا غير جدير بالاهتمام، إنه لا يتعارض مع وظيفتك الاجتماعية.


إننا نعلن أن شيئاً ما عَرَض مَرَضي عندما يتعارض مع الوظيفة الاجتماعية. وذلكم هو السبب في أن الشخص الذي ليس لـه أقل قدر من الخبرة الذاتية، ولا يرى الأشياء إلا واقعياً بصورة كليةً يُفترض أنه صحيح نفسياً. على الرغم من أنه مريض كالذُّهاني الذي لا يستطيع أن يتبيّن أن الواقع شيء يمكن أن يُساس أو شيء يمكن الاحتيال عليه، ولكنه يستطيع أن يتبيّن هنا شيئاً، هو إحساس، إحساس أشد رهافة، خبرة داخلية يتعذّر على من يسمى الإنسان الطبيعي الوصول إليها.


إن التعريف الفرويدي هو في ماهيته تعريف اجتماعي، وهذا ليس نقداً بالمعنى الضيق للكلمة لأنه كان إنسانَ قرنِه ولم يشك في مجتمعه. ولم يكن ناقداً لمجتمعه باستثناء أنه شعر أن المحرَّم المرتبط بالجنس كان قوياً جداً. ويجب تخفيفه بعض الشيء. وكان فرويد نفسه إنساناً بالغ الإفراط في الاحتشام ـ محتشماً للغاية ـ وقد كان من شأنه بالتأكيد أن يكون مصدوماً للغاية أن يرى نوع السلوك الجنسي الآن الذي يُزعَم أنه نتيجة تعليمه. وليس الأمر كذلك في الواقع. ولفرويد علاقة طفيفة بذلك. إن السلوك الجنسي العام هو جزء من النزعة الاستهلاكية العامة.


كيف قدَّم فرويد الأسباب لغايات التحليل النفسي التي وضعها؟ لنقل ببساطة، إنه عند فرويد أن ما يشفى يكون مرتبطاً بحادثة في الطفولة الباكرة. وهذه الحادثة مكبوتة. ولأنها مكبوتة تظل تعمل. وبما يسمى الإجبار على التكرار يكون الشخص مرتبطاً بهذه الحادثة الباكرة بطريقة لا تعمل لمجرد جمودها، ولأنها موجودة لا تتوقّف عن العمل، بل كذلك يكون الشخص بالإجبار على التكرار مجبَراً أن يكرر النموذج نفسه مرة بعد أخرى. فإذا وصل هذا النموذج إلى الوعي فعندئذ تكون طاقتها إذا جاز القول قد تمت خبرتها بشكل كامل وتمّ تذكّرها ولكن ليس عقلياً، كما رأى فرويد بعد قليل، بل عاطفياً؛ وإذا حدث ما سماه "العمل من خلال" ـ فإن قوة هذه الصدمة تتصدع ويتحرر الشخص من هذا التأثير المكبوت.


إن لديّ شكوكاً جِدّية في صحة هذه النظرية. وأود أولاً أن أخبركم عن تجربة شخصية عشتها عندما كنت طالباً في المعهد التحليلي النفسي في برلين (من 1928 إلى 1930). ذات يوم كان بين أساتذتنا نقاش طويل ـ كيف يحدث غالباً أن يتذكر المريض حقاً تجاربه الصادمة القديمة. قال جُلّهم إن ذلك جدّ نادر. وانزعجتُ بشدة؛ فقد كنت طالباً نجيباً مخلصاً؛ وآمنتُ بذلك ثم بغتة أسمع أن ذلك الأمر عينه الذي يُفترض أن يكون أساس الشفاء يحدث بصورة نادرة جداً.


وفي نظري أن الصدمة النفسية نادرة بالفعل جداً وهي في العادة تجربة فريدة؛ ولابد في الحقيقة أن تكون صادمة بصورة غير عادية تماماً ليكون لها تأثير قوي. إلا أن الأمور الكثيرة التي يقال إنها صادمة، أي أن يضرب الأب الولد ذات مرة، وهو في سن الثالثة، عندما كان مستشيطاً غضباً ـ نشدتكم الله، إنها ليست حادثة صادمة. إنها حادثة عادية تماماً لأن التأثير يشكّله جو الأبوين، جو الأسرة الكلي والمستمر والدائم، لا الأحداث المفردة. ولا يكون لحادثة مفردة مثل هذه الآثار كما لابد أن يكون في حالة الصدمة الحقيقية إلا نادراً. ويتحدث الناس اليوم عن الصدمة الحقيقية لأنه فاتهم القطار أو حدثت لهم تجربة كريهة في مكان ما. إن الصدمة النفسية هي بتعريفها حادثة تتجاوز العبء الذي يمكن أن تتحمله الدورة العصبية البشرية. وبهذا المعنى فإن جل الصدمات النفسية شديدة الندرة وما يسمى في أغلب الأحيان صدمة هو في الحقيقة كل تلك الأمور التي تحدث في الحياة والتي لها تأثير طفيف. وما لـه تأثير إنما هو الجو المتواصل.


وقد تحدث الصدمة في أي سن، ولكن الحادثة الصادمة نفسها سيكون لها عندما تحدث أثر أكبر من أثر الحادثة الأولى. ولكن في تلك الحالة وفي الوقت نفسه فإن القدرات على التعافي عند الطفل تكون أكبر كذلك. إنها مشكلة معقدة حقاً، وأنا لا أحذّر إلا من الاستخدام الفضفاض لكلمة الصدمة، الذي أجده اليوم متكرراً كثيراً.


وقد رأيت عدداً غير قليل من الناس يتغيرون من خلال العملية التحليلية. ورأيت عدداً غير قليل من الناس لا يتغيرون. ولكن الحقيقة كذلك هي أن الأفراد يتغيرون أساسياً من دون تحليل. انظروا إلى أمر بسيط رأيناه في السنتين الأخيرتين. هناك عدد من الناس كانوا في أذهانهم صقور الحرب في فييتنام، وضباط "القوة الجوية" المحافظين وما إلى ذلك. ويظل هؤلاء الناس في فييتنام، يعيشون تلك التجربة، ويرون انعدام الحس والظلم والوحشية، وبغتة يأتيهم أمر كان من شأن المرء في أقدم الأزمان أن يدعوه هداية، أعني فجأة يرى هؤلاء الناس العالم مختلفاً كل الاختلاف ويتحولون من أناس محبّذين للحرب إلى أناس يجازفون بحياتهم أو حريتهم لإيقاف الحرب. والناس الذين لا تود أن تعترف بهم، يمكن أن تقول إنهم ليسوا بأنفسهم أناساً مختلفين، بل بتجربة تستوقف الانتباه، أي بقدرة على الاستجابة لها. وهذه القدرة ليست موهوبة لجلّ الناس لأنهم كانوا قد أمسوا بليدي الإحساس إلى حد بعيد. على أن هذه التبدّلات العميقة تحدث تحليلياً وخارج التحليل، وأعتقد أننا تقريباً نملك الدليل على ذلك. ويمكن أن نراه مرة بعد أخرى.




مفهوم فرويد للطفل ونقدي له


كان فرويد نقدياً للغاية، كما يعرف كل من قرأ القليل عن فرويد، فيما يتصل بموضوعه الخاص وهو موضوع الفكر الشعوري في علاقته بالباعث اللا شعوري. ومن المؤكد أنه لا يمكن أن يُتّهم بأنه لم يكن ناقداً جذرياً للفكر الشعوري. ومع ذلك فحين يصل الأمر إلى المجتمع الذي عاش فيه فرويد، وقواعده وقيمه، فقد كان إصلاحياً من حيث الأساس. ذلك يعني أنه اتخذ الموقف الذي اتخذته الطبقة الوسطى عموماً: هذا العالم هو أصلاً أفضل العوالم، ولكن يمكن تحسينه، فلعله تكون لدينا فترات سلام أطول، ويعامَل السجناء معاملة أفضل. ولم تكن الطبقة الوسطى تسأل أسئلة جذرية، كالسؤال المتعلّق بعلم الإجرام مثلاً. فكل ما لدينا من نظام في علم الإجرام أو العقوبات إنما هو قائم كلياً على البنية الطبقية. ولم يكونوا يسألون: أليس المجرم إنساناً قبل كل شيء صار مجرماً لأن هذه هي طريقته في العثور على الحد الأدنى من الاكتفاء الذي لا يمكنه الحصول عليه بطريقة أخرى؟ ولا أريد أن أدافع هنا عن اللصوص والسّلابين. وأعتقد أن ثمت بعداً آخر يجعل اللصوصية والسلب أمرين كريهين تماماً. ولكن مع ذلك، فإن كل نظامنا المتعلق بالقانون الجنائي قائم على البنية الكلية للمجتمع التي تسلّم بصحة أن الأكثرية الساحقة ـ كما يمكن للمرء أن يقول بكياسة ـ لا تتمتع بأي أي امتياز، وأن الأقلية تتمتع بالامتيازات المفرطة. وقد كانت هذه هي الحال في مذهب الحل السلمي غير الجذري فيما يتصل بتخفيض الجيوش؛ ولابد للأطروحات من أن تضمن السلام.


وهكذا فقد كان التحليل النفسي حركة لجعل الحياة أفضل ببعض الإصلاحات في الوعي. ولكنه لم يشك جذرياً في قيمة المجتمع الراهن وبنيته. وقد كان فرويد، مع تعاطفاته، في جانب الذين كانوا يهيمنون ـ في جانب المؤسسة. حسناً، يمكن أن تروا ذلك في موقف فرويد من الحرب العالمية الأولى. لقد اعتقد حتى 1917 أن الألمان سينتصرون. وكان ذلك هو العام الذي طرأ فيه على معظم الناس شيء من المعرفة تغلّب على معتقداتهم بأن الألمان سوف يربحون في الحرب. وأفكر في رسالة كتبها فرويد: "إنني سعيد للغاية أن أكون في هامبورغ، وأن يكون في مقدوري أن أقول <<جنودنا، انتصاراتنا>>"، لأنها كُتبت في ألمانيا. واليوم يلوح ذلك الواقع رهيباً حقاً. وعلى المرء أن يفهم التأثير الخيالي، التأثير الباهر في ضمير حتى أشد الناس ذكاء وخلافهم من المحترمين في الحرب العالمية الأولى.


ولا يمكنكم أن تفهموا ذلك إلا إذا قارنتموه بفييتنام في أسوأ أحوالها. لم تكن ثمت معارضة للحرب تقريباً في الحرب العالمية الأولى، وتلك كانت إحدى المآسي حولها. وكان أينشتاين أحد الاستثناءات القليلة التي رفضت تأييد الحرب، إلا أن الأكثرية الساحقة من المفكرين الألمان أو المفكرين الفرنسيين قد وافقت على الحرب. ولذلك فإن قول فرويد ليس بالأمر الشاذ، وليس بالقول القوي كما يمكن أن يظهر خارج السياق، ومع ذلك فهو قوي جداً إذا أخذتم في الاعتبار أنه كان متأخراً. وقد كتبه رجل مثل فرويد الذي دعا نفسه سنة 1925 في رسالة متبادلة مع أينشتاين "داعية إلى السلام".


كيف رأى فرويد الطفل؟ في الأصل عندما سمع فرويد الأخبار عن أن المرضى يغويهم آباؤهم، فالآباء يُغوون الفتيات والأمهات يُغوين الفتيان، اعتقد أنها أخبار عن أحداث حقيقية. وعلى حد علمي من المحتمل أن يكون الأمر كذلك. على أن فرويد سرعان ما غيّر وجهة نظره وقال: لا، لقد كانت كل هذه الأخبار أُخيولات. فلا يمكن أن يفعل الآباء ذلك، والآباء لا يفعلونه، ولم يكن ذلك صحيحاً. وإذن فإن أطفال هؤلاء الناس قد سردوا هذه القصص لأنهم كانوا يتكلمون عن أخيولاتهم. لقد كانوا يرون هذه الأخيولة المتعلقة بسفاح الحُرُم عن النوم مع الأب، أو مع الأم، أو أية حالة يمكن أن تكون. وكل هذه القصص هي البرهان على أخيولة الطفل الصغير نصف الإجرامية والمتعلقة بسفاح الحُرُم.


وكما تعلمون، يشكل هذا الرأي الدرك الأسفل في النظرية التحليلية النفسية، أي الرأي القائل بأن الطفل، هو الصغير الذي سبق أن امتلأ –كما دعاه فرويد- بالأُخيولات المنحرفة متعددة الأطوار. وكان فرويد يقصد في الحقيقة أمراً شديد السوء، وهو أن هذا الطفل طفل جشع، ذكراً كان أو أنثى، لا يفكر في شيء سوى كيف تغري أباها أو كيف يُغري أمه- مع الرغبة في النوم معهما. ولا ريب أن ذلك قد حرف وجهة النظر التحليلية النفسية إلى اتجاه مغلوط فيه. أولاً، لقد أدّى إلى الافتراض النظري أن هذه الأُخيولات المتعلقة بسفاح الحُرُم إنما هي جزء من أُهبة الطفل. ثانياً، أنه في تحليل شخص من الأشخاص يجب على الدوام أن تفترض أن كل شيء من هذا القبيل يرويه المريض إنما هو ناجم عن أُخيولته ويحتاج إلى أن يُحلَّل ولا يمثّل الواقع.


وكان مبدأ فرويد من حيث الأساس هو: الطفل وليس الأبوان هو "الآثم". وهذا يمرّ بوضوح شديد في تواريخ الحالات عند فرويد. وقد أظهرتُ ذلك مع بعض الزملاء في تعليقات على "حالة هانس الصغير"
(E. Fromm et al., 1966k) كان فرويد يدافع دائماً عن الآباء، حتى الذين هم أنانيون، معادون، مناوئون على نحو أوضح ما يكون. وهذا الطفل الذي لـه هذه الأُخيولات عن اقتراف سفاح الحُرُم (وليس سفاح الحرم وحسب، فلا شك أن الطفل كان يريد بعد ذلك أن يقتل الأب، ويغتصب الأم)، كان هذا الطفل، كما قال فرويد نفسه، "مجرماً مصغّراً".


إن هذه الصورة للطفل بوصفه "مجرماً مصغّراً" على المرء أن يفهمها دينامياً على أنها نتيجة الحاجة إلى الدفاع عن السلطة الوالدية: الدفاع عن السلطة وكذلك عن الوالدين. ولو أنعمتم النظر إلى معظم الأطفال، لوجدتم بالفعل أن المحبة الوالدية –كما قال لانغ Laing على نحو صحيح تماماً- قناعاً للسيطرة التي يريد أحد الوالدين أن يفرضها على الطفل. ولا أعني أنه لا توجد استثناءات. فهناك استثناءات حقيقية، وهناك بعض الآباء المحبّون، وقد رأيت بعضهم. ولكن على الإجمال، لو قرأتم تاريخ معاملة الآباء لأطفالهم عبر العصور، ورأيتم تاريخ الناس اليوم، لرأيتم بالفعل أن الهم الأكبر عند جلّ الآباء هو السيطرة على الأطفال، وأن محبتهم هي ما أود أن أدعوه نوعاً من المستوى السادي: "أنا أريد خيرك، وأحبك بالنظر إلى أنك لا تحاول التمرد على سيطرتي".
إنها محبة في المجتمع الأبوي (البطريركي)، من الأب، ومن الزوج نحو الزوجة؛ وقد كان الأطفال مِلكيّة منذ أيام "روما" ولا يزالون مِلْكية. ولا يزال للوالد الحق المطلق في التخلّص من طفله. وثمت محاولات قليلة في مختلف البلدان الآن لتغيير ذلك وتعيين محكمة، تحرم الوالد الحق في تنشئة الطفل إذا كان ثمت سبب خطير للاعتقاد بأنه غير أهل لتربية الطفل. وهذا كله من قبيل الإفراط في تغطية العين، لأنه حتى المحكمة التي تحكم بعدم كفاءة الأبوين، قضاتها هم أنفسهم آباء تعوزهم الكفاءة تماماً – فكيف يمكن أن يحكموا بذلك؟ وعلاوة على حب الأمهات النرجسي بعض الشيء وشبه الغريزي نوعاً ما لأطفالهن الصغار، فعندما يصلون إلى العمر الذي يُظهرون فيه العلامة الأولى على إرادتهم، ومنذ ذلك الحين فصاعداً يكون الميل إلى السيطرة والتملّك هو السائد. وعند معظم الناس، فإن إحساسهم بالقوة، والسيطرة وامتلاك الأهمية، وتحريك شيء ما، وشعورهم بأن لديهم شيئاً ما يقولونه يكون بامتلاك الأطفال. لذلك – ما أقوله ليس صورة سيئة النية عن الآباء، بل هي طبيعية جداً. وأنتم ترون أن الطبقة العليا البريطانية لم تكن تبالي البتة بأطفالها. وللطبقات العليا في أوربا مربيات ومعلمات خصوصيات للأطفال وما إلى ذلك؛ ولا تهتم الأمهات بأطفالهن على الإطلاق، لأن في الحياة وفرة من صنوف الاغتباط. ولديهن شؤونهن المتعلقة بالحب، ولديهن حفلاتهن، وما كان يثير اهتمامهن
– في إنجلترا- إنما هو ما لديهن من الخيل وما إلى ذلك.


ويُنظَر إلى الأطفال على أنهم مِلكيّة ما دامت الرغبة في الامتلاك عند الناس هي الصفة المميزة السائدة في بنية طبعهم. ويوجد أناس لا تكون الرغبة في الامتلاك هي المهيمنة، ولكنهم شديدو الندرة اليوم. وهكذا فهذا الأمر طبيعي تماماً؛ والأطفال متعوّدون أن يسلّموا بصحة ذلك لأن المجتمع بأسره يقول إنه طبيعي. ويأتي الإجماع من الكتاب المقدس فما بعده: إذ يقول الكتاب المقدس إن الابن العاصي يجب أن يُرجَم بالحجارة ويُقتل. حسناً، نحن لا نقوم بذلك في هذه الأيام، ولكن ما حدث للابن العاصي في القرن التاسع عشر كان شديد القوة.


وبودي القول إنكم إن حللتم المحبة الوالدية وجدتم أنها على العموم مَلَكة إنسانية، أمر يتيسّر فهمه بسهولة، أمر يستطيع به المرء أن يشعر بالتقمص العاطفي وحتى بالحزن والحنوّ، إذا أردتم. ولكنه مع ذلك يكون في أساسه عند معظم الناس تملكياً غير خبيث في أحسن الأحوال وفي العدد الهائل من الناس تملّكياً خبيثاً، أي أنهم يضربون ويؤذون، ويؤذون بشتى الطرق التي لا يكون الناس مدركين بها حتى أنهم يؤذون، فيكون إيذاؤهم للإحساس بالكرامة: فيؤذون الشعور بعزة النفس، ويجعلون الطفل الذي هو بالغ الحساسية وشديدة الذكاء نفسه يعتقد برغم ذلك أنه شخص مغفّل، وأنه غبي، ولا يفهم. وحتى معظم جيدي الطوية من الناس يفعلون ذلك، فيُظهرون أطفالهم كأنهم مهرّجون أمام الآخرين. وكل ما هو تحت الشمس يؤدي دوره ليجعل الطفل يشعر بالدونية، ويضغط حالة الثقة بالنفس، والكرامة، والحرية في الطفل.
والمؤكّد أن اقتداء فرويد هذا بالطبقة المهيمنة، بالمؤسسة، قد قام حقاً بقدر كبير من التحريف لنظريته حول الأطفال، وقام بقدر كبير من التحريف لعلاجه، لأن المحلل قد جعل نفسه المدافع عن الآباء. ولكنني أعتقد أن على المحلل أن يكون المتّهِم للآباء. وينبغي أن تكون للمحلل رؤية موضوعية. ولكنه إذا كان المدافع عن الآباء لأن ذلك هو روح المؤسسة، فإنه لن يفعل خيراً كثيراً للمريض. ولأكون أشدّ دقة عليّ أن أمضي خطوة أخرى، مضيفاً أن على المرء ألا يرى مجرد النظام العائلي الكلي بل النظام الاجتماعي الكلي، لأن الأسرة ليست إلا جزءاً منه، مجرد نموذج.


وعندما أقول إن الطفل بالنسبة إلى فرويد آثم لا أعني أن الطفل بريء على الدوام ولا أعني أن الآباء آثمون على الدوام؛ وأعتقد في كل حالة أن الأمر يتعلق بدراسة شاملة لمعرفة إلى أي مدى يسهم الطفل كذلك في رد فعل الأبوين. فمثلاً، إن بعض الآباء يكونون مفرطي الحساسية تماماً نحو نمط معين من الأطفال. ولنقل تُرزق الأم الحسّاسة جداً، أو الشخص الخجول قليلاً، بصبي يكون عدوانياً، فظاً قليلاً- ويمكنكم أن تروا ذلك أيضاً في سن ثمانية الأسابيع: إنه مزاجه الذي يولد معه. وهي لا تستطيع أن تحتمله، لا تستطيع أبداً، ولا تستطيع أن تحتمل فيما بعد شخصاً لـه خصائصه. حسناً، إن ذلك ليس بالغ السوء. لأنكم قد تقولون إنه ليس الملوم، لأن يولد على النحو الذي عليه وأمه ليست الملومة كذلك، لأنها لا تستطيع أن تساعده.


وثمت أطفال يولدون مُريعين، وثمة بعض المتعجرفين كثيراً. وكان فرويد صبياً من هذا القبيل؛ كان متعجرفاً نحو أبيه إلى حد مريع. وكان يبلل فراشه ويقول لأبيه: "عندما أبلغ مبلغ الرجال سأشتري لك أجمل فراش في المدينة". ولم يخطر بباله أن يأسف ويعتذر، كما من شأن جل الأطفال أن يفعلوا، ولكنه كان شديد الثقة بنفسه. حسناً، إن هذا النوع من العجرفة يجعل الولد لا يطاق عند بعض الآباء. وبكلمات أخرى، إن الطفل يُسهم بوجوده في ذلك الحين في بعض رد فعل الوالدين، ومن الوهم أن يحسب المرء أنه طفله، ولذلك فمن المرغوب فيه أن يولد بوصفه طفلاً موافقاً للمرء. وبرغم كل شيء، فإن يانصيب الوحدات الوراثية (الجينات) هو الذي يؤدي دوره هنا، والمرء لا يربح في اليانصيب دائماً، وعلاوة على ذلك، يقوم الطفل في السياق بأمور كثيرة تتجاوز ذلك، ويمكن للمرء أن يجعل الآباء مسؤولين عنها.




صلة تجارب الطفولة بالعملية العلاجية


إنني مقتنع أنه تحدث في السنوات الخمس الأولى أشياء كثيرة هي حقاً شديدة الأهمية في نشوء الشخص، ولكنني أعتقد أنه تحدث بعدئذ أشياء كثيرة أخرى تساويها أهمية ويمكن أن تغيّر الأشياء.


وحقاً إن الإجبار على التكرار عند فرويد – وهو أن الأشياء الأساسية تحدث في السنوات الخمس الأولى ثم تتكرر الأشياء فقط- هو بالنسبة إليّ مفهوم شديد الميكانيكية. وأعتقد أنه لا شيء في الحياة يتكرر، ووحدها الأشياء الميكانيكية يمكن أن تتكرر، وفي كل أنواع الأشياء التي تحدث، تتغير الأشياء، على الرغم من أنني أود أن أضع- إذا كنت أستطيع أن أقول ذلك بين قوسين- قدراً كبيراً من التأكيد على العامل التكويني. وقد اعتقد فرويد نظرياً، فقد قال بذلك، ولكنني أعتقد أن معظم المحللين يعتقدون معه، ولا سيما عموم المحللين، أن ما يصبحه الشخص هو نتيجة ما فعله والداه له. ثم يشرعون في هذا النوع من القصة البكائية التي كثيراً ما تصادفونها في التحليل: "أبي لم يكن يحبني، أمي لم تكن تحبني، جدي لم يكن يحبني ولذلك أنا شخص ذميم". حسناً، إن ذلك شديد السهولة، فأنت تجعل الخلل كله في الناس الذين حولك.


ويمكن أن تبرهنوا في نشأة كل طفل على أن ثمة عناصر معينة في الطفولة كانت قد كمنت من أجل زمن لاحق؛ إلا أنها لحقيقة واقعة كذلك أن تلك الأحداث اللاحقة إما أن تزيد هذه العناصر وإما أن تقويها وإما أن تضعفها. ولهذا لا تستطيعون أن تقولوا إن الأحداث اللاحقة لا تشارك. وأنا أنظر إلى هذه المشكلة بتلك الطريقة وهي أن الأحداث الباكرة لا تحدّد ا لشخص بل تستميله. وهذا يعني أنه لا شيء مما حدث قديماً يحدد الشخص بالضرورة، كما أعتقد، بل يستميله، وكلما طال استمراره في هذا الاتجاه اشتد ميله، حتى لكم أن تقولوا إنه لا يمكن إلا بمعجزة أن يحدث بعدُ تغيّر.


إن هدف التحليل النفسي هو بلوغ التبصّر للعمليات اللا شعورية عند المريض في الوقت الراهن. وليس التحليل النفسي بحثاً تاريخياً من حيث هو هو. ونحن نريد أن نعرف، أن نسلّط الشعاع السيني على ما يجري الآن في المريض لا شعورياً، أي خلف ظهره. وذلكم هدفنا. ولكن في كثير من الأحيان لا يفهم المريض ذلك إلا إذا كان يستطيع أن يعيش تجربة إعادة تجربة ما، إعادة بعض تجارب طفولته، لأنها تضفي نكهة أو خصوصية على أمر هو الآن غير مدرك له. ويحدث ذلك أحياناً في التحويل، وأحياناً في تذكّر شيء عاش تجربته وهو طفل أو حتى عاش تجربته في جلستنا- ونحن مفعمون بهذه التجارب. وأخيراً يبرز في حلم.


ويحدث أن يبرز شيء ما في حلم حدث قبل ثلاثين سنة، عندما كان المريض في السابعة عشرة من عمره. ولكن هدفي ليس البحث التاريخي. إن هدفي هو الإدراك الأوضح لما هو لا شعوره الآن، ولكن من أجل الوصول إلى ذلك الهدف في كثير من الأحيان، وربما في معظم الوقت، من الضروري أن أرى ما خَبرَه المريض عندما كان طفلاً، وعندما كان مراهقاً. وفي واقع الأمر، عندما أحلل نفسي، وهو ما أمارسه يومياً، أحاول عامداً أن أشعر بما شعرت به حيال هذا الأمر وسواه عندما كنت في الخامسة، وعندما كنت في الخامسة عشرة، أحاول أن أعرف أي شعور من هذه المشاعر يوجد فيّ. أحاول أن أحافظ باستمرار على صلة مفتوحة بطفولتي، وأن أبقيها حية، لأنها تساعدني على أن أتعرّف وأدرك الأمور التي تجري الآن فيّ وأنا غير مدرك لها. ليس الهدف هو البحث التاريخي.


وقد كانت فكرة فرويد، إذا عبّرنا عنها باختصار شديد، هي أنك إذا أوصلت إلى الوعي، لا إلى مجرد الوعي العقلي بل في مآل الأمر إلى الوعي العاطفي، تجارب الطفولة شديدة الأهمية – تجارب الطفولة المولِّدة للمرض- فإن العَرَض المَرضي يزول بهذه العملية. ماذا صار من ذلك؟ إنه بقدر كبير من التحليل النفسي وفي رأي العموم [...] هو ما يمكن أن تدعوه التفسير الفرويدي النشوئي. وكنت قد سمعت قصصاً كثيرة جداً عن الناس الذين يسألون المرء: "إذن، ماذا أظهر تحليلك؟" وعندئذ تكون الصيغة، ويكون المنطق: "أنا، هذا، أو هذا، أو هذا، أو وجدت هذا العَرَض أو ذلك لأن..." أي أنه تفسير ذو طبيعة نشوئية تاريخية. وهذا يعني أنه ليست لـه قيمة شفائية أياً كانت. وإذا عرفتَ لماذا حدث شيء ما، فإن ذلك ذاته لا يغيّر أي شيء.


وأريد أن ألفت انتباهكم إلى أمر واحد، ربما لم يكن من السهل كلياً فهمه، هو الاختلاف بين خبرة شيء ما فيّ، كان مكبوتاً وفجأة برز إلى إدراكي، ومن جهة أخرى إنشاء تلك التأويلات التاريخية لأنه قد حدث هذا أو ذلك. ولأنه نادر جداً أن يعثر المرء على التجارب الأصلية وأن يتذكرها بالمعنى الحقيقي، كثيراً ما يكون المرء راضياً بهذا التأويل: لا بد أنها حدثت، ومن المحتمل أنها حدثت، وبما أنها حدثت، فأنت هذا، وذلك، وغيره. ويمكن للمرء أن يدعو هذه عديمة الجدوى. "إذا غرق شخص ما وكان يعرف قوانين الجاذبية، فإنه يغرق كمن لا يعرفها تماماً [...]"


ولا تكون تجربة الطفولة ذات أهمية، إلا من حيث هي إعادة تجربة، يتم تذكّرها. ومن ناحية ثانية، تساعد معرفة الطفولة على الفهم الأيسر لما يجري الآن لأن المرء يستطيع، على أسس نظرية، أن ينشئ بعض الافتراضات حول أوضاع الطفولة هذه وما يمكن أن نتوقّعه.


وما يهم حقاً ليس المقاربة النشوئية التاريخية، بل ما أدعوه مقاربة الشعاع السيني، وما يهم هو القوى التي تدفعني أو تحرّضني أو تحرّض شخصاً سواي في هذه اللحظة عينها، لأرى ما لا أستطيع أن أراه في ظل ظروف الرؤية العادية. ولو سلطتَ، مثلاً، شعاعاً سينياً على الصدر، لرأيتَ كذلك مرض السل الرئوي الذي قد أصاب الشخص قبل عشرين سنة؛ إنه يُظهر آثار النسيج. ولكنك لست مهتماً بما أصابه قبل عشرين سنة، أنت مهتم بأن ترى ما يجري الآن في رئتي هذا الشخص. أهناك عملية فعالة يمكن أن تُرى بالشعاع السيني؟ وإذا أردت أن تفهم شيئاً ما بالتحليل أو بنفسك من دون استفادة من التحليل، فالمسألة على الدوام هي أن تسأل نفسك أولاً ماذا يجري الآن لا شعورياً، ماذا يمكن أن أخمّن، بماذا أستطيع أن أحسّ من بواعثي اللا شعورية التي تحدّدني، وليس بما جرى أستطيع أن أفسّر ما يجري الآن.




الممارسة العلاجية وصلتها بالتحليل النفسي


إن النظرية الفرويدية، كما تعرفون، نظرية غريزوية في أساسها؛ وذلك يعني أن كل شيء قائم على الغريزة، ثم ولا ريب كيف جارت البيئة على الغرائز من خلال الطبع. ولهذا يكاد يمكن القول نظرياً إن التحليل النفسي يسير في خط الغريزوية instinctivism وعملياً فإن المحللين النفسيين – وكذلك الفرويديين- يمكن أن تقولوا إنهم بيئويون حقاً. وهم في الحقيقة يتبعون تقريباً مبدأ بسيطاً: إن كل طفل هو ما جعله الأبوان. إن التأثير الكامل لبيئتهما هو ما يحدد حقاً مصير الشخص وليس ما يدعوه فرويد "العوامل التكوينية". وكان فرويد نفسه أشدّ حذراً من هؤلاء بكثير. فقد قال إن العوامل التكوينية- أي العوامل التي نولد بها، عواملنا الوراثية- والعوامل البيئية سلسلة متصلة يختلف وزن كل جانب عن الآخر من حالة إلى حالة. فتجد في أشخاص أن العامل التكويني يكون أقوى بكثير، ويكون العامل البيئي أقوى في غيرهم، ولكنها سلسلة متصلة. ففي أحد الطرفين تود أن تكون لك البنية التكوينية، وفي الطرف الآخر تود أن تكون لك البيئة.


ولدى ممارسة التحليل النفسي – وأنا أفكر الآن في عموم المحللين الأمريكيين- توجد معادلة تحذف العوامل التكوينية، بحيث يكون كل شيء نتيجة البيئة. وهكذا، ولا ريب، يقال كذلك إن الآباء مسؤولون عن كل ما حدث. والآن فإن ذلك يكون على نحو ما، ولكن على نحو آخر فهم غير مسؤولين عن ذلك، لأن النتيجة اليوم هي أن الأمهات اللواتي حضرن إلى محاضرات في التحليل النفسي خائفات من أن يقبّلن أطفالهن أو أبناءهن لأنهن بذلك يُحدثن "عقدة أوديب"، وهن خائفات من أن يكون لهن في أي وقت رأي راسخ لأنهن بذلك يكنّ تسلّطيات ويسبّبن العصاب.


ومن جهة أخرى، فالناس الذين يحلَّلون يعيشون في الشعور السعيد بأنهم غير مسؤولين عن أي شيء، لأنهم ما جعلهم آباؤهم يكونونه تماماً – وهو أمر بالغ السوء- وليس في وسعهم أن يفعلوا شيئاً حيال ذلك سوى الدخول في التحليل النفسي، وعندئذ تتكلمون كثيراً عما فعله لكم آباؤكم، ولم يجعلكم تتغيرون كذلك، بالضرورة.


وفي الواقع، هناك تفاعل متواصل بين الآباء وتكوين الشخص وكيفية استجابة الشخص لما يفعله الآباء. إن الطفل في الخامسة، أو الرابعة، قد صارت لـه ردود فعله، ولذلك لا يمكن للمرء أن يقول ببساطة: "أنا على هذا النحو لأن أمي كانت على هذا النحو". وحتماً كانت أمي أو كان أبي أو كانت بيئتي هي المؤثرات المحدِّدة الأولى، ولكن برغم ذلك على المرء أن يسأل نفسه، ماذا فعلتُ، لئلا أذعن لهذه المؤثرات؟ هل كنت بكاملي قطعة شمع، هل كنت بكاملي قطعة ورق خالية كتب أبواي عليّ نصهما؟ ألم تكن لديّ وأنا طفل إمكانية ما للحكم بصورة مختلفة؟ هل كنت من دون أية إرادة؟ وهل تحددني الظروف كلياً؟

وفي الواقع، ففي هذه الناحية فإن المفهوم الشعبي للتحليل النفسي متماثل تقريباً مع "السكنرية" Skinnerianism. وذلك يعادل القول إنهما مشروطان على ذلك النحو وذلك هو السبب في أنهما على ذلك النحو. ووحده سكنر Skinner لم يركب الصعاب للعثور على ما يوجد في الصندوق الأسود، ما يوجد في داخل هذا الشخص الذي يوصل العامل الشرطي إلى النتيجة، إلى سلوك الشخص. فهو غير مهتم بذلك؛ وغير مهتم بأمور كثيرة مهما كانت إذا لم تكن من التعامل البارع الخالص عند الناس. ولكنك إذا أضفت هذا الرأي النظري، من المدرسة الفرويدية، فهو يعادل القول: "حسناً، نحن مشروطون على ذلك النحو، ويمكنكم إذن وصف العملية التحليلية ذات وجهة النظر السكنرية بأنها محاولة عظيمة لنزع "الشرطية". لقد قالت الأم: "أحبك إذا لم تتركني". ويقول المحلل "أنت مريض جيد إذا تركتَها". ولو استمر ذلك بضع سنوات، لاستقبلت مجموعة جديدة من التشريط يمكن في آخر الأمر أن تؤدي إلى أن يترك المريض أمه ويلتصق بالمحلل، ثم يتم لك ما يسمى التحويل الممطوط، وإذا حدث أخيراً أنه لم تكن هناك تَعِلّة أخرى للاستمرار في التحليل، فإنك تلتصق بأحد الأشخاص الآخرين.


يتزوج أناس كثيرون، يذهبون من أمهاتهم إلى زوجاتهم، والزوجات يصبحن بديلاً عن الأمهات، أو يختار أحدهم شخصية أم أخرى أو شخصية سلطة أخرى، وذلك ما يجعل السياسة تعمل، فهذه الولاءات التي تُخلَق، يحتاج الناس فيها إلى الشخص الذي يعتمدون عليه. والشيء الوحيد الذي لا يقومون به هو أن يجعلوا أنفسهم مستقلين، ولكن لشد ما يغيّر التابعين. تلكم مشكلة كبيرة، ولكن ليست في العلاج الفرويدي فحسب؛ إنها مشكلة تصادفونها في كل العلاج التحليلي.


إن هذا النوع من تأكيد العوامل الشرطية الذي جعل الناس على النحو الذي هم عليه يُفضي إلى إهمال المسائل الحقيقية والمهمة أكثر فأكثر. وهذه هي المسائل: ماذا بوسع الناس أن يفعلوا لتخليص أنفسهم؟ كيف بوسعهم أن يتصرفوا بصورة مختلفة؟ كيف بوسعهم أن يستفيدوا من هامش الحرية الذي يملكه كل فرد؟ ولا ريب أن السؤال الحاسم هو ماذا بوسعهم أن يفعلوا الآن؟ وهذا السؤال لا يعتمد على العمر. وكانت من أقدم مرضاي امرأة في السبعين غيّرت حقاً كل حياتها نتيجة التحليل. ولكنها كانت شديدة الحيوية؛ كانت أشد حيوية من معظم الناس وهم في العشرين.


وكان لفرويد مفهوم كانت فيه على الأقل العوامل التكوينية – أي العوامل الكائنة في الشخص- تؤدي دوراً. واليوم قد انحدر العدد الكبير من المحللين إلى العلاج الشرطي الخالص – وفي الواقع، ليس على المستوى النظري
– ومن دون تأكيد لمسؤولية الشخص صاحب العلاقة. والسؤال: "لماذا أنا على النحو الذي فيه؟" يكاد يكون صيغة معظم العلاج النفسي، على حين أنني أهدف إلى أن أرى: "من أنا؟" وليس "لماذا أنا على ما أنا عليه؟" وطريقتي في مساءلة أناي تستدعي أن يسلّط المرء على نفسه شعاعاً سينياً، لأنك إذا لم تعرف لماذا أنت على ما أنت عليه، لن تعرف من أنت.




إسهام هاري ستاك سوليفان في المفهوم التحليلي النفسي للإنسان


انطلق سوليفان في عمله بصورة بالغة الإثارة للاهتمام وشديدة الإقناع. كان يعمل في مشفى القديسة إليزابث في واشنطن وطلب السماح لـه بإجراء اختبار. أراد أن يكون لـه قسم لمرضاه، وفي هذا القسم – وكان ذلك شرطاً- لا يود أن تكون لديه إلا الممرضات المنتقيات والمتعلمات اللواتي من دأبهن ألا يتصرفن إلا بطريقة إنسانية نحو المرضى، وفي ذلك الحين لم يكن هناك علاج نفسي، ولا عقاقير حتماً، ولم يكن يفعل شيئاً مع المرضى سوى إظهار شخصيته، التي فيها احترام هائل للمرضى الذُّهانيين، وللسلوك المختلف. وأظهرت نسبة الشفاءات العفوية تبدّلاً ملحوظاً. فهؤلاء المرضى الذين لا تساء معاملتهم، ولا يُذَلّون، ويعامَلون بوصفهم بشراً، كانت النتيجة أنهم تعافوا، وهذه بيّنة كافية على أن الذُّهان ليس مجرد واقعة فيزيولوجية عضوية. فالتغيّر السيكولوجي في هذا النظام يمكن أن يُحدِث شفاء مريض من شأنه، في مشفى للدولة أن تسوء حاله ويُمسي ذُهانياً مزمناً في ذلك الوقت.


وتكمن أهمية سوليفان نظرياً في إدراكه أن المهم ليس اللبيدو, أو الغريزة الجنسية، بل العلاقة الشخصية بين شخص وآخر – أي ما سمّاه "العلاقات الشخصية المتبادلة" interpersonal relations. وبينما كان فرويد يعتقد أن محور المشكلة هو انجذاب الطفل الجنسي، أي ما يُسمى "عقدة أوديب"، لم يعتقد سوليفان وجماعته أن هذه هي المشكلة على الإطلاق؛ وهي في الواقع ليست مشكلة. فالمشكلة هي أن العنصر المرَضي، العنصر الغريب في العلاقات الشخصية في الأسرة هو الذي يمكن أن يُحدِث الفُصام. 


وثمت عدد من الدراسات البعيدة عن سوليفان، الدراسات البارعة التي تظهر الأسرة الموَلّدة للفصام كما هي حقاً، وقد وجد المرء – ولا سيما لانغ، ولكن الآخرين وجدوا أيضاً- أن الأسرة الموَلّدة للفُصام، الأسرة التي تُنتج الفصاميين، ليست أسرة ذميمة بصورة خاصة. إنها ليست أسرة تساء فيها معاملة الطفل على وجه الخصوص. إنها أسرة السأم المطلق، والفراغ المطلق، والجمود، وليست فيها علاقة لأي شخص بالآخر، وتكاد تميت الطفل جوعاً في حاجته إلى الاتصال الشخصي.


ويعرف كل امرئ اليوم وتؤيده التجارب الحيوانية أن الدليل يشير إلى أن الطفل إذا لم يحظَ باتصال طبيعي باكر بالأم أو بالبديل عن الأم، فإن ذلك يخلق ضرراً كبيراً لنشأته اللاحقة. إنها لحاجة حيوية عند الطفل.


ويعرف كل امرئ ذلك ويقبله، ولكن ما ينساه الكثيرون من الناس هو أن الحاجة إلى أن يكون لديهم هذا النوع من الإثارة الشخصية المتبادلة تضاهي الحاجة الأصلية إلى الاتصال الجسدي بالأم وتدوم مدة أطول بكثير. فإذا لم تتحقق، ولم يمت الطفل كالأطفال الذين يصفهم رينيه سبيتس René Spitz –فهي لا تُحدِث ذلك التأثير العميق- ولكن إذا كانت الحالة قاسية على نحو خاص، فإن الطفل يصبح شديد الهشاشة، شديد الفُصامية، شديد الانعزال بحيث أنه عندما يكون ثمت قدر معين من التوتّر يحطمه ذلك فيغدو فُصامياً بائناً.
وكان سوليفان أول معالج نفسي حاول أن يخلق نظرية في الفُصام تعتقد أساساً أن الفُصام ليس في ماهيته مرضاً عضوياً بل هو في أساسه نتيجة عملية سيكولوجية. ولا ريب أن ذلك كان تحولاً من التحولات الكبرى في النظرية الفرويدية، لأن فرويد اعتقد أن الذُّهاني لا تمكن مساعدته، وأن الذُّهاني لا يمكن أن يحلَّل. وبرأيه أنه لنرجسيته الزائدة لا يدخل في علاقة تحوّل مع المحلل. ولا أزال أعتقد أن المرء يمكن أن يعرّف الذُّهاني بأنه شخص ذو درجة متطرفة جداً من النرجسية، أي ليس حقيقياً بالنسبة إليه إلا ما يوجد في داخله –الذي لا ينتمي إلا إلى أفكاره، إلى شخصيته- ولا شيء ينتمي إلى العالم الخارجي يكون حقيقياً عنده. ولكن المريض الفُصامي هو في الوقت نفسه كثيراً ما يكون شخصاً حساساً للغاية وقادراً في الواقع على الاستجابة للناس. ومهما يكن، فيجب على الناس أن يكونوا أشد حساسية من الشخص العادي، وعندئذ سيكون للفصامي ردة فعل، سوف يستجيب. وفي أمثلة كثيرة، يعرف حتى أشد المرضى بالإغماء التخشّبي ماذا يجري ويستجيبون بأسلوبهم الخاص، ويمكن أن يقولوا بعدئذ، متى كانوا خارج الحالة، وماذا خَبَروا؛ وكيف فهموا ما كان يجري.


إن سوليفان وهذا التراث الكلي هو وجه جديد بالغ الأهمية من أوجه التحليل النفسي، أعطى أولَ مرة للشخص الذُّهاني كرامة الإنسان مستوفي الصفات. وبعد كل شيء، فإنه لم يحرر الإنسانُ المرضى الذُّهانيين من أغلالهم إلا في إبان الثورة الفرنسية، وإذا أردتم أن تروا بعض مشافي الدولة حتى في هذه الأيام، فإنها ليست مكبّلة بالأغلال، ولكنها ليست بعدُ أفضل بكثير. إن الذُّهاني لا يزال يُنظر إليه- وأود أن أقول كذلك من جانب معظم الأطباء النفسيين التقليديين، بوصفه مخبولاً، بوصفه شخصاً مختلفاً كلياً، في الخارج، ولدى القلة من الأطباء النفسيين القدرة على الشعور بأن شيئاً من الفُصامي موجود في كل فرد منا. ومن المؤكد أن شيئاً من الشخص المصاب بالبارانويا (جنون العظمة والاضطهاد) موجود في أيٍّ منا. فنحن كل هؤلاء من بعض النواحي- والبارانويا حالة هي مسألة درجة فقط. فحتى حد معين ندعوها طبيعية، ولكننا إذا لم نستطع أن نحتملها دعوناها مرضاً. وهكذا فما من حالة من هذه الحالات الذُّهانية شديدة الاختلاف حقاً، وتخلق مثل هذه الفجوة العميقة بين البشر. والمريض الذُّهاني ليس على غير ما هو معهود في الإنسان، ومعدوماً من الصفات الإنسانية، ومختلفاً عمن يسمى المريض العادي.




أمراض عصرنا بوصفها تحدياً للتحليل النفسي


يُفهم من التحليل النفسي تقليدياً أنه عملية علاجية للناس الذين يكونون مرضى. فإذا كان لديَّ ما يرغمني على الشك في كل شيء، الشك الاستحواذي، وإذا كانت لديّ ذراع مشلولة عن منشأ نفسي، فإن ذلك عَرَض مَرَضي وطيد. وليس التحليل النفسي هو المنهج الوحيد الذي يمكن به للمرء أن يشفى من الأعراض المرَضية. وقد كنتُ في لورد ورأيت بأم عيني كثيراً من الناس الذين تمّ شفاؤهم من الشلل وكل أنواع الأعراض المرَضية الشديدة بإيمانهم بلورد. لقد شفي الناس حقاً، من دون أدنى ريب. والناس تشفيهم اليوم المناهج الكثيرة المعلنة؛ وهناك كل أنواع الأسماء، وإذا كانت المسألة مسألة شفاء، فإن الكثير من هذه المناهج مناهج جيدة.


وبوسعكم شفاء الناس بالترويع. ففي الحرب العالمية الأولى ابتكر طبيب ألماني طريقة لشفاء الجنود المصابين بصعقة الحرب من جراء القتال والذعر؛ وكان العلاج الشافي الذي استخدمه هو وضع أجسامهم تحت تيار كهربائي قوي، يؤلم كما يبدو إيلاماً عميقاً جداً. وكان اسمه الدكتور كاوفمان Dr. Kaufmann، وكانت طريقته هي المعالجة الكاوفمانية. وكانت معالجة طبية، وكان من شأنها أن تشفي. وكانت تعذيباً صرفاً، وتبيّن أن الخوف من هذا التعذيب كان أشدّ من الخوف والذعر من الوجود في الخنادق مرة أخرى. وهكذا، وبهذا النسق الترويعي، شُفي الناس من العَرَض المرَضي. ولا ريب أن مسألة ماذا كان يجري للشخص حين يكون لديه رُعب يطرده رعب أكبر لم يكن لها عند الدكتور كاوفمان وعند الجيش عموماً أهمية خاصة.


إلا أن أعراضاً مَرَضية كثيرة تشفى وربما حصرياً بالتحليل النفسي، وأعني بها بعض أحوال الشكوك الاستحواذية، وكل أنواع الأعراض المرَضية الاستحواذية، وبعض الأعراض المرَضية الهستيرية. وفي بعض الأحيان يكون ذلك سهلاً للغاية. ودعوني أقدّم مثالاً على حالة شديدة السهولة، على معالجة تحليلية جدّ بسيطة لم يستغرق فيها الشفاء من العَرَض إلا بضع ساعات. أذكر امرأة جاءت إليّ ولديها شكوى، ولديها عَرَض مَرَضي هو أنها كلما غادرت منزلها، كانت لديها فكرة استحواذية أنها قد تركت الغاز مشتعلاً أو أنه لسبب آخر سيشبّ حريق؛ وأينما كانت كان لديها ما يرغمها على العودة إلى منزلها لترى أنه ليس فيه حريق. قد يبدو ذلك بالفعل أمراً خفيفاً عندما يتحدث عنه المرء، ولكنه كان مدمّراً تماماً لكل حياتها لأنها عملياً لم تكن تستطيع الخروج. فكانت تضطر أن تُهرع عائدة، وكان هذا العَرَض لا يُقهر. ثم تكلمت عن ماضيها. وذكرت أنه قد أُجريت لها عملية لاستئصال السرطان قبل زهاء أربع أو خمس سنوات وقد أخبرها الجراح الذي لم يكن مرهف الشعور أنه ولو أن الخطر قد زال في الوقت الحاضر ولا ريب فقد يكون ثمت انبثاث للخلايا السرطانية فيمكن بذلك للسرطان أن ينتشر انتشار النار. وكان ذلك، حتماً، توقعاً مخيفاً جداً – وكان هذا شأنه لكل من يقال لـه ذلك- وكانت مذعورة للغاية من انتشار المرض. ونجحتْ في ترجمة الخوف من أن ينتشر المرض إلى الخوف من أن تنتشر النار. وهكذا لم تكن خائفة من السرطان، بل كانت خائفة من النار، وبينما كان ذلك مصدّعاً، فإن العرَض المرَضي نفسه كان شفاء من خوف أكبر، هو الخوف من الإصابة بالسرطان.


وصادف في تلك الآونة – وكما قلت فقد كانت بعد زهاء خمس سنوات من عمليتها- أن فرص معاودة الانبثاث كانت ضئيلة نسبياً وهكذا فقدت في تلك اللحظة خوفها من النار من دون أن تكون خائفة آنئذ من السرطان. ولكن إذا فكر المرء أن ذلك حدث قبل ثلاث سنوات، فمن المشكوك فيه أنه هل يحسن المرء صنعاً إذا جعلها تعرف خوفها من النار، لأنها في ذلك الحين، لو أصبحت شاعرة بذلك، لانتابها خوفها من السرطان مجدَّداً وكان من شأن ذلك أن يكون أشدّ إيلاماً وإقلاقاً من خوفها من النار بكثير. وهنا تجدون عَرَضاً مَرَضياً شديد البساطة، يكاد يكون أبسط عَرَض يمكن أن تصادفوه، وهو يزول على الفور تقريباً عندما يترجَم ويُربَط بما يخاف منه الإنسان حقاً. والآن فإن جلّ الحالات معقدة، ولكنني أود أن أقول إنه عموماً في الأحوال التي يُستخدم فيها التحليل لعلاج الأعراض المرَضية هذا يكون التحليل كافياً.


وفي زمن فرويد كان معظم الناس الذين يأتون إلى الطبيب النفسي يعانون من أعراض كهذه، ولا سيما من الأعراض الهستيرية، التي هي الآن شديدة الندرة. وإنه لتبدّل، يمكن أن تروه الآن، تبدّل في أسلوب العصاب يلازم تبدّل النماذج الثقافية. والهستيريا اندلاع شديد للإحساس وإذا رأيت شخصاً هستيرياً بكل هذا الاندلاع للانفعال يصوّت ويصيح وما إلى ذلك، فقد تخال أنك في زمن خطيب القرن الماضي، أو زمن الرسائل الغرامية وهلم جرا – كل هذه الأمور التي إذا رأيناها اليوم في الأفلام بدت واضحة الغرابة. وذلك لأنه لدينا أسلوب مختلف كل الاختلاف. إن لدينا أسلوب الأمر الواقع، ونحن لا نظهر الكثير من الأحاسيس، واليوم فإن الأعراض الفُصامية، أعراض فقدان الاتصال بالناس الآخرين وبنتائجهم، هي الأعراض المتكررة.


وفي زمن فرويد كان الناس يعانون في الدرجة الأولى من أعراض –لا الهستيريا وحدها ولا شك، بل كذلك من الأعراض الإرغامية. وفي ذلك الحين كان الناس الذين لديهم مرض ذو عَرَض حقيقي جسيم، ويمكن أن يثبتوه بوجود الأعراض، يذهبون إلى الطبيب النفسي. وأود أن أقول اليوم إن معظم الذين يذهبون إلى المحلل النفسي هم أناس يعانون مما تعوّد فرويد أن يدعوه "داء القرن" malaise du siecle، القلق الذي هو الصفة المميزة لقرننا. لا أعراض على الإطلاق، بل إحساس بعدم السعادة، والغربة، ولا حتى أرَق، ولكن الحياة لا معنى لها، ولا تلذّذ بالحياة، بل انسياق، بل إحساس بتوعّك غامض. وهم يتوقعون أن يبدّل التحليل النفسي ذلك. ويدعو المرء ذلك تحليل الطبع، تحليل الطبع كلياً، وليس بالأحرى تحليل العَرَض، لأنك يمكن أن تقول فعلاً إنه يوجد أناس يعانون من هذا التوعّك، الذي لا يمكن للمرء أن يعرّفه بالكلمات على الوجه الصحيح تماماً ولكنه يحسّ به بمنتهى الدقة من تفحّص نفسه وتفحّص نفوس الآخرين.


وقد أطلق المرء على هذا النمط من التحليل النفسي تحليل الطبع الذي هو إلى حد ما الاسم أو الكلمة الأكثر علمية والمناسبة لـ الناس الذين يعانون من أنفسهم. ولا شيء خطأ. إنهم يملكون كل شيء ولكنهم يعانون من أنفسهم. وهم لا يعرفون ماذا يفعلون بأنفسهم، وهم يعانون من ذلك، وهو عبء، وهو مشكلة لا يستطيعون حلها. إنها أحجية؛ وهم يستطيعون حل أحجية الكلمات المتقاطعة ولكنهم لا يستطيعون حل الأحجية التي تقدمها الحياة إلى كل فرد.


والرأي عندي أن التحليل النفسي بالمعنى الكلاسيكي ليس كافياً لهذا النمط من الداء. والمطلوب هو نمط مختلف لأن هذا الداء يعادل مسألة التغيّر الجذري في الشخصية الكلية. ولا يمكن لمن يعاني من هذا الداء أن يحلَّل بنجاح من دون تغيّر جذري ومن دون تحوّل طبعه. والتغييرات الطفيفة والتحسينات الزهيدة لا تفعل أي خير. ويمكن لنظرية الأنظمة الحديثة أن توضح ذلك. وأنا أشير إلى أن مفهوم الشخصية –أو المنظومة- نظام. أي أنها ليست مجرد المجموع الكلي للأجزاء، ولكنها بنية. فإذا تبدّل جزء واحد من البنية ألمّ ذلك بكل الأجزاء الأخرى. وللبنية في ذاتها تماسك؛ وهي تميل إلى رفض التغيّرات لأن هذه البنية ذاتها تميل إلى المحافظة على ذاتها.


فإذا أحدث المرء في هذه البنية تغييرات طفيفة، فإنها لا تتغير كثيراً. ولتقديم مثال بسيط أقول: كانت الفكرة الشائعة هي تغيير الوضع في حي فقير ببناء دور أجود في الحي  الفقير. ماذا يحدث؟ إنه بعد ثلاث أو خمس سنوات تكون الدور الجميلة الجديدة مثل دور الحي القديم تماماً. لماذا؟ لأن التربية قد ظلت نفسها، والدخل قد ظل نفسه، والصحة قد ظلت نفسها، والنماذج الثقافية قد ظلت نفسها- أي إن النظام ينمو فوق هذا التبدّل الطفيف، هذه الواحة الصغيرة، التي تندمج بعد فترة في النظام الكلي. وليس بمقدوركم تغيير الحي الفقير إلا إذا غيرتم النظام الكلي- فغيرتم في الوقت نفسه الدخل، والتربية، والصحة، ومعيشة الناس كلها. وعندئذ ستغيرون الدور كذلك. ولكنكم إذا غيرتم جزءاً واحداً فليس ذلك كافياً. وذلك لا يمكن أن يقاوم تأثير النظام الذي –إن جاز القول- يهتم ببقائه حياً. [...]


وبالمعنى نفسه فالفرد نظام أو بنية. وإذا حاولتم القيام بتغييرات طفيفة فإنكم سرعان ما تجدون أن هذه التغييرات ستزول بعد مدة من الزمن، ذلك أنه لم يتغير شيء في الحقيقة وأنه لن يُحدث التغيّر إلا التحوّل الأساسي جداً في نظام الشخصية. ومن شأن ذلك أن يشمل تفكيرك، وعملك، وإحساسك، وتحركك، وكل شيء. وإن خطوة واحدة متكاملة، كلية، أشد نجاعة من عشر خطوات لا تسير إلا في اتجاه واحد. وأنتم ترون الأمر نفسه في التغيّر الاجتماعي، حيث لا يُحدِث تغير واحد أثراً دائماً كذلك.




***






الفصل الخامس

الشروط المسبّقة للشفاء العلاجي



المقدرة على النماء النفسي


إذا فكرنا في عصاب الطبع واسع الانتشار اليوم، وَجَب علينا أن نطرح السؤال: لماذا ينشأ شخص على النحو الذي ندعوه كئيباً عصابياً؟ لماذا هو ليس كما يريد أن يكون، أي ليس لـه من السعادة في الحياة إلا النزر اليسير؟


أود أن أشير إلى اعتبار هو نتيجة ملاحظتي في الحياة، وهو أن ثمت قانوناً عاماً هو أن كل إنسان يريد أن يحيا ويريد أ ن يحظى من الحياة بأحسن ما يكون من اللذة والإشباع، ككل حيوان، وكل بزرة، ولا أحد يريد أن يشقى. ولا المازوخي كذلك؛ فالمازوخية عنده هي الطريقة الخاصة للحصول على الدرجة القصوى من اللذة. والسبب الذي يجعل الناس أكثر صحة أو أقل أو يعانون أكثر أو أقل يكمن في أنهم، بسبب ظروفهم، وأخطائهم، وسوء توجيههم لحياتهم (الذي يكون نظامياً في سن الثالثة فما بعد)، وكذلك في بعض الأحيان بسبب العوامل التكوينية والاتحاد الخاص للظروف، لا تكون لديهم الشروط المناسبة لتحقيق الحد الأعلى من النمو الذي يمكن أن يبلغه الشخص البشري. ولذلك ينشدون خلاصهم بطريقة كسيحة.


وأريد أن أقارن إمكانيات النمو النفسي الكسيحة بشجرة في الحديقة؛ إنها بين جدارين في إحدى الزوايا ويصل إليها القليل من الشمس. وقد نمت هذه الشجرة معوجّة تماماً، ولكنها نمت على ذلك النحو لأنه سبيلها الوحيد إلى الوصول إلى الشمس. وإذا أردت أن تتكلم عن هذه الشجرة كما تتكلم عن إنسان قلت إنها إنسان كسيح قبيح لأنه معوجّ تماماً. إنه ليس كما يجب أن يكون، وفقاً لاستعداداته الكامنة. ولكن لماذا هو على ذلك النحو؟ لأن هذه كانت طريقته الوحيدة للحصول على الضوء. وهذا ما أعنيه هنا، يسعى كل امرئ إلى الوصول إلى الشمس والحصول على النماء في الحياة. ولكن إذا كانت ظروفه هكذا بحيث لا يستطيع الحصول على ذلك بطريقة أكثر إيجابية، فإنه سيحصل عليه بطريقة معوجّة. وأقصد بـ "معوجّة" هنا معناها الرمزي، أي بطريقة مريضة، بطريقة منحرفة. ومع ذلك يظل إنساناً، يبذل أقصى مستطاعه للعثور على حل لحياته. وعلى المرء ألا ينسى ذلك.


وإنها لمهمة عسيرة للغاية أن يغيّر المرء نفسه وأن يحقق – كما يمكن أن تقولوا- تحويل الطبع. وفي الحقيقة كانت تلك غاية الأديان كلها، وجل الفلسفات. ومن المؤكد أنها كانت غاية الفلسفة اليونانية وهدف بعض فلسفات الحداثة، وسواء في ذلك أتحدثت عن البوذية أم تحدثت عن المسيحية واليهودية والإسلام أم سبينوزا أم أرسطو. فقد كانت كل هذه الرسالات تسعى إلى اكتشاف ماذا بوسع الإنسان أن يفعل ليمنح نفسه التوصيات، ويهدي نفسه إلى أفضل هَدْي وأسماه وأكثره صحة وفرحاً، إلى أقوى هدي في العيش. ويعمل أكثر الناس بدافع من الواجب، لأنهم يعتقدون أنهم مدينون له: وذلك يعني أنهم متّكلون. إنهم لم يصلوا بعدُ إلى مرحلة إثبات الذات، مرحلة طرح أنفسهم "هذا أنا، وهذه حياتي، وهذا اقتناعي، وهذا شعوري، وأنا لا أعمل وفقاً لنزواتي
– فمن شأن ذلك أن يكون غير عقلي- بل وفقاً لما يمكن أن يدعوه المرء التجلي العقلي لذاتي، أو كما يمكن أن يقال، وفقاً للمتطلّبات الماهوية أو القدرات الماهوية في شخصيتي. وضد الدوافع التي هي غير عقلية كذلك". والمقصود بـ "الماهوية" هنا التي تنتمي إلى ماهية ذاتي بوصفي إنساناً.


ماذا يعني أن أكون عقلياً؟ قال هوايتهد Whitehead (1967, p. 4): "إن وظيفة العقل هي ترقية فن الحياة". ولو أردت أن أعبّر عن ذلك بكلماتي لقلت: إن العقلي هو كل ذلك، كل الأعمال والسلوك، التي ترفد نمو البنية ونشأتها، وغير العقلي هو كل تلك الأعمال السلوكية التي تعوّق نمو الكيان وبنيته وتقضي عليه، سواء أكان الكيان نباتاً أم كان إنساناً. وقد تطورت هذه الأمور، وفقاً للنظرية الداروينية، لتكون الجانب الآمن من مصالح الفرد والنوع في البقاء على قيد الحياة. ومن ثم فهي ترفد أساساً مصالح الفرد والنوع ولذلك هي عقلية. فالرغبة الجنسية عقلية. والجوع والظمأ عقليان تماماً.


بلية الإنسان أنه قليل التحدّد بالغرائز. ولولا ذلك ولو كان الإنسان حيواناً لكان عاقلاً تماماً – وكل حيوان عاقل تماماً- إذا تخلّصتم من عادتكم في التفكير وهي الخلط بين العاقل والمفكر. والعقلي لا يعني بالضرورة الشيء الذي هو فكر؛ بل يشير العقلي في الحقيقة كثيراً إلى العمل فقط. وعلى سبيل المثال: إذا وضع أحدهم مصنعاً في مكان فيه العمل عزيز المنال وغالي الثمن ويحتاج إلى العمال أكثر من الآلات، فإنه يتصرف من الوجهة الاقتصادية بطريقة غير عقلية لأن عمله محتوم لـه أن يُضعف نظامه الاقتصادي، نظام معمله، ويقضي عليه، وسيلاحظ ذلك وشيكاً عندما يُفلس بعد سنة أو سنتين.


ومنذ فريدريك وينسلو تيلور Frederick Winslow Taylor، يتكلم الاقتصاديون عن "العقلنة" بمعنى مختلف تماماً عن معنى العقلنة السيكولوجية عندنا. فالعقلنة تعني تغيير أنهاج العمل بطريقة تكون أوفى من وجهة نظر الأداء الأفضل لهذه الوحدة الاقتصادية – لا من وجهة نظر الإنسان.


ووفقاً للإنسان على المرء أن يقول: إن غرائزه ليست غير عقلية، وإنما أهواؤه هي كذلك. فليس عند الحيوان حسد، ولا تدميرية من أجل ذاتها، ولا رغبة في الاستغلال، ولا سادية، ولا رغبة في الهيمنة، فكل ذلك أهواء تكاد عموماً لا توجد عند الحيوانات على الإطلاق. وهي تظهر في الإنسان لا لأن لها جذورها في غرائزه، بل لأنه تُنتجها شروط مَرَضية معينة في بيئته التي تُنتج الخصائص المرضية في الإنسان. ولنقدم مثالاً بسيطاً: إذا كانت لديك بزرة شجيرة ورد، عرفت أن هذه البزرة لكي تُنتج شجيرة كاملة النماء جميلة الورد تحتاج على وجه الدقة إلى ذلك القدر من الرطوبة، والحرارة، وإلى نوع خاص من التربة، وإلى أن تُزرَع في أوان معين. فإذا توافرت هذه الشروط، فإن هذه البزرة – إذا لم تتعرض إلى الآفة أو الظروف البارزة الخاصة الأخرى- سوف تنمو إلى وردة تامة، وإذا وضعت البزرة في تراب رطب للغاية، تعفّنت البزرة تماماً وتلفت. وإذا وضعتها في شروط ليست أفضل الشروط، فإنك ستحصل على شجيرة ورد، ولكن شجيرة الورد سوف تُسفر عن عيوب في نمائها، وفي أزهارها، وفي أوراقها وكل شيء. لأن بزرة شجيرة الورد لم تكن مستعدة أن تنمو تمام النمو إلا إذا كانت الشروط المتوافرة تؤدي تجريبياً – وذلكم أمر لا يُكتشف إلا تجريبياً- إلى نماء هذه البزرة الخاصة.


ويصدق ذلك على الحيوان أيضاً، كما يعلم أي حيوان ولود، ويصدق على الإنسان أيضاً. ونحن نعلم أن كل إنسان يحتاج من أجل نموه الكامل إلى شروط معينة. وإذا لم تتوافر هذه الشروط، إذا كان ثمت برد بدلاً من الدفء، وإذا كان ثمت إرغام بدلاً من الحرية، وكانت السادية بديلاً من الاحترام، فإن الطفل لن يموت بل سيصبح طفلاً معوّجاً، كما رأينا شجرة معوجَّة عندما لم تحصل على أي قدر تحتاج إليه من الشمس. وهذه الأهواء، التي هي أهواء معوجَّة، والتي هي نتيجة الشروط غير الكافية – إنما هي أهواء الإنسان غير العقلية. ويمكن أن يقال فيها إنها لا ترفد النظام الداخلي للإنسان، بل تجنح إلى إضعافه، أو تقضي عليه في مآل الأمر، وأحياناً حتى بالمرض.


وقد جاء فرويد بالاختراق الختامي للسيرورة التي دامت قروناً: إنه خلع القناع عن الفكر بمعرفة أن الصدق لا يُعرَّف بإثبات أن لدى المرء نيات حسنة –لأن أحداً من الناس يمكن أن يكذب بأحسن النيَّات أو مع الشعور بأنه مخلص تماماً، لأن أكاذيبه ليست شعورية، وإلى جانب ذلك، قدّم فرويد بُعداً جديداً كل الجدة لمشكلة الصدق، أو الإخلاص، في العلاقات الإنسانية، لأن العذر "أنا لم أقصد ذلك" الذي هو العذر التقليدي لعدم النية فيما يبدو أن العمل يدل عليه- قد فقد حقاً أهميته منذ نظرية فرويد في زلقات اللسان والحوادث الأخرى.


ومنذ فرويد كان لا بد من إعادة النظر في المشكلة الأخلاقية كذلك: فالشخص ليس مسؤولاً عما يفكر فيه وحسب بل كذلك عن لا شعوره. وهذا يكون حيث تبدأ المسؤولية، والبقية قناع، البقية لا شيء؛ ويكاد ما يعتقد به المرء لا يستحق الإصغاء إليه. وأنا أقول ذلك بشيء من المبالغة: إنك لتجد أقوالاً كثيرة وتأكيدات كثيرة وألفاظاً كثيرة لا تكاد تستحق الإنصات إليها لأنك تعرف أنها كلها جزء من الأنموذج، من الصورة التي يود أحدهم تقديمها.


وفي رأيي أن الأمر المهم بالنسبة إلى العلاج هو أن المريض يستطيع تنقيل شعوره أو شعورها بالمسؤولية والفاعلية. وأعتقد أن قدراً كبيراً مما يجري في التحليل يقوم على افتراض يفترضه الكثير من المرضى: هو أن هذا نهج يسعد به المرء بالكلام من دون القيام بالمجازفات، ومن دون معاناة، ومن دون أن يكون فاعلاً، ومن دون اتخاذ قرارات. إن هذا لا يحدث في الحياة ولا يحدث في التحليل. فلا أحد يصبح سعيداً بالكلام، ولا حتى بالكلام من أجل الحصول على تفسيرات.


ولا مناص للمريض لكي يتغير من أن تكون لـه إرادة هائلة ودافع قوي إلى التغيّر. وكل شخص يلوم شخصاً ما فيتملّص بذلك من المسؤولية. وإذا قلت المسؤولية، فأنا لا أتحدث من وجهة نظر قاض. فأنا لا أتّهم أي أحد. ولا أعتقد أننا نملك الحق في اتّهام أي أحد كأننا قضاة. ولكن يظل ذلك حقيقة واقعة: فلا أحد يتعافى ما لم يكن لديه شعور متزايد بالمسؤولية، وبالمشاركة، وفي الحقيقة بالفخر بإنجاز معافاته.


وهناك شروط معيّنة تؤدي إلى النمو الصحي للإنسان وشروط معينة تؤدي إلى الظواهر المرَضية، والمسألة الحاسمة هي اكتشاف ما هي الشروط المفضية إلى النماء الصحي للإنسان وما هي الشروط المولّدة للمرض.


وفي الحقيقة فإن نماء الإنسان موضوع كان يعالَج تحت صنف فلسفة الأخلاق في تاريخ الفكر. لأن فلسفة الأخلاق هي في ماهيتها المحاولة لإظهار تلك المعايير المفضية إلى النمو الصحي للإنسان.


وما يكاد المرء يتكلم عن الناس حتى يقول الناس إن ذلك حكم قيمي لأنهم لا يريدون أن يفكروا في المعايير الضرورية: إنهم يريدون أن يعيشوا بسعادة من دون أن يعرفوا كيف السبيل إلى أن يعيشوا بسعادة. وكما قال مايستر إكارت Meister Eckhart في إحدى المرات: "كيف بوسع الإنسان أن يتعلّم فن العيش وفن الموت من دون أي تعليم؟" وذلكم صحيح تماماً وهو أمر فاصل تماماً. ويعتقد الناس اليوم أنهم يستطيعون أن يصبحوا في غاية السعادة. ولديهم كل أحلام السعادة، ولكن ليس لديهم أدنى فكرة عن مسألة الشروط المفضية إلى السعادة، ولا إلى أي نوع من الحياة المرْ ضية.


ولدي اقتناع ومثال متميز حول مسألة كيف من شأن الثقافة أن تكون ذلك المفضي إلى حسن الحال. وليس أنني أستطيع أن أقدم مخططاً دقيقاً لمسألة كيف ينظر ذلك المجتمع نظرة تخصّصية، لأن ذلك بالغ الصعوبة، ومن المحال تنفيذه عملياً، لأنه في الظروف الجديدة تنشأ أشياء جديدة بالتفصيل كل يوم. ولكن بالرغم من ذلك فالمثال الأخلاقي الذي لديّ اقتناع متميز به هو: في ثقافة كهذه يكون المقصِد الأساسي للحياة هو النمو الكامل للإنسان لا للأشياء ولا للإنتاج ولا للغنى ولا للثراء. النمو الذي تكون فيه سيرورة العيش نفسها، إن أردتم، عملاً فنياً، بوصفه رائعة حياة أي شخص، تتمسّك بالقوة الفُضلى والنماء الأفضل، وهي الشيء الأهم في حياته.


والسؤال الحاسم هو: ما المهم؟ إن الجواب في ثقافتنا اليوم مختلف بالمقارنة مع العصور الوسطى. ويظل مختلفاً بعض الشيء عن الجواب، ولنقل، في القرن الثامن عشر، على الأقل بين الناس أنفسهم. فقد كانت ثمت فكرة هي أن الحياة هي حقاً مقصِد العيش، فالقصد من أن نولد هو أن نصنع من حياتنا شيئاً ما. أما اليوم فلم يعد ذلك مهماً. وما يعدّه الناس مهماً هو تحقيق النجاح، واكتساب السلطة، واكتساب الجاه، والصعود على السلّم الاجتماعي، وخدمة الآلة. ولكنهم يصبحون متبلّدين بوصفهم أناساً؛ وفي الحقيقة فإن جل الناس تسوء حالهم قليلاً. وعلى الرغم من أن الناس يتحسّنون في فن جني المال وفن الاحتيال فإنهم لا يتحسّنون بوصفهم بشراً.


إن الناس لا يتعلمون شيئاً ولا يغدون ناجحين في شيء إلا إذا اعتقدوا أن هذا أهم شيء يقومون به. والناس الذين يريدون أن يتعلموا – كما يشعر معظم الناس- لأنه "سيكون لطيفاً لو..." لن يتعلموا أي شيء صعب. ولو أردت أن تصبح عازف بيانو حاذقاً لوجب عليك أن تمارس بضع ساعات يومياً، ولو أردت أن تصبح راقصاً جيداً لوجب عليك الأمر نفسه، ولو أردت أن تصير نجاراً ماهراً لوجب عليك القيام بالأمر ذاته. وأنت تقوم به لأن هذا هو الشيء الذي تختار أن يكون أهم شيء. وعندما كان العبريون يعبرون البحر الأحمر قال الله لموسى أن يرفع عصاه فتنشق المياه. وحين رفع موسى عصاه لم تنشق المياه. ولم تنشق المياه إلا عندما وثب إليها أول عبري، ففي تلك اللحظة عينها انشقّت المياه. والمسألة هي أنه لا شيء يعمل ما لم يثب أحدهم في الوقت نفسه، ويكون راغباً في الوثوب. وبرؤية منعزلة لا يفهم المرء شيئاً على الإطلاق من أي شيء في هذا المجال. ولأن كل شيء انتفاخ، لا يتنظّم في بنية، ولا يكون لـه معنى يُفهم، ولا يكون لـه وزنه الحقيقي. ويتذكر المرء ذلك بعدئذ بوصفه "حسناً، كان شيئاً لطيفاً أنني تعلّمت قليلاً من هذا وقليلاً من ذلك"، ولكن أي شيء ليس لـه في الحقيقة تأثير في حياة المرء هو في رأيي معرفة غير مفيدة على الإطلاق حقاً. وخير للمرء كثيراً أن يذهب إلى صيد السمك، أو السفر البحري، أو الرقص، أو أي شيء آخر من أن يتعلّم الأشياء التي ليس لها تأثير في حياته، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.


وما أقوله هو: إذا كنتَ شجرة تفاح، تصبح شجرة تفاح جيدة؛ وإذا كنت توتة أرض، تصبح توتة أرض جيدة. وأنا لا أقول هل عليك أن تكون توتة أرض أم شجرة تفاح، لأن تنوّع الإنسان كبير بصورة هائلة. ولكل شخص كيانه من وجهات كثيرة ويمكن حتى أن تقولوا إنه كيان أشد خصوصية، وليس هناك أناس متكررون. فهو بهذا المعنى فريد، وليس هناك شخص آخر مثله بالضبط. وليست المشكلة هي خلق معيار للناس ليكونوا متماثلين بل خلق معيار ينصّ على أن الازدهار الكامل، والولادة الكاملة، والحيوية الكاملة يجب أن تكون في كل شخص من غير النظر إلى مسألة أية "زهرة" خاصة هو.


وقد يبدو أن هذا يفضي إلى وجهة نظر عدمية، أي أنك قد تقول: "حسناً، وهكذا فإذا وُلدتَ مجرماً فأنت مجرم". وبصريح العبارة إنه لخير أن يكون المرء مجرماً من ألا يكون شيئاً. ولكن ألاّ يكون شيئاً، وألاّ يكون مجرماً ولا غير مجرم، وأن يعيش من دون مقصد أو وعي – فذلك هو الأسوأ. وأنا أعتقد أن صيرورة المرء مجرماً، وحتى مجرماً جيداً تظل ظاهرة مَرَضية. لأن الإنسان لا يولد لكي يكون مجرماً، ولأن الإجرام في ذاته ظاهرة مَرَضية.


وتكمن بداية النماء في صيرورة المرء حراً. وتبدأ سيرورة حرية المرء بنفسه وبأبويه. وليس ثمت شك في ذلك. وإذا لم يحرر الشخص نفسه من أبويه وإذا لم يشعر أو لم تشعر أكثر فأكثر بامتلاك الحق في التقرير لنفسه أو لنفسها وأنه أو أنها ليس خائفاً أو ليست خائفة ولا متحدياً أو متحدية بصورة خاصة لرغبات الأبوين، بل كان وحيداً أو كانت وحيدة، فإن باب الاستقلال أو طريقه يظل مغلقاً على الدوام.


وأود أن أقول إن أفضل شيء بوسع أي شخص القيام به هو أن يسأل نفسه أو تسأل نفسها: "أين أنا في الدرب الشخصي إلى الاستقلال بالإشارة إلى رد فعلي على أبويّ؟" إنني لا أقول إن على المرء ألا يحب أبويه. وهناك نوع من الحب الذي يمكن أن يكنّه المرء حتى للناس الذين أضروا المرء، شريطة أن يكونوا قد أضروا من دون أن يعلموا أنهم كانوا مضرين. وبعض الناس لا يستطيع المرء أن يلومهم فعلاً؛ وبعضهم يكونون محبَّبين إلى القلب تماماً على الرغم من أنهم قد ارتكبوا أخطاء كثيرة أو قاموا بالأعمال المغلوط فيها. وهكذا لا يشير ذلك إلى المعاداة؛ وتلك الحروب المختلفة ضد الآباء غالباً ما تكون مجرد ستار من الدخان للاتكال الذي لا يزال موجوداً: على المرء أن يثبت للوالدين أنهما على خطأ. وما دام على الأبناء أن يثبتوا للآباء أنهم على خطأ، فلا يزال عليّ أن أثبت ذلك لوالديّ. والمسألة هي أن المرء يكون حراً إذا لم يكن عليه أن يثبت أن والديه على خطأ ولا أنهما على صواب. وعلى ذلك فهذا هو أنا، وأنتما هما أنتما، وإذا أحبّ بعضنا بعضاً فذلك رائع، وتلك هي بداية أي درب إلى حرية المرء من أجل ذاته- ولا ريب أنه درب لا يُعرف كذلك إلا إذا سعى المرء.




مقدرة المرء على خبرة الواقع بنفسه


للإنسان مَلَكتان للحكم في الواقع. فله ملكة للحكم في الواقع كما يجب أن يُحكم فيه لكي يسوسه. وذلك يعني أن حاجتي إلى البقاء حياً تجعل من الضروري أن أحكم في الواقع لكي أسوسه. وإذا كان في يديّ حطب، فعليّ أن أراه حطباً لـه الصفات الخاصة المميّزة للحطب إذا كنت أريد أن أضرم ناراً. وإذا رأيت أحد الأشخاص يهاجمني بسلاح، وكانت لمن أراه نيّات عدوانية، فاعتقدت أنه رسول سلام وبيده حمامة، فإنني سأموت. أي أن فهم الواقع ومعرفته بوصفهما ضروريان للتمكّن منه إنما هو وظيفة في الإنسان مشروطة بيولوجياً. ولجلّ الناس تلك الوظيفة، وذلكم هو السبب في أنهم يؤكدون وظيفتهم الاجتماعية.


 ولكن للإنسان مَلَكة أخرى. فله وظيفة خبرة الواقع لا على أساس ماذا بوسعه أن يعمل به، بل بوصفها خبرة ذاتية خالصة. ولنقل، إنه ينظر إلى شجرة. والآن فإن من يملك الشجرة قد ينظر إليها من وجهة نظر: "ماذا تستحق؟ هل يجب أن أقطعها؟" فينظر إلى الشجرة أساساً من حيث قيمتها الشرائية. ولكنني إذا نظرت إلى العالم  بوجهة نظر ذاتية، أي بوصفه شيئاً أراه لأن لديّ عينين تريانه، وتشعران به، وتتحسّسانه، كان لديَّ إحساس بالجمال، ثم أََخبُر هذه الشجرة بوصفها شيئاً – رائعاً- كما أََخبُر شخصاً آخر أو أنظر إلى شخص أو أكلّم شخصاً. فإذا كنت أسوس هذا الشخص، فإن سؤالي هو: "ماذا بوسعي أن أ فعل بهذا الشخص؟ ما هي نقاط ضعفه؟ ونقاط قوته؟" وهلم جرا. وعندئذ فإن صورة المرء الكلية عن هذا الشخص يحددها قصد فعل شيء ما به. ولكنني إذا كلمت الشخص، وأحببت الشخص، ولم أحبب الشخص، وكنت غير مكترث، ونظرت إليه أو إليها، فلن تكون لديّ مثل هذه المقاصد. وعندئذ إما أن تكون لديّ متعة كبيرة، بما يبعث على الأمل، وإما أن يكون لديّ إحساس بالنفور، وإما أن يكون لديّ إحساس من الأحاسيس الأخرى. وقد أرى هذا الشخص – إذا كانت لديّ القدرة على رؤية جذوره العميقة، وقد أرى هذا الشخص في ماهيته الكلية، كما هو.


إن هذه الملكة الذاتية، هذه القدرة على رؤية الأشياء ذاتياً هي الملكة الثانية التي تجدونها معبَّراً عنها في الشعور مثلاً. فإذا كتب شاعر "تشتعل الوردة مثل اللهب"، فإنه معتوه من وجهة نظر التفكير التقليدي اليومي.


خذوا وردة وحاولوا إضرام النار لسلق البيض. ومن الواضح أنه لا يشير إلى ذلك؛ إنه يشير إلى الانطباع الذي تكوّن لديه من هذه الوردة. إنه يتحسّس، يرى، يَخبُر خاصيّة الاشتعال الناري في هذه الوردة. ويَخبُر أحدهم ذلك لأنه شاعر؛ ونحن لا ندعوه معتوهاً، بل ندعوه شاعراً لأن لديه في الوقت نفسه مَلَكة رؤية الوردة ذاتياً على هذا النحو، وكذلك مَلَكة رؤيتها موضوعياً. وهو على بيّنة من أنه لا يمكن بهذه الوردة المشتعلة إضرام النار.


ولقد فقد معظم الناس اليوم تلك المقدرة، فهم لا يستطيعون أن يروا الأشياء إلا كما يمكن أن يقول المرء واقعياً، بالمعنى الأول، أي أنهم يعرفون العالم بصورة جيدة جداً كما يمكن الاحتيال عليه. ولكنهم غير قادرين على رؤية شيء ما سواء أكان الشيء في الطبيعة أم الشخص، ذاتياً، من دون قصد غير خبرة هذا المنظر، هذا الصوت، هذه الصورة. ويمكن إذن للمرء أن يقول، إن الشخص يكون مريضاً عندما لا تكون لديه مَلَكة الرؤية الذاتية كما يكون عندما يخفق في رؤية العالم الخارجي. ولكننا لا ندعو أحداً من الناس ذُهانياً ومريضاً إلا عندما لا تكون لديه المقدرة على الحكم في الواقع الخارجي.


إذا لم تكن للشخص القدرة على رؤية أي شيء ذاتياً فنحن لا ندعوه مريضاً، أو نقول إنه مريض كما من شأن الطراز الأول أن يكون. والسبب بسيط: نحن لا ندعو مريضاً إلا من يتعارض مع الأداء الاجتماعي. ومفهوم المرض اجتماعي ماهوياً. فإذا كان أحدهم أبله، أبله انفعالياً، أبله فنياً، لا يفهم شيئاً، وغير قادر على رؤية أي شيء إلا القيمة العملية للسنتات، فإننا ندعوه اليوم شديد الفطنة. وهؤلاء هم الرجال الأكثر نجاحاً، لأنهم لا ينذهلون كما ينذهل شارلي شابلن بالفتاة الظريفة في الفيلم حين تأتي وهو يعمل على الآلات، فيفقد سيطرته على الآلة، على نطاق لا حدّ له. وإذا لم تشعر بشيء، وإذا لم تكن لديك خبرة ذاتية، فأنت تليق على أحسن ما يكون بالمجتمع الذي كل ما يهم فيه هو الإنجاز، الإنجاز العملي. ولكنك لذلك السبب لن تكون في صحة على أحسن ما يكون.


والسؤال المفتوح هو من هو الأكثر مرضاً، الشخص الذي يُسمى الذُّهاني أم الشخص الذي يُسمى الواقعي. وأعتقد أنه يمكن للمرء أن يقول إن الكثيرين من الفُصاميين كانوا أسعد في كونهم فُصاميين من أن يعملوا في مؤسسة تحاول بيع سلعة عديمة الجدوى، أو أن يطوفوا حول الناس في محاولة لبيعها.


ولتقديم مثال جيد أقول، إنني أعرف رجلاً كان إنساناً كثير النجاح ولكنه كان واقعاً تحت سيطرة زوجته التامة، وهي إحدى هؤلاء – وكلكم تعرفون النمط: النمط الأنغلو سكسوني المعهود، امرأة صغيرة جداً، شديدة الاحتشام، نحيفة جداً، تكاد لا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة بصوت مرتفع، غامضة الحضرة جداً جداً. كانت تحكم الأسرة مثل دكتاتور، ولكن يسترها هذا النوع البريء، غير الضار، الحلو أحياناً، وغير الحلو كثيراً أحياناً أخرى، إلا أنه بالفعل هذا النوع من السلوك المفرط في الاحتشام والمفرط في الانزواء. وظهر على الرجل في فترة لاحقة من حياته اكتئاب أجبره على دخول المشفى. ومنع الأطباء، بذكاء شديد، زوجته من زيارته، ولكنهم سمحوا لابنه بزيارته. وأخبر ابنه: "إنني سعيد في أول مرة في حياتي.." ويبدو ذلك الأمر منطوياً على المفارقة بعض الشيء بالنسبة إلى إنسان مكتئب في المشفى ومع ذلك فهو صحيح تماماً. ففي أول مرة في حياته شعر شعور إنسان حر- الاكتئاب أو اللا اكتئاب. وكان ذلك الظرف أفضل الظروف التي يمكن أن تتحقق لـه لكي يكون حراً. وحين أراد أن يكون معافى ويعود إلى البيت قال في نفسه – بغتة- إنه سيكون أسيراً من جديد ولم يعد يتحمل ذلك.




التأثير المقولب للمجتمع والثقافة


كان مفهوم فرويد هو أن أصل هذا النوع من التوجّه أو نشأته- سواء أكان تقبلياًَ- شفهياً، أم سادياً- شفهياً، أم شرجياً- يكمن في أن اللبيدو قد تثبّت على إحدى المناطق المثيرة للشهوة الجنسية. وبكلمات أخرى فههنا اللبيدو قد ركزّه على منطقة مثيرة للشهوة الجنسية مصير خاص  من اللبيدو عنده في سياق نشأته، فتكون الخصيصة النفسية للطبع إما الخضوع وإما التشكّل الارتدادي ضد هذه الرغبة اللبيدية [...]


وأنا أعتقد أن ذلك هو بالفعل مرحلة ثانوية، وأنه ليس التثبّت على بعض المناطق المثيرة للشهوة مرحلة أولية. بل إنه فعلاً في عملية استيعاب العالم ليس لدى الإنسان إلا بضع إمكانيات: إما أن أستطيع الحصول على الأشياء بتلقّفها سلبياً، وإما أن أستطيع الحصول على الأشياء بأخذها بالقوة، وإما أن أستطيع الحصول على الأشياء بادّخارها. وأعتقد أن ثمة إمكانية أخرى ذكرتها في كتابي الإنسان من أجل ذاته. [1947a] Man for Himself: وهي أنني أستطيع الحصول على الأشياء بالمبادلة- وأستطيع الحصول على الأشياء بإنتاجها. ولا توجد إمكانيات أخرى. أما مسألة أي شكل من هذه الأشكال أو أي نمط من أنماط الاتصال هذه سوف تكون في الشخص في المقام الأول فتعتمد أولاَ على طبيعة المجتمع، والثقافة، وتعتمد ثانياً على طبع الأبوين- إذا لم نتحدث عن بنية الطفل. ولا تكون إلا ثانوية مهما ظهر أنها صحيحة فيما يتعلق بالمناطق المثيرة للشهوة، ولكنها نتيجة حقاً وليست بالأحرى سبباً.


وأصل إلى مفهومي للطبع وهو كما هو الأمر بالنسبة إلى كل البنى الأخرى، ليس من نشأة اللبيدو بل من طبع الأبوين وما دعوتُه الطبع الاجتماعي. وأعني بالطبع الاجتماعي ذلك النمط من الطبع الذي ينتجه كل مجتمع، لأنه يحتاج إلى الناس ويجعل الناس يريدون ما عليهم أن يفعلوه. والمثال البسيط على ذلك هو : في القرن التاسع عشر كنتم تحتاجون إلى الناس الذي يريدون أن يوفروا، لأنه مع الحاجة إلى التراكم الرأسمالي في ذلك العصر كنتم تحتاجون إلى الناس الذي يوفرّون، الذين يريدون أن يوفرّوا. وهكذا فإن ذلك الطراز من الطبع الاجتماعي الذي من شأننا أن ندعوه الطبع الادخاري ـ الشرجي كانت تنتجه التربية، ومنها مثلاً التربية التي يقدّمها الآباء، والتنشئة الكلية للأطفال. وأنتم اليوم بحاجة إلى الناس الذي ينفقون. ولذلك تنتجون التوجّه التلقّفي والتسويقي، فأنتم بحاجة إلى الناس الذي يريدون بيع أنفسهم، وعرضها في السوق. وإذا تناولنا تعبيراً بسيطاً عن عصرنا، فإنه إذا قال أحدهم، «لا أعتقد بما تقوله»، فإن الكثيرين من الناس يعبّرون عن الفكرة نفسها بقولهم
«لا أشتريه» I don’t buy it. وذلك يعني أنهم مدركون تماماً، ولو لم يكن بصورة شعورية، أن كل شيء ـ حتى تبادل الأفكار ـ هو مادة في السوق : فأنت تشتري أو لا تشتري.


وتوجّهات الطبع  التي وضعها فرويد والتي وصفتُها أنا متماثلة على مستوى مجموعات الأمارات والعلامات. وهي ليست متماثلة على مستوى تفسيراتها الوراثية. ولم وضح في كتاباتي توضيحاً كافياً أين أرى التماثل وأين لا أراه. ولعلي في الحقيقة لم أستطع أن أوضح ذلك آنذاك لأنه لم يتضح لي حقاً إلا في السنوات القليلة الماضية.


وعندما يقول أحدهم إن أفكاري تؤكد الثقافة، اشعر أن ذلك لا ينصف فرويد، لأن فرويد يؤكد الثقافة أيضاً. ولكن هناك اختلاف كبير. فقد كانت الثقافة عند فرويد شيئاًَ كمياً، حضارة تقريباً، أي ضغط كبت الغريزة أو شدته إلى هذا الحد أو ذلك. أما أنا فلا أنظر إلى الثقافة على أنها شيء كمي من الكبت إلى هذا الحد أو ذلك، بل على أنها شيء كيفي، أي بوصفها بنية مختلفة لمجتمع معين تشكّل الإنسان، تقولب الإنسان، تؤسس ممارسة الإنسان. وبكلمات أخرى، أنا أفترض أننا ما ينبغي لنا أن نكون وفقاً لضرورات المجتمع الذي نعيش فيه ولذلك فهي مهمة للغاية عندي لتحليل البنية الخاصة لأي مجتمع مذكور، سواء أكان الإقطاعية أم رأسمالية القرن التاسع عشر أم رأسمالية القرن العشرين أم مجتمع الاستعباد اليوناني. وهذه الثقافة بالنسبة إليّ هي التي تكون في الطبع، الذي تشكّل فيها ـ أي هي المبدأ النشوئي الأساسي الذي تتشكّل وفقاً لـه أنماط الطباع هذه ـ وليس اللبيدو، أي النشوء المعتمد على أحداث معيّنة أو وقائع محدّدة في علاقتها بالمناطق المثيرة للرغبة الجنسية.


إنني أؤكد تحليل البنية الخاصة لأي مجتمع مذكور، وهذا ما لم يفعله فرويد. وليس هذا نقداً، لأنه لم يكن متدرّباً على ذلك، ولكن هذا هو ما لم تفعله هورني Horney وما لم يفعله سوليفان كذلك من حيث الأساس، لأنهما لم يكونا يهتمان بتحليل المجتمع. كانا مهتمين بالتأثير الثقافي ببساطة ـ حسناً، ليس ذلك مناسباً. وتذكر هورني بعض الأمور النموذجية في المجتمع الحديث، ولكن ما يظل ضرورياً، من وجهة نظري، هو الجمع بين التحليل النفسي و التحليل العلمي الدقيق للبينة الاجتماعية.


[إن اعتماد المجاهدات على الظروف الاجتماعية والثقافية يمكن أن يُوضحه السلوك الجنسي.] والإنسان الحديث يستهلك كل شيء على الفور وهو كذلك يستهلك الجنس. وذلك جزء من الاتجاه العام. ليس لكم شيء سواه على هذا النحوـ والمجتمع لا يعرّضه ذلك للخطر البتة. بل على العكس، فكل الأفكار النقدية، وكل الاحتجاجات على هذه الطرق غير الإنسانية نسبياً في العيش يُضعفها هذا التنفيس الضخم عن الجنس.


إنني لا أتحدث عن العلاقات الجنسية الخارجة عن الزواج الشرعي، بل أتحدث عن العلاقات الجنسية التي هي نوع من"الجنس الفوري"، التي لا تصاحبها أية مشاعر عميقة أو أي عمق كبير في العلاقة، أو أي نوع من الحميمية الإنسانية. ولا أقول كذلك بأي أذى في الجنس، لأن الجنس تعبير عن الحياة لا عن الموت. وهكذا فأنا  لا أقول بوجود ضرر في الجنس لأنه جنس ـ وهو في الحقيقة أفضل بكثير من الإنكار المكبوت وغير الصادق للجنس كما كانت الحال في القرن التاسع عشر. ولكنني مع ذلك أتحدث عما ينشأ عن أوسع وجهة نظر إلى حد ما، أي عن النمط غير الجِدّي، العَرَضي الصرف، غير الحميمي من الجنس الذي هو النموذجي اليوم وقد كان امتياز الطبقات العليا في القرن التاسع عشر.


ويعتقد الكثير من الناس أن هذا النوع من الحياة الجنسية الذي ابتدعه الجيل الجديد ظاهرة جدّ جديدة. وقد صرفوا النظر كلياً عن الطبقة العليا في إنجلترا التي عاشت، مثلاً، هذا النوع من الحياة زمناً طويلاً. وإذا قرأت أوصاف حفلة الطبقة العليا في إنجلترا، رأيت أن المشكلة الكبرى عند المضيفة كانت ـ و كان هؤلاء الناس يملكون قصوراً فيها من /60/ إلى /100/ غرفةـ أن تجعل الغرف في وضع بحيث لا يكون ثمت إحراج بين شتى الأزواج في أن يقابل كل منهم زوجة غيره فلم يكن عليهم أن يسيروا مسافة طويلة إلى غرف النوم الأخرى. وإذا قرأتَ كتاب "جيني" Jennie، عن أم تشرتشل، وجدتَ أن هذه الأم قد تعوّدت أن تنام مع الرجال الذين يمكن أن تكون لهم فائدة لتشرتشل. ولم يقل تشرتشل ذلك في كلمات كثيرة، ولكنه وجد أن واجب الأم هو في الحقيقة مساعدة ابنها في مجرى حياته. ولم تكن هناك أسئلة أو شكوك حول الشرعية، من أي نوع أخلاقي. وهكذا لم يكن هذا أمراً جديداً فهو بالفعل حال من الأحوال التي يمكن أن نراها اليوم حيث هبطت عادات الطبقات العليا السابقة إلى الطبقتين الوسطى والدنيا والتي هي نموذج ثقافي يمكنك أن تراه في مجتمعنا بأسره.




ديناميات النمو النفسي وحرية الإنسان


قال أوسفالد شبنغلر Oswald Spengler في كتابه أفول بلاد الغروب Der Untergang des Abendlandes إن الغرب سيسقط، والثقافة الغربية سوف يُقضى عليها، نتيجةَ ما يكاد يكون قانون الطبيعة، لأن تفسيره كله كان أن الثقافات تنمو وتهرم وتموت مثل النبات، مثل أي كائن عضوي ينمو ويموت. وصاغت روزا لوكسمبورغ Rosa Luxemburg رؤيتها المنذرة بالشر على أساس الخيار: هناك خيار، هناك بديل؛ يمكن أن يكون هذا أو ذلك، ولكن لا يوجد خيار ثالث.


وعلى المرء ألا ينظر إلى الاختلاف بين رؤية شبنغلر ورؤية لوكسمبورغ للتاريخ على أنه مجرد هامش. فثمت نوعان من الجزم. أحدهما التنبّؤ بالعاقبة الوحيدة: فالحتمية هي بمعنى وجود عاقبة واحدة وحيدة، وهذه ستحدث. أو هناك حتمية البديلين، التي لا تقول إن عاقبة واحدة هي الضرورية، بل إن خياراً معيناً هو الضروري: وهو يمكن أن يكون هذه العاقبة أو تلك، ومن الممكن  أن تكون هناك عاقبة ثالثة، ولكن لا وجود لأخرى. وذلك مهم بصورة خاصة فيما يتعلق بمشكلة الحتمية، لا حتمية التاريخ والمجتمعات وحسب بل كذلك حتمية الأفراد.


وفيما يتصل بالشخص نادراً ما يمكن لك أن تقول ـ على الأقل على أسس نظرية سليمة ـ إن هذه النتيجة محتومة الحدوث. ولكنك في العادة تستطيع أن تقول:إن هذا الخيار محتوم الحدوث. وإذا وضعنا الخيار بمصطلحات عامة جداً قلنا مثلاً، إنه إما أن يكبر أكثر، وإما أن يموت، بالحديث النفسي. وفي كل حالة يكون الاختلاف هو ما هي القوة النسبية لكلا الخيارين. وقد يكون خيارُ أن ينجح الشخص إنسانياً واحداً بالمائة، ولكنه يظل خياراً وليس حتمية بالمعنى الأقدم وهو أن عاقبة واحدة هي الضرورية.


ويرفض جل الناس أن يعترفوا في حياتهم أنهم مجابَهون بخيار. وأنهم يستطيعون أن يذهبوا في هذا السبيل أو ذلك. ويعتقدون أن لديهم كل أنواع الخيارات وأن ذلك غير واقعي غالباً، لأنهم بالنظر إلى ماضيهم، بالنظر إلى وضعهم، لا نملك أية خيارات متعددة.
[إن ديناميات النمو النفسي في الإنسان شبيهة بديناميات لعبة الشطرنج:] عندما يبدأ لاعبان تكون فرصهما متساوية عملياً: ذلك يعني أن كل لاعب حر في أن يربح. وقد تقولون إن اللاعب الذي لديه الأحجار البيضاء لديه فرصة أفضل قليلاً لأنه يبدأ، ولكننا قد نصرف النظر عن ذلك هنا. ولنفترض أنهما لعبا خمس نقلات، وأن الأبيض ارتكب خطأ، فإن فرصته في الفور تنخفض بمعدّل ست عشرة في المائة. وعلى أية حال، يظل بوسعه أن يفوز شريطة أن يقوم بنقلات بالغة الجودة بعد ذلك، أو أن يرتكب خصمه غلطاً. وبعد عشر نقلات أخرى، ربما لم يعوّض الأبيض عن غلطه الأول بل ارتكب خطأ آخر. وهو نظرياً لا يزال يمكن أن يربح، ومهما يكن، فإن فرصته في  الفوز قد انخفضت من الخمسين إلى الخمسة في المائة؛ ومع ذلك يمكنه أن يربح. ولكن تمر بعد ذلك لحظة يرتكب فيها خطأ آخر. والآن لم يعد لـه بعد ذلك أن يفوز البتة. فمن المحال وفقاً لقوانين الشطرنج أن يربح إلا إذا كان خصمه من الغباء إلى حد أن يرتكب غلطة فاحشة للغاية لا ريب أننا لا نستطيع أن نفترضها وهي أمر لا يحدث بين لاعبي الشطرنج الجيدين. وفي تلك الآونة يستسلم اللاعب الجيد، لأنه يعلم مسبّقاً أنه ليس بالإمكان أن يتمكّن من الفوز. واللاعب الرديء يستمر في اللعب لأنه لا يستطيع أن يتنبأ بالنقلات القادمة ويظل آملاً وهو في الواقع ليس في مستطاعه بعدُ أن يفوز. إن عليه أن يقاتل حتى النهاية حين يرى حقاً أن شاهه قد مات وأنه لم يعد يستطيع القيام بأية نقلة. ثم يعترف بأنه مغلوب.


ماذا تعني هذه المقارنة في تطبيقها على الوضع الإنساني، على حياتنا كلنا؟ خذوا مثلاً صبياً صغيراً من أسرة واسعة الثراء في نيويورك. كان في سن الخامسة يلعب مع صبي أسود صغير أحبه. وكان ذلك طبيعياً تماماً، فهو لم يعرف بعدُ هذه الفوارق. ثم تقول أمه، بالأسلوب العذب الذي تتحدث به الأمهات الحديثات: "تعرف، يا جوني، أنني أعرف أن هذا الصبي جيد مثلنا، وهو صبي رائع، ولكنك تعرف أن الجيران لا يفهمون ذلك، وسيكون من الأفضل لو أنك لم تلعب معه. وأنت تعرف أنني أعرف أنك لا تحب ذلك ولكنني سأصحبك إلى ملعب الحيوانات الجوّال (السيرك) هذه الليلة." ولعلها تجعل ذلك أقل وضوحاً، فهي لا تقول أبداً إن ذلك مكافأة، ولكنها تصطحبه إلى ملعب الحيوانات أو إلى أي مكان غيره أو تشتري لـه شيئاً ما.


واحتجّ جوني الصغير في البداية وقال: "لا، ولكنني أحب هذا الصبي الصغير!" ثم يقبل في آخر الأمر الدعوة إلى ملعب الحيوانات. وكان ذلك غلطه الأول، إحباطه الأول. لقد تحطم شيء ما في استقامته، في إراداته. وقد أخطأ في النقلة الأولى، إذا قارن المرء ذلك بالشطرنج.


ولنقل إن جوني يقع بعد عشر سنوات في حب فتاة. وهو يحبها حقاً ولكن الفتاة فقيرة، ولا تأتي من الأسرة المناسبة ولا يعتقد الأبوان أنها فتاة ينبغي للصبي أن يكون على علاقة بها. ومن جديد فإنهما على الأسلوب الحديث لا يقولان لـه ما كان من شأن أجدادهما أن يقولوه: "اسمع، ذلك محال، فالفتاة آتية من أسرة لا نتزاوج معها." ولكن الأم تقول:" هذه فتاة ساحرة ولكنك تعلم أنك إزاء خلفيتين مختلفتين وينبغي أن تكون للناس خلفيات متشابهة حتى تجعلهم سعداء... ولكنك تعلم أنك حر تماماً في أن تتزوجها أو لا، فالأمر كله متروك لك... إلا أنك تعرف أنك تستطيع السفر إلى باريس والمكوث مدة سنة وهنالك بوسعك حقاً أن تراجع نفسك وتفكر، فإن أردت أن تعود من باريس وأنت لا تزال تريد أن تتزوجها، فتزوجها".


ويقبل جوني. وهذا هو الإحباط الثاني، الذي على أية حال يخفّفه الإحباط الأول و الكثير من الإحباطات الصغيرة من النوع نفسه. لقد تم شراؤه. وتحطم بذلك احترامه لنفسه، وعزة نفسه، وكرامته، وإحساسه بذاته. ومادام العرض قد قُدّم بهذا التبرير العقلي، فهو مُغرٍ جداً لأنه يرتدي شكل " أنت حر تماماً في أن تتزوجها وترحل إلى باريس"، ولكنه في الآونة التي قِبل فيها بطاقة السفر، كان قد تخلّى عن الفتاة من دون معرفة ذلك. وهو مقتنع أنه لا يزال يحبها وسوف يتزوجها. وهكذا ففي الأشهر الثلاثة  الأولى يكتب إليها من باريس أروع رسائل الحب، ولكن لا شعوره يعلم مسبّقاً أنه لن يتزوّجها لأنه قبل الرشوة.


ومتى ما قبلتَ الرشوة عليك أن تسلّم. وعندئذ يدخل في ذلك عنصر أخلاقي ثان: عليك أن تكون صادقاً، فلا يمكن أن تقبل رشوة من دون تسليم، وإلا قضيت على نفسك. ولذلك، ولاشك، يجد في باريس فتيات أخريات، وهكذا بعد السنة حدثت أمور كثيرة. ويصل إلى النتيجة التي هي أنه في الحقيقة لا يحب تلك الفتاة كثيراً، وهو واقع في الحب مع فتيات أخريات كثيرات. وبضمير مذنب قليلاً، يشرح للفتاة لماذا لا يحبها. ويقوم بذلك مرتاح البال لمجرد أنه يكاتبها أقل فأقل. وهكذا لا يكون التحول مفاجئاً وصادماً جداً. ويمكن في أثناء ذلك أن تتفطّن للأمر كله وتكتب إليه أنها قطعت علاقتها به، إذا كان لديها أي فهم.


وفي سن الثلاثة والعشرين يكون على جوني أن يدخل مدرسة التخرج. والسؤال هو ماذا يريد حقاً أن يعمل. إن أباه محام شديد النجاح وهو يريده أن يغدو محامياً، لكثير من الأسباب الواضحة. على أن الابن كان في الحقيقة مهتماً بالهندسة المعمارية، وكان مهتماً  بها منذ أن كان طفلاً. ولذلك يُصر على دراسة الهندسة المعمارية. ثم يرسم أبوه صورة تعبّر عن أنه مصاب باعتلال في القلب ويمكن أن يموت عاجلاً وأنه هو الذي سيتكفل برعاية الأم. وبعد كل ما قدّمه إليه ـ الرحلة إلى باريس وهلم جرا ـ كم يكون الابن جاحداً الآن بخذلانه لـه، وكيف كانت آماله وكيف سيكون شقياً، وعلاوةً، ماذا يكسب لو صار مهندساً معمارياً، وماذا يكسب في مكتب أبيه عندما يُمسي رئيس مكتبه... ويقوم الابن بمعركة دفاعية صغيرة وفي مآل الأمر يُذعن. وربما يشتري لـه أبوه في تلك الآونة سيارة مكشوفة جميلة جداً. وبرغم أن ثمت شروطاً ملحقة بها، فلا يمكن أن يقال إنها رشوة.( ولكن ذلك لا يحدث في الشؤون السياسية كذلك: فالرشوة لا تُذكر بعبارة مكتوبة:"أعطيك مائة ألف دولار للتصويت لصالح هذا القانون." ومائة ألف الدولار تُعطى ومفهوم أن الشخص الآخر سوف يفهم من أجل ماذا يعطونه المبلغ.) وفي تلك اللحظة يضيع الشاب. لقد باع نفسه بتمامها، وأضاع احترامه لذاته كلَّه، وفقد عزة نفسه، وفقد سلامته، وقام بأمر لا يحبه وسوف يُمضي بقية عمره يعمل ما لا يحب ـ ثم من المحتمل أن يتزوج امرأة لا يحبها حقاً، ويكون ضجراً من مهنته، وما إلى ذلك.


كيف وقع في هذا الوضع؟ ليس بحادثة وحيدة مفاجئة بل بتراكم أحداث صغيرة، بتراكم خطأ بعد آخر. وعندما كان لديه بعدُ وهو في البداية الكثير من الحرية، أخذ يفقد هذه الحرية باطّراد متزايد، حتى وصل إلى المرحلة التي احتفت فيها بصورة عملية.
إن الحرية ليست شيئاً نملكه، فلا وجود لحرية من هذا القبيل. الحرية صفة مميزة لشخصيتنا: فنحن إلى هذا الحد أو ذلك أحرار في مقاومة الضغط، وأحرار بزيادة أو نقصان في أن نعمل ما نريد وفي أن نكون أنفسنا. الحرية هي على الدوام مسألة زيادة الحرية التي لدى المرء، أو نقصها. ويمكن أن تقولوا إنه في مرحلة معينة تخلى هذا الشاب عملياً عن كل آماله، على الرغم من أنه في تلك الآونة بوسع المرء أن يقول إن حادثة يمكن أن تحدث، حادثة غير عادية، نادراً ما تحدث للشخص، وليس على المرء أن يخاطر بحياته فيها، ولكنها يمكن حتى في سن الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أن تُحدث تبّدلاً وتحوّلاً عميقين. ولكن كل من ينتظر ذلك فإنه غالباً ما ينتظر عبثاً، لأنه نادر إلى أقصى الحدود.


***






الفصل السادس

العوامل المؤدية إلى المفعول العلاجي




علامَ يعتمد مفعول التحليل النفسي العلاجي؟ أود من وجهة نظري أن أقول بإيجاز، إنه يعتمد على ثلاثة عوامل:(1) زيادة الحرية عندما يرى الشخص نزاعاته أو نزاعاتها الحقيقية. [(2) زيادة الطاقة النفسية بعد تحريرها من أن تكون مربوطة بالكبت والمقاومة.(3) تحرير المجاهدات الفطرية من أجل الصحة.]


(1) إن مفعول التحليل النفسي العلاجي قائم أولاً على زيادة الحرية التي لدى الشخص عندما يستطيع أن يرى نزاعاته الحقيقية بدلاً من نزاعاته الوهمية.


إن النزاع الحقيقي لإحدى النساء (كالمرأة المذكورة فيما بعد) يمكن على سبيل المثال أن يكون عجزها عن إعتاق ذاتها وبدء حياتها، ومن ثم عجزها عن أن تكون حرة. ونزاعها الوهمي هو: هل كان عليها أن تتزوج أم أن تطلّق زوجها؟ وليس ذلك بالنزاع الحقيقي. وهو ليس نزاعاً لأنه غير قابل للحل. فحياتها ستكون تعيسة بطلاقها منه أو بقائها معه؛ وستكون الحياة التعيسة نفسها ما دامت ليست حرة. على أنها ما دامت تركّز على هذه المشكلة الخاصة فإنها لا تستطيع أن تبدأ في فهم حياتها أكثر. وهي لا تستطيع أن تعمل على أساس نزاعها الحقيقي، الذي هو نزاع حريتها، نزاع علاقتها الكلية بالعالم، وافتقارها إلى الاهتمام بالعالم، والضنك الشديد في وجودها الكلي في العالم ـ نزاع كل ما هو بعيد المنال عنها.


ولنعبرّ عن ذلك بتشبيه بسيط: إذا أردت أن تفتح الباب بالمفتاح المغلوط فيه، فإنك لن تفتح الباب.فإذا اعتقدت بأنك لم تضع المفتاح في الشكل الصحيح، أو بهذا الأمر أو ذلك، فما دمت تظن أن لديك المفتاح المناسب ولا تعتقد إلا أن المفتاح لا ينسلك على الوجه الصحيح، فإنك لن تفتح الباب. إن عليك الحصول على المفتاح المناسب. وذلكم في الحقيقة تشبيه ضعيف. فكل شخص يعرف أمثلة على ذلك، إذ يكون السؤال هو: هل عليّ أن أفعل هذا أو ذلك حيث يكون هذا السؤال مجرد صراع مزعوم في حين يكون الصراع في موضع ما غيره تماماً. وقد تكون الأمثلة موجودة في حياة المرء أو في حيوات الناس الآخرين، ولاسيما الشيوخ. وأبوا المرء مثالان جيدان على الدوام، لأنهما عاشا مدة أطول وقدّما إليك استبصاراً صميمياً لحياتهما إذا أردت النظر. وعندئذ ترى إلى أي حد يسير الناس في المشكلة المغلوط فيها، محاولين حل أمر حيث لا يمكن العثور على الجواب.


وقد يكون المثال التالي توضيحاً لذلك: يتزوج الناس وبعد ثلاث سنوات يحدث نزاع فيحصلون على الطلاق. ماذا يحدث إذن؟ لنقل إن الرجل بعد سنة يتزوج النمط نفسه من النساء وينتهي الزواج بالطلاق وهكذا ولا يتوقف الزوجان عن تطليق كل منهما للآخر إلا عندما يتعبان ويبلغان من الكبر عتياً،شريطة توافر المال لكل منهما من أجل كل هذه البهلوانيات في زمن طويل كهذا. ويعتقد هؤلاء الناس أن الخطأ هو أنهم لم يعثروا على الشريك المناسب. ولكنهم لا يعتقدون أن الخطأ في أنفسهم: فالخطأ هو عدم استطاعتهم أن يعيشوا مع شخص آخر، أو عجزهم عن رؤية الشخص الآخر موضوعياً وأنهم لذلك وبالضرورة يختارون الشريك المغلوط فيه. ولنقل إن نرجسيتهم تجعلهم يختارون، فيقعون في حب امرأة تعجبهم للغاية، ولنقل، تميل إلى أن تكون مطواعة، ولنفترض أنه يغلب عليها في الوقت ذاته أنها في الأسفل مازوخية تماماً وعلى المدى الطويل ثقيلة على النفس. وهذا بالفعل مزيج رديء؛ فبالنسبة إليه، هو يقع في حبها لإعجابه بها، وبعد سنة يرى أن خضوعيتها تبدأ في إضجاره. وفي البدء كان سعيداً برضوخها لأن رضوخها كان بالنسبة إليه دعماً لنرجسيته. ولكنه ما كاد يعرف أنها معجبة به على هذا النحو حتى صار خضوعها شأن الخضوع دائماً مضجراً جداً، ولهذا فهو بحاجة إلى موضوع جديد يعجب به وتدور الدورة كلها. ولن يكون الحل إلا إذا أصبح مدركاً نرجسيته أو الأسباب التي تجعله يختار المرأة الخضوعية المعجَبة، وبذلك يمكن إيقاف الدورة.


وعندما يذهب رجل كهذا إلى التحليل ويتكلم عن مشكلة زواجه وكيف يمكنه حلها، فالجواب الوحيد سيكون: "ليست لديك مشكلة زواج، لديك مشكلة ذاتك. أنت المشكلة وسوف ترتكب الخطأ نفسه ما دمت لا تعرف لماذا ارتكبته. فإذا غيّرتَ هذا يمكن أن يحدث شيء غير ذلك." وحل المشكلات حيث لا حل لها هو عمل سيسيفوس إنه يجعل المرء مثبّط الهمة ويستهلك الكثير من الطاقة لأنك تحاول وتحاول وتحاول والمشكلة بطبيعتها تجعلك لا تفلح. لأن مقاربتك كلها غير قابلة للتطبيق.


والمشكلة شديدة البساطة نظرياً، ولكن ليس من السهل أن يتابع المرء بمشاعره ما يعني المحاولة والمحاولة وعدم النجاح. إن ذلك كأنك تجمع مسائل رياضية أو مسائل علمية أخرى وتبدأ بمقدمة مغلوط فيها. فما دمت تبدأ بالمقدمة المغلوط فيها، فالمسألة غير قابلة للحل فتستعر وتكتئب. وما دمت لا تعرف أنك تحاول العثور على حل بطريقة لا يمكن أن يُعثر بها عليه، تصبح مقتنعاً باطّراد بعجزك وقصورك، وعدم جدوى عملك، وعبث مسعاك وتغدو مخذولاً أعمق الخذلان. ولكنك عندما ترى:"يا إلهي، ليست هذه هي المسألة، فمقدمتي مغلوط فيها؛ ههنا المسألة الحقيقية ولو أنها أكبر، ولكنني الآن أستطيع أن أعالجها.". إن هذا يأتيك بحياة جديدة، لأنك عندئذ تفكر:" قد لا  أنجح ولكن ذلك على الأقل شيء أعمل على أساسه وليس ذلك من حيث المبدأ غير قابل للحل، وهو لا يحكم عليّ بالقصور بالأبدي. وبوسعي أن أحاول عمل شيء ما؛ إنني أعمل في أمر لـه معنى وليس في مشكلة وهمية." وأعتقد أن ذلك يسبّب الزيادة في الحرية، والطاقة، والثقة، المهمة جداً: لرؤية النزاعات الحقيقة بدلاً من النزاعات الوهمية.


(2) الأمر الثاني هو أن كل كبت يقتضي الطاقة للمحافظة على الكبت حياً. وذلك يعني ولنعبّر عنه بطريقة أبسط: إن المقاومة تتطلّب الكثير من الطاقة. والآن فإن هذه الطاقة مُقْصاة، تُبذل من دون فائدة كما ننفق جزءاً كبيراً من دخلنا القومي على التسلّح. فهذه الطاقة تذهب سدى. ومتى رفعتَ الكبت، ومتى كنت غير مضطر بعد ذلك إلى تغذية المقاومة، أصبحت هذه الطاقة ميسّرة لك والنتيجة هي ازدياد الطاقة من جديد وهذا يعني ازدياد الحرية.


(3) لعل الأمر الثالث الذي أود أن أذكره هو الأمر الأهم. فإذا أزلتُ العوائق الموجودة في ذاتي لأكون على اتصال بما يجري حقاً، فإن مجاهداتي الفطرية من أجل الصحة قد تبدأ بالعمل. وأقول هذا على أساس افتراضي وخبرتي، الشخصية ومع الآخرين، بمعنى واسع جداً، أنه يوجد في كل إنسان نزوع إلى حسن الحال لا بيولوجياً وفيزيولوجياً وحسب بل كذلك سيكولوجياً. وليس في ذلك شيء سري. وهذا، من وجهة النظر الداروينية، منطقي جداً لأن حسن الحال يخدم البقاء. وكلما كان الناس مسرورين أكثر، عاشوا زمناً أطول، وكلما كثر عدد الأطفال عندهم، كانوا منتجين أكثر. ولكن من وجهة نظر البقاء البيولوجي، فإن ما يهم هو حياتهم وأنهم يتزوجون وينجبون الأطفال.


وذلكم بالمعنى الضيق جداً، ولكنني لا أتحدث بهذا المعنى الضيق. وفي كتابي تشريح التدميرية البشرية The  1973a,pp.254-259)) Anatomy of Human Destructiveness  أستشهد بعدد من علماء فيزيولوجيا الأعصاب الحديثين الذين زعموا لي بصورة شديدة الإقناع أنه حتى في بنية أدمغتنا نجد ميولاً طبيعية ليست غريزية بالضبط  ولكنها مع ذلك فطرية ومتكونة مقدماً، لديها النزوع إلى حسن الحال، والتعاون، والنمو.


ولعله من الأيسر أن ندرك هذا الدور للميل الفطري إلى التغلّب، والنمو، والعيش إذا ذكّرتكم بأحوال الطوارئ. ففي أحوال الطوارئ، يُظهر الناس بغتة القدرات والبراعات التي لم يكونوا يظنون أنها لديهم- لا القدرات الجسدية وحسب بل الذهنية كذلك، حتى القدرات الإدراكية، من كل نوع. والسبب هو ـ وهنا تدخل البيولوجيا ـ أن الدافع إلى العيش مبنيّ بقوة في الدماغ البشري وحين يصبح واضحاً أن المسألة مسألة حياة أو لا حياة، يتحرك قدر من الطاقة لم يكن ظاهراً من قبل.


وبالنسبة إليّ كانت تجربة واحدة شديدة الحسم في تفكيري في ذلك. فقد عرفت امرأة في دافوس كانت تعاني من السل الرئوي. كان ذلك عندما لم يكن هذا الداء يعالَج بالعقاقير، وقبل ذلك بزمن طويل. وكانت مريضة جداً ويزداد مرضها كل يوم. وعند مرحلة معينة قام طبيبها بالتشاور مع المختّصين الآخرين، وفي النتيجة جاء إليها وقال لها: " اسمعيني الآن، منذ آونة أجرينا مشاوراتنا؛ ليس ثمت شيء آخر نستطيع أن نفعله لك من وجهة النظر الطبية. ومسألة هل ستعيشين أم ستموتين تعود عليك كلياًً." وكان الأطباء، كما يمكن أن يرى المرء من هذه الصياغة، مقتنعين أنها ستموت على الأرجح. حسناً، هذا ما حدث للمرض. لقد طرأ في غضون أسابيع قليلة تغيّر صحي بدا لهؤلاء الأطباء شبيهاً بالمعجزة، وهذه المرأة التي كانت مريضة إلى حد مريع، تعافت تماماً. ولو أن هذا الطبيب قد قال، كما من شأن جل الأطباء أن يقولوا بنيّة حسنة:"حسناً، لا تفقدي الأمل، كل شيء سيسير على ما يرام"، لكان قد قتل هذه المريضة، لأنه يكون قد منعها من القيام بالخطوة الحاسمة لحشد طاقتها.


ولتقديم مثال آخر، أستطيع أن أذكر"إلزا جندلر" Elsa Gindler في برلين، التي ابتكرت هذه الممارسات لتحسّس الجسد. كيف توصّلت إلى ذلك؟


كانت تعاني من السل وقد قال لها الأطباء:"إذا لم تذهبي إلى دافوس من أجل بقية العلاج فإنك ستموتين." ولكنها لم تكن تملك المال للذهاب إلى هنالك. ولذلك استنبطتْ حدسياً نظاماً لتحسّس جسدها، أي للحصول على الإحساس الأكبر بالنشاط الجسدي الداخلي، أي التوازن الجسدي. وتعافت تماماً وأنشأت هذا النظام الذي صار فيما بعد يدرّس في ألمانيا وسويسرا وأخيراً في أمريكا. وعندما رآها الطبيب في الشارع بعد سنة، نظر إليها وقال:"وهكذا ذهبت إلى دافوس"، وكان من الصعب أن يصدّق أنها لم تذهب.


والمجاهدة الفطرية من أجل الصحة ذات دلالة بالنسبة إلى التقنية التحليلية وإلى حياة المرء من دون تحليل كذلك. وكل نوع من التشجيع المغلوط فيه قاتل، مؤذٍ، إلا إذا كان المريض في حالة ميؤوس منها إلى حد أن المرء لا يستطيع أن يتوقع أن يكون للحقيقة الكاملة أي جدوى بعد ذلك. وإلا إذا "شجّعتُ" شخصاً وبالغت في تقليل شدة المشكلة، فإنني لا أقوم إلا بإيذاء الشخص، وذلك ببساطة لأنني أمنع طاقة الطوارئ من الظهور. وعلى العكس، فكلما وصفت للشخص الوضع الذي هو فيه، والخيارات، بوضوح وشدة أكثر، عبّأتُ طاقات الطوارئ عنده أكثر وقرّبته من إمكانية الشفاء أكثر.


***



الفصل السابع

حول العلاقة العلاجية




العلاقة بين المحلِّل و المحلَّل


ليس كافياً وصف العلاقة بين المحلِّ والمحلَّل بأنها تفاعل. يوجد تفاعل، ولكن  بين حارس السجن والسجين يوجد تفاعل أيضاً. وذهب سكنر Skinner في كتابه وراء الحرية والكرامة Beyond Freedom and Dignity إلى حد القول إن الإنسان المعذَّب يسيطر على المعذِّب بمقدار ما يسيطر المعذِّب عليه، لأنه بصيحات الألم يُخبر المعذِّب أية وسيلة يستخدم. وبطريقة معاكسة، يمكن للمرء أن يقول إن سنكر على حق، ولكن بمعنى بالغ السخف فقط، لأن المعذِّب من حيث الأساس يسيطر على ضحيته وثمت بالفعل بعض التفاعل، ولكنه طفيف، على قدر ما تتعلّق المسألة بمن يسيطر على من.


ولا أريد أن أقارن وضع الأسرة بوضع المعذِّب والمعذَّب، ولكنني أذكر هذا المثال المتطرف للشك في صحة مفهوم التفاعل. وإنه لصحيحٍ تمام الصحة أن التفاعل موجود، ولكن عليك في أي تفاعل أن تثير سؤالاً واحداً. من هو الذي في هذا التفاعل لـه القدرة على إرغام الآخر؟ أهو تفاعل المتساوين أم تفاعل غير المتساوين الذين لا يستطيعون ماهوياً أن يقاتلوا على المستوى نفسه؟ والمفهوم السوسيولوجي الأكاديمي للتفاعل ينطوي على خطر جسيم. فهو شكلاني صرف؛ أي أن التفاعل يكون حيثما تفاعل شخصان.


إن على المرء أن يحدد هل نوعية التفاعل هي نوعية مساواة أم نوعية سيطرة، نوعية القوة الأكبر للطرف الذي يستطيع أن يقسر الآخر على التصرف كما يريد. والتعبير الكلاسيكي عن هذه المسألة موجود في المعاهدات الدولية وكذلك في المعاهدات المدنية. فإذا استطاعت سلطة قوية جداً أن تقيم تحالفاً مع سلطة بالغة الضآلة، إن ذلك يصاغ على أساس أنه تحالف؛ أي أنه حتى الإلحاق يصاغ على أنه معاهدة المتساوين. ولكن الأمر اليقيني في هذه المعاهدات هو أن الموجود في الواقع هو أن كل الحقوق هي للسلطة الأكبر، باستثناء اللغة غالباً، ولكنها رسمياً معاهدة. والقصة القديمة نفسها نجدها في التجارة حين تقيم شركة تجارية كبيرة شراكة، عقداً بالالتحام مع الشركات الصغيرة، وقد سمّى القانون الروماني ذلك جمعية الأُسودSocietas Leonina. ويعني العقد قانونياً أن الطرفين يعقدان عقداً حراً، ولكن في الواقع تتولى الشركة الكبيرة أمر الشركة الصغيرة؛ إلا أن ذلك لا يعبَّر عنه بهذه اللغة القانونية، بل يعبَّر عن أن الطرفين بكامل حريتهما في عقد العقد حين تكون الشركة الصغيرة غير حرة على الإطلاق. وهذا التفاعل شكلي جداً؛ ومع أنه حقيقي بما فيه الكفاية، فهو شديد التجريد. والمهم في كل العلاقات الإنسانية إنما هو القدرة الحرة غير الحاسدة نسبياً للشريكين.


وفي هذه الناحية لديّ تجربة مختلفة عن فرويد ـ وفعلياً لديّ كلتا التجربتين لأنني تدرّبت في معهد فرويدي أُرثوذكسي في برلين، ومارست التحليل بوصفي محللاً فرويدياً أُرثوذكسياً زهاء عشر سنوات حتى تزايد سخطي على ماجرّبته. لاحظتُ أنني كنت أضجر في غضون الساعة. والاختلاف الأساسي من الممكن رؤيته فيما يلي: لقد رأى فرويد الحالة التحليلية كلها حالة مخبرية؛ هنا المريض الذي هو شيء؛ والمحلل الذي بوصفه مخبرياً يراقب ما يخرج من فم هذا الشيء. ثم يستمد كل أنواع النتائج، ويعيد إلى المريض كل ما يراه. وفي هذا الشأن أنا على الطرف المضاد للدكتور روجرز Dr. Rogers كذلك. وأعتقد أن تعبير"العلاج المتمحور حول الزبون" إنما هو كله غريب نوعاً ما لأن كل علاج يجب أن يكون متمحوراً حول الزبون. وإذا كان المحلل نرجسياً إلى حد أنه لا يستطيع أن يتمحور حول الزبون، فعليه حقاً ألا يقوم بالعمل الذي يقوم به. ولا أعتقد أن العلاج المتمحور حول الزبون، الذي هو بديهي إلى حد ما، يعني مجرد إراءة الصورة، بل العكس.


ماذا أعمل؟ أصغي إلى المريض ثم أقول له: "انظر، ما نفعله الآن هو التالي. أنت تنبئني بما يدور في ذهنك. ولن يكون ذلك سهلاً على الدوام؛ ففي بعض الأحيان لا تريد أن تنبئني. كل ما أطلبه إليك في تلك الحالة هو أن تقول إنه يوجد شيء لا تود أن تخبرني عنه، لأنني لا أريد أن أمارس أي ضغط عليك أكثر حتى تضطر إلى القيام بالأمور. فمن المحتمل أنه قد قيل لك في حياتك في أكثر الأحيان إن عليك القيام بأمر ما. طيب، ولكنك إذا أغفلت شيئاً ما فسأشعر. وهكذا أصغي إليك. وحينما أصغي إليك تتكوّن عندي استجابات هي استجابات أداة مدرَّبة، فأنا مدرّب على ذلك تماماً. ولذلك فما تقوله يجعلني أسمع أموراً معينة فأقول لك ما أسمعه، الذي هو مختلف عما تقوله لي أو ما تنوي أن تقوله لي تمام الاختلاف. وعندئذ تخبرني كيف تستجيب لاستجابتي. وعلى هذا النحو نتواصل. أنا أستجيب لك، وأنت تستجيب لاستجابتي، ونرى إلى أين نمضي". وأنا كثير النشاط في ذلك.


وأنا لا أفسّر؛ ولا حتى أستخدم كلمة التفسير. أقول ما أسمع. ولنقل إن المريض سيخبرني أنه خائف مني وأنه سينبئني عن وضع خاص، وما" أسمعه" هو أنه حسود للغاية؛ ولنقل إنه شخص سادي ـ فمي واستغلالي ويرغب في الحقيقة أن يأخذ كل شيء أملكه. فإذا سنحت لي الفرصة لرؤية ذلك من حلم، من إيماءة، من تداعيات حرة، قلت له: " الآن، اسمعني، لقد جمعت من هذا وذلك وخلافه أنك خائف حقاً مني لأنك لا تريدني أن أعرف أنك تريد أن تأتي على كل ما لديّ." وأحاول أن أجذب انتباهه إلى أمر هو غير مدرك له. والمسألة برمتّها هنا هي أن هنالك بعض المحللين، ومنهم روجرز على النحو الأشد تطرفاً، وبعض المحللين الفرويديين على النحو الأقل تطرفاً، الذين يعتقدون أن المريض يجب أن يجد نفسه. ولكنني أعتقد أن ذلك يطيل العملية بصورة هائلة؛ وهي كيفما كان الأمر طويلة وصعبة وبصورة كافية. ماذا حدث؟ توجد أشياء معينة في المريض يكبتها؛ وهو يكبتها لأسباب وجيهة؛ ولا يريد أن يدركها؛ وهو خائف من إدراكها. ولو قعدتُ ثمت وانتظرت ساعات وشهوراً وربما سنوات، حتى تُخترق هذه المقاومات، لأهدرت وقت المريض.


وإنني أقوم بما قام به فرويد في تفسير الحلم. وقد يكون الحلم غير ذي أذى، ومع ذلك فما يقوله فرويد هو، إن هذا الحلم يقول بالفعل إنك تريد أن تقتلني. وأقوم بذلك مع أمور أخرى أيضاً. أُخبر المريض بما أراه ثم أحلل مقاومة المريض لما أقوله. أو إذا لم تكن هناك مقاومة شديدة، فإن المريض سيشعر بذلك، ولكنني مدرك تماماً أن ذلك الاستخدام للعقل لا يساعد على شيء، وهو في الواقع يجعل كل شيء مستحيلاً. والمهم هو هل يشعر المريض بما أشير إليه.


لقد قال سبينوزا إن معرفة الحقيقة في ذاتها لا تبدّل شيئاً ما لم تكن معرفة عاطفية كذلك. وهذا يصدق على التحليل النفسي كله. فقد تحلِّل وتكتشف أنك تعاني من الاكتئاب لأنك حين كنت طفلاً أهملتك أمك. قد تكتشف ذلك وتعتقد به حتى يوم الحساب ولا يحُدِث لك أقلّ الخير. ولعل ذلك مبالغة، فقد يساعدك قليلاً، فتعرف السبب ولكن الأمر يكون مثل طرد الشيطان. تقول،"ذلك هو الشيطان،" وإذا فعلت ذلك سنوات كثيرة بطريقة الإيحاء، ,إذا شعر المريض في مآل الأمر أنه قد طرد الشيطان ـ والأم التي نبذته هي الشيطان ـ فقد يشعر أخيراً أنه أقل اكتئاباً إذا لم يكن الاكتئاب بالغ الخطورة. ومعرفة ما هو مكبوت تعني في الحقيقة أن تعيش تجربته الآن، لا بالفكر وحده بل أن تشعر به على أكمل وجه. إنها ليست مسألة تفسير شيء ما:" هذا لأن ـ،" بل مسألة إحساس حقاً. وفي نوع من الشعاع السيني تشعر بعمق: هنا أنا مكتئب. فإذا أحسست  بذلك حقاً، فإنه يعزّز فكرة القيام بأمر ما لتوضيح الاكتئاب ويمكن أن تصل إلى المرحلة التالية التي قد تشعر فيها:"إنني عنيف حقاً وأعاقب زوجتي باكتئابي." ومن جهة أخرى، قد يكون الشخص مريضاً جداً أو يكون الاكتئاب بالغَ الشدة فلا يساعده حتى ذلك.




الشروط المسبَّقة للمحلل النفسي


لكل عمل تحليلي نفسي جانب مهم: الخصائص النفسية للمحلل. والشيء الأول في هذا المجال هو خبرته وفهمه للإنسان الآخر. ويصبح الكثيرون من المحليين محللين لأنه يشعرون أنه قد حِيْلَ كثيراً بينهم وبين الوصول إلى البشر، والاتصال بالبشر، ويشعرون أنهم في دورهم محللين محميون، وخصوصاً إذا قعدوا خلف الأريكة. ولكن ليس ذلك وحده هو السبب. فمن بالغ الأهمية أن المحلل لا يكون خائفاً من لا شعوره ولذلك لا يكون خائفاً من فتح
لا شعور المريض ولا يرتبك حيال ذلك.


وهذا يفضي إلى ما يمكن أن تسميه المقدمة القائمة على المذهب الإنساني لعملي العلاجي: لا يوجد إنسان غريب عنا. كل شيء فيّ. أنا طفل صغير، وأنا بالغ، وأنا قاتل، وأنا قديس. وأنا نرجسي،وأنا تدميري. لا يوجد شيء في المريض لا أملكه في ذاتي. ولا أستطيع أن أعرف عم يتحدث المريض وأن أعيده إلى ما يتحدث عنه حقاً إلا لأنني أستطيع أن أستجمع في داخلي تلك التجارب التي يكلمني المريض عنها، سواء أكان ذلك صراحة أم تضميناً، وإلا إذا ثارت وتردّد صداها في داخل نفسي. ثم يحدث أمر شديد الغرابة: إنه لن يكون لدى المريض الشعور بأنني أتحدث عنه أو عنها، ولا أنني أتوخى السهولة في عبارتي لـه أولها، ولكن المريض سيشعر أنني أتكلم عن أمر كلانا يشترك فيه. يقول " العهد القديم" : " أحبوا الغريب لأنكم كنتم غرباء في مصر ولذلك تعرفون روح الغرباء." [تثنية الاشتراع. 10:19].


ولا يعرف المرء الشخص الآخر إلا بالنظر إلى أنه قد عاش التجربة نفسها. وتحليل المرءِ نفسَه لا يعني شيئاً غير الانفتاح على كلية التجربة الإنسانية التي هي جيدة ورديئة، والتي هي كل شيء. وقد سمعت مؤخراً جملة من الدكتور بوبر Dr.Buber عن أدولف أيخمان Adolf Eichmann يقول فيها إنه لم يستطع أن يشعر بتعاطف خاص معه وبرغم ذلك كان ضد المحاكمة، لأنه لم يجد في نفسه أي شيء من أيخمان. والآن أجد العبارة المستحيلة. أجد الأيخمان في نفسي، أجد كل شيء في نفسي؛ وأجد كذلك القديس في نفسي، إذا شئتم.


وإذا كنت أحلَّل فذلك يعني حقيقةـ لا أنني اكتشفت بعض الصدمات الطفلية، هذه الصدمة أو غيرها في الدرجة الأولى ـ بل يعني أنني جعلت نفسي منفتحاً، وأنه يوجد انفتاح على كل عدم المعقولية في ذاتي، ولهذا أستطيع أن أفهم مريضي. وليس عليّ أن أبحث عنها. فهي موجودة. ومع ذلك فالمريض يحلّلني طوال الوقت. وأفضل تحليل لي ظفرت به في أي وقت هو بوصفي محلِّلاً لا مريضاً، لأنه بالنظر إلى أنني أحاول أن أستجيب للمريض وأفهمه، وأشعر بما يجري في هذا الرجل أو هذه المرأة، يكون عليّ أن أتفحص نفسي وأن أحرك تلك الأمور غير العقلية التي يتكلم عنها المريض. وإذا كان المريض مذعوراً وكبتُّ ذعري فلن أفهم المريض. وإذا كان المريض شخصاً تلقّفياً ولم أستطع أن أحرك في نفسي ذلك الذي هو تلقّفي أو كان تلقّفياً ولكنه لا يزال موجوداً، وعلى الأقل في جرعة صغيرة، فإنني لن أفهمه.


إن منهج التدريب على التحليل النفسي يجب أن يتضمن دراسة التاريخ، وتاريخ الدين والأسطوريات، والرمزية، والفلسفة، أي كل المنتجات الأساسية للذهن الإنساني. وبدلاً من ذلك، فالمطلوب رسمياً اليوم هو أنه قد درس علم النفس وحاز على درجة الدكتوراه في علم النفس. حسناً، أعتقد ـ وأنا على يقين أن الكثيرين من علماء النفس يتفقون معي ـ أن ذلك تبديد للوقت. وهم
لا يبدّدونه إلا لأنهم مرغمون على ذلك، لأنهم إذا لم يفعلوا  ذلك لم ينالوا الدرجة التي تعترف بها الدولة، والتي هي الشرط لإجازتهم بأنهم معالجون نفسيون. وفي علم النفسي الأكاديمي الذي تدرسونه في الجامعات، فإنكم عملياً لا تسمعون شيئاًَ عن الناس بالمعنى الذي يتعامل به التحليل النفسي مع الناس ليفهم تحريضاتهم، ويفهم  مشكلاتهم؛ وفي أحسن الأحوال تدرسون السلوكية، التي هي بتعريفها تستبعد فهم الإنسان، من حيث الأساس، لأنها في الحقيقة تؤكد كل ما علينا أن ندرسه في سلوك الإنسان وكيف يُساس هذا السلوك.


ولا ينبغي أن يكون المحلل ساذجاً؛ أي أنه يجب أن يعرف العالم كما هو ويجب أن يكون نقدياً تجاه ما يحدث. فكيف يمكن أن يكون المرء نقدياً حيال نفس الشخص الآخر، حيال وعيه، إذا لم يكن المرء في الوقت نفسه نقدياً حيال الوعي العام والقوى التي هي حقيقة في العالم. لا أعتقد أن بوسع المرء ذلك. ولا أعتقد أن الحقيقة قابلة للانقسام، وأن المرء يمكن أن يرى الحقيقة في الأمور الشخصية ولكنه أعمى في كل الأمور الأخرى. وإذا كان ذهن المرء متيقّظاً ومنفتحاً تماماً، فإن بوسعه بالفعل أن يرى سواء أكانت الحقيقة شخصاً أم مجتمعاً، وسواء أكانت وضعاً أم أي شيء، أم كانت فناً.


وعلى المرء أن يكون نقدياً وأن يرى ما هو وراء المظاهر. وأعتقد أن المرء لا يستطيع أن يفهم شخصاً، فرداً، ما لم يكن المرء نقدياً ويفهم القوى التي قولبت هذا الشخص،وجعلت هذا الشخص ما هو أو ما هي عليه. والتوقّف عند قصة الأسرة غير كافٍ تماماً. وليس كافياً كذلك للفهم الكامل للمريض. ولن يدرك كذلك من هو تماماً إلا إذا كان مدركاً الوضع الاجتماعي الكلي الذي يعيش فيه. وأعتقد أن التحليل النفسي هو ماهوياً  منهج الفكر النقدي، والتفكير النقدي صعب للغاية لأنه يتنازع مع مصالح المرء. ولا أحد يُدعَم بصورة خاصة من أجل التفكير وممارسة النقد. وليس لأحد أية فائدة من ذلك، إلا أنه قد يجنيها على المدى الطويل.


والرأي عندي أن التحليل الاجتماعي والتحليل الشخصي لا يمكن في الحقيقة أن ينفصلا. إنهما جزء من الرؤية النقدية لواقع الحياة الإنسانية. ولعل قراءة بلزاك أكثر فائدة لفهم التحليل النفسي من قراءة الكتابة السيكولوجية. وقراءة بلزاك تمرن المرء على فهم الإنسان في التحليل أكثر من كل القوى التحليلية في العالم، لأن بلزاك كان فناناً عظيماً قادراً على كتابة تواريخ حالات، ولكن بأي ثراء، وبأي غنى، يغوص حقاً إلى البواعث اللاشعورية للناس ويُظهرهم في ترابطاتهم مع الوضع الاجتماعي. وتلك كانت محاولة بلزاك: لقد أراد أن يكتب طبع الطبقة الفرنسية الوسطى في عصره. وإذا كان المرء مهتماً حقاً بالإنسان وبلا شعوره، فعليه ألا يقرأ الكتب المدرسية، بل فليقرأ بلزاك، وليقرأ دوستويفسكي، وليقرأ كافكا. ففي تلك النصوص تتعلم شيئاً عن الإنسان، أكثر بكثير مما تتعلم في الكتابات التحليلة النفسية( وفي جملتها كتبي). وفيها يجد المرء غنى التبصّر العميق، وما يمكن أن يفعله التحليل النفسي، يجب أن يفعله فيما يتعلق بالأفراد.


وما ينبغي أن يتعلمه الناس والمحللون منها بخاصة قبل كل شيء هو رؤية الفارق بين الحقيقي والمظهر الخارجي. وفعلياً فإن هذا الفهم شديد الضعف اليوم. فأكثر الناس يحبسون الكلمات واقعاً؛ إن ذلك هو الآن خلط أحمق جنوني. ولكنني أعتقد كذلك أن معظم الناس لا يرون الفارق بين المظهر الخارجي والحقيقي، على الرغم من أنهم يرونه لا شعورياً. ويمكن في الكثير من الأحيان أن تجدوا حلماً كان الشخص فيه قد رأى في النهار رجلاً وظن أنه ظريف جداً وأحبه، ثم يرى  حلماً ويرى هذا الشخص قاتلاً، أو سارقاً، مما يعني ببساطة أنه كان يدرك باطنياً أن هذا الرجل فيه غش. ولكنه في وعيه لم يكن مدركاً ذلك حين رآه. ولا ريب أنك لا تزعم أن شخصاً ما قاتل ـ وأنا لا أقصد قاتلاً واقعياً، بل في نيّاته ـ أو أن شخصاً ما تدميري إلا إذا أثبتنا ذلك، أو قد يكون الرجل قد قال لـه شيئاً ولذلك كان مغتبطاً. ونحن غالباً ما نكون في أحلامنا صادقين، أكثر صدقاً بكثير مما نكون في النهار، لأننا لا نتأثّر بالأحداث من الخارج.



التعامل مع المريض


[للبدء في علاقة علاجية لابد من أن تُفترض الثقة المتبادلة سلفاً. ولو سألني مريض أثق به، لأجبته:]"إنني أثق بك في الوقت الحاضر ولكن ليس لديّ مسوّغ أن أثق بك وليس لديك مسوّّغ لتثق بي. ولنر ما يحدث، وهل نستطيع أن يثق بعضنا ببعض بعد فترة عندما يقوم بيننا اتصال ما.". ولو قلت له:"لا ريب أنني أثق بك ‍!" لكنت كاذباً. كيف أستطيع أن أثق به إلا إذا كان شخصاً استثنائياً للغاية؟ وفي بعض الأحيان أثق بشخص بعد رؤيته أو رؤيتها بخمس دقائق. وفي بعض الأحيان أعرف بالتحديد أنني لا أثق بشخص ما. وعندئذ يكون ذلك بالغ السوء لأنه ليس أساساً للتحليل.


وعدم الشروع في التحليل يعتمد على عدة أمور. فإذا كان لديّ انطباع أنني لا أثق بهذا الشخص، ولكنني لا أزال أرى فيه أو فيها شيئاً يمكن أن يتغيّر، فقد أخبره أو أخبرها أنني لا أجده أو لا أجدها أهلاً للثقة كثيراً ولكنني لا أزال أعتقد باحتمال وجود شيء ما. أو إذا لم تكن هذه هي الحال، فمن شأني أن أجد سبباً ما من دون أن أسيء إليه أو إليها، لأقول إنني لا أعتقد أننا مستعدان تمام الاستعداد للعمل معاً، والأفضل أن يذهب ( أو تذهب) إلى شخص غيري.


وأنا لا أريد أن أقول لأي شخص في العالم ـ ولم أقل ذلك ـ إنه أو إنها لا يمكن أن يُحلَّل أو تُحلَّل أو يساعَد يساعُد. وأنا مقتنع بعمق أن تلك عبارة لا يمكن لأحد أن يكون مسؤولاً عنها. إنني لست إلهاً ولا سبيل لي إلى أن أعرف بالتحديد هل الشخص ميؤوس منه أم لا. قد يكون حكمي بأنه كذلك، ولكن أنّى لي أن أثق بحكمي إلى حد أن أُصدر قراراً بحق ذلك الشخص وأقول إن أحداً غيري لا يمكن أن يساعده؟ وهكذا فأنا لم أ كن أنهي المقابلة الأوّلية أو أي عمل أوّلي بهذه العبارة . وإذا شعرت أنني لم أكن في وضع أقدر فيه على العمل مع ذلك الشخص، فقد كنت أرسله إلى شخص غيري ـ ولم يكن هذا عملاً أقوم به على سبيل الاعتذار بل لأنني أعتقد بعمق بأن واجبي الإلزامي هو تقديم أية فرصة له، وأن حكمي هو بالتأكيد ليس كافياً لأؤسس عليه مثل هذا القرار الجوهري.
وفيما يتعلق بتخفيض الاتكال، فهو مسألة جرعة في كل حالة. فإذا كان لديك مريض في حالة قريبة من الفصام مصحوبة بما أدعوه الارتباط التواكلي المتطرف بمحلله، الذي يشعر فيه الشخص أنه ضائع تماماً، فإذا لم يكن لديه ذلك الارتباط المتين الذي لا تنفصم عراه بالشخص المضيف، فإنك تجد عند الكثيرين من المرضى الفُصاميين أو الذين هم في حالة ما قبل الفُصام أن ثمت علاقة تواكلية بشخص الأم أو الأب. وتلك هي اللحظة التي يجب فيها أن يجابَهوا بضرورة أن يقفوا على أقدامهم ـ على الرغم من وجود خطر الانهيار الذَُهاني. وفي العلاقة التواكلية، أود أن أعبّر عن الأمر على هذا النحو: إن عملية التفرد لم تحدث على الرغم من أن الشخص قد تجاوز المراهقة.


وقد اعتقد فرويد أنه بفحص شخص، ودراسة أعماقه، فإن استبصاره للعملية التي تجري في أعمق أعماقه يجب أن يؤدي إلى تغيير في شخصيته، وشفاء أعراضه. وأود أن ألفت الانتباه إلى مسألة كم كانت هذه الفكرة غريبة في بابها، خصوصاً إذا فكرتَ في الزمن الحالي، وقد قال بعض الناس بذلك حتى في ذلك الحين، قبل سنوات كثيرة ـ فتخصيص ذلك الزمن الطويل لشخص واحد ليس من الحالة النفسية المعاصرة. بل على العكس، فإن أهم اعتراض على التحليل النفسي هو أنه يظل يستغرق الكثير جداً من الوقت.
ومن المؤكد تماماً أن التحليل الرديء لابد أن يكون أقصر تحليل ممكن، ولكن التحليل العميق والناجع لابد أن يدوم الوقت الطويل الضروري. ومن الطبيعي أن على المرء أن يسعى إلى الطرق التي لا تجعله يدوم مدة أطول من الضروري ولكنني أود أو أقول أن الفكرة التي مفادها أن من المفيد تخصيص ذلك الاهتمام مئات ومئات الساعات لشخص واحد هي في حد ذاتها تعبير عن نزعة إنسانية عميقة عند فرويد. وفكرة أن التحليل النفسي يستغرق زمناً طويلاً جداً هي في ذاتها ليست حجة عليها، وإذا قدّمها المرء بوصفها مشكلة اجتماعية، فهي محض تبرير عقلي. وذلك يعني أن المرء يبرر أفكاره بأن ذلك الشخص لا يستحق ذلك الاهتمام الشديد، وأن ذلك الشخص ليس بتلك الأهمية. إن المرء يبرر ذلك بتقديم وجهة نظر، وجهة نظر اجتماعية، أنه لا يحصل على هذه المعاملة إلا الأفراد الأحسن حالاً.


وفكرةُ أن المريض يجب أن يدفع لقاء المعالجة وإلا لن يستطيع أن يتعافى، هي على النقيض من قول الإنجيل، إن الأغنياء لن يدخلوا ملكوت السماء. وأعتقد أن ذلك لغو واضح. لأن المسألة الحقيقية هي ما الجهد الذي يبذله الشخص؛ لأن دفع شخص غني جداً لقاء المعالجة لا يعني شيئاً على الإطلاق. وهو في الحقيقة حسم من الضرائب مستحب على الدوام. ولذل فإذا لم يُظهر الشخص اهتماماً بأنه يدفع أو لا يدفع، فذلك هو المعيار الوحيد، وإنه لتبرير فيه خدمة ذاتية كبيرة أن يكون عليه أن يدفع ـ وكلما دفع أكثر تعافى على نحو أسرع، لأنه يقوم بأكثر من تضحية. وحقاً إنها لفكرة الأزمنة الحديثة أن ما تدفع ثمنه تقدّر قيمته تقديراً أكبر، وما لا تدفعه ثمنه تقدّر قيمته تقديراً أقل. وإذا دفعت الكثير فقد تقدّر قيمة التحليل النفسي تقديراً قليلاً لأنك قد تعوّدت الشراء. تلك حقيقة واقعة. فالناس لا يقدّرون، وخصوصاً عندما يكون لديهم المال؛ إنه على وجه الخصوص لا يقدّرون ما يشترونه.


[وفيما يتصل بالعلاج النفسي الجماعي] فأنا شديد الارتياب ولكن عليّ أن أقول إنني لم أمارس العلاج الجماعي ومن المحتمل بالضبط لأنني أنفر منه إلى أبعد الحدود. إنني أنفر تماماً من فكرة أن يتحدث شخص واحد بحميمية عن نفسه أمام عشرة أشخاص آخرين. إنني لا أستطيع أن أتحمل ذلك. كذلك لديّ ارتياب في أن هذا هو التحليل النفسي للإنسان الذي لا يستطيع أن يدفع خمسة وعشرين دولاراً، ولكن إذا تجمّع عشرة أشخاص فإنهم يدفعون خمسين دولاراً وهذا رائع.

وفعلياً يمكن أن أتصور أن العلاج الجماعي للمراهقين يمكن أن يكون شديد الفائدة. وإذا لم يكونوا شديدي المرض، ولديهم مشكلات متشابهة، فيمكن أن يساعدهم على رؤية أن لديهم مشكلات مشتركة وعلى أساس ظاهري ومع بعض التعليم الجيد، وبعض النصح الجيد، أعتقد أنه يمكن تخفيف مشكلاتهم وذلك شيء جيد جداً. ولكنني لا أعتقد بأية حال أنه بديل من التحليل النفسي. إن التحليل النفسي منهج شديد التفرد والبعد الشخصي إلى حد أنني لا أعتقد أنه مناسب لمنهج العلاج الجماعي. وأنا في هذه الناحية إنسان فردي وعلى الدُّرْجة القديمة.


وأعتقد أن الجو الذي نراه يقلل الخلوة باطّراد من أجل الثرثرة المشتركة ويُفضي إلى موقف مضاد للإنسانية ومضاد للمذهب الإنساني. ولا أعتقد أن ذلك يؤدي إلى أي علاج جيد باستثناء أحوال خاصّة جداً لا أريد فيها أكثر من ذلك. والقول بأن العلاقة بالمريض مصطنعة لا يُحدث وقعاً في نفسي. فعلاقة الحب بين شخصين علاقة مصطنعة كذلك لأنهما لا يتطارحان الغرام في المجتمع وأشد ساعاتهما حميمية لا يشارك فيها عشرة أشخاص آخرين. وأعتقد أن ثمت الكثير من  التبرير في عصر تضيع فيه الخلوة باطّراد.

***



الفصل الثامن

وظائف العملية التحليلية النفسية ومناهجها



تعبئة الطاقات اللاشعورية، وإظهار الخيارات


إن تعبئة طاقات الفرد الكامنة هي بالفعل المسألة المركزية في العمل التحليلي كله. وبوسعي أن أقدّم مثالاً على ذلك. أذكر رجلاً في أربعينياته جاء إليّ وقال : " طيب، ما الفرصة التي لديّ لأتعافى؟" وكان يحيا ويتحمل بعض الأعراض العصابية ولكنه تخبّط وأدى العمل الموكل إليه. قلت له:"بصراحة إذا كانت المسألة مسألة مراهنة فلن أراهن على أنك سوف تتعافى، لأنك عشت وتحملّت بعض المشكلات أربعين سنة وليس ثمت موجب أن تُجنّ أو تموت باكراً. ولذلك ستعيش ثلاثين سنة أخرى على النحو نفسه وستكون شقياً ولكن كما احتملت إلى الآن، لماذا لن تحتمل في بقية عمرك؟ من الواضح أن ذلك ليس سيئاً." ثم قلت لـه :" إذا كانت لديك إرادة قوية إلى أبعد حد وأردت حقاً أن تغيّر حياتك، فحينئذ ثمت إمكانية؛ وأنا راغب في هذه المناسبة أن أحلّلك، ولكن إذا سألتني عن اعتقادي الموضوعي حول الفرصة المتاحة، فليس من المحتمل جداً أنك سوف تنجح." ـ وإذا كان يوجد شيء يمكن أن يشجِّع مريضاً فهو هذا. ولكن إذا ثُبّطت عزيمته فقد يكون الأفضل ألا يبدأ، لأنه إذا كان لا يستطيع اتخاذ ذلك فإنه سيفتقر إلى الدافع الأساسي، أي أن تكون لـه القوة لحشد طاقته.


وما قلته الآن لا يصدق على كل الأحوال. فهناك مثلاً أناس يكونون شديدي الارتياع، ومصابين بوسواس الخوف من المرض ومذعورين وقلقين فإذا قلتَ لهم أن يدخلوا في الذعر منعهم ذلك من التفكير. وفي أحوال كهذه عليك أن تستجيب بطريقة مختلفة. وأنا أتكلم عن ذلك بمعنى عام لأوضح أهميته، لا في التحليل وحده بل في كل الحياة، وليروا ذكاءهم بوضوح. وإذا سأل المرء لماذا يخفق جل الناس في الحياة، فأعتقد أن السبب هو أنهم لا يعرفون متى تأتي اللحظة الحاسمة. وإذا عرفتُ الآن أنني إذا قمت بذلك ـ ولنقل : أن أقبل رشوة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ فسأنتهي إنساناً محطماً لأنني سأستمر في قبول الرشوات، وسأخضع، وسأنتهي في مآل الآمر إنساناً محطماً شقياً. وإذا كنت أعرف ذلك فإن من شأن هذا المعنى للمعافاة وطاقات الطوارئ أن يعمل بما فيه الكفاية في الكثير من الناس لجعلهم يقررون "لا". ولكن تفضيل التبرير العقلي يكون بالقول: "حسناً، هذه مجرد خطوة واحدة، وهي ليست شديدة الأهمية، فيمكن لي في آخر الأمر أن أقوم بها، ويظل بوسعي أن أتبدّل." وبذلك لا تكون في حياة الكثيرين من الناس لحظة يكونون مدركين فيها، وهم في حالة المقدرة ـ إنه قرار يدركونه بعد فوات الأوان. ثم بوسع المرء فعلاً وهو يستعرض الماضي أن يقول إن حياتهم كانت محَّددة ولم تكن لديهم الفرصة للحرية. ولكنك لا تستطيع أن تقول ذلك إلا في حالة إعادة النظر في الماضي. فإذا كانوا قد رأوا الوضع وواجهوا أنهم حين يمضون في ذلك السبيل فإن هذا سيؤدي إلى هذه النتيجة، وستكون لديهم بالفعل فرصة مختلفة كلياً لأنه لم يكونوا ذلك المريض ولم يتحطموا.


وفي الحديث عن التحليل أرى أنه من بالغ الأهمية أن يُظهر المحلل للشخص الذي يحلله الخيارات الحقيقية، بشدة بالغة ومن دون تحفّظ، وربما يعبّر عن ذلك بلغة محترسة فيقول ذلك ولا يقوله. وإذا كانت لدى الشخص المحلَّل مقاومة وكان لا يريد أن يرى بوضوح، فإن استخدام الكلمات غير الواضحة تماماً يُفضي إلى  ألا يسمع شيئاً لأنه لا يريد أن يسمع أي شيء. فعليك أن تصيح، وفي بعض الأحيان حرفياً؛ ولكنني لا أقصد ذلك حرفياً؛ فالصيحة بمعنى القول الذي لا يستطيع أن يتجاهله، والذي عليه أن يستجيب لـه لأنه شديد التحدي.


والسبب الأهم الذي يجعل لإدراك المرءِ ذاتَه، لإدراك المرء الحقيقي كاملَ الوضع، فرصة التغيّر، هو أنه يسمح لهذه الطاقات التي هي رهن الاستخدام أن تعمل. فإذا لم تكن موجودة، وإذا كانت في ذلك الوقت ميتة، فعندئذ لا شيء بمقدور المرء أن يفعله. على المرء ـ والمحللين بوجه خاص ـ أن يكون لديه إيمان بوجود هذه الطاقات من دون أن يكون أخرق. وهناك أناس كثيرون تكون فيهم شديدة الضعف فلا يوجد شيء أكثر يفعلونه ـ وقد تكون المسألة مسألة عمر، وقد تكون مسألة إخفاض قيمتك كثيراً من قبلُ بحيث لا ترى وجود مزيد من الأمل. وسيكون من الحماقة أن تقول، من قبيل العقيدة المسلَّم بها أو المبدأ، إن هذا الشخص سوف يستجيب إيجابياً لكامل المواجهة مع حياته. فقد لا يستجيب، ولكن قد يساعده ذلك إجمالاً على إدراك أين هو ذاهب، وعلى إدراك الخيارات في وجوده الكلي. إن هذا هو أحد أهم واجبات المحلل.


ومساعدة المحلَّل على إدراك خياراته هي جزء من تحليله. إنها لا تعبّر عن أحكام قيمية؛ فهذه مجرد إبانة ـ وأنا في الحقيقة أستطيع أن أبينها في أي مجال آخر ـ أن هذه قوى وإذا سرتَ على هذا النحو حدث هذا، وإذا سرتَ على ذلك النحو حدث ذلك. هذان هما الخياران اللذان في ذاتهما يحددان عدم وجود سبيل آخر. ويعتقد معظم الناس ويشعرون بالنسبة إلى هذه الحقيقة أنه يوجد الحل المتعذّر على الدوام.


أنت تريد أن تكون حراً وتريد أن تكون في الزريبة مع أبويك. تريد أن تكون حراً وتريد أن تكون متكلاً. إن هذا لا يحدث؛ فأنت لا تستطيع، إنه مجرد وهم. كما لا يمكنك أن ترى أناساً مستقلين وأحراراً وفي الوقت نفسه تسخّفهم الإعلانات العامة ونوع الأمور التي يتعلمها الناس. لا يمكن لك الجمع بين الأمرين، إلا أن معظم الناس يريدون التوفيق بينهما ويمكن لك أن تقول، إن الرغبة في التوفيق هي شكل من أشكال المقاومة. ومادمت آمل في المعجزة، التي تعني الحل المتعذّر، الذي هو محال واقعياً إذا وُجد، فمن الطبيعي ألا تكون لي فرصة عمل أي شيء.




تصعيد المجاهدات الجنسية أم إشباعها أم التخلي عنها


أولاً إن مفهوم التصعيد كله هو من أكثر المفهومات إثارة للشك. وأنا أشك كثيراً جداً في وجود شيء في الحقيقة  من قبيل التصعيد. بيد أنه مفهوم شديد الشعبية، وهو يسري بسهولة فائقة. التصعيد ـ إنك تفكر في رد الفعل الكيميائي. وهنا تملك أساس دوافعك، ثم يجري تصعيدها كلها.


وأود أن أوضح شكوكي بمثال بسيط. لقد كان المفهوم التحليلي النفسي هو أن الجرّاح يصعّد ساديته أو – في الصيغة اللاحقة –غريزة الموت عنده. أي أن لديه حقاً دافعاً إلى الإيذاء، دافعاً إلى التعذيب، ولكن بدلاً من التعبير عنه مباشرة يعبّر عنه، كما يقول فرويد، على مستوى بعيد عن التعبير اللبيدي المباشر، وفي تلك الآونة يختبئ. وأظن من دون أدنى ريب أن الأمر ليس كذلك. إن للجرّاح باعثاً مختلفاً كل الاختلاف. ولا شك أنه يوجد جراحون تحرضهم رغبتهم في الإيذاء، ولكنني على يقين أنهم أسوأ الجراحين في العالم؛ ويقومون بعمليات جراحية بالغة الرداءة.


وعلى الضد فالجراح تحرضه الرغبة في العمل السريع، والشفاء السريع، وموهبة اتخاذ القرارات السريعة وموهبة خفة اليدين التقنية، وعلى ذلك فهو يعمل بمقتضى دوافع أو على أساس من مواهب ورغبات إنسانية طبيعية جداً.  وهذه هي السُّبل التي تسير فيها مواهبه، وذلك هو السبب في أنه هادئ وموضوعي وشديد التعقّل في عمله الجراحي. ولو كان الجراح سادياً مختفياً لكان من شأنه أن يفتقر إلى هذه الخصائص تماماً، ولكان لديه نوع من اللذة الخفية، ولكان أجرى عملية جراحية حين لا يقتضي الأمر ذلك، ولكان شقّ الناس حين لا ينبغي ذلك، و لكان مدفوعاً بالدافع الذي يصعّده: فهو موجود. ولا يخرج فجأة عن العدم. وعلاوةً، يجب القول، إنك قد تصعّد ساديتك ولكنك تظل شخصاً سادياً. ولنقل إن السؤال هل لدى الجراحين في الغالب طباع سادية أكثر من المحللين النفسيين يظل مسألة مفتوحة أكثر من مسألة أي فرع طبي آخر، أو بالله عليكم، من مسألة المدرّسين.


وإذا قال المرء إن الكثيرين من المدرّسين ساديون يودون السيطرة، فذلك صحيح تماماً، ولكنني لا أعتقد أن المرء يمكن أن يقولوا إنهم مصعَّدون، إنهم يقدّمون التعبير المباشر عن ساديتهم في الأشكال الوافية ضمن الظروف. ويضرب بعض المعلمين الأطفال، بعنف، في أنظمة لا يعاقَبون فيها على ذلك، ولا يوجد شيء من التصعيد له. والآخرون يؤذون تماماً احترام الذات عندهم، ويؤذون حساسياتهم، ويجرحون كرامتهم، ويفعلون بالكلمات ما يفعل غيرهم بالعصا. أين التصعيد – ولا في أي مكان؟ إن كل شخص يعبّر عن عاطفته بهذه الأشكال الأقل خطراً ضمن الظروف ولكنها لها بالضبط الوظيفة نفسها. ولذلك بودي القول إن هذا المفهوم الكلي للتصعيد هو حقاً مفهوم لا يمكن الأخذ به.


ويقوم الكثيرون من الناس بأمر ما يريدون التخلّص منه حقاً ولكنهم يقومون بذلك بالفكر، وإذا خَبَرتُ ذلك تماماً فإنه يساعدني على أن أدركه تماماً فأتغلّب عليه. ولكن من الغالب لا توجد وظيفة كهذه. والمرء يعرف ما هي؛ وهي ليست شيئاً جديداً؛ والمرء لا يَخبُرها بأي عمق. وأعتقد أن هذا التفكير هو في أساسه مقاومة. والمرء لا يستطيع أن يغير هذه الأمور بالقوة كذلك.
وهنا أود من جديد أن أقول إن التحليل والممارسة يجب أن يسيرا معاً. ومن شأن أحدهم أن يقول، إنني أوقف ذلك الآن. وأعتقد أن تلك الطريقة هي إحدى طرق حل المشكلة، وقد تكون طريقة جيدة. ومن جهة أخرى فإن الطريقة الأخرى التي حولي – ولنقل، إنني أتبعها لأنني كلما قمت بذلك ازددت معرفة بنفسي – أعتقد أن ذلك تبرير عقلي. ولعل أفضل شيء أن أحاربه، ولكن لأرى ماذا أَخبُر إذا ضيّقتُ عليه، إذا نبذته كمياً؛ ماذا أَخبُر في فعل التخلي عنه، أكثر من أن أتّخذ دوغمائياً خطوة تنهار بعد ثلاثة أشهر لأن المرء لم يكن متأهّباً لها. وبكلمات أخرى يستطيع المرء أن يقول إن تبّدلاً معيناً في السلوك مصحوباً بتحليل التجارب في تبدّله هو، كما أعتقد، أفضل شيء. وهذه هي تقريباً الإجابة التي أستطيع تقديمها عن ذلك ولكن مرة أخرى هي إلى هذا الحد مشكلة عامة تكون الإجابات العامة عنها يعوزها الكثير، لأن المرء لا يستطيع أن يعالجها بطريقة أكثر تخصّصية. ومن ثم فلا إجابة حقاً، من حيث الأساس تكون صحيحة عموماً لأي شخص بصورة خاصة. ففي كل حالة وفي كل شخص تكون الإجابة مختلفة بعض الشيء، ولا يستطيع المرء كذلك أن يتيقّن أن ذلك صحيح.


إن التخلي وتحليل التخلي أكثر قيمة من العمل وتحليل الأعمال الذي لـه صلة بالواقعة التي تكون جديدة. ماذا أَخبُر في الخبرة السادية التي أعرفها؟ من الطبيعي أن على المرء أن يحلل الخبرة السادية إلى سياقها الكامل لا مجرد أن يتحدث عن السادية، بل أن ينظر في كل تفصيلة: بماذا أشعر، ماذا يعني ذلك، ما علاقة ذلك بالنزعات السادية بوجه عام؟ وأنا أفترض أن ذلك قد تمّ بصورة تامة، ولكن متى حدث انكشفت عوامل جديدة إذا رأى المرء ما يحدث إذا تغيّرت. ماذا يحدث إذا تصرفت بطريقة مختلفة؟ لأن هذا يأتي بتجربة جديدة: إنني لم أحاول ذلك بمثل هذه الطريقة حيث حلّلتُ تجربتي في الوقت نفسه.


قد تجد أولاً أن الشخص في عمله هذا يحاول أن يوقفه في لحظة معينة بسبب من هجمة قلق عميق واضطراب عميق. وذلك مسعف للغاية لأننا نستطيع عندئذ أن نرى أن هذا السلوك حماية ضد القلق. ثم يمكن أن نمضي ونحلل القلق. ولكن ما دام المرء مستمراً في القيام بذلك، فإن القلق قد لا يخرج. وفي الواقع فإن هذا يصدق على كل إحباط في الأمور التي يقوم بها المرء؛ وغالباً ما تكون لها وظيفة منع القلق الظاهر من الخروج. وهذا القلق لا يصبح ظاهراً ما لم توقفه. - إنني لا أريد أن يساء فهمي. فليست المسألة هي أن على المرء أن يوقفه و"انتهى". ولكن المقدرة على التخلي عنه هي شرط المزيد من المعالجة والخلاص. كذلك لا أقصد فعل القوة على الإطلاق. ولا أقصد ذلك إلا بوصفه اختباراً: إيقافه أسبوعاً، أسبوعين، ورؤية ما يحدث. وتلك قصة شديدة الاختلاف عن القول إن عليك ألا تقوم بذلك ثانية في وقت من الأوقات. إن ذلك تهديد، وهو ابتزاز، وهو لا يحل مشكلة.


وعموماً فإن الكثير من القلق الذي هو الأساس لنشوء العَرَض يصبح مرئياً، ولا يصبح مكشوفاً إلا عندما يُحبَط العَرَض. لقد قال فرويد ذلك، وأعتقد أنه كان من حيث الأساس مصيباً في ذلك: "إن المعالجة التحليلية يجب إنجازها، في جو الحرمان – في حالة الامتناع عن الكحول والملذّات."  (Freud, 1919a. S. E. Vol. 17, p. 162.) وربما ذهب في ذلك أبعد قليلاً. ولكن إذا كنتَ أصلاً قد أظهرت الشيء الذي تريد أن تحلله ذاته، والذي تريد أن تتخلّص منه، فهناك بالفعل تحديدات كبيرة جداً لما تستطيع عمله تحليلياً، لأنك لا تصل إلى القلق الأصلي. فأنت لا تقف على السؤال عن أية دفاعات بنيتها بَعَرضك، وأية مقاوَمات في هذا العَرَض، وهلم جرا.


وفي رأيي أن الانحرافات يجب ألا تعالج إلا إذا كان الشخص يعاني منها، وذلك يعني، إذا شعر الشخص أن هذا الأمر يشوّشه كثيراً، يشقّق حياته، ويسير ضد قيمه، ويتمنى لو يستطيع أن يكتشف ماله من علاقة بطبعه، وعلاقته بالآخرين. وإلا فإنني لا أرى أنه أمر يجب أن يعالَج. ولكنني أراه مشكلة خطيرة لأنه على المرء أن يسأل نفسه ما هي الصلة – وهذا مهم – بين ما يُدعى الانحراف والعناصر الطَّبعية في نفسه. وإلى أي حد هو نكوص أو تثبّت أو مرحلة يقف فيها المرء في طريق نفسه نحو العلاقة الأكمل، وليس مع النساء أو الناس فقط. إنها إلى حد ما مشكلة شبيهة بمشكلة الجنسية المثلية. وأعتقد أنها تقييد لنمو الشخص، ولكنني مع ذلك أعتقد أنها أقل في ذلك من الانحراف السادي –المازوخي. وهكذا فإن امتطاء حصان شامخ والقول إن اللوطيين ليس لديهم حب حقيقي وأنهم نرجسيون جداً وما إلى ذلك –أي ملعون، من يتكلم؟




حول تبيّن المقاومة


لعل أهم أمر في التحليل هو تبيّن المقاومة. ويوجد محلل واحد هو الذي تبيّن هذه المقاومة أولاً وباستقصاء: إنه فلهلم رايش  Wilhelm Reich. وذلك هو في الحقيقة أهم إسهام لـه في التحليل النفسي. وأعتقد أن إسهاماته الأخرى مشكوك فيها أو مدعاة للارتياب. وقد قام بإسهام آخر يعادل ذلك أهمية – فقد كان، بعد غيورغ غرودك  Georg Grodek، الباحث الوحيد الذي رأى أهمية إرخاء الجسد للتغلّب على الكبت. وعندما كتب كتابه تحليل الطبع  Character Analysis (W. Reich, 1933) أكّد ذلك.
إن المقاومة هي إحدى أكثر الأمور مخاتلة، لا في التحليل وحسب، بل كذلك في حياة كل امرئ يحاول أن ينمو، يحاول أن يعيش. ويبدو أن للإنسان نزعتين قويتين جداً. إحداهما التقدم إلى الأمام، ويمكن أن تقول إنه يبدأ من مستهلّ ميلاد الطفل، وهو دافع الانسياق إلى الخروج من الرحم، ولكن هناك في الوقت نفسه خوف كبير من كل ما هو جديد، من كل ما هو مختلف، ويمكن أن تقول إنه خوف من الحرية، خوف من المجازفة، مع ما يعادل ذلك قوة من الميل إلى النكوص، إلى الرجوع، إلى عدم التقدم إلى الأمام. وهذا الخوف من الجديد هذا الخوف مما لم يألفه المرء، هذا الخوف مما هو غير يقيني لأن المرء لم يجربه، إن كل هذا الخوف يعبَّر عنه في المقاومات، في شتى المناورات لمنع المرء من أين يتقدم إلى الأمام، ومن القيام بأمر جريء.


وليست المقاومة مشكلة التحليل وحده أبداً. وفي الحقيقة فإن جُلّ المشكلات المدروسة في التحليل، مثل المقاومة والتحويل، هي أهم بكثير بوصفها مشكلات إنسانية عامة. وهي بوصفها مشكلات تحليلية محصورة نسبياً، فكم يُحلَّل من الناس الكثيرين؟ ولكن المقاومة والتحويل هما على أساس إنساني عام من أقوى القوى الانفعالية الموجودة.


ونحن لا نكون أكثر مخاتلة منا حين نبرّر مقاوماتنا. وليس الأقل من المقاومة هو ما يلقاه التحسّن؛ فأي تحسّن يُنظر إليه بسوء ظن شديد، بدلاً من النظر إليه برضى وفرح. لأنه في كثير من الأحيان لا يخدم التحسّن إلا في أن تبدأ التسوية، وفي إرضاء المرء نفسه: "أنت ترى أنني لست مريضاً كما كنت."، ولكنه في الوقت نفسه يكون كافياً لمنع المرء من القيام بالخطوة الحاسمة التي يمكن أن تحل المشكلة جذرياً بالتقدم إلى الأمام. ولذلك فمن بالغ الأهمية أن يكون المرء متشكّكاً حيال التحّسنات. إن الإحباطات خير من النجاحات، وكما قال نيتشه بشرط أن: "مالا يقتلنا يجعلنا أشد قوة"
Was uns nicht umbringt, macht uns sträker (F. Nitzsche, 1889, nr. 8)  


وهناك هزائم مهلكة، ولكن النجاح الأخطر هو الذي يخفق فيه الناس في النجاح الكلي. وهو غالباً ما يؤدي دور مقاومة المضيّ إلى ما هو أكثر من ذلك.


والآن فإن للمقاومة، ولا ريب، أشكالاً كثيرة أخرى؛ فيعبّر الشخص عن المقاومة بالإفاضة على المحلل بالأحلام، وهكذا من ذلك الحين فصاعداً يستمع المرء إلى الأحلام سنوات؛ وهم حالمون جيدون، ولا يُحلَّل شيء أبداً لأن الحلم شديد الاغتراب؛ ويحلل المرء الحلم ولكنه لا يحلل الشخص.


والشكل الآخر للمقاومة هو الكلام التافه. وكانت فكرة فرويد العظيمة هي وضع التداعي الحر موضع التنويم المغناطيسي. ولذلك أعتقد أنه إذا لمس جبين الشخص وقال: "كلما لمست جبينك قل لي أي شيء يمر بذهنك"، كان ذلك أنجح وأقصر نوع من إيحاء التنويم المغناطيسي. وفي ذلك الكثير من الحقيقة، ولكن في تلك الأثناء تم التخلّي عن ذلك وصارت الصيغة تقول: "قل كل ما يمر بذهنك." وهكذا يتحدث الشخص عن كل تفاهات الحياة، ويكرر مائة ألف مرة ما قالت أمه، وما قال أبوه، وما قاله الزوج، وأي شجار نشب بينهما، والمحلل يستمع بحكم الواجب لأن المريض يتحدث عما يجري في ذهنه. ولا ريب أن ذلك شكل من أشكال المقاومة التي على المحلل ألا يسمح بها، لأنه خارجٌ عن الصدد الاستماعُ إلى التفصيلات المبتذلة عن هذا الشجار أو ذلك وإلى تكرار كل هذه الأمور الشخصية التي هي عديمة الفائدة – مجرد ملء للوقت. إنها في أساسها مقاومة.


وأذكر حلقة بحث في معهد وليم ألانسون هوايت قدّم فيها أحد المحللين مريضة، فاستمعت مدة ساعة ثم قلت: "اسمع الآن، إن هذا بالغ التفاهة، وأنا لا أستطيع أن أفهم كيف يمكنك أن تتحمل الاستماع إلى ذلك مدة ساعة، إن الكلام هو عن الاتصالات الهاتفية التي جرت مع خليلها، وإلى الخلف وإلى الأمام ثم التفسير السيكولوجي، هل كان عليها أن تتصل به أم كان عليها ألا تتصل به، وكأن هذا الأمر ينطوي على أية أهمية." فقال: "حسناً، فقد كانت كثيرة الجدية، وكانت مشكلة حقاً لها." ثم كان بالغ الكرم وقال "لا بأس، لديّ شريط تسجيل." وطلب إليها السماح لـه بإطلاق شريط التسجيل، وبعد خمس دقائق من ابتدائه ضحك الصف كله وضحك هو كذلك لأنه كان واضحاً تماماً من صوتها أنها كانت غير جدية كما يمكن أن يكون أي شخص. لم يكن شيئاً، ولم يكن لـه معنى، ولم يكن فيه إحساس. وبكلمات أخرى، لقد تحوّل التداعي الحر إلى ثرثرة حرة. "والثرثرة الحرة" تكون ميتة قطعاً حالما يبدأ شخص يثرثر ويتكلم عن أمور لا معنى لها باستثناء أنها تعدّ مشكلة سيكولوجية. وكل شيء مشكلة سيكولوجية. وإذن ففي رأيي أن مهمة المحلل هي أن يقاطعه ويقول: "الآن، كل ما تنبئني به هو لمجرد ملء الوقت، وليس لـه قصد؛ إنني ضجر جداً، ولن أستمع إلى هذا." لماذا عليّ الاستماع؟ إنه لأمر طارئ أن أستمع إلى سخافات مملة مدة ساعة وأنت لا يمكن أن تعوَّض عن ذلك. وليس هناك مبلغ هو من الضخامة إلى حد يكفي للتعويض عن هذه التضحية؛ وفي الواقع فإنه لأمر طارئ فعلاً أن أقبل المال مقابل هذا النوع من السخافات.


وفي الكثير من الأمثلة تجد نوعاً من الاتفاق الشَّرَفي أن يكون كلاهما سرياً جداً، ويتفق كلا المريض والمحلل ألا يحرم كل منهما الآخر من نومه. ويريد المريض أن يستوفي الكلام وأن يحلَّل وأن يتحسّن، ويجد نفسه أو نفسها، ويجب أن يكسب المحلل رزقه مهما كان الأمر، وهو لا يريد أن يكون شديد التشوّش كذلك، فكل شيء يجب أن يسير بسلاسة، وهكذا يجدان وضعاً أو مستوى يتكلم فيه المرء عما يسمى المشكلات المهمة، ومع ذلك لا أحد مشَّوش حقاً. وأنا لا أقول الآن إن تلك هي الحالة في كل أنواع التحليل. وسواء أكان التحليل فرويدياً أم غير فرويدي – وذلك لا يشكل أدنى اختلاف، فهو مجرد اختلاف في الاصطلاح اللغوي إن أنت تحدثت مئات المرات عن تعلّقك الشديد بأبيك وأنك مهتم بهذا الصبي لأنه صورة الأب، أو تحدثت عن عدم حصولك على المحبة الكافية من أمك وأن ذلك هو السبب لوقوعك في هوى هذه الفتاة التي تمنحك الكثير من الحب، وكل هذا الهراء. فيظل ذلك لا معنى لـه وإنه لسبب من أهم الأسباب للمقاومة.




التحويل والتحويل المضاد والعلاقة الحقيقية


إن المشكلة المهمة الأخرى ذات الصلة الوثيقة بالعملية العلاجية هي التحويل. ويكاد التحويل يكون المشكلة الأهم في الحياة الإنسانية،  (Cf. also E. Fromm, 1990a, pp. 45 –52). وإذا سأل المرء لماذا كان الناس يضحّون بأطفالهم لـ "مولوخ" ، ولماذا عبدوا أوثاناً مثل موسوليني وهتلر، ولماذا قدّم الناس حياتهم من أجل وثن أيديولوجي، فإن كل ذلك هو ظاهرة التحويل نفسها. والمفهوم الفرويدي للتحويل هو في كليته مفهوم شديد الضيق جداً. وما كان فرويد يعنيه بذلك، وما لا يزال يعنيه جُلّ المحللين، هو ما تقوله الكلمة: إنك تحوّل العاطفة التي كانت تشير ذات حين إلى الناس المهمين في طفولتك –أبيك وأمك –إلى المحلل. وذلك صحيح جداً إلى حد كبير.


وقد مثّل هاري ستاك سوليفان على التحويل بامرأة حلّلها أسبوعاً؛ فبعد أسبوع أبدت هذه المرأة ملاحظة وهي تقول وداعاً: "ولكنك يا دكتور، ليست لك لحية." وكان لسوليفان شارب صغير ولكنه فيما عدا ذلك كان حليقاً.
وقد اعتقدت مدة أسبوع أنه كان ذا لحية، لأنه كان بالنسبة إليها الأب بالفعل إلى حد كبير وكأن الصورة الكلية لأبيها الذي كان ملتحياً قد تحوّلت إليه بصورة مطابقة للواقع. لقد رأت فيه الأب حتى في الظاهر، بصرياً، لأن مشاعرها كانت مفعمة بأنه أبوها، فقد كانا من طبيعة واحدة. إن هذا مفهوم ضيق للتحويل: أحاسيس الطفل المتحولة إلى شخص مهم، شخص آخر. ولكن لعل ذلك ليس ماهية التحويل. فالأهم بكثير هو التحويل بالمعنى الواسع جداً.


يعبّر التحويل عن حاجة شخص إلى وجود من يتولى المسؤولية، والذي يكون أماً، تمنح المحبة غير المشروطة، والذي يكون أباً، يمدح ويعاقب، ويعظ ويعلّم. وحتى إذا لم يمتلك الناس أباً وأماً، ولو لم يكونوا أطفالاً، فإنهم يحتاجون إلى ذلك ما داموا أنفسهم لم يصبحوا بشراً تماماً، ولم يصبحوا أنفسهم مستقلين تماماً. وإذا أردت أن تفهم الحاجة إلى أمثال هؤلاء الناس الذين يعدّهم المرء هداة وحماة وأرباباً وربّات، فليس كافياً أن تفكر في الطفولة. بل عليك أن تدرس الوضع الإنساني الكلي الذي يكون فيه المرء مفتقراً إلى العون كثيراً، وكثيرَ التشوّش وإلى حد بعيد من التضليل الذي يصله عن الحياة من خلال ثقافته، وشديد الارتياع، ومنعدم الثقة إلى حد أن التوق الإنساني العام هو الحصول على شخص تستطيع أن تختاره وثناً لك، وبوسعك أن تقول: "هذا هو إلهي." هذا هو الشخص الذي يحبني، ويرشدني، ويكافئني، لأنني لا أستطيع أن أقف بنفسي.


إن التحويل هو نتيجة إخفاق المرء في حريته ولذلك فإنه نتيجة حاجة المرء إلى العثور على وثن لعبادته، وإلى الإيمان به للتغلّب على خوفه وانعدام ثقته بالعالم. والإنسان البالغ هو إلى حد ما ليس أقل عجزاً من الطفل وهو يمكن أن يكون أقل عجزاً إذا تربّى أن يكون مستقلاً تماماً، إنساناً كامل النمو، ولكنه إذا لم يحدث ذلك، كان بالفعل عاجزاً مثل الطفل، لأنه يرى نفسه محاطاً بعالم ليس لـه تأثير فيه، ولا يفهمه، ويتركه في شك وخوف ولذلك فإنه وهو طفل يَنشد البالغ – الأب أو الأم – ولنقل لأسباب بيولوجية، ويَنشد الشخصُ البالغُ من ينشده الطفل ولكن لأسباب اجتماعية وتاريخية.


والتحويل ظاهرة تجدها في ارتباط الشخص – ولنقل العُصابي أو غير الواقعي بالمحلل النفسي كثيراً، وكذلك بالعديد من الناس الآخرين: بالمعلم والزوجة والصديق والشخصية العامة. وأود أن أعرّف التحويل في التحليل النفسي بأنه الارتباط غير العقلي بشخص آخر والذي يمكن أن يحلَّل بالطريقة التحليلية، أما التحويل في الأوضاع الأخرى فهو تحويل يكون نفسه تماماً، ولكنه ليس متاحاً للتحليل، ليس على منضدة العملية.


وإذا كان أحد الناس معجباً بالقوة، وأراد أن يحميه شخص قوي، فإنك ستجد العبادة نفسها أو المغالاة في التقدير ذاتها منصبّتين على محلله كما هي الحال مع أستاذه، أو مع الشخصية الحكومية، أو مع وزيره أو كاهنه أو غيرهم. إنها الآلية نفسها على الدوام. وليس إلا في تحليل هذا النوع الخاص من الارتباط غير العقلي، الذي ينسجم مع الحاجة إلى ذلك الشخص، يُؤتى بالتحويل إلى التحليل.

وليس التحويل تكراراً بسيطاً؛ إلا أن ما نعالجه هو حاجة شخص إلى العثور على شخص آخر لقضاء هذه الحاجة. فمثلاً، إذا كنتُ ضعيفاً، منعدم الثقة، خائفاً من المجازفات وخائفاً من القرارات – فقد أريد أن أجد شخصاً واثقاً بنفسه، صاحبَ مبادرة، قوياً، أستطيع أن ألوذ به. ومن الطبيعي أن أنشد ذلك طيلة عمري. إنه سيكون نوعاً من الرئيس أفتّش عنه، أو أستاذاً إذا كنت طالباً – وهذا ما سوف أراه في المحلل. ومن جهة أخرى، فأنا شخص نرجسي جداً يعتقد أي شخص غيره غبياً، فرئيسي غبي، وكل شخص غيره غبي. إن كل هذه الأحوال هي ظاهرة التحويل نفسها، باستثناء أننا في التحليل ندعوها تحويلاً عندما نستطيع أن نحللها.


إن المحلِّل والمحلَّل يلتقيان حقاً على مستويين منفصلين، أحدهما مستوى التحويل، والآخر هو مستوى التحويل المضاد. وفيما يتعلق بالتحويل المضاد فإنه ينطبق على الحالة: التي يكون فيها لدى المحلل كل أنواع المواقف غير العقلية من المريض. فهو يخاف من المريض، ويريد أن يمدحه المريض، ويريد أن يحبه المريض. إن ذلك سيئ جداً، ولا ينبغي أن تكون الحالة على هذه الصورة، بل ينبغي للمحلل أن يكون بتحليله قد حقق موقفاً لا يحتاج فيه إلى كل ذلك الحب، ولكن في الحقيقة ليست هذه هي الحال دائماً.


وأعتقد أن من الخطأ أن نعتقد أن كل ما يجري بين المحلل والمريض هو التحويل. وليس هذا إلا جانباً من العلاقة؛ ولكن الوجه الأهم هو: هناك واقع إنسانين يتكلمان معاً، وهو في زمن الهاتف والمذياع لا يُعدّ واقعاً شديد الخطورة، ولكنه بالنسبة إليّ واقع على أشد ما يكون خطورة. أحد الشخصين يتحدث إلى الآخر. وهما لا يتكلمان عن الأمور التافهة؛ إنهما يتكلمان عن أمر بالغ الأهمية ألا وهو حياة هذا الشخص.


وبغض النظر تماماً عن التحويل والتحويل المضاد، فإن العلاقة العلاجية تتميز بوجود شخصين حقيقيين منهمكين، والمريض الذي لا يكون ذُهانياً يفهم من هو الشخص الآخر والمحلل يفهم من هو المريض، وليس ذلك تحويلاً. وأعتقد أن أحد الأمور المهمة جداً في تقنية التحليل النفسي هو أن على المحلل أن يخربش، إذا جاز التعبير، في دربين: عليه أن يقدّم نفسه بوصفه موضوعاً للتحويل ومحلِّلاً، ولكن عليه أن يقدم نفسه كذلك بوصفه شخصاً حقيقياً ويستجيب بوصفه شخصاً حقيقياً.




ملاحظات حول العمل مع الأحلام


يكاد تفسير الحلم يكون أهم أداة لدينا في العلاج التحليلي النفسي. وليس ثمت شيء يقوله المريض من تداعيات وزلقات لسان وغير ذلك لـه ما للأحلام من أهمية في الكشف، وأعتقد كما قال فرويد أن الحلم وتفسير الحلم هما في الحقيقة "السبيل الممهَّد" إلى فهم اللاشعور. وفي مسألة الاختلاف بين فرويد ويونغ، فأنا بالفعل لا أؤيد هذا الرأي ولا الرأي الآخر.


لم يُبدِ فرويد أن الحلم لا يشير إلا إلى الماضي، أي الرغبات النادرة، الرغبات الغريزية، التي تخطر في الحلم ولها جذورها في الماضي وحسب، بل زعم كذلك أن الحلم هو في الحقيقة نصّ محرَّف بالضرورة وأن المعنى الحقيقي للحلم، أي ما دعاه فرويد الحلم الكامن، يجب انتشاله من نص الحلم الظاهر. أما يونغ فقد قال إن الحلم رسالة مفتوحة وليس محرَّفاً. والآن، فأنا لا أعتقد أن ذلك صحيح وأعتقد أن يونغ قد ساء تفسيره للكثير من الأحلام لأنها لم تكن مفتوحة.


وكنت في كتابي اللغة المنسية (1951a) قد وضعتُ أولاً تمييزاً بين نوعين من الرموز، أي بين الرمز العَرَضي والرمز الشامل. فإذا كان حلمي، مثلاً، عن مدينة، أو دار، أو زمن معين، فأنا أتعامل مع رمز عَرَضي، ولا يمكنني أن أعرف ما يقصده الحالم إلا بتداعيات المريض؛ وإلا فلن أعرف ذلك. خذ على سبيل المثال الحلم التالي.


الحلم: يحلم شخص أولاً أنه في بناية كبيرة مغلقة، ثم مع فتاة، ولكنه خائف من أن يتعرّف به الناس، ثم يجد نفسه مع الفتاة على شطّ البحر، سائراً على البحر ولكن الوقت ليل، وفي الجزء الثالث من الحلم يكون مع نفسه كلياً، وعلى يمينه أنقاض وعلى يساره أَجرُف البحر.


ففي هذا الحلم لا تحتاج إلى التداعيات بالضرورة لأن هذا العالم يتعاطى مع الرموز الشاملة. وما نجده في هذا الحلم هو نكوص إلى العمق. ومستواه من الناحية الشعورية هو المستوى الذي يكون فيه مع الفتاة – والمريض متزوج؛ ولكنه في بناية كبيرة، وهي رمز الأم، بيد أنه يظل مع الفتاة، إلا أنه مذعور. ثم لا يزال مع الفتاة، ولكن الوقت ليل، وفي آخر الأمر يكون وحيداً كلياً وليس إلا مع الأم المقطَّعة، أي مع الأجرف المعزولة والأنقاض. وهنا ترى في هذا الحلم أن المشكلة المحورية لهذا المريض قد صيغت، ولا ضرورة لفهم التداعيات أو حتى الاستماع إليها. (إنني أسأل كل مريض عن التداعيات لأنه في هذه الحال تساعدنا التداعيات – وأجد أن الكثير من الأحلام يُكتب فيها
شيء ما.)


وبأخذنا في الاعتبار أن الحلم ليس مجرد رسالة مفتوحة بل هناك أحلام كثيرة يُكتب فيها شيء لـه أهمية، فإن يونغ قد قدّم مثالاً جيداً. ففي أحد أحلامه المذكورة في سيرته الذاتية المنشورة بعد وفاته  (C. G. Jung, 1963)، يحلم يونغ:
... أنه شعر أن عليه أن يقتل زيغفريد. ولهذا يخرج ويقتله. ويحسّ بالذنب الشديد ويكون خائفاً من أن يُكتشف. ومما أرضاه كثيراً أن يهطل مطر غزير ويمحو كل آثار الجناية. ويصحو على شعور: "عليّ أن أكتشف ما يعني هذا الحلم وإلاّ عليّ أن أقتل نفسي." ويفكر فيه ويكتشف أنه في قتل زيغفريد يقتل البطل في نفسه وأن الحلم رمز لتواضعه.


إن هذا الحلم محرَّف فعلاً، لأن الاسم زيغموند  Sigmund (فرويد) قد تحوّل إلى زيغفريد  Siegfried. وكان ذلك كل التحريف الموجود فيه. وكان ذلك كافياً ليونغ، لئلا يرى في هذا الحلم أنه كان يفعل بالضبط ما كان فرويد يقول لـه حول ما يريد فعله، أي قتله. ولم يتوصل حتى إلى إدراك شيء شديد البساطة، وهو شعوره أنه إذا لم يفهم الحلم على الوجه الصحيح فإن عليه أن يقتل نفسه. ولا شك أن ما يعنيه حقاً هو أنه إذا لم يفهم الحلم فهماً صحيحاً، أي رغبته في قتل فرويد، فإن عليه أن يقتل نفسه. ولذلك وجد فهماً هو على النقيض مما يعني الحلم حقاً.


وفي وجوه كثيرة فإن الرموز التي أسميها الشاملة هي النماذج البدئية عند يونغ، ولا يمكن إلا بشيء من الصعوبة التحدث عن يونغ نظرياً لأنه عبّر عن نفسه ببراعة فائقة، ولكن في مرات كثيرة بطريقة غير واضحة تماماً. وكذلك من الصعب التيقّن ماذا كان يقصد تماماً بمفهوماته. ولكن مع ذلك فإن مفهوم النموذج البدئي مفهوم كثير الجدوى. وعلى الأقل ما يشير إليه. كذلك على المرء أن يؤكد من وجهة نظر المذهب الإنساني أن الإنسان ما دام في شرط وجوده الأساسي جداً، أي في انقسامه بين إدراكه وتحدُّده بأنه حيوان ويمتلك مع ذلك الإدراك الذاتي، فإنه ليست لديه إلا حلول قليلة، إجابات قليلة عن السؤال الذي تطرحه عليه الحياة. وقد تكون هذه الإجابات هي النكوص إلى رحم الأم، وقد يكون الجواب هو العثور على الأمن وطاعة الأب؛ وقد يكون الجواب الذي كان إجابة الأديان الكبيرة والفلسفات الإنسانية، أي العثور على الانسجام الجديد مع العالم بتنمية كل قدراته الإنسانية، ولا سيما قدرتي العقل والحب. وبكلمات أخرى، إن عدد الإجابات التي يمكن أن يقدّمها الإنسان عن سؤال الحياة محدود. وعليه أن يختار من بينها، وعدد الرموز التي تمثّل هذه الإجابات محدود أيضاً. وهي رموز شاملة، لأنه لا يوجد إلا إنسان واحد.


وتوجد خيارات قليلة يمكن أن يختارها الإنسان. ومفهوم رمز البطل، مثلاً، يرمز إلى الإنسان الذي يجرؤ على التعرّض لخطر التفرد. أو كما يقول "العهد القديم" إن أبراهام بطل، لأن أبراهام يقول لـه الرب: "دع بلدك، دع بيت أبيك، واذهب، إلى بلد سأريك إياه." [سفر التكوين: 12 ،1] ودائماً يكون رمز البطل الشخص الذي يجرؤ على أن يعرّض كل وجوده للخطر بالاستقلال والذي بهذا المعنى هو جريء، يترك اليقين ويعرّض نفسه لخطر عدم اليقين. إن ذلك في الحقيقة جزء من قدر الإنسان، وهو إحدى إمكانيات الإنسان. والإمكانية الأخرى هي بالضبط عدم الجرأة على مجازفة التفرد وملازمة الأم، أو الوطن، أو الدم، أو التراب وعدم الوصول إلى التفرد وعدم صيرورة الشخص مستقلاً.


وتعتمد مسألة متى وكيف تقول معنى الحلم للمريض على الوضع. وإذا قال لي المريض حلماً في نصف الساعة فمن المتحمل ألا أقول الكثير لأنني سأفترض أنه إذا أعطيته تفسيراً فقد لا يفهمه. ولكن يوجد بعض الناس (ولو لم يكونوا قريبين من الذُهان) يكونون حسّاسين جداً ويحبون الشعر، ومن شأنهم أن يفهموا هذا التفسير لأنهم لا يرتبطون بالشعر ارتباطهم بالأشياء الملموسة. ولكنني قد أقول حتى في نصف الساعة للمريض الذي حلم بالدور الكبيرة والخرائب: "يبدو أنك خائف من الانقطاع عن الحياة وملتصق بالشيء الميت المتهدم الذي لا حياة فيه،" لأن ذلك هو بالضبط ما يكونه.


وتعتمد مسألة كيف استخدمُ الحلم على ما أعتقد أن بوسع المريض أن يفهمه في الوقت الحاضر. ولا أكون محترساً للغاية إلا مع المريض الذي يمكن ألا يفهمه. وسيقول الكثير من الطلبة في حلقات البحث، عندما يقدّمون حالة وأنا أفترض أنهم يقولون شيئاً ما للمريض: "حسناً، ولكنني خائف ألا يستطيع المريض فهمه." ويكون ردي الأول عادةً: "الشخص الوحيد الذي لا يستطيع فهمه هو أنت، لأنك خائف من مدّ عنقك للمريض تخبره بشيء ما، قد يستجيب لـه المريض بغضب، باضطراب، وأنت لست على يقين أنك على صواب
– وهي ليست مسألة صواب بالضرورة – ولكنك لست متيقّناً من تفسيرك على نحو يبعث على الرضى." ولكي يفهم المرء معنى حلم من الأحلام حقاً، يحتاج إلى قدر كبير من الخبرة والحساسية وما يمكن أن يدعوه المرء "التقمص العاطفي".


***






الفصل التاسع

كريستيانه: تاريخ حالة مع ملاحظات
حول المنهج العلاجي
وفهم الأحلام




الجلسات الثلاث الأولى والحلم الأول


المقرر: هذه امرأة أخذت أراها قبل سنة ونصف السنة. وما أحاول أن أفعله هو أخذ الملاحظات عن الجلسات الثلاث أو الأربع الأولى. وأنا في العادة لا أقيّد ملاحظات كثيرة بعد ذلك بسبب الأحلام؛ وأحافظ على سجل الأحلام. وأستطيع أن أخبرك عن الجلسات القليلة الأولى وعن شيء من الخلفية العائلية ثم بعض الأحلام.


كريستيانه امرأة في الرابعة والخمسين من العمر، وهي شديدة الجاذبية، حسنة الملبس، محنكة بأمور الدنيا، وهي من نوع الأشخاص ذوي النظرة الشكلية. وجاء في كلامها أنها كانت شديدة الاكتئاب في الأسبوع الماضي حيث حلّت الذكرى السنوية الخامسة لزفافها. فقد تزوّجت وهي في الثالثة والعشرين. وفي ذلك الأسبوع نفسه سمعتْ كذلك كلاماً من خَدِين سابق أدعوه "أوفه". وكان قد دعاها فتكلما في شيء من الإسهاب. واعترف كل منهما للآخر بأنهما لا يزالان يحب بعضهما بعضاً. وتكلما توّاً في السياق أن أبويها لم يوافقا على أوفه، الذي كانت لـه ميول فنية، وعلى الأغلب الشعر. ولشدّ ما كان أبوها معجباً بزوجها الذي كان متخرجاً في جامعة شهيرة.


وقالت إنها تعيسة جداً في زواجها، وإن هذا التَّعْس في اتّخذ دوراً جديداً في الأسبوع الفائت. وتذكر ذلك لطبيبها النسوي الذي رأته في ذلك الأسبوع بمناسبة الفحص الطبي العام المنتظم. وأخبرته كذلك في أثناء ذلك أنها لم تكن تحصل على ذروة لذة الجماع. وتكلم معها فترة وأعطاها اسمي. ولذلك دعتني؛ ولم تكن قد فكرت في التحليل النفسي من قبل ولكنها اعتقدت أن الفكرة يمكن أن تكون جيدة.


ومع أنها تعيش ما تسميه "حياة جيدة" –أي أنها تملك شقة ظريفة جداً، ولديهما مال كثير، ولديها أصدقاء، ولا يوجد خلل يمكن أن تشير إليه – تجد نفسها شقية جداً ولا ترى في زواجها مستقبلاً. وزوجها، وهو في الثلاثين من العمر، لا يعرف أنها شقية. ويظن أن لديهما علاقة رائعة. وهو يعوّل عليها في تدبير تفصيلات المعيشة. فإذا تعطّل أي شيء في الشقة فهي التي تستدعي المشرف، وهلم جرا، برغم أن كليهما يعمل وهي لا تعود إلى البيت في أثناء النهار. ولكن همه الأكبر يتركّز على مجرى عمله. وهو مدير. وهي تصفه بأنه متوتّر الأعصاب وذو توجّه مؤسسي وأنه على ذلك النحو في عمله وفي البيت.


وتقول بحزن إنهما لا يقومان بالعمل الجنسي إلا نادراً، وربما مرتين أو ثلاث مرات في الشهر، ولكن ذلك مضجر، ولديه مشكلة في الانتصاب، ولذلك عندما يقومان بالجماع يصل عادةً إلى الرعشة في دقيقة واحدة. وتتساءل، أعليها أن تحصل على الطلاق ولكن الفكرة نفسها تُرعبها، لأنها تعلم أنها سوف تزعج أبويها كثيراً.


وكريستيانه تقوم بعمل وظيفي في شركة كبيرة وتتقاضى خمسة عشر ألفاً من الدولارات سنوياً. وتبيّن بعدئذ أنها تملك دخلاً من مال مستأمن بالمبلغ ذاته. لقد درست الأدب أولاً وتخرجت، ثم بدّلت جامعتها وحصلت على درجة الماجستير في الاقتصاد. والآن فإن هنا تفصيلة صغيرة. لقد تحوّلت إلى الجامعة التي لها فيها بعض الأصدقاء في تلك المنطقة، وفي البداية تقدّمت بطلب إلى مدرسة المتخرجين في دراسة الأدب، ولكنها ملأت الطلب إلى قسم الاقتصاد وقُبلت فيه. وبالحديث عن دراستها فهي هادئة، مشغولة البال، ومثل بنت صغيرة إلى حد ما. وتتكلم كفتاة في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة. ومن الواضح أنها غير مرتاحة فلا تعرف ماذا تقول، كما أن كل شيء يجعلها غير سعيدة. وعندما استوضحتُ منها قالت إن وجودها مع ابنتها يجعلها سعيدة. إن لها ابنة عمرها سنة واحدة تتولى مربية أطفال رعايتها في النهار. وتقول إنها ما عدا ذلك، وبرغم أن لديها الكثير من الأصدقاء، لا تقوم بأي شيء، مثير ولم تشعر بأي شعور بالفرح في كل حياتها. وتقول "أشعر أنني منحبسة كأنني أرتدي ثوباً انفعالياً من الأثواب التي تُعتقل بها أذرع المعتقلين أو المجانين. وقد كنت على الدوام شخصاً تقليدياً جداً."


فروم: بودي أن أسألك سؤالاً: لقد ذكرتَ أن السبب الذي يجعلها لا تفكر في الطلاق أن ذلك سوف يزعج أسرتها. ألم تذكر مشكلة الطفلة؟ ففي حالة الطلاق من المحتمل أن تحتفظ بالطفلة بسبب عمرها، أليس ذلك صحيحاً؟


المقرر: ذلك صحيح. إنها لا تعتقد أن ذلك سيكون مشكلة أبداً، لأن لديها المال الكافي ما بين مهنتها والمال المستأمن.


قالت: "كنتُ تقليدية جداً إلى إن قابلت أوفه، وأنا في السابعة عشرة من عمري." وقالت في هذا السياق: "في إحدى المرات مكثت معه خارج المنزل طيلة الليل واستشاطت أسرتي غضباً. وكانت المرة الأولى التي تمردتُ فيها في وقت من الأوقات. ولكنني امتثلت دائماً منذ ذلك الحين." وأوفه متزوج ويعيش في دوسِلدورف ويتصل بي هاتفياً من دوسِلدورف. وظلا بين الحين والحين على اتصال بعضهما ببعض بطريقة ما. ومنذ أن كانت في الثامنة حتى العشرين تواصلت هي وأوفه جنسياً بعض المرات. وكان يسرّها أن تكون معه، ولكن لا يمكن أن ينجم عن تلك العلاقة شيء.
فروم: ألم تكن باردة في هذه العلاقة؟
المقرر: إنها لم تصل إلى رعشة الجماع، ولا حتى في ذلك الحين، حسناً، في الأيام القليلة الماضية، قبل مجيئها إلى الجلسة الأولى كانت بالفعل تكلم أوفه كل يوم بالهاتف، ساعة، ساعة ونصف الساعة، عن شيء من هذا القبيل. وقالت إذا عاش على مقربة مني فأنا على يقين أنه ستكون لنا علاقة غرامية. ثم في الليلة الفائتة وهي في يأسها أنبأت زوجها أن أوفه قد خابرها هاتفياً من مسافة بعيدة، من دوسِلدورف، وذلك كل ما قالته. فرفع كتفيه قليلاً في عدم مبالاة ولم يعلّق على ذلك.


وقالت كريستيانه إن في هذا الزواج شيئاً من الخطأ، ولكنها قالت إنه كان من المفترض أن تكون زوجة كاملة. "أعتقد أبي أنه كان زواجاً موفقاً، وكذلك اعتقدت أمي، وهما يرشداني دائماً إلى القرارات المهمة". وقد ذكرت أن أباها رئيس شركة ضخمة ويترأس منظمة كبيرة. وأبدت في الجلسة الأولى ملاحظة حول هذه المسألة وقالت: "أنت تعلم أنني حلمت هذا الصباح حلماً قبل مجيئي، قُبيل الجلسة.":
الحلم: أنا في عرس وعليّ أن أكون الوصيفة ولكنني ألبس ثوباً مفصّلاً بدلاً من عباءة مناسبة كما ترتدي الأخريات. ولذلك لا أستطيع تأدية عملي.


وقالت كريستيانه إنه ليست لديها فكرة عما عناه الحلم باستثناء أنها لا تحب أن تحسّ أنها خارج المكان.


فروم: سمعنا عن هذه المرأة، وعن الجلسات الثلاث الأولى. فهناك امرأة في الثامنة والعشرين من عمرها، شقية – ومكتئبة مصطلح بدني، وشقية مصطلح إنساني. والمرء ليس على يقين تام من أمر ما يحدث. وفي الحقيقة فإن أية امرأة سيُشقيها أن تكون متزوجة برجل لا تحبه، ولا يحبها، وأن تكون أسيرة أبويها حتى سن الثامنة والعشرين. وإذا لم يحدث ما أرادته بل ما أراده أبواها دائماً؛ فكيف لن تكون شقية؟ ولكنها لا تعرف لماذا هي شقية. وتعتقد أن لديها زواجاً شقياً.


وأود الآن أن أعبّر عن هذه الطريقة في الكلام –التي يتكلم بها جلّ الناس اليوم. إن لديهم زواجاً شقياً؛ ومن شأن بعض الناس أن يظلوا يقولون إن لديهم زواجاً سعيداً. وإذا قال أي شخص "لديّ زواج سعيد" فإنك ترى أن زواجه من المحتمل ألا يكون سعيداً. لأن الإنسان لا يستطيع أن يملك زواجاً شقياً، ولا يستطيع المرء أن يملك زواجاً سعيداً. فالمرء يمكن أن يكون سعيداً مع زوجته والمرأة مع زوجها، أو يمكن أن يكون شقياً. ولكن الزواج يصبح قطعة من الملكية، مؤسسة. أملك ذلك. ويقول معظم الناس اليوم: "لديّ مشكلة"، ولكنهم لا يمتلكون مشكلة؛ وربما تتملك المشكلة المرء.


فماذا يعني أن يقول المرء: "أملك مشكلة؟" أو "لديّ مشكلة؟" إنه مجرد تعبير غطائي يعبّر به المرء عن حالة ذهنية بلغة العلاقة التملكية. وعلى النحو نفسه أقول، "لديّ زوجة"، "لديّ أطفال"، "لدّي سيارة"، "لدّي زواج جيد"، "لديّ أَرَق" بدلاً من قولي "لا أستطيع أن أنام." فكل شيء اسم يرتبط بصيغة التملك بدلاً من أن يدل على ما يعنيه حقاً، وهو الفعل، أي "لا أستطيع أن أنام"، أو "لست سعيداً"، أو "أحب" أو "لا أحب". وهذا الأمر الخاص الذي لاحظته في التكلم على أساس الأسماء بدلاً من الأفعال قد سبق ذكره في القرن الثامن عشر. وقد لفت الدكتور تشومسكي انتباهي إلى ذلك بوساطة الكاتب دو مارسيه، Du Marsais الذي كتب بدقة عن مسألة كيف يخطئ الناس في التعبير عن مشاعر الوجود أو أحواله بلغة امتلاك شيء ما.


ولا ريب أنك إذا قلت "أمتلك زواجاً شقياً"، أو "أمتلك زواجاً سعيداً" – فإن ما تفعله حقاً هو حماية نفسك من أن تعيش تجربة أمر ما. وهذا لأن ذلك يصبح عندئذ من الكثير من الأملاك التي لديك. وبعدئذ تحدث ماركس عن ذلك عندما يتكلم الناس عن الحب بوصفه اسماً  LOVE بدلاً من الحب بوصفه مصدراً للفعل  Loving. فيصبح الحب اسماً: "لديّ حب"، "أعطيك حباً"، "لا يحصل الطفل على الحب الكافي" –أو كما يقال عادةً –"الحب الكثير". إن ذلك يذكّرني بنصف رطل من الجبن. ما "الحب الكثير"؟ فإما أن أحبّ وإما ألا أحب. قد يكون حبي أشدّ، وقد أحب بشدة أكثر، أو بشدة أقل، ولكن المفهوم الكلي لـ "الحب الكثير" أو أن الطفل لم يحصل على الحب "الكافي" هو كقولنا تماماً إن الطفل لم يحصل على الحليب الكافي، أو لم يحصل على الطعام الكافي. وكل هذه الطريقة في استخدام الأسماء المرتبطة بالتملك هي طريقة في حماية المرء نفسه من أن يعيش تجربة.


ولا أذكر ذلك هنا إلا بوصفه حاشية للتقرير عن كريستيانه أن لديها  has زواجاً شقياً، أو لديها  has مشكلة في زواجها. ما الزواج؟ إنسانان يعيشان معاً، وهما متزوجان قانونياً – وذلك هو الاحتفال، ولكن الزواج يصبح هنا شيئاً، ولذلك هو سعيد أو شقي، أو جيد و رديء، والتجربة، التي هي شخصية، تختفي.


وأعتقد شخصياً أنه من بالغ الأهمية في التحليل أن ننبّه على اللغة للشخص الذي يكون محلَّلاً، وأن نبيّن لـه ما هي وظيفة هذه اللغة. ولا يصدق هذا على ما يتعلق بارتباط الأسماء بالتملّك وحسب بل على الكثير، الكثير من النواحي الأخرى، وأنا لا أقصد الآن تحليل اللغة بمعنى المدارس الفلسفية البريطانية، بل مجرد إظهار ما تقولونه حقاً، ولماذا تعبّرون عن الأشياء بهذه الطريقة. إن ذلك في الكثير من الأحيان دلالة مهمة على ما يجري في ذهن الشخص الآخر أهمية الحلم. وهو كذلك تبصِرة، لأن المرء يمكن أن يثبت بسهولة أن هذا شيء من الباعث اللاشعوري الذي يظهر في الطريقة التي يعبّر فيها الشخص عن أمر ما.


وعلى سبيل المثال: كثيراً ما تجد أحدهم يقول "يبدو أنني لا أستطيع القيام بذلك." فماذا يعني القول "يبدو أنني لا أستطيع القيام بذلك." لمن يبدو ذلك؟ ولماذا يبدو ذلك؟ إن ما يعنيه في الحقيقة القول "يبدو أنني لا أستطيع القيام بذلك" أن الشخص يُبعد مسؤوليته. وإذا قال "أعتقد أنني لا أستطيع القيام بذلك" أو "أشعر أنني لا أستطيع القيام بذلك" فإنه يقول شيئاً أقرب إلى الواقع. ولكن الشخص، سواء أكان رجلاً أم امرأة، لا يريد قول هذا، لأن ذلك يكشفه الآن كثيراً. وهو، أو هي، يعبّر عن ذلك على هذا المستوى البعيد جداً عن الأمر الشخصي "يبدو". وقد يعبّر الشخص بقوله كذلك "يعلم الله أنني لا أستطيع القيام بذلك" أو "إن ذلك في أوراق اللعب" (أي من المحتمل هذا الأمر أو ذاك) أو "في النجوم" أو "إنه في مكان ما مكتوب في الكتاب، أو في قوانين التاريخ أنني لا أستطيع القيام بذلك." وصيغة "يبدو" قد لا تمثّل شيئاً لا شعورياً عميقاً. وكل الناس اليوم يستخدمون المجاز نفسه لأننا في ثقافتنا الكلية اليوم قد تعوّدنا أن نزيح الأشياء عن تجربة الوجود.


وكريستيانه غير مدركة لذلك. وهي غير مدركة إلا أن لديها زواجاً شقياً وهي غير مدركة أنها شقية بالضرورة. فمثلاً، يمكن أن يكون أمراً جيداً إخبارها بعد ساعة أو ساعتين: "حسناً، أنا لست مندهشاً أنك غير سعيدة، فمن شأن أي شخص أن يكون كذلك." وأذكر أنه قد جاءني ذات مرة كاتب من هوليوود. وكان كاتباً موهوباً حقاً وشكا إليّ أن إحساسه بالإبداع يتضاءل. وكان يشعر أنه لن يستطيع أن يبدع بعد الآن. وروى لي قصته في هوليوود وقلت له: "طيب، بهذه الحياة التي تحياها لن يكون لأي شخص إحساس بالإبداع. فإذا أردت أن تصبح إبداعياً، فعليك أن تكون إنساناً صادقاً. وإذا واصلت العيش في ذلك الجو فلن يكون في مقدورك أن تعمل شيئاً كنت بموهبتك تستطيع عمله قبل سنوات، عندما لم تكن ذلك المتسمّم بعد."


وإنه لمن المهم أن يرى المرء بنفسه وأن يُري الآخرين أنه عندما يكون أحدهم شقياً، لديه هذه المشكلة أو تلك، فإن ذلك ليس أمراً مُلْغَزاً، وليس مرضاً غريباً إلى هذا الحد، ولكنه في أكثر الأحيان النتائج المنطقية الكلية لوضع داخلي متّحد مع وضع خارجي مما من شأنه أن يخلق أعراضاً بدنية معينة. وليس في ذلك لغز. ولا ريب أنه من المهم كذلك إزالة كل غوامض هذه العمليات على قدر ما يستطيع المرء. وذلك يعني أيضاً إقصاء الاعتقاد بأن هذه أشياء غريبة يحتاج المرء من أجلها وبالضرورة إلى مختص.


لقد عاش الناس مئات السنين وتغلبوا على مشكلاتهم بصورة حسنة مثلنا أو أفضل، قبل زمان طويل من أن يُكتشف التحليل النفسي بوصفه علماً. وإنه لصحيح صحة كافية أن التحليل النفسي، إذا طُبّق كما ينبغي، يمكن أن يقوم بقسط وافر من مساعدة الناس على تسهيل العملية التي يمكن من دونه ألاّ تكون سهلة وتقوية تلك العملية. وقد كان الناس، ولا سيما في القرون السابقة عندما لم يكونوا ضائعين جداً وخالين من أية تعليمات عن سلوك الحياة، أشدّ إحساساً بالقيم، أو الأهداف، أو الغايات، ولذلك كانت تُعطى لهم بعض المعالجات، وبعض الأفكار، وبعض التوجيهات في ثقافتهم. ونحن اليوم ليس لدينا ذلك النوع ولهذا يبدو كأن المرء بنفسه لا يمكن أن ينفع.


وقد تحدثتُ عن مسألة كيف كانت كريستانه توقف نفسها بتسوية صغيرة. وكان أوضح شيء حول ذلك هو الطلب الذي تقدّمت به إلى مدرسة المتخرجين في الأدب، حيث تذهب بدلاً منها إلى مدرسة الاقتصاد لأنها كانت أفضل كما اعتقد أبواها. ثم رأينا علاقتها بأبيها، حيث يوجد فيها ارتباط عميق. ولا ريب أنه يمكن أن نسأل هنا لحظة: كيف من شأن فرويدي أن يرى كريستيانه؟


إن الجواب من وجهة نظر فرويدية سيكون بوضوح: إن هذا هو ارتباط الابنة المعهود بأبيها، وله أصل جنسي وما يسع المرء أن يفعله حيال ذلك هو أن يحلل التجارب الباكرة، والرغبات الجنسية الباكرة، والأُخيولات، وهلم جرا. ثم سوف تبرز الرغبات المكبوتة المتعلقة بسفاح الحُرُم فإذا برزت فإن هذا الارتباط سوف ينحلّ لأنه قد جيء به إلى الوعي. وستكون من تُدعى مريضة حرة في تحويل اللبيدو عندها إلى الرجال بدلاً من أبيها. وسوف ينحلّ التثبّت. حسناً. هذه رؤية.


ومن وجهة نظري، أود أن أقول إنه لطبيعي تماماً أن كل صبي صغير، بما أنه صبي، يكون لديه في سن باكرة إحساس ما بالرغبة الجنسية، وتعلّق بالنساء، والعكس بالعكس بالنسبة إلى البنت. والمرء لا يولد عديم الجنوسة، لا أنثى ولا ذكراً، وقد اكتشف فرويد أنه قد تبين أن هذا صحيح لا في السن نفسها وحسب، في سن البلوغ فقط، بل في فترة مبكرة نسبياً. ونحن نعلم كذلك أنه ليس الأب والأم وحدهما اللذان يكونان موضوع هذه المجاهدة المتعلّقة بسفاح الحُرُم، وإنما يذكر فرويد في الأحوال التي درسها – وخذ مثلاً حالة هانس الصغير والحالات الأخرى – أن الصبي الصغير مهتم بفتاة صغيرة من عمره اهتمامه بأمه. وأية أنثى ستكون كذلك وبالنسبة إلى الفتاة الصغيرة سيكون العكس بالعكس. ولا ريب أن الأب شخص مؤثر، ولكن ليس من ناحية العاطفة أو الرغبة الجنسية في المقام الأول.


وإلى جانب ذلك، على المرء أن يقول، بالحديث العام، إن الانجذاب والافتنان متقلّبان على نحو شنيع. وذلك يعني أننا نرى ذلك في حياة البالغين. فإذا كان شخصان منجذبين بعضهما إلى بعض على أسس جنسية خالصة، أي حيث يظل الجنس في حد ذاته هو الرابطة، وإذا افترضنا أنه لم يحدث شيء غير ذلك، حسناً، فإنه تتباين التقديرات حول مسألة كم يدوم ذلك، ولكنني أود أن أقول إن التقدير المعتدل هو زهاء ستة أشهر. وقد يكون أطول قليلاً أو أقصر بكثير. أما من وجهة نظر الروابط العميقة الدائمة بشخص آخر، فذلك أمر آخر. والجنس أقل الأمور دواماً، وأقل الأشياء ربطاً. وأود أن أضع استثناء لمجرد أن أعبّر عن نفسي على نحو أصح: باستثناء الانحرافات الغريبة جداً. ولنقل إذا وجد شخصان نفسيهما، في سادية متطرفة ومازوخية متطرفة، ووافق انحراف كل منهما انحراف الآخر بحيث من النادر أن يجد كل منهما شخصاً آخر لـه الأذواق الغريبة نفسها، فإن هذه الروابط الجنسية في حد ذاتها تدوم على الأغلب زمناً طويلاً. ولكن ذلك ليس القاعدة. ولذلك فإن الفكرة الكلية التي مؤدّاها أن هذا الانجذاب الجنسي الباكر إلى الأب أو الأم يجب أن يدوم حتى يبلغ المرء الخامسة عشرة هو من غير ريب ضد كل دليل على أثر الروابط الجنسية بمفردها.


وماله التأثير الهائل إنما هو الرابطة العاطفية. وهنا تمنح الأم الملاذ والحماية والإعجاب، وهي إذا أردتم، الأرض والطبيعة التي ينتمي إليها المرء، والتي لـه بيت فيها، والتي لا تترك المرء، وتحبه حباً غير مشروط. والأب بالنسبة إلى الفتاة الصغيرة هو الرجل الذي يبعث على الإعجاب وله وظائف غير وظائف الأم: فهو لطيف، ويعلّمها أمورها، وما إلى ذلك.


وبودي القول إنه ليس متوقعاً أن تسهم معرفتنا عن الانجذابات الجنسية الباكرة كثيراً في فهم  ذلك. ولا أقصد بذلك أن على المرء ألا يسبرها، لأن المرء يمكن أن يجد دائماً أن ثمت شيئاً خاصاً يكون مكبوتاً – ولنقل إن الأب ربما يكون قد حاول إغراء الفتاة الصغيرة، أو إن الأم قد أغرت، بطريقتها الصبي الصغير. وأعمال الإغراء هذه ليست نادرة جداً، وهي تختلف فعلياً تبعاً للطبقة الاجتماعية. وعدد الأحوال التي ينام فيها الفلاحون، مثلاً، مع بناتهم عندما يكنّ كبيرات بما فيه الكفاية، عدد كبير نسبياً. وفي الطبقات العليا لا يحدث ذلك عادة. إذ يجد الرجال، إذا شئتم، صورة الفتاة الصغيرة في النساء اللواتي يمكن شراؤهن لهذا الغَرَض ويجدون طرقاً كافية ومحكمة لإغراء الابنة لأبيها عاطفياً من دون أي عنصر جنسي صريح أو شديد الصراحة.


وأنا لا أقصد أن أقول إن على المرء أن يُسقط مسألة التعلق الجنسي الباكر، ولكن على المرء ألا يتوقعها: فثمت مشكلة كبيرة إذا اكتشفنا أية صدمة جنسية توجد، أو أية أمور خاصة من الطفولة فيما يتعلق بالجنس سوف تظهر؛ وعندئذ سوف نعرف السر حقاً. والسر بسيط جداً. وكريستيانه، كأي شخص سواها، تحتاج إلى العاطفة، وتحتاج إلى الحماية، وتحتاج إلى شخص يعلّمها، شخص يشرف عليها، ويوجّهها، ويثني عليها، ويكنّ إحساساً بالدفء نحوها. والأب هو الشخص الميال بطبيعته إلى ذلك، خصوصاً عندما تكون الأم باردة ونرجسية كأم كريستيانه. فليس ثمت أحد سواه في هذه الأسرة تستطيع به أن تنال الإحساس بالصلة الشخصية أو أي نوع من العناية الشخصية.


والأب أشد انشغالاً ذهنياً من أن يمنح الكثير، ولكن من الواضح أنه يمنح بعض الرعاية، وهكذا فإن كريستيانه، التي تنشأ في الخوف من أمها وفي الخوف من أن يكفّ أبوها عن محبتها إذا لم تفعل الأمر المناسب، إن هذه الفتاة تعيش في جو الابتزاز الدائم. والشيء الوحيد الذي لديها، وهو محبة هذا الأب، سوف يزول إذا لم تتصرف كما يجب. ولكنها كانت حتى الآن شديدة الابتزاز والذعر والتهيّب، كثيرة البعد عن الاعتقاد بأنها تستطيع أن تفعل شيئاً بحياتها، قليلة المغامرة إلى أبعد الحدود، فهي لا تزال راغبة في الاستكانة لا في إثبات موجوديتها ولا في أن تحيا حياتها وتعثر على الشخص الذي تستطيع أن تحبه. وكانت تحب أوفه قبل أن يكون بالإمكان ذلك الشخص الذي يبدو أنها تحبه في الوقت الحاضر (عندما بدأ العلاج النفسي)، على الرغم من أن المرء لا يستطيع عند هذه المرحلة من المحاجّة أن يعرف ذلك جدياً. ولكن أوفه ببساطة هو خلافاً للزوج رجل محبَّب إلى النفس. وإلى هذا الحد فليس في هذه المجموعة من الناس شيء خارق للعادة. ونستطيع أن نرى هنا أنها في الساعات الثلاث الأولى لم تفهم الإجراء التحليلي فهماً جيداً. فقد كانت دفاعية، واتخذت خطوة انفصال صغيرة عن الزوج حتى تستطيع أن تثبت لنفسها أنها لا تحتاج إلى شيء أكثر من ذلك، وهنا دخل أوفه.


ويقول الحلم الأول إنها كانت ترتدي في العرس ثوباً مفصّلاً. وكان الحلم يعني أنها كان يجب ألا تتزوج حقاً، وأن عرسها كان يجب ألا يحدث. أما أن وظيفتها في الحلم كانت أن تصير وصيفة فأنا لا أهتم بذلك كثيراً بسبب الفهم التالي. ففي كل حلم يوجد مشهد كما هو الأمر في الحبكة. وأنا أقصد أن كل حلم هو مسرحية قصيرة يكون فيها الحالم هو المخرج والممثل والمؤلف. ولا يمكن للمرء إلا أن يرى الحلم مسرحية يرتّبها الحالم؛ وقد كان في وسعه أن يحلم بأي شيء غير ذلك ولكن لكل مسرحية منطقها. فمتى ابتُدعت هذه الحبكة، فإن للحبكة نفسها منطقها. وفي الكثير من الأحيان لا يكون من الضروري ولا حتى من المجدي عملياً دراسة كل تفصيلة، بالنظر إلى أن التفصيلة جزء من الحبكة. فإذا اختارت كريستيانه أن تستر عرسها بحالة أنها الوصيفة، فنقول حسناً، إن ذلك هو أحد السبل التي يستر بها المرء العرس، وذلك هو النموذج الاجتماعي، وعلينا ألاّ لا ننسى أن الرقيب يعمل في الحلم. فهي حتى في حلمها قليلة الحرية جداً فتراقب ذلك وتحذفه.


وفي الحديث العام، فأنا في الواقع أعتقد أن لكل حلم تفسيراً أقصى وتفسيراً أفضل، وأعني بذلك أنك تستطيع أن تفسّر حلماً بأقصى ما يمكن، أي أن تتناول كل جزء، وكل شيء وأن تريد أن تعرف ماذا يعني. وأنا أؤيد التفسير الأفضل أكثر بكثير؛ وذلك يعني تفسير رسالة الحلم الأكثر أهمية. وذات مرة وصل المرء إلى أن يقول إنه توجد تفصيلات صغيرة كثيرة أخرى، ولكنني إذا بحثت عن كل هذه التفصيلات فأنا أُضيع على الأغلب تأثير رسالة الحلم المحورية. ويمكن أن تقول إن الحلم هو رسالة الحالم إلى نفسه، وهو أحياناً رسالة إلى المحلل، وأحياناً أخرى إلى شخص آخر يمكن أن يروي لـه المرء الحلم. ولهذا فأنا أكثر ميلاً – ما دام جانب من الحلم ينسلك في الحبكة المختارة – إلى ألا أسهب في التفسير كثيراً، لئلا يكتظّ المرء.


وأنا عادةً أسأل الشخص الذي أحلله بماذا يعتقد حول الحلم. ثم أسأله ما هي التداعيات التي لديه حول الحلم لأن التداعيات تكون مهمة في بعض الأحيان؛ وكثيراً جداً ما تكون غير ضرورية. وأود أن أقول إن خمسين في المائة من كل الأحلام يمكنك فهمها من دون تداعيات، لأنها مكتوبة بلغة رمزية؛ وهي واضحة تماماً. وفرويد في تفسيره للحلم لا يعتمد إلا على التداعيات؛ وليست لقطعة الحلم أهمية إلا بالنظر إلى أن للمرء تداعيات حولها؛ ثم فإن القطعة الحقيقية، القطعة الظاهرة يحل محلها التداعي، ثم التداعي الآخر، ثم التالي والتالي، فتحصل على جَبَل من التداعيات حول القطعة الظاهرة، وكثيراً جداً ما يكون معنى الحلم مفقوداً تماماً.


وهناك بالفعل ألمعية كبيرة في تفسير فرويد للحلم، ولكنني أود أن أقول إنك إذا فرغت من قراءة حلم في تفسير فرويد فإنك تكاد لا تعرف عن المريض أكثر مما كنت تعرف من قبل. تكون سمعت فرقوعة نارية متألقة عن مئات التداعيات ولكنك قد تسأل عندئذ ماذا أعرف عن المريض، والأحاسيس اللاشعورية، وماذا يحرك المريض –لا شيء أكثر. ولكن فرويد في الحقيقة قد فتح الطريق لرؤية ما تحت الحلم، لرؤية الحلم بوصفه شيئاً ذا معنى. ومع ذلك أعتقد أن منهجه في التفسير شديد التضليل، وذلك بسبب خصيصة في فرويد: إذ لم يكن لدى فرويد فهم للرمزية، كما لم يكن لديه فهم لفن الشعر، ولم يكن لديه إلا فهم ما يمكن أن يتصوره عقلياً. وأظن أن غلوفر  Glover في إنجلترا هو الذي قال: "إذا لم أر التداعيات وكذلك المريض فإنني لا أعرف عنه أكثر مما يعرف شخص ليس محللاً نفسياً."


وفي حالة تفسير فرويد يغيب أي انطباع مباشر من الانطباعات التي تصدر عن  الشخص الآخر بالصوت، أو بالإيماءة، أو موقف الوجه أو الجسم، إلا أنه تغيب عندئذ كذلك ظلال الفروق التي يعبّر بها عن نفسه. وفي الواقع، فإن شخصاً عديم الحساسية نحو حياة المريض كما كان فرويد لم يكن من شأنه أن يبتكر منهجاً للقعود خلفه وعدم رؤيته، حارماً نفسه من أهم ينبوع لفهم الشخص الآخر. ومن الطبيعي أنك إذا لم تر الوجه، فاتك قدر كبير مما هو أساسي لمعرفة الشخص الآخر.




الشهر الثاني للعلاج والحلم الثاني


المقرر: بعد الأسبوع الثالث قررتْ أن تتخلّى عن الزواج وتنفصل عن زوجها. وبعد ذلك كانت ثمت مدة بضع أسابيع عانت فيها من قدر كبير من الصعوبة في التوصّل إلى اتفاق حول ذلك. ولكنه ما إن تم القرار وقرر ترك البيت حتى قام بدايةً بمحاولة العثور على شقة في البناية نفسها. واعترضت كريستيانه على ذلك بقوة؛ وهكذا غادر المنزل إلى فندق غير بعيد. وفي تلك المدة الزمنية بصورة خاصة كانت تبكي في كل جلسة تقريباً. تأتي بنوع من الشجاعة ولكن بابتسامة رقيقة ثم سرعان ما تنفر الدموع من عينيها. وكان من دأبها في ذلك الوقت أن تتصل بي هاتفياً في أثناء النهار والليل مرة أو مرتين في اليوم على الأقل. كانت تقول إنه كان يُريعها حتماً أن تتركه ولكنها كانت تقول "ولكن ما قمت به أمر ضروري". وكان يُرهبها كثيراً أن تكون وحيدة. وقد ناقشنا ذلك. وكان شاذاً أنها لم تمكث في حياتها وحدها أبداً. وكانت هذه هي المرة الأولى التي خاطرت فيها بالتقدم على قدميها.


وفي غضون ذلك الوقت، وهو الشهر الثاني للعلاج، تحدثت عن أسرتها بإسهاب. قالت إن السلوك الجماعي في أسرتها كان مطلوباً تماماً، فلا يجوز لأحد إبداء الغضب؛ ولم يكن يُسمَح بالحزن. وكان على المرء أن يُظهر وجهاً بشوشاً مهما كان ما يشعر به. وحتى عندما كانت تتلقى دروساً في البيانو وقد تلقّتها سنوات، من زهاء سن الرابعة إلى سن العاشرة ، كانت أمها تقفل عليها حجرتها كل يوم من أجل الممارسة. وببساطة كان جزءاً من المنهاج أن تدخل الغرفة وتُقفَل عليك، ولم تكن المريضة تناقش أو تعترض؛ ولم تكن مدركة في ذلك الحين أنها شعرت في أي وقت بالغضب من أمها. فكانت ببساطة تسلّم بذلك. كذلك فإنها عندما قالت ذلك لم تشعر بالغضب. وعندما قلت: "تقولين ذلك بطريقة ملحوظة البرود"، أجابت: "كيف، إن ذلك هو الأسلوب الذي كان جارياً بالضبط".


وكان أبوها ماثلاً لها مثل إله، ولكنه كان عاطفياً وأكثر فهماً من أمها. فلم تكن للأم أية صلة شخصية بها. وعلى أية حال، فكثيراًً ما كان الأب يقرأ لها قصص الأطفال في فترة ما بعد الظهيرة من أيام السبت. لا أتذكّر أية قصص، ولكنها عندما كانت في الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة، كان من دأبه أن يأخذ ساعةً يوم السبت بعد الظهر عندما يكون في البيت، ويقرأ القصص لها ولأصدقائها، ولذلك كانت هناك أربع أو خمس أو ست بنات كان يقرأ لهن. ومن الواضح أنه كان يقوم بذلك في شيء من الاستمتاع.
وفي الشهر الثالث للعلاج جاء إليها يزورها خدينها أوفه. جاء من دوسلدورف إلى فرانكفورت عندما كان زوجها خارج المنزل. ونام أوفه وكريستيانه معاً. وأديّا ذلك عدة مرات. وكان ذلك بالغ الإثارة، شديد الإهاجة. ولكنها ظلت لا تصل إلى الرعشة الجنسية، ولكنها كانت شديدة السعادة أن تكون مع شخص ما لأنها كانت شديدة الارتياع من بقائها وحيدة.


وأخبرها أوفه أنه لا يزال ملتزماً بزوجته وأنه لا يرى كيف يمكن لها حقاً أن يتزوّجا. وقال لها ذلك بعد أن نام معها. وخفّف الجماع مستوى قلقها، لأنها كانت على حافة الهلع، مرتاعة جداً. وفي ذلك الحين كانت هناك بعض الجلسات الإضافية والكثير من الاتصالات الهاتفية. وفي أثناء هذه المدة جزعت تماماً؛ وعبّرت عن اليأس المتكرر وأن الأمور لن تتحسّن. لقد تركت زوجها، ولكن لم يتغيّر في الحقيقة شيء. فهي لا تزال تشعر بالعزلة واعتقدت أنه لن يتغير من حيث الأساس شيء أبداً. وقد تكلمتُ عن خوفها من أن تكون وحيدة ومهجورة وناقشتُ معها نمط الخوف من أن تكون مهجورة وكأنها لا تزال طفلة تعتمد كل الاعتماد على أبويها.


فروم: على الرغم من أنني أماحك هنا بالكلمات التي لا أقصد أن أقولها، فإن هذه الـ "كأن" بعينها وهي ولا ريب ليست صحيحة، لأنها لا تزال طفلة، معتمدة على أبويها. وهي الآن طفلة في الثالثة من عمرها. إنها كذلك. وأن يكون لها عمر بيولوجي هو عمر الثامنة والعشرين ويمكن أن تقوم بقفزة من الثالثة إلى التاسعة والعشرين، ولو كنت متطرفاً لقلت "في دقيقة واحدة"، فذلك أمر آخر. ولكنها في هذه المرحلة طفلة. ولذلك بعض الأهمية لأنني ما دمت أقول لأحد الأشخاص "أنت تتصرف كأنك طفل" فهذا نوع من الرقيب الودي: "لا تكن طفلياً". وإذا قلت: "أنت طفل عمره ثلاث سنوات" –فهذه ملاحظة أكثر صدماً بكثير لأنها أقرب إلى الحقيقة بكثير وهي ليست مرتبطة بالعرف الاجتماعي. والأسلوب المرتبط بالعرف هو "أنت كأنك طفل". ولكن هذه الـ "كأن" هي نصف الحقيقة. إنها طفلة – وهذه حقيقة صادمة يجب أن تتنبّه عليها، ولذلك فإن أي شيء يفضي إلى القيام بذلك، يقلَّل من شأنه بالـ"كأن" التي تنتقص من أهمية العبارة التي تقولها.


ولا ريب أن لذلك عموماً صلة بأسلوب التحدث إلى الشخص الذي يحلله المرء وهذا ما أردت أن أتكلم عنه بوجه عام لأنه مشكلة شديدة التعقيد. ويمكنك أن تقول، إنه ولا ريب يتطلب جرأة أكثر بكثير أن تقول لشخص في العشرين من العمر"أنت طفل في الثالثة" لأن قول ذلك يبدو تطاولاً شديداً. ولكن المريضة تعرف أن ذلك هو الواقع ويعتمد الأمر على مسألة كيف قيل. ويمكن أن يقال بطريقة انتقادية وعندئذٍ يكون مخرّباً. ولكن إذا ما أدركت المريضة أن المعالج ليس ناوياً أن ينتقدها بل أن يساعدها، فعندئذٍ يمكن أن تكون العبارة نفسها مسعفة للغاية بطبيعتها الصادمة لأن الشخص الآخر قد عرف ذلك منذ مدة طويلة، ولكنه لم يكن مدركاً إياه تماماً. ويريحها كثيراً أن يرى المحلل ذلك أيضاً، ويسلّم به، في حين كانت تحتفظ به سراً من أرهب أسرارها ـ هذا الإحساس بأنني لا أزال طفلة صغيرة، على الرغم من أنها لم تضع ذلك بهذه الكلمات.


وليس الغَرَض هو مجرد أن نوصل إلى المريضة أنها حين تشعر بأنها طفلة في الثالثة، فهي في الوقت نفسه تنقل خبرة من عمرها ثلاث سنوات إلى الزمن الحالي حيث لا تعتمد حياتها في بقائها على أبويها. وهذا أساس عقلي جيد جداً، ولكن عليك أن تتكلم بما أمكن من الاقتراب من الواقع الذي يشعر به هذا الشخص، أي أن تكون أقرب إلى أحاسيس الخوف على أعمق مستوى. وفي المستوى الأعمق لا يوجد "كأن"، لأن إضافة ذلك هي عمل عقلي. وتعرف كريستيانه أنها تشعر بأنها طفلة وهي مرتاعة ولا تجرؤ على إدراك ذلك.

المقرر: في هذا الوقت رأت حلماً آخر هدّ صحتها وجاء فيه:
الحلم 2: كان الوقت قبل بضعة أيام من عرسي وكانت عدة صديقات حميمات ضيفات المنزل. وقررنا الذهاب إلى السباحة في مسبح مجاور، ولكنه كان وقتاً مضطرباً. وأرادت بعض الفتيات الذهاب وأرادت الأخريات أن يقعدن في أنحاء البيت. ولبستُ سروال السباحة ولكنني لم أكن أعرف أي سروال عليَّ أن ألبس. وعلّقت إحدى الفتيات بأنه سروال عتيق الزي وهو كذلك قديم العمر. وكان أصفر، يكاد يغطّي كل جسمي. إنه نوع من سراويل الاستحمام التي تلبسها أمي. وبحثت عن السروال البيكيني في غرفتي الخاصة ولكنني لم أستطع أن أجده. وكان كل امرئ على عجل فاضطررت أن أغادر المنزل من دون البيكيني وارتديت السروال العتيق. وكان المسبح كبيراً وكل شخص سعيداً. واستبقت العرس وكان بهيجاً. وفجأة تحوّل الحلم إلى فراش المرض حيث كانت مارتا، مدبّرة شؤون المنزل القديمة (المرأة التي ربّتها) مريضة جداً وتموت. وكانت مصابة بمرض شديد حيث كانت كل أحشائها تخرج؛ وكانت مكدّرة الخاطر كثيراً ولكن لم يبدُ أن أمي مكترثة وتعاملت مع التجربة كلها بطريقة الأمر الواقع. وكان شديد الإزعاج لي أن أدرك أن أمي لم تهتم بمارتا.


وكان لرد فعلي على الحلم صلة بتبيُّنها أن أمها، برغم بَرْ قـَلَتها عن أنها مهتمة بالناس وبكريستيانه، لم يكن لديها في الواقع ذلك الاهتمام، وكانت منصرفة الذهن كلياً إلى شؤونها الخاصة. شيء من هذا القبيل. ومرة أخرى لم تكن لدى كريستيانه نفسها فكرة عن التداعيات حول الحلم.


فروم: إن هذا الانطباع لا يهتم بالجزء الأول من الحلم. فهي حقاً تشعر في الجزء الأول قبل كل شيء أنها هي أمها. وهنا تظهر المفارقة. فبينما هي ذاهبة لتتزوج، وهذا يعني أن تكون امرأة بمالها من حق خاص، ومع حياتها هي، فإن الحلم يقول لها، مرمّزاً بالسراويل، إن عليها أن تكون مثل أمها، أو أن تكون أمها، فعليها أن تطيعها، فهي مرتبطة. وهي مرغمة، إن جاز القول، على أن تلبس لباس أمها؛ وهي تتزوج رجلاً تُرغمها أمها أن تلبسه. ولهذا فإن ما تقوله حقاً لنفسها أو ما تعبّر عنه حقاً هو: "لقد تزوّجت لا بوصفي أنا، بل بوصفي أمي. لقد تزوجت هذا الرجل لأن أمي جعلتني أتزوجه.". إنها لم تتزوج  بوصفها امرأة حرة، أو باختيارها الحر، أو عن أي شعور في نفسها. ثم تعارضُ ذلك بفكرة نقدية عن أمها: هي أن أمها غير عابئة إطلاقاً بأي إنسان. وفي هذين الجزأين، وعلى مستويين من الرمزية مختلفين، تقول: "اضطررت أن أتزوج هذا الرجل ضد رغباتي، لأن أمي لا تهتم أدنى اهتمام بأي إنسان آخر، ولا حتى بي، ولذلك تزوجته.". وهذه الفكرة معبَّر عنها في هذين الشطرين للحلم.


وأود هنا أن أذكر مشكلة مهمة في الإجراء التحليلي. ففيه تأتي مرحلة حيث يمكن للمرء أن يتحدث بطريقتين مختلفتين. فيمكن للمحلل أن يقول: "ذلك ما تشعرين به، إن أمك هي كذا أو كذا أو كذا.." أو يمكن أن يقول المحلل "ذلك ما تشعرين به وأنت مصيبة جداً. إن الأمر كذلك." وذلك يشكل قدراً كبيراً من الاختلاف، لأن هذه المرأة لا تجرؤ على التفكير بما تعتقد أنه صائب، وأن لها أي حق في القيام بذلك، فهذه هي الخيانة العظمى، وإنه لأمر رهيب أن تعتقد بذلك حيال أمها. ولا تجرؤ إلا في الأحلام أن تعبّر عن ذلك، فأمك هي غول تقريباً" ـ فتلك فعلاً تجربة جديدة كل الجدة، لأنها تجرؤ أول مرة على الاعتقاد بأن انطباعها، أو أفكارها أفكار صائبة لم تجرؤ في حياتها أن تخبر أحداً بها، ولا حتى نفسها.


والمسألة الأخرى هي: يوجد جزءان في الحلم. فهل هذان الجزءان معاً يخصّان التحليل بالضرورة؟.. أود عن دواع منهجية أن أقول إنه لا يوجد شيء هو بالضرورة كذلك. فكل هذه التفسيرات تعتمد على خبرة مفسر الحلم وتعتمد على وضوح الحلم. وأود أن أقول من خبرتي إن معظم الأحلام ذات الشطرين في ليلة واحدة تشكل وحدة ولها حسنة كبيرة هي أنها كثيراً جداً ما يفسّر بعضها بعضاً. فالجزء يضيف إلى الآخر، وإنه لأمر مذهل كيف أن الشخص حين يُطلب إليه فيما عدا ذلك أن يكتب لا يستطيع أن يكتب ثلاث جمل من رواية، أو قصيدة، فإذا هو في نومه قادر على صياغة فكرة باللغة الرمزية، بمنتهى الدقة والجمال والفنية. ونحن جلّنا نقوم بذلك في أحلامنا. وكريستيانه تختار  هنا مسرحية مزدوجة جميلة التلاؤم. وهي لا تختار إلا فصلين يساعدان على عملية التنكّر. وهذه هي المزية الأساسية لذلك من وجهة نظر الحالمة؛ فهي بحلمها بهذين الأمرين برمزية مختلفة تجيد في أن تخفي عن نفسها ما يجب ألا يكون، ما يجب ألا يصل إلى وعيها.


وهذا الحلم هو كذلك تعبير كلاسيكي عن ظاهرة أخيولية لا يسعني إلا أن أتعجّب منها، على الرغم من أنني قد اشتغلت بالأحلام سنوات يعلم الله عددها: كيف يعرف الشخص كل شيء من دون أن يدركه شعورياً. كيف نعرف في نومنا أموراً مع أننا نخفيها. وحلم كريستيانه يُظهر بوضوح أنها تعرف كل هذا، ومع ذلك فهي تنكر في حياتها اليقظة هذا ولا يتاح لها شيء من هذه المعرفة. وذلكم هو السبب بالفعل في أن أحلامنا أكثر بكثير من أفكارنا اليقظة. وأفكارنا اليقظة هي على الأغلب أكاذيب وأوهام. وللتعبير عن نفسي بقوة أكبر من أجل الوضوح، أفضّل أن أقول إن معظم أفكارنا الواعية أكاذيب وأوهام على أن أقول إن معظم أفكارنا الواعية محترمة وحقيقية.


وفي القسم الثاني من الحلم الثاني تعارض كريستيانه دور أمها بدور مارتا، التي ربّتها، لتظهر تباينهما. ولا أعتقد أنهما عنصران متعارضان في كريستيانه. فهي تمسرح أمها. وتقول إن هذه المرأة ليست فيها نُتفة من إحساس، وتقدّم البيّنة على امرأة تحبها حقاً بوضوح وتُعنى بها، وتقول إن هذه الأم غليظة القلب قطعاً بخصوص المرأة الواحدة التي في حياتها. ويمكن أن تقول إن الحلم يتضمن : لو كنت تلك المريضة (مارتا) لما اكترثت أمي كثيراً.


وحول الاعتقاد بأن وصف المرض حيث تنطلق الأحشاء إلى الخارج بأنه رمز لكشف المرء مشاعره أود أن أقول إنه غلو في تفسير الجزء الثاني من الحلم. وفي هذه الحال فإن الحلم يقول إن الأم كانت تعتقد أن كشف المشاعر مميت. وهذا في رأيي سيكون نوعاً من الغلوّ في التفسير. وهو ممكن نظرياً ولكن هنا يأتي عامل تجريبي هو مسألة تجربة حقاً. والتفسيرات الكثيرة ممكنة ولكن المرء يطور في الممارسة على الأكثر فهماً معيناً لما هو من المرجّح برغم ذلك أن يكون المعنى هنا. وأعتقد أن هذا تأويل وهذا أمر من الصعب جداً إثباته ـ لأن هذا التأكيد منصب هنا على المعاناة، على شدة المرض. وذلك معبَّر عنه حقاً في هذا الحلم. أما أن خروج الأحشاء يجب أن يكون في الوقت نفسه إشارة إلى إظهار مشاعرها، بالتحدث عن هذه المرأة  المسنة، فلا أعتقد أنه صحيح تماماً. ولكنه من الوجهة النظرية تفسير ممكن.


وهنا ترد مسألة كبيرة في تفسير الحلم بوجه عام، هي أين يجب الالتزام بمادة الحلم عن كثب. إن الحلم من الغنى فيما يصفه تعبيراً عن المشاعر الإنسانية إلى حد أن تفضيلي هو الالتزام عن كثب بما يستطيع المرء رؤيته مباشرة من دون التأويل النظري وإغفال ما يمكن أن يؤوله بما يستطيع المرء رؤيته مباشرة من دون التأويل النظري وإغفال مايمكن أن يؤوله المرء لأنه ليس من شأن ذلك أن يضيف شيئاً كذلك. ونحن نعرف مقدّماً أنها خائفة من ذلك.




الأشهر التالية والحلم الثالث


المقرر: في أثناء هذا الوقت حدث عدد من التغيّرات الدقيقة. أولاً بدأتْ تتحدث عن جوانب من حياتها عدا عن أسرتها. وكانت منزعجة بخصوص وضعها في العمل، ولاسيما أن الرجل الذي كانت تعمل عنده كان شخصاً تسلّطياً جداً في بعض الأحيان نظّم عملها كثيراً وزيادة، وكانت تشعر أنها محبوسة جداً بهذا الوضع. وبعد بعض المناقشة حول ذلك، قررت أنها قادرة على أن تكلّم الرئيس الأعلى وأن تتباحث معه في الانتقال والترقية. واعتقدت كذلك أنها تتقاضى مرتّباً دون المستوى وأنها قادرة على القيام بالمزيد من العمل الذي يستأثر بالاهتمام. وبشيء من التهيّب كان في طوقها القيام بذلك ضمن زمن قصير جداً. وجرت ترقيتها إلى قسم آخر. وكريستيانه هي الآن خارج مجموعة الموظفين وفي مهنة إدارية تنفيذية مسؤولة فيها عن زهاء أربعين إلى خمسين شخصاً. وفي هذا الوقت كانت مسرورة جداً أنها اتّصلت هاتفياً بأسرتها وأوجزت أخبارها لأمها، التي كان من الطبيعي أن تثير الأسئلة حول استحسان الانخراط في نوع مختلف من العمل. أما أبوها فقال: "حسناً، هذا ممتاز. أنت تنتقلين من وظيفة أركان إلى وظيفة ميدان، وهذا مفيد جداً لك في تدريبك على التجارة." وبذلك قبلت هذه الترقية وكانت مسرورة جداً للقيام بذلك. وقد استمتعت بالعمل حقاً. وفي الحين نفسه قطعت علاقتها الوقتية بأوفه، عندما رأت أنها لن تؤدي إلى أي مؤدَّى ولماذا تتمسك بها وهي تعلم أنها ستكون في حالة قلق شديد. وهذا أمر ناقشناه أيضاً. ومهما يكن، فإنها لم تتخلّ عن وضعها مع أوفه ـ أو بعد بضعة أسابيع ـ حين أصبحت مرتبطة ببيتر، الذي كان الموظف الإداري الكبير عند أبيها.


وفي غضون هذه المدة وبرغم أنها، قبل بيتر، قد بدأت تفكر في أكثر من تعبير اصطلاحي تحليلي، كانت شديدة الاهتمام بمناقشة الحالات، وأخذت تصير لها بعض التبصّرات والتفسيرات الخاصة بها وأضحت متحركة تماماً.


وظل بيتر على اتصال بها في رحلاته الجوية المتكررة من هامبورغ إلى فرانكفورت. وبعد أن قطعت صلتها بأوفه كان قد طلب إليها أن تخرج معه إلى الغداء ـ وأخيراً وافقت. وكانت قليلة الاهتمام بالموافقة لأنها تعلم أنها سريعة التأثّر وتريد الأصحاب باستيئاس. وكانت تشعر بقدر كبير من القلق من جراء وحدتها، وهي على تماس شديد مع ذلك القلق. وكانت في بضعة أسابيع مشغولة كل ليلة بالذهاب إلى دار صديقة بعد أخرى. وأضجرها ذلك، ثم أخذت تمارس العزف على القيثار.


ثم صار لها وصال مع بيتر، وكانت تريد رؤيته زهاء مرة في الأسبوع. وفي غضون شهر أو نحو ذلك وقعت هي وبيتر في حب شديد من بعضهما لبعض. واعتبرا نفسيهما في حالة حب. وبيتر متزوج وله ثلاثة أطفال. وهو واحد من أربعة نواب للرئيس في مؤسسة أبيها. وكان بيتر يعلم أن أحد نواب الرئيس سوف يخلف الأب عندما يترك رئاسة هذه الشركة التعاونية الضخمة. وبعد قرابة الشهرين أصبحا حميمين للغاية. وصار بيتر يقوم بعدة رحلات، إلى فرانكفورت أسبوعياً وأخيراً صار الجو بينهما شديد الالتهاب والكثافة والانفعالية فرأت أن الأسرة ينبغي أن تعرف لأنهما كانا في طريقهما إلى اكتشاف وجهة أو أخرى.


ووجّهت كريستيانه السؤال إلى بيتر هل ينبغي أن تعرف الأسرة. وكان بيتر عميق الارتباط بها فقال: "لا أعتقد أن علينا أن نخبرهم بكل شيء، ولكن أخبريهم عن رؤية كل منا للآخر." وكلمت أسرتها عن أنهما يرى بعضهما بعضاً مصادفة ويميل  كل منهما إلى الآخر بعض الشيء. فانزعج الأبوان تماماً. وقالا: "انظري، إذا كان لابد أن يحدث شيء ما فأنت ترتكبين خطأً رهيباً، فهو متزوج، وقد شكّل أسرة، وكوّن مستقبلاً وهو بالتأكيد ليس لك.". وبعد تلك المحادثة رأت كريستيانه الحلم التالي:
الحلم 3: كنت على شاطئ رملي. لم يكن الناس حولي وكنت جدّ سعيدة بأنني في مكان هادئ مشمس. لم أشعر بالتوتّر، بل بالهروب الكامل. ثم فجأة أخبرني شخص حكومي (لا تعرف هل كان رجلاً أم امرأة) أنّ عليّ أن أنظّم مباراة في فترة ما بعد الظهر نفسها. ولم أعرف أي نوع من المباراة ولكنني اضطررت أن أغادر الشاطئ وأنطلق ذاهبة. ولم أدرِ لم وافقت. وقابلت صديقتين، صديقتين من أيام الطفولة. قالتا: "لا تقلقي، بإمكانك القيام بذلك، وسنكون هنالك. وسيكون الأمر على ما يرام.". ولم أعتقد أنهما أقامتا وزناً كافياً لذلك. ثم كنا في قاعة أبرشية، في قاعة كنيسة بلدتي. وكنت أنظر إلى المنصة في قاعة الأبرشية. وبعدئذٍ تبدّل المشهد. كنت في فِناء بيتنا. كانت حولنا أعداد كبيرة من الشاحنات، وخيمة سيرك. وتجمعت كميات كبيرة من الآلات الموسيقية حوالينا. واعتقدتُ أنها كانت مسرحية هي التي كان عليَّ أن أنظمّها، كما كنت أنظّم في المدرسة الثانوية. ولكن بدلاً من ذلك كان عليَّ أن أؤدي ولم أعرف ماذا أؤدي. كنت شديدة القلق. قال أحدهم: "عليك أن ترقصي هنا"، على هذه الدُّوّارة الحمراء. وكانت هناك دُوّارة حمراء من حيوانات خشبية يركب عليها الأولاد وتدور بهم وفيها أفيال زرق ملكية ومقاعد حمراء ـ فسحة كبيرة. بدايةً كنت مسرورة للرقص ولكن ليس بمثل هذا الإكراه.


المقرر: قلت لها، إنها هنا قد بلغت الإحساس بالحرية، بعمل شيء ما تأخذه على عاتقها، ولكن التأثير الوالدي يتواصل وتشعر بأنها مكرهة على الأداء والاستمرار بهذه الإملاءات الوالدية. إنها لا تشعر بأنها حرة في مواصلة العمل حتى الإنجاز.
كانت كريستيانه بعدُ مرتاعة جداً، يرعبها إلى أبعد الحدود أن تستمر مع بيتر، لأنها رأت أن هذا سيكون نهاية كل شيء. ومن شأنها أن تكون مذنبة لعدم حصول بيتر على الترقية، ولعله سيكون متهيجاً، وهي بالتأكيد ستجر على نفسها أقصى الغيظ من أبويها. وقالت عندما غضبا إنه لا يوجد سبيل أبداً للتعامل معهما لأنهما أبلغاها أنها ليست سيئة تماماً ولكنها خيبة أمل لهما. وتقول: "عليَّ أن أعيش دائماً على نحو أجعل به حياة أمي ممكنة." وكانت كلما عبّرت عن سعادتها، بدت أمها غير سعيدة. أو كلما أرادت أن تقوم بأمر ما من شأنه أن يجعلها تدخل العالم أكثر، أو أن يهدّد، كانت أمها تجزع كثيراً وتنقل إليها نظرة حقارة:
"انظري ماذا تفعلين!".


فروم: أود الآن أن أبحث في معنى هذه القصة برمّتها أكثر قليلاً. ماذا يجري فيها؟ بدايةً لدى المرء بعض الأسئلة: فيمَ يفكر بيتر؟ ألديه خطة سرية ـ هل سيطلّق زوجته في مآل الأمر، ويتزوّج الفتاة، وبذلك يصبح الرئيس؟ ليس ذلك من قبيل التمحّل. إنها إلى حد ما لعبة ذات أخطار كبيرة، لأنه في تلك الأثناء قد يُطرد. ولكن فيما عدا ذلك: لماذا يجازف بيتر بفقدان عمله ولماذا هو من السذاجة إلى حد أن يعتقد أن هذين الشخصين لن يلاحظا في النهاية أي شيء عندما تنبئهما الفتاة أنه يراها مراراً؟ وثمت أمر غريب: سذاجة هذين الأبوين. ولمجرد أنهما قليلا الاهتمام، فهما كثيرا السذاجة. فإذا جاءت الابنة بغتة وقالت إنها ترى بيتر كثيراً، حسناً، إنني أخمّن أن أي شخص بنصف ذكاء عادي سوف يقول: من الواضح أنهما يشرعان في علاقة غرامية، وإلا فلماذا تأتي وتقول هذا. تلك قصة للتغطية أنها تراه كثيراً. ولكن هذين الشخصين يقيمان وزناً كبيراً لذلك ولا يفعلان شيئاً إلا تهديدها بما سيحدث لو أنها فعلت.
وأود أن أشير هنا إلى أمر واحد: هو أن ما يدعوه المرء في كثير من الأحيان سذاجة أو نوعاً غريباً من التجاهل ببساطة نتيجة الاهتمام القليل جداً. فعند هذين الشخصين نجد أن كل حياة ابنتهما وما تقوم به وما لديها من علاقات غرامية ليس بذلك الأمر المهم ولذلك لا يحاولان المحاولة الكافية لرؤية ما يعني ذلك حقاً، ولكنهما راضيان بقصة للتغطية ويتركان الأمر عند ذلك الحد. وأمثال هذين الأبوين من السهل جداً خداعهما وببساطة فإن امتلاكهما لها عشرين سنة لا يعني شيئاً. فمن الواضح أنها في هذه السنوات العشرين لم تعش تجربة كافية تجعلها تشعر أنها هناك كانت في البيت حقاً، بل أعطتها إحساساً عميقاً بموضوع لا أعرف ماهو، موضوع الوجود في البيت على الأقل. ثم يكون هؤلاء الناس شديدي الاندهاش عندما يقوم الأطفال فجأة بأمر غير متوقّع لأنه وقر في أذهانهم أن الأطفال يعيشون من أجلهم ولا يريدون أن يخيبوا رجاءهم، ولأنهم لا يفكرون في إمكانية أن أطفالهم أحياء ويمكن أن يقوموا بأمر ما يريدون القيام به، ولو بدا جنونياً أو مهماً بدا، إذا كان ما يقومون به أمراً متطرفاً، ولذلك لا يلاحظون أي شيء. وكثيراً جداً ما يصدق الأمر نفسه على أحوال الزواج. وأذكر امرأة ظلت متزوجة ثلاثين سنة ولم تلاحظ أن الرجل كان منساقاً إلى اللهو تماماً.


وإذا رأى المرء أمثلة على مامن شأنه أن يدعوه السذاجة، أو الافتقار إلى الحكم، فمن المهم جداً على الدوام ألا يتكلم عن الافتقار إلى الحكم، بل أن يسأل نفسه: أليسوا ببساطة زاهدين جداً في أن يعرفوا معرفة أفضل؟ وأنا على يقين أنك تستطيع أن تُظهر أن الشخصين اللذين هما شديدا السذاجة بخصوص حياة ابنتيهما ليسوا بمثل هذه السذاجة في شؤونهما على الإطلاق.


والأب ليس ساذجاً في أدنى الحدود حيال ما يجري في شركته. وعندما يأتي إليه مستخدم بقصة تتعلق بأمر ما في الشركة ـ فإنه يلاحظ على الفور أنها قصة للتغطية. ولكن عندما تأتي ا بنته لا يريد أن ينزعج، ولا يريد أن ينجرّ إلى نزاع، فيصدقها.


وأن تكون المرأة منساقة إلى اليأس والقلق فهذا شديد الوضوح، لأنه ما كل هذا؟ لقد أخبرها بيتر أنه يُنعم النظر في ترك أولاده وزوجته. وما دام ينعم النظر فقط فذلك مجرد كلام في كلام. وإذا لم يقل الرجل: "إذا كنت تتزوجين بي، فسأطلّق زوجتي على الفور"، فإن كلامه لا يستحق الاستماع إليه. والبلية هي أن بعض النساء ـ وهنّ في العادة النساء اللواتي يكنّ في ذلك الوضع ـ يكنّ مستهامات غراماً أو لا يرين الرجل في ذاتيته، ويكنّ رومانسيات إلى حد عدم رؤية الواقع، ويعتقدن حقاً أن الرجل ماضٍ في تأمّل ذلك وكأن ذلك يعني أي شيء. ويحتاج المرء في الحقيقة إلى تجربة ما في العيش ليصبح ما أقول إنه إنسان صحيح شاك في طيبة الدوافع البشرية. وأنا أنصح كل إنسان أن يغدو كلبياً، شاكّاً في طيبة الدوافع البشرية،  بصورة صحية. إن ذلك يجعل الحياة أوضح بكثير، ويحمي المرء من الأخطاء الكثيرة، ويعني أن المرء لا يسقط من جراء كل الحيل العاطفية حسنة القصد، التي من أجلها يخادع الناس بعضهم بعضاً ويخدعون أنفسهم.


وإذا سمعتَ القصة التي مفادها أن هذين الشخصين شديدا الجنون في حب بعضهما لبعض، فأنا لست معجباً وماذا؟ إذن؟ هو وحيد، وهي وحيدة، ولذلك يحب بعضهما بعضاً. ماذا يعني كل هذا؟ ما الجوهر في ذلك؟ ما الواقع في ذلك؟ من المحتمل أن في ذهنه وظيفته بصورة رئيسية وهو في صراع، وعليّ أن أقول إنه أحمق بعض الشيء. لماذا هو أحمق؟ ماهي حساباته في هذا الأمر؟ إنني لشديد الاهتمام أن أعرف لأن الرجل لديه أمر فيه خطر، ولست أدري ماهو تدبيره. ولكن من الواضح أنه شديد الجدية، وإلا لتكلم بطريقة مختلفة. ولعله مجرد إنسان يلعب بمجازفة كبيرة.


وشعور كريستيانه إزاء هذا الأمر هو الشعور بأنها متحيرة تماماً. ومرة أخرى أود أن أقول: "لا ريب أنك متحيرة وقلقة، لأنك في وضع لا يطاق. وأنت مرعوبة من أبويك. وإلى الآن لم يقدّم هذا الرجل دليلاً على أنه يحبك حقاً أ كثر من الإحساس بالذهاب إلى الفراش معك ومن أن يكون شديد الجاذبية لك آنئذ. أي أساس للعلاقة ذلك؟ كم هو جِدّي؟ أنت في الثامنة والعشرين.". ولو كانت في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة لا يمكن للمرء أن يقول حسناً. وهكذا فهي تجرّب وربما ليس هناك كبير أذى في ذلك، ولكنها متأخرة قليلاً. (وعلى الرغم من أنها أوضاع مشوَّشة حقاً، فأنا لا أوصي بها حتى بالنسبة إلى سن السابعة عشرة أو الثامنة عشرة.".


والوضع مع هذا الرجل وضع مشوَّش. وهو في أساسه قائم على الغش. فلماذا يزجّ المرء نفسه في وضع لا يقوم على الصدق في المعاملة؟ إنه ليس ضرورياً ولا يساعد أحداً. إنه لا يفضي إلا إلى الإحباط وإلى نوع من الكلبية، نوع من الشك في طيبة الدوافع البشرية لا ينبغي أن يكون للمرء. وأعتقد أن الكلبية يجب أن تكون مصاحبة للإيمان الكبير، ولكن الكلبية من دون إيمان هي مجرد تثبيط للهمة، وهي مدمرة للذات فعلاً. وسيكون السؤال الذي نود معرفته هو ماذا تقول الفتاة ـ وأنا أقول الفتاة (والقول "الطفلة" من شأنه أن يكون التعبير الأنسب هنا) ـ ماذا تقول المرأة حول ذلك؟


المقرر: تقول إنها في أول مرة في حياتها تشعر الآن بالرعشة الجنسية. وهو يزعم أنها أروع العلاقات التي ارتبط بها، وأقواها وأكثرها حسية  ـ قلت لها إنها لا تزال مرعوبة من أنها وحدها. وما كادت تستطيع حتى حاولت أن تعود إلى معاشرة أوفه من جديد. وعندما لم يتحقق ذلك انتابها رعب شديد لأنها تعلّقت ببيتر. ولأنها لا تزال تصارع من دون أن تعرف ماذا سوف تفعل، ولكنها على الأغلب مهتمة بهذه الأنواع المختلفة من العمليات الأمنية للارتباط بالناس الذين سوف يمنحونها ذلك النوع من الأمان حيث لا تريد أن تكون منجرفة أو وحدها.


فروم: ولكن يجب عدم الاستخفاف بأنها أحست بالرعشة مع هذا الرجل ولا يجوز تجاهل ذلك تماماً. مهما كانت الأسباب ـ وربما كان النهي، الأقل زجراً، عن أفضل عاشق وله نوع مختلف من المزاج ـ هو محررها. وإنه لغريب أنها في هذه الحال وهي الأشد تعقيداً من وجهة نظر الوضع الوالدي، تلعب بالنار. وفيها نجد المحظور عليها أقل، وتستطيع أن تدع نفسها تذهب إلى مسافة أبعد مما كانت تستطيع في الأوضاع التي كانت بالفعل أشد صعوبة. وخصوصاً مع زوجها كان من شأنها أن تكون في أمان أكثر، ولكنه لا يعطي الفرصة ولهذا نستطيع أن نصرف النظر عن ذلك. وهكذا أقول إنه عَرَض أود أن آخذه دليلاً على أنها لم تقم بعد بتقدّم في الأمور الأساسية، واحداً بعد الآخر؛ وهذا على الأقل أمر جدير بالبحث. أيوجد، بالفعل، في علاقتها بأبويها، أي تغيّر، بصورة أساسية، في هذه الشهور الأربعة؟


المقرر: أجل، يوجد تغيّر طفيف في أنها أضحت متشككة أكثر قليلاً حيال مسألة على شاكلة من هما وما طبيعة اهتمامهما بها. كان أبوها يدعوها مرة أو مرتين في الأسبوعين. وهو في العادة يذهب إلى أحد الفروع بين الحين والحين ويسافر قليلاً جداً. وعند عودته إلى فرانكفورت يتصل بها، أو يراها في أثناء الغداء كل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. وهي تعتقد أنه في الحقيقة طراز من الإنسان السطحي. إنها تراه رؤية أقل قدسية وتبدأ في التعبير عن عدائها لأمها، بمعنى رؤية الأم بوضوح أشد بوصفها امرأة جعلتها تابعة لها بوضعها مصالح الأم في المقام الأول. وهكذا فثمت تغيّر طفيف في رؤيتها لأسرتها، برغم أنها من ناحية توجّسها وخوفها لم تتغيّر بعد. ولا يزال يرعبها للغاية أن يهجراها لسبب ما.


فروم: لعلك تقول إنها من جهة أخرى لا تزال تعيش حياتها الخاصة، أي بما أنها في الثالثة من العمر من دون حياة خاصة بها فمن الطبيعي أن تكون خائفة من إمكان أن يتخلى عنها الناس الذين يخلعون المعنى على حياتها وهي في البيت. ولا تزال تشعر أنها مرعوبة من الموت بترك أبويها لها ويمكن أن نقول إن ذلك هو نتيجة كذلك لعدم معرفتها أي شيء عن موضوع كيف تعيش، وكيف تكون، وكيف تغدو شخصاً. وهي تذهب إلى وظيفتها، التي هي الأمر الرتيب جداً، ثم تتخبّط. فتذهب إلى تحليل نفسها. ولابد أن يكون ذلك عندها مكاناً تجد فيه بيتاً صغيراً، ثم تنام مع ذلك الرجل وهذا يمنحها إحساساً ضئيلاً بأنها في البيت. ولكن هذه المرأة ينعدم على العموم فيها الإحساس بأنها موجودة تماماً، وبأنها شخص وهي وحدها، وأن باستطاعتها أن تعمل شيئاً، وأن بمقدورها أن تعيش. إنها تتخبط في ذلك كل التخبّط.


ويمكن أن تقول إنه من الطبيعي أن يسير التحليل في كلا الاتجاهين. فيمكن أن يُحاجّ المرء: إنها لارتباطها الشديد بأبويها لا تستطيع أن تفكر في حياتها ـ ومن شأن ذلك أن يكون الصيغة التحليلية المألوفة. ولكنني أعتقد أنك يجب أن تقول إنه يسير في الاتجاه الآخر بالقدر نفسه تقريباً أو أكثر، لأنها لا تعرف أي شيء عن العيش. وهي لا تعتقد بأنها تستطيع أن تفعل بحياتها أي شيء، وهي عمياء تماماً بالنسبة إلى مايمكن أن تعنيه الحياة. وهي مضطرة أن تبقى مرعوبة ما دامت تفتقر إلى الرؤية. ولا أقصد الرؤية النظرية، بل أقصد شعوراً ما بأن الحياة هنا، وهي حياتها، وأنها يمكن في هذه الحياة أن تفعل شيئاً ما، وأن تعبّر عن شيء ما، وتكون نفسها.
وهنا نصل إلى مشكلة كبيرة: هل التحليل كافٍ؟.. أم أنه ليس ضرورياً أن يتعلّم الشخص الذي يسبر نفسه كذلك كيف يعيش، أي يتعلّم فكرة ما عما يفعل المرء بحياته؟ إن هذه المرأة مثل مسافر في صحراء من دون خريطة. إنها تترقّب شخصاً ما يمكن أن يأتي ويريها سبيل الخروج من الصحراء لأنها مرعوبة من أن تموت من الظمأ. وذلك هو كذلك حرفياً، وهو ليس استعارة. إنها تحتاج إلى خريطة والخريطة ليست مجرد أنها في كل ذلك اتكاليّة، وإنما الخريطة هي كذلك لكي ترى الآن أين في وسعها أن تذهب. ما هذا الشيء الذي اسمه "الحياة"؟ من هي؟ ماذا تستطيع أن تفعل؟ وأنا لا أقصد بذلك المهنة بالمصطلح العملي. وإلى الآن لم نسأل ماهي الاهتمامات التي لديها؟..


المقرر: إن لديها قدراً كبيراً من الاهتمام بالموسيقى. وهي تحب الموسيقى من كل الأنواع. ومهما يكن، فقد شعرت في هذا الوقت أنها تريد أن تعبّر بالموسيقى عن شيء ما. وكانت تحب القيثار دائماً وبدأت تأخذ دروساً في القيثار ـ لا القيثار الشعبي جداً، معرفة القيثار بوصفه آلة وربما القيثار الكلاسيكي أو الأوبرالي.


فروم: متى تقول إن لديها اهتماماً شديداً بالقيثار ـ ولنصرف النظر لحظة عن القيثار ـ ماذا تعني حقاً؟  كيف يُستدل على ذلك؟


المقرر: يُستدل عليه من أنها تذهب إلى الأوبرا، ويمكن أن تحصل على تذاكر لدخول أوبرا فرانكفورت. وأعتقد أن ذلك عن شعور بالمنزلة أو أمور تريد عملها. وهي تستمتع بالأوبرا بصدق. وتعرف شيئاً عن الأوبرا، وقصصها، ومؤلفيها. وعلى الرغم من أن ذلك ليس أمراً أعرف عنه الكثير، فقد شعرت من الملاحظات التي كانت تُبديها أنها أكثر من مجرد هاوية.


فروم: عليّ أن أقول إن تلك المعلومات لا تؤثّر فيّ البتة. وأن يكون القول "إن شخصاً يذهب إلى الأوبرا". هو في حد ذاته تعبير عن ميل عظيم إلى الموسيقى، يبدو لي مثاراً للشك، وخصوصاً في فرانكفورت حيث يكون ذلك أمراً يتعلّق تحديداً بالمنزلة. إن ذلك لا يقنعني كثيراً. وعندما يقول شخص إنه مهتم بالموسيقى كثيراً، فإن سؤالي التالي هو: "أرجو أن تذكر لي قطعة واحدة تفضّلها.". إنه سؤال واضح لأنني عندئذٍ فقط يمكن أن تكون لديّ أية فكرة عما يعني ذلك، وإذا كان الجواب هو"حسناً، أحب كل شيء" فعندئذٍ أعرف أن: هذه العبارة عن الاهتمام بالموسيقى هي مجرد رَوْسم. وإلى جانب ذلك، نحن نعرف  كم عدد الناس الذين يذهبون للاستماع إلى الموسيقى وإلى المتاحف. وأنا على كامل اليقين أن قلة منهم مهتمة حقاً، ولكنك تعرف اليوم أن كل شخص يحاول أن يقتل الوقت بأفضل الطرق المحترمة، إذا كان ينتسب إلى بعض الفئات المتعلّمة. والآن اذهب وانظر إلى الفن الحديث ـ أو غير الحديث ـ أو اذهب إلى الحفلات الموسيقية ـ ولكن ليس هذا في ماهيته تعبيراً عن الاهتمام الشديد بالفن، إنه أمر تقليدي. ولهذا على المرء أن يكون أكثر إقناعاً من القول إنها تذهب إلى الأوبرا.


إنها تعتقد أن الموسيقى مهمة بالنسبة إليها، ولكنني كثير التشكك عموماً حيال هذه العبارات. ماذا يعني أنها تأخذ دروساً في القيثار؟ إن من شأن ذلك في الكثير من الأحوال أن يكون مجرد قتل للوقت. ولا أعتقد أنه بالضرورة تعبير عن الاهتمام الموسيقي الكبير. كالجيل الأقدم الذي تعوّد أن يتعلّم البيانو. ولا أدري كم هو أمر تقليدي الآن تعلّم القيثار.


المقرر: لم أشعر أن ذلك هو السبب الذي كانت مرتبطة به، ولكنني اعتقدت أنها في سياق حياتها، عندما تريد أن تعزف بالقيثار، فإن ذلك ولو كان اهتماماً لا يُؤبَه له، فهو رغبة في التعبير عن بعض استجاباتها الانفعالية، تماماً كما هي الحال في عودتها إلى امتطاء صهوة الجواد، الذي تقوم به عدة صباحات في الأسبوع وفي أيام العطل الأسبوعية.  ومرة أخرى قد يكون ذلك ليبقيها مشغولة، ولكنه أمر يمنحها الكثير من المتعة، وبالفعل فإن امتطاء صهوة الجواد تجربة مع الطبيعة كانت حبها الأول، بالفعل.


فروم: كانت تحب امتطاء صهوة الحصان على الدوام. وتلك تجربة سليمة جداً وسارة جداً وتُريها أنها ليست ميتة، ولكنها لا تُظهر كثيراً أنها تقيم وزناً لشيء ما في هذا المجال. وبما أنها لم تورِد ذلك في نصّها فأنا أخمن أنه ليس موضوعاً يجعلها متحمسة كثيراً لـه ومشغوفة قليلاً به في كل جلسة، فهي تأتي وتتكلم ساعة عن الكتب التي قرأتها. وبوجه عام فإنه ليستأثر بالاهتمام كثيراً أن الكثيرين من الناس يتحدثون عما أدعوه التوافه في كثير من الأحيان: هذا ما قاله لها الخَدِين، وما فعلته، وهذا وذلك وذلك مما يكرر نفسه، ولكنهم في العادة لا يثيرهم أيّ شيء خارج المجال المبتذل بكل معنى الكلمة للأحداث الشخصية الخالية من المعنى نسبياً. وفيما يتصل بكريستيانه علينا أن نسأل: لقد كانت هذه المرأة في إحدى المرات شديدة الاهتمام بدراسة الأدب. ويقوم الأبوان بعمل جيد؛ والآن لم يعد يبدو أنها مهتمة للغاية بذلك. وهكذا فمن الواضح أن الأمر الوحيد الذي كان لها اهتمام حقيقي به قد ضاع؛ وأنا أقصد بذلك أ نه ليس لها رضى يتجاوز ما يتعلّق بالدائرة الضيقة، دائرة وظيفتها وعلاقتها بأبويها، ببضع خطوات واهنة للتنحّي عما يوقعها في عناء نفسي شديد.


والسؤال هو ماذا بوسع المرء أن يفعل حيال ذلك وماذا بوسع التحليل أن يفعله ـ أو ماذا يجب فعله؟ ومادامت فقيرة من حيث التجارب المثمرة والممتعة فكيف يمكن أن تنشئ حياة غير مضجرة تماماً؟ كيف يمكن أن تتخلّى عن هذا الاتكال على أبويها؟ ذلك على ما أعتقد موضوع من بالغ الأهمية المجيء به، وفي رأيي أن التحليل عموماً لم يلفت الانتباه كثيراً إليه لأنه لا يبدو أ نه مشكلة أو جزء صغير من مشكلة. وفي ثراء الثقافة الذي نعيش فيه وفي ثراء الإمكانيات بالكتب وبالتجريب في العلم وكل شيء إذا عاش الشخص كأن كل ذلك لم يوجد، وكأنه عالم خاوٍ ليس فيه شيء مهم، فإنه لا شيء يستأثر بالاهتمام إلا الأحداث الشخصية الصغيرة دون غيرها.




الحلم الرابع وبعض الاعتبارات العامة حول هذا العلاج


المقرر: إن الحلم التالي يميز النقطة الضعيفة في عملنا معاً. لقد جرى بعد زهاء شهر. وكان ما حدث في غضون ذلك هو التالي. تباحُث مع بيتر حول ارتباطهما، وكانا آنئذٍ يرى كل منهما الآخر زهاء ثلاث مرات في الأسبوع. وكان بيتر يسافر إلى فرانكفورت أكثر من اللازم بكثير وكان يستطيع تبرير ذلك. وأخيراً قررا أن يخبرا الأبوين. وشرع بيتر في هذه المرحلة يشعر أنه يحب كريستيانه. وقال بالتحديد إن ذلك لم يكن أمراً عادياً ولكنه أخبرها بمنتهى الجدية أنهما من الممكن أن يدبّرا أمر حياتهما المشتركة، ولكنه لن يقوم بذلك إلا إذا شعر أنه يستطيع كذلك أن يدبّر أمر عمله. وكان يعتقد أن ذلك شديد الأهمية ولم يشأ أن يعتقد أنه سينقطع عنه من أجلها. وقالت كريستيانه إنها لا تريده أن يتخلى عنه من أجلها.


على أن كريستيانه اعتقدت أنه ربما كان من الممكن لأبيها، الذي قال إنه سيقف إلى جانبها مهما كان، أن يتعاون معهما على ذلك في الظروف الحالية. وهكذا قامت بالترتيبات للسفر الجوي إلى هامبورغ وحدّثت أسرتها، كلا أبويها معاً. واتّسمت ردود فعل أبويها بأقصى الجزع، وفي الحقيقة تصرفا بمنتهى الغضب. وفكرا "كيف أمكنك أن تقومي بذلك ؟"


فروم: إذا كان لي أن أتكلّم بين الكلام: لقد كان ذلك منها غلطاً على وجه الخصوص، إذ كان عليها أن تكلّم أباها على حدة أولاً. فقد كان هذا بحضور أمها معركة خاسرة سلفاً.


المقرر: ثم تكلم أبوها مع بيتر في اليوم التالي، وتكلّم بيتر مع الأب ـ كما أخبر كلا الرجلين كريستيانه بعدئذ ـ تكلم بصورة مباشرة جداً. قال بيتر: "إنني أحب كريستيانه وأود أن أتزوجها. فلم يكن زواجي موفقاً جداً….". وهكذا  أعلن نيّاته. وتشاور الأبوان، وفي اليوم التالي، وكان الأحد، تقابلا مع بيتر وكريستيانه، وقالا: "انظرا، إننا لا نوافق إطلاقاً على هذا. إن المؤسسة ستكون مصدومة بالعمل غير الأخلاقي، ومن دون ريب ستعرّض مستقبلك للخطر، فأنت لا يمكن أن تترأسها، وأنا لا أعرف أن الوضع الاجتماعي الذي نعيش فيه كلنا سيكون المعطى المريح لك، وأنك سوف تبقى هنا.". وأعرب الأبوان عن نفسيهما معاً، ضد هذا الزواج كلياً. وقال الأب لبيتر قولاً يلتزم بالواقع، إنه سوف يُفصل من الخدمة مالم يوافق على التسوية التالية. وكانت التسوية هي ألاّ يكلم بعضهما بعضاً سنة واحدة. فإذا ظلا عند نهاية تلك السنة من عدم تكليم بعضهما بعضاً على شعورهما القوي، فبإمكانهما إعادة توجيه طلبهما إلى الأسرة، إن جاز التعبير.


ولم يكن هذا الأمر بالنسبة إلى كريستيانه أمراً مضحكاً. فبعد أن عادت إلى فرانكفورت ـ وكان ذلك مساء يوم الأحد ـ رأيتها في صباح الاثنين ـ وكانت قد رأت الحلم التالي في تلك الليلة. وكان في رأيها أخطر حلم رأته أبداً.


الحلم 4: أنا في غرفة هي غرفة اجتماعات. وأنا على منصة مع ما يقرب من اثني عشر شخصاً من النساء والرجال. ويدير أحدهم الاجتماع وكأنه محاكمة بالتصويت. ونحن الأشخاص الاثني عشر متهمون بخروج ما عن الولاء، ولا شيء محدد، ونحن متهمون فعلاً وعقوبتنا الموت، بحُقن يحقننا إياها طبيب. وأبواي في الاجتماع ومعهما ليزا ـ وهي الابنة. وهنري (وهو طراز من الأصدقاء القدامى عرفتْه على فترات، وهو يعرف الأسرة وودود نحو الحالمة) ليس في الغرفة ولكنه قاعد في غرفة مجاورة شبيهة بغرفة آلات المطابع، وتلي قاعة الاجتماعات مباشرة. والقاعة خشبية وغير متقنة الصنع. وهي تذكّرها بالكنيسة إلى حد ما.


نحن ماضون إلى الموت وقد صدر الأمر بأن نُقتل وأنا واحدة من آخر القائمة. أولاً كان الأشخاص الذين أعلنوا الزعامة، وهم الرجال على الأغلب، تتبعهم النساء، في الأمر القاضي بقتلهم. وأنا لست الأخيرة لأنني أظهرتُ بعض الزعامة. وقد رُسمت صورة الأمر الذي سوف يُقتل بموجبه الاثنا عشر شخصاً في رسم بياني. وكانت تتلو كلّ اسم رموز أنخيّة، والأنخ هو الصليب المصري القديم الذي لـه في أعلاه عروة. إنه الرمز المصري للحياة. وتتشكل الصورة هكذا: ففي الرسم البياني تكون الأُنوخ مقلوبة رأساً على عقب ولكنها تتحول بعدئذٍ خمساً وأربعين درجة، وهكذا تبدو العرى الصغيرة المدوّرة في الأعلى. وللناس خمسة أُنوخ أو أربعة أو ثلاثة أو أنخان. وأنا ليس لي سوى أنخين أو ثلاثة. وذلك يعني كأنها قريبة من الهاوية. وكان الوضع أسهل على من سيموت أولاً من بقيتنا الذين علينا أن ننتظر. لأن البقية ستضطر إلى رؤية الآخرين يموتون. وكانت هناك حجرة تالية للمنصة حيث كان الطبيب على أريكة كبيرة، من ذلك النوع من الأريكة التي تقعد عليها وتتبرع بالدم، وهي ليست إلا أكثر حشواً. إنها شبيهة بالمقاعد الخضراء الطويلة الموجودة في المشفى حيث تستلقي عليها وتتبرع بالدم، ولكنها أكثر تنجيداً وحشواً. وكانت داكنة الخضرة.


وكانت عملية الموت هي تلقّي رصاصتين أولاً. تتلقى الرصاصة الأولى ثم تتلقى الرصاصة الثانية وأخيراً بعد مدة قصيرة تتلقى حقنة ثالثة تكون القاتلة. وكان كل شخص في الغرفة ظريفاً بأدب ومتعاطفاً في الظاهر. وكان أبواي لطيفين ولكنهما منفصلان. وأخبراني أنهما سيتوليان رعاية ليزا. وكان من دأبي أن أترك الغرفة من وقت إلى وقت لأرى هنري، ولكنه كان بارداً، ولم يتعاطف معي كثيراً وما فتئ يقول: "أخبرتُك بذلك، وأن ذلك سوف يحدث.". وكان يعظني بطريقة منفصلة. وكنت أريد حبه وحميميته كثيراً، ولكنه لم يشأ أن يمنحني إياهما. وتلقّيت الرصاصتين ثم اصطحبت ليزا في آخر مسيرة. وصعدنا ونزلنا رصيف الشارع القريب من مكتبي ـ وهو شارع مظلم قذر. وكانت ليزا ترتدي ثوباً كله من النسيج الأبيض المخرّم وفي عربة أطفال جميلة بيضاء وزرقاء قاتمة. وشعرت بهول وخوف هائلين، وبألم عميق، ولكنه لم يكن غريباً أنني لم أبك. وعدت ونظرت في المرآة فرأيت أنني شديدة البياض والشحوب كالحوّارة وأنني صنف من الموتى. وكانت ثمت صيحات وهمسات من الجوار. ووقف الناس وتكلموا، وأخيراً جاء دوري من جديد وعندما حقنني الطبيب ثالث مرة صحوت.


وعندما تحدثنا عن الحلم كان قلقها هائلاً. فبهذه المعاملة من أسرتها كانت تشعر بأنها محكوم عليها بالإعدام، ولم يكن أبواها عوناً لها بأية حال. إنهما يوافقان على الحكم ولا يفعلان شيئاً. وهي تشعر أن الطبيب لا يساعدها وقد رأت أنه لا خيار لها إلا الموافقة على العقوبة التي كالها لها أبواها وكالتْها الوقائع. وناقشنا مسألة كيف أنه لا يزال أبواها يُقفلان عليها وهي لهما طائعة ومنهما مرعوبة.


فروم: إن هذا الحكم يمكن أن يكون قصة كافكاوية، فائقة الفنية، وعميقة الإحساس. وهنا ترى وضعها بوصفه عمقاً لا يستطيع في الحقيقة إلا شاعر عظيم، أو كاتب كبير مثل كافكا أن يسطّره على الورق. وهي لا تستطيع أن تسجّله على الورق ولكن في مقدورها أن تعبّر عن ذلك بدقة كبيرة، وشدة في الإحساس، وبجمال كبير، في النص كله. ويكاد الحلم لا يحتاج إلى أي تعليق. فهذا هو الوضع الذي تشعر فيه أنها مغلوبة، وأنها وصلت إلى النهاية. إنه رد فعل على رد فعل أبويها، إنه الإحساس بأنها الآن قد ضاعت. وأخيراً لا مكان تذهب إليه. وفيه يمر شيء تضع فيه المحلل مع الأبوين. إنها لا تقول تماماً: "إنه لم يساعدني"، بل إنه يؤدي الدور مع الأبوين. وذلك يعني أنها لم تضع المحلل بوصفه شخصاً ضد أبويها، بل بوصفه شخصاً آخر مع أبويها. والسؤال هو هل من الممكن تجنّب ذلك بالمشاركة الأكثر فعالية ومباشرة ضد أبويها، إن جاز التعبير.


وفي مثل هذه الحال أود أن أوضح كيف خَبَرتْ هذين الأبوين: الأم غير إنسانية والأب رجل ضعيف وغير فعال فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية. وبودي أن أوضح أنني أجد صادماً أنهما قد ضغطا عليها إلى حد لم تعد تجرؤ على أن تشعر بذلك. ولأعبّر بهذه الطريقة: إن كل نشأة هي فعل من أفعال الثورة، الثورة الشخصية. وهي تعني تحرير المرء نفسه من الناس الذين يسيّرون حياته. وسواء أرادوا أن يسيّروها بصراحة أو بنعومة، ففي كل حالة، في كل نشوء للشخص، إلى حد تكوين المرء ذاته هي مشكلة التحرر التي تتخذها الشجاعة وتقتضي الآلام ويمكن أن تعني المكابدة. ونواة كل المشكلات هي هل يجرؤ الشخص أم أنه قد استسلم واكتشاف كيف يجرؤ على إخفاء هذا الاستسلام. ذلك ما يفعله كل الناس: إنهم يخفون أنهم استسلموا وأنهم قد كفّوا عن هذا الارتباك الذي أصابهم. إنهم يسمحون لأنفسهم بأن يُساسوا، ولكنهم يجدون طرقاً ووسائل للتواري عن ذلك.


والمشكلة هنا هي اتخاذ الجانبين. فلا حياد في هذه المسألة التي تُفضي إلى مسألة مثيرة للاهتمام جداً ـ هي مسألة الأحكام القيمية. ولعله من شأن فرويد والكثيرين من الناس أن يقولوا إن ذلك حكم قيمة في الأبوين. حسناً، أهو حكم قيمة إذا تم تشخيص أحد الأشخاص بأنه مصاب بالسرطان؟ أهو حكم قيمي أن نقول إنه من المحتمل أن يموت من هذا المرض، أو إن شخصاً سوف يموت من النظام الغذائي الذي يسير عليه أو سيصاب بالمرض؟ إنه ليس حكماً قيمياً. فهذه عبارة حقائق واقعة، عبارة أسباب ومسبَّبات، وهي صحيحة على المستوى النفسي صحتها على المستوى الجسمي، باستثناء أنك تستطيع أن تبرهن عليها على الأساس المادي. وعلى المستوى النفسي بإمكانك كذلك البرهان عليها عند نهاية حياة المرء. ولكن من الطبيعي أن الناس لا يريدون معرفة ذلك.
والسؤال هو: ماذا بوسع المحلل أن يفعل للمساعدة على سيرورة الثورة هذه، سيرورة تحرر الشخص؟ ما العون الناجع الذي يستطيع أن يقدّمه؟ كيف يمكن أن يساعد على هذه السيرورة ويؤثّر فيها؟ أعتقد أن ذلك في حد ذاته وظيفة شديدة الأهمية في كل تربية وكل علاج. وأنا أضمّن التربية، برغم أن التربية قصة مختلفة. فالتربية هي غالباً مؤسسة اجتماعية وهي بالتأكيد لا يُقصد منها هداية الناس إلى أن يحرروا أنفسهم ويصبحوا مستقلين. إن ذلك ليس غاية أية مؤسسة مدعومة اجتماعياً. ولكن ذلك هو السبب الذي يجعل التربية تُسهم إسهاماً قليلاً جداً في نشوء الشخص، بوجه عام. بيد أن الأمر يختلف في التحليل، لأن المحلل يجب أن يأخذ الحرية على عاتقه وأن يكون مستقلاً نسبياً.


هذه حقاً مشكلة عامة لا أذكرها هنا إلا لأن الفتاة (كريستيانه) ما فتئت في مرحلة لا ترى فيها عالماً آخر، لا ترى شيئاً غير أنها مهزومة. ولن أكون مهتماً بما يعنيه هذان الأبوان بهذا الشرط الجنوني إلا من قبيل الفضول الشديد بخصوص الطريقة التي يعمل بها عقلاهما. كيف سيمنع الأبوان أن يرى بعضهما بعضاً ويناما معاً؟ هل سيبعثان بشرطي سري؟ وكيف سيحترم الشابان ذلك؟ ماذا كانت ردة فعل بيتر عندما سمع هذا الشرط؟


المقرر: كانت ردة فعل بيتر فيها قدر كبير من الشقاء. وما انفك يراها زهاء شهر، ويلقاها خفية في فرانكفورت، ثم انقطع عنها. وقال: "كان ذلك كل ما بوسعنا أن نفعله.".


فروم: عندما صار واضحاً بصورة صريحة ولا يمكن تحاشيها كم كان أبواها تدميريين، كيف استجابت كريستيانه لقرار بيتر في التخلّي عنها لكي لا يخسر عمله؟ لأنه عندئذٍ يمكن أن يعثر على وظيفة في مكان ما غيره، إنه حقاً غير راغب في التخلّي عن هذه الجائزة الكبرى.


المقرر: عندما قرر بيتر أن يوافق على قرار الأب حزّ ذلك في نفس كريستيانه كثيراً. وسألتُها ماذا يعني حزّ في نفسها، فقالت: "انزعجت" فسألتها ماذا تعني انزعجت فتبيّن  أخيراً أنها غضبت من بيتر. ولو كان رجلاً  أكثر شجاعة، وعرفنا قدراته المحقَّقة، لكان في وسعه أن يفعل شيئاً غير ذلك. ولكنني أخمّن أنها مُحبطة وبرغم أنها كانت غاضبة فإن ذلك لم يكن من نوع الغيظ من أنه قد جرى التلاعب بها أو سِيئت معاملتها. وكانت تشعر كذلك أنها تستحق العقاب.


فروم: لا شك أنها قد رقّعت نفسها ترقيعاً أخرقَ من جديد، لأنها لو تكلمت لكانت الاستراتيجية المناسبة هي أن تنتصر أولاً على الأب، الذي هو حسّاس نحوها ومتقبّل لها وأن تقول لأبيها بعد انتصارها عليه: "الآن أحتاج إلى مساعدتك مع أمي.".  ومن الممكن أن يظل الأب لا يقوم بذلك ولكنها بمجابهتها الاثنين معاً وحدهما، فمن الواضح كيف سيتصرفان ولذلك لم تقم كريستيانه بأفضل ما لديها. وكالطلب المقدَّم إلى مدرسة المتخرجين في الأدب فإن الشيء نفسه يتكرر؛ وهي في الحقيقة لا تجرؤ على فعل ما تريد. ولكنها تقوم به بطريقة غير فعالة وهي من الذكاء ما يكفي لتعرف معرفة أفضل. وهي تعرف أباها معرفة جيدة جداً. ولاشك أن هذا لا يُسهم في إحساسها باحترام الذات.


وبيتر إنسان زعم أنه شديد الحب لها ثم وكما هو متوقَّع، فعندما كانت المسألة مسألة أن يصير رئيساً في مآل الأمر، كان ذلك أكثر أهمية حتى من الحب العظيم. وإذا تحدثنا إحصائياً، فأظن أن معظم الناس يتصرفون على هذا النحو اليوم. ولكنّ لذلك وقعاً بالغ السوء على كريستيانه، لأن عليها أن تعيش تلك التجربة حين كانت تلك هي العلاقة الأولى التي من المحتمل أنها كانت فيها على درجة عالية من شدة الاهتمام برجل والحب لـه كما لم تكن أبداً من قبل. ومن الطبيعي أن تسوقها تلك التجربة إلى هذه الحالة.


سؤال: لعله كان اختياراً من جانبها وهي تعلم من البداية أنه ليس لـه مؤدَّى. وبكلمات أخرى، إنه شيء عرفت أن من شأنها أن تكون فيه خائبة. وربما لم تكن تستطيع حقاً أن تتعامل مع وضع حيث هناك مستقبل.


فروم: لا، لا يمكنها ذلك، فهو كل الجانب من الصورة نفسها لعدم التوجّه، للجري هنا وهناك مثل دجاجة وهي لا تعلم ما تفعل ومن دون توجّه، وتقوم بالأشياء تماماً كما حين ذهبت إلى أبويها وأخبرتهما أنها حصلت على وظيفة جديدة وأفضل. وهي تتّصل بأمها. حسناً، كم هي غبية، ولكن ليس من الغباء أنها لا تعرف أي شيء أفضل. فذلك هو المكان الوحيد الذي تكون فيه شخصاً ما، وإلا فهو صحراء. وإذا بقينا في الصحراء فيمكن أن تقول إن أبويها هما الواحة الوحيدة. وهي تعلم أنها إذا خرجت من الواحة ماتت من الظمأ. وليس لها من يساعدها، وليست لديها خريطة، وليست لديها بوصلة، وليس لديها شيء. وذلك هو حرفياً كذلك؛ تلك هي الطريقة التي تشعر بها. فكيف تستطيع أن تتصرف على نحو مختلف، والشعور بذلك هو الوضع؟


سؤال: كيف كان من شأنك أن تساعدها إذا كان بإمكانها أن تكسب طاقاتها، وأن تطلق تمردها؟


فروم: كنت حرضتها على التمرد، بقوة شديدة. وعلى أية حال، كنت حاولت ذلك. ولا ريب أن المرء لا يعلم ماذا يحدث عندما يحرّض الناس على التمرد. ولكن ذلك سيكون محاولتي الأولى، لأنني أعلم أنها إذا لم تتمرد لن تتعافى ولن تصل إلى حياة سعيدة. وهي كأنها في حالة مابعد التنويم المغناطيسي حيث عليها أن تنجز ما يوحى به إليها.


سؤال: أمن الممكن أن علاقتها ببيتر يحتمل أنه كانت تحثّها رغبة لا شعورية في التمرد على أبويها.


فروم: أجل، ولكن هذه كلها هي التمردات غير المجدية نفسها والتي لا تُفضي إلا إلى الخيبات. وهذا التمرد هو كذلك مختلف، ويمكنك أن تلاحظ مثل هذا التمرد في الحياة مرة بعد أخرى. فالناس في هذه الحال يريدون أن يتمردوا ولكنهم يتمردون بتلك الطريقة التي هم متيقّنون أنها خائبة. إنهم يثبتون لأنفسهم بطريقة فيها احتيال أنك ترى أن التمرد عديم الفائدة. فالابن، مثلاً، يهيج ويزمجر أمام أبيه، ويصرخ في وجهه ويمثّل دور المجنون. وفي اليوم التالي يعود ويعتذر ـ وهو مضطر أن يعتذر لأنه تصرف بصبيانية شديدة وبعد عن العاقلية كبير. ولو قال لأبيه بكلمات واضحة ما يعتقد به حقاً، ولكن في صميم الموضوع، لكان قد ظفر بالنصر. لأن من شأن الأب عندئذٍ أن يكون مُحرجاً. وهكذا يكون الأب في وضع متفوق مرة أخرى. وذلك ما يحدث طوال الوقت.
ولذلك كان من شأني أن أعترض على كريستيانه في وقت سابق من العلاج لأن ذلك كان شكلاً من التمرد عديم النفع قبل أن تصبح مرتبطة ببيتر بشدة. ولعلي كنت أتكلم عن الاستراتيجية الممكنة لهذا الرجل وأن أورد أن من المتوقّع أن تنتهي العلاقة على هذا النحو، لأنه ماهوياً رجل عنده أن المهنة ـ وليس مجرد المهنة، وليس كسب الرزق ـ بل قمة المهنة، قمة النجاح أهم من أن يكون في حالة حب شديد كما يود أن يكون في أي وقت.


وقد قمت بهذه التعليقات لمجرد أنني أريد أن أنتهز فرصة الحالة لأعبّر عن فكرتي عن العلاج. وإذا التفتّ إلى الوراء ونظرت في عملي العلاجي، فإنني في العادة أشعر بالخجل بخصوص الطريقة التي حلّلتُ بها الناس قبل خمس سنوات لأنني ارتكبت هذا الخطأ وذلك الخطأ. إنها لعملية شديدة التعقيد وأنا أ عرف معرفة جيدة جداً أنه من ملاحظات مختصرة لا يعطي المرء نصف القصة لأن أشياء كثيرة تكون غير موجودة بالضرورة. ولهذا فإن ما قلتُه ليس على الأغلب استجابتي للحالة المقدَّمة بل هو استخدام هذا "النص" لملاحظات عن تفكيري في التحليل، وعن العلاج التحليلي. وأنا حقاً لم أكلّم المادة كثيراً جداً، وإنما استخدمت المادة لأغراض التعبير عن بعض الأفكار. أكثر مما قصدت.


***





الفصل العاشر

المناهج المتخصِّصة بشفاء عُصاب الطبع الحديث



[من المعهود بالنسبة إلى عصاب الطبع الحديث أن تكون مكابدة الناس في أنفسهم. ولشفاء عصاب الطبع الحديث من الضروري اتّخاذ خطوات إضافية تتجاوز التحليل الكلاسيكي. والفصل الأخير يركّز على هذه المناهج.].




تغيير المرء سلوكه


أعتقد أنه من الضروري قبل كل شيء أن يغيّر المرء سلوكه وألاّ يقتصر على تحليل نفسه وإدراكه لها. وإذا اكتفى المرء بإدراك ذاته من دون أن يتّخذ في الحين نفسه الخطوات التي هي نتائج هذا الإدراك الجديد، يظل كل إدراكه عديم الجدوى. وبوسع المرء أن يحلل نفسه ويعرف كل شيء عنها سنوات كثيرة ولكن ذلك لن يكون مجدياً إذا ظل عقيماً، إذا لم يقرن ذلك بتغييرات في ممارسته للحياة. وقد تكون هذه التغييرات طفيفة، ولكن المرء لا يمكن أن يتقدم في هذا الدرب كما تجد عند بعض الفلاسفة اليساريين الذين يقولون: عندما تأتي الثورة، سيكون لدينا أفضل الناس. يقول ماركوزه ذلك، ولكن قبل الثورة تكون أية محاولة من الإنسان ليغدو أفضل محاولة رجعية. إن ذلك في رأيي ولاشك هو هراء واضح لأنه بعد أن تأتي الثورة ولا يكون قد تغيّر أحد، فإن الثورة لن تكرر إلا بؤس ما حدث من قبل. إن الثورة سيصنعها أناس ليست لديهم فكرة عما يمكن أن تكون الحياة الإنسانية الأفضل.


إن ما يغيّر ما يصنعه الإنسان في نفسه أمر بالغ الدقة. ولا يمكن للمرء أن يصنع الكثير، ولكن على المرء ألا يكون مفرط الاحتراس. وأعتقد أنه من بالغ الأهمية في التحليل أن يبقى في الذهن على الدوام كيف يعيد الشخص إنتاج نفسه ويعيد إنتاج المكتشفات الجديدة باختبار المشاعر. وعلى المرء أن يبحث عن التجارب وعلى الخصوص المقاومات التي لدى الشخص في اتخاذ الخطوة التالية، وهي التصرف بصورة مختلفة. وإلا ظل المرء في وضع غير حقيقي إلى حد ما، على الرغم من كل التجارب الذاتية التي لديه. وتعتمد مسألة ما هي التغيّرات على الوضع كلياً. ويعاني التحليل النفسي من الخطر الكبير في أن كل شيء يوضع بين يدي التحليل وأن الناس لا يؤمنون إلا عندما ينقضي التحليل، ينتهي، ثم يقومون بالتغيير. وأنا مقتنع أن على المرء أن يبدأ القيام بالتغيير قبل ذلك، وأن المسألة هي حصراً مسألة ماهي التغيّرات ومشكلة التدرّج، والصفة المميزة للتغيرات التي يمكن أن يقوم بها المرء ـ التغيّرات التي هي ليست مجانبة للواقع، ولا تتجاوز قدرة المرء على القيام بها في الوقت الحاضر. ولا ريب أن هذه مشكلة شديدة الخطورة والصعوبة.




تنمية الاهتمام بالعالم


المسألة الثانية هي أن يكفّ المرء عن إفراط الاهتمام بنفسه. وكذلك تواجه التحليل النفسي خطورة كبيرة هنا. فالناس الذين هم حقاً لا يهتمون إلا بأنفسهم يجدون مجالاً هائل الغنى لممارسة النرجسية. فلا أهمية في العالم إلا لمشكلاتهم. انظر إلى المرأة المحلَّلة في تاريخ الحالة [كريستيانه]: ما الذي يهمها؟  لاشيء حقاً إلا ألمها، وزوجها، وأبواها، وطفلتها. ولكن هنا توجد المرأة التي درست، وتعلّمت، والتي تعيش في زمن يتاح لها فيه ثراء الثقافة الإنسانية، من كتب، وموسيقى، وفن، وكل شيء. فبالله عليكم، أنتم تستطيعون أن تقرؤوا أجمل الكتب التي كُتبت في العالم في أي وقت مضى، وتستطيعون أن تستمعوا إلى الموسيقى، وثمت خيار هائل، فتستطيعون أن تسيروا، وتستطيعون حتى أن تسافروا. وهنا يقعد شخص لا يهتم بأي شيء إلا بمشكلتها، أو مشكلته.
وأن يكون المرء مهتماً بمشكلاته حصراً ليس السبيل إلى معافاته وصيرورته إنساناً كامل الإنسانية. ولا يستطيع المرء أن يعيش بطريقة قوية ومفرحة ومستقلة إذا لم يكن يهتم إلا بنفسه. وعلى المرء أن يقف على قدمين على الأرض، ولكن يجب ألاَّ تكون الأرض دبوساً أو إبرة لأن عليهما لا تستطيع أن ترقص إلا الملائكة، وفقاً للترجيمات القروسطية. ولا يمكن للمرء أن يعيش على قدميه على الأرض، إلا إذا كانت هذه الأرض واسعة وغنية وارتبط المرء بالعالم المحيط به بطريقة منتجة ومهتمة.


"مهتمة" interested هي كلمة ضعيفة. ولا يوجد فعلاً في الإنجليزية اليوم كلمة للتعبير عن هذا النوع من العلاقة. ومن شأن كلمة interested أن تكون كلمة جيدة إذا فكرنا في اشتقاقها، فالاهتمام interest يتكون من  inter-esse، أن يكون من بينهم، أن يكون في المكان، ولكن كلمة interest تكاد تكون نقيض ذلك اليوم. فإذا قال أحدهم "أنا مهتم بهذا"  I am interested in this فهو يعني في الحقيقة "أنا ضجر منه". والقول إن ذلك "مثير للاهتمام جداً" very interesting ـ وهو ما يقوله أي شخص عن كتاب أو فكرة، فإنه يقصد بقوله very interesting أن يقول: "لا أبالي به البتة". فتلك طريقة مهذبة لقول ذلك. [...].


إن الخطر يجب دفعه بالتحليل أو من دون تحليل، وهو أن الشخص يظل متمركزاً حول مشكلاته ويظل منفصلاً عن العالم، أي عن وصل نفسه أو نفسها بطريقة متجردة بكل ما حوله أو حولها: بالناس، وبالأفكار، وبالطبيعة [....].


كيف يُثري أي شخص حياته؟ إن كل الشقاء الذي يعانيه الناس يكمن إلى حد كبير  لافي أنهم مرضى جداً بل في أنهم منفصلون عن كل شيء مثير للاهتمام في الحياة، منعش للنفس في الحياة، جميل في الحياة. إنهم يقعدون ويتضجرون من مشكلاتهم، من ذنوبهم، من أخطائهم، من أعراضهم. ويعلم الله ماذا ينفتح لهم حين يقعدون ويتمتعون بالحياة بطرق عديدة، كثيرة. وهم في العادة يقولون: "ولكنني أشد اكتئاباً من أن أقوم بذلك.". حسناً، إن ذلك صحيح نوعاً ما، ولكنه ليس الجواب الكلي. إنهم حتى لا يقومون بالمحاولة، أو ما يكفي من المحاولة لإثراء حياتهم لأنهم يعتقدون أن أفضل طريقة لشفاء المرء هي تركيزه الكامل على مشكلاته. ولكنها ليست أفضل طريقة ـ إنها أسوأ طريقة.


إن تركيز المرء على مشكلاته يجب ولابد أن يسير مع التوسيع والتشديد المتزايدين لاهتمام المرء بالحياة. وقد يكون الاهتمام بالفن، وبأشياء كثيرة، ولكنني أعتقد أنه يجب أن يكون كذلك بالأفكار. وأنا لا أعتقد أن هذا هو مجرد تسلية فكرية، وهذه هي إحدى المسائل التي لا أتفق عليها مع ألكسندر سترلاندAlexander Sutherland من سمرتشيل Summerchill، الذي وضع قليلاً من التأكيد على تشكيل العقل. وأنا لا أفكر كثيراً في التشكّل  الفكري الخالص للعقل، بل في إثراء العقل. ويصبح السؤال شديد الملموسية: ماذا يقرأ أي شخص؟ وبودي أن أقول إن على المرء أن يبدأ بالقراءة، وبقراءة الكتب المهمة، وبقراءتها بجدية. ولديّ الانطباع بأن المنهج الحديث في القراءة هو منهج توجّهه الفكرة القائلة بأن على المرء ألا يبذل الكثير من الجهد، فيجب أن تكون سهلة، ويجب أن تكون مختصرة، ويجب أن تكون ممتعة على الفور.


وحتماً هذه أوهام كلها. فما من شيء مفيد يمكن أن يعمله المرء أو يتعلمه من دون أي جهد، ومن دون بعض التضحية، ومن دون تدريب. وكل الفكرة حول تعلّم العزف الموسيقي أو أي شيء آخر في ستة دروس سهلة هو مجرد انتزاع مال الناس من جيوبهم. وهي لغو كامل، ولكن هذه هي الروح التي تنتشر على ما أعتقد في كل السكان ولكن ليس في شكلها الخام، وعلى الرغم من أننا ننشر الكثير من الكتب، فإن عدد الكتب التي تُقرأ بجدية، وتُحدِث حقاً نُقرة في الشخص، وتُحدِث تغييراً في حياته، فأعتقد أنه عدد شديد الندرة اليوم. ولهذا فهنا مسألة كبيرة تتعلق بالطريقة التي يقرأ بها المرء، وماذا يقرأ.


وفيما يتصل بالقراءة فلا ريب أن المسألة الأولى هي أن الشخص يبدأ في تشكيل اقتناعاته، وامتلاك القيم والتوجيهات إلى ما يريد أن تسير عليه حياته. وإذا لم يفعل ذلك، فلابد أن يتخبط. ويبدو لي أن المرء لا يقرأ في الحقيقة أي شيء من المأثورات  لأنه يظن أن عليه أن يكتشف ذلك بنفسه. وأعتقد أنها فكرة بالغة السخف والجهل، لأن اجتماع أعظم عقول العالم في شخص واحد واكتشاف المرء كل ذلك بنفسه، يُظهران حقاً أن المرء ليس جاداً. فذلك المرء ليس مولعاً باكتشاف الأشياء الكبيرة، والأشياء الجديدة، والأشياء المثيرة. ومع ذلك فإن جل الناس لا يحصلون على خبرة الإثارة الشديدة الموجودة في الاكتشاف، في رؤية شيء جديد أو بحث عن شيء جديد. ولكن المرء إذا لم يصل في النهاية إلى مفهومات للحياة، والتوجّه، والقيم، والاقتناعات، التي لا يضعها الآخرون في المرء بل هي نتيجة خبرة المرء، إلا أنه يلتقطها كذلك من القراءة النقدية الفعالة والإنتاجية لكل ما لابد أن كان لدى المرشدين العظام للعقل الإنساني، فلا أعتقد أن المرء يمكن أن يصل أبداً إلى الشعور بالأمن، والشعور بالأمان، وإلى امتلاك مركز له.


إن تلك الفكرة كلها  ليست اليوم فكرة على الدُّرْجة الجديدة جداً، لأن الناس سوف يعتقدون أن ذلك دوغمائي، يقيني جازم، وأنه تسلّطي وسوف يعتذرون بحجة أنهم يريدون الاكتشاف بأنفسهم. وأساساً فإنه لمن الهمجية التخلي عن التعلّم من الأشياء العظيمة التي أبدعها الجنس البشري. ذلكم هو الموقف في رأيي وهو غباء. ولكن المرء يحرم نفسه باسم الاستقلال، وباسم رفض السلطة، من أن يتغذّى، من أن يتأثّر، من أن يُروى، ومن الحصول على ضياء الشمس، ومن كل ما يحتاجه العقل الإنساني لكي ينمو. ويمكن أن يكون المرء نباتياً فيما يتعلق بالطعام، ولكنه إذا كان نباتياً فيما يتعلق بالغذاء العقلي والروحي ورفض معظم ما هو موجود، فإن عقله سيجف إلى حد كبير.




تعلّم التفكير النقدي


إن المسألة الأساسية الأخرى هي في رأيي تعلّم التفكير بطريقة نقدية. فالتفكير النقدي هو السلاح والدفاع الوحيدان اللذان يملكهما المرء ضد الأخطار في الحياة. إذا لم أفكر نقدياً فأنا عرضة لكل التأثيرات، ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء، ولكل الأكاذيب المنتشرة، التي أتلقّنها من اليوم الأول فصاعداً. ولا يمكن للمرء أن يكون حراً، ولا أن يكون ذاتَه، ولا أن يكون لـه مركز في ذاته ما لم يكن قادراً على التفكير نقدياً ـ وإذا أردتم ـ كلبياً.


ويعني التفكير النقدي أن يصبح المرء مدركاً كما يمكن أن يُظهر الأطفال: فالأطفال يظلون أكثر نقدية بكثير من البالغين. فعندما يرى الطفل أمه قد قالت للسيدة س:"آه، كم رائع أن أراك" وتتظاهر بكل هذا الكلام، ثم قالت لزوجها بعد أن غادرتها السيدة س:" آه، الحمد لله أنها ذهبت"، يرى الطفل هذا التباين وقد يجرؤ بعدُ على السؤال إلا أن تفكيره النقدي حينئذ يجري تطريقه خطوة بعد خطوة بعد خطوة. وسواء كذبت الأم أو غضبت أو حزنت أو قالت : " أنت لا تفهم ذلك " فهكذا يغدو التفكير النقدي للطفل مختنقاً ببطء حتى لا يَرِد إلى ذهنه مزيد من الأفكار النقدية.


والتفكير النقدي هو المقدرة الإنسانية الخصوصية. وأن أفكر احتيالياً ـ أي أن أفكر كيف أحصل على هذا أو ذلك، وماذا أفعل لأحصل عليه ـ فإن قرود الشمبانزي تقوم بذلك على أحسن وجه. فلقرود الشمبانزي، وفي الحقيقة للحيوانات، ذكاء احتيالي ممتاز. وفي الاختبارات حلّت قرود الشمبانزي ألغازاً لم أستطع أن أحلها ولم يستطع ذلك الكثيرون من الناس الآخرين وهم كذلك شديدو التعقيد. ومرة أخرى أود أن أقول، من وجهة نظر بيولوجية خالصة، كلما كنت أقرب إلى الواقع كنت أقدر على أن أعيش حياتي بصورة تفي بالمطلوب. وكلما كنت أقل اقتراباً إلى الواقع، ازدادت الأوهام التي لديّ، وكنت أقل قدرة على أن أتعامل مع الحياة بطريقة وافية بالمراد.


وقد قال ماركس ذات مرة كلمة يمكن أن تكون كذلك شعار التحليل النفسي:"إن المطالبة بالتخلي عن الأوهام حول ظرفه هي المطالبة بالتخلي عن الظرف الذي يحتاج إلى الأوهام"(K.Marx,Mega I,1,1,pp.607-08). وذلك يعني أنه بعدم تخلّص المرء من الأوهام يحافظ على حياة الظروف التي هي غير صحية ولا يمكن إلا أن توجد وتستمر لأن المرء يصنع بنفسه كل هذه الأوهام.
وليس التفكير النقدي هواية، وإنما هو مَلَكَة. وليس التفكير النقدي شيئاً تستخدمه بوصفك فيلسوفاً ثم عندما تكون فيلسوفاً تفكر نقدياً، ولكنك عندما تكون في البيت تتخلى عن تفكيرك النقدي، تخلعه. إن التفكير النقدي خصيصة، مقدرة، مقاربة للعالم ولكل شيء؛ وهو على الإطلاق ليس نقدياً بمعنى العدوان، والسلبية، والعدمية، بل على العكس يقف التفكير النقدي في خدمة الحياة، في خدمة إزالة عقبات الحياة التي تشلّنا وإزالتها فردياً واجتماعياً.


ويحتاج التفكير النقدي إلى الشجاعة إذا كان المرء يعيش في عالم يُرْجَر فيه. ولكن على المرء ألا يغالي في تقدير الشجاعة التي يتطلّبها التفكير النقدي.


وأنا حتى الآن لا أتحدث هنا عن الكلام النقدي أو العمل النقدي. فالتفكير نقدياً ممكن حتى بالنسبة إلى الإنسان الذي يعيش في حكم دكتاتوري. إذا لم يُرِد أن يجازف بحياته فيمكن ألاّ يتكلم نقدياً، ولكنه يمكن أن يفكر نقدياً. ومع ذلك فإنه سوف يشعر بأنه اسعد وأشد حرية من الإنسان الحبيس في أفكاره والأسير لنظام فكري لا يؤمن به. وبوسع المرء أن يكتب مجلدات حول صلة التفكير النقدي بالصحة الذهنية، و العصاب، والسعادة. ولو تكلمت الفلسفة عموماً بطريقة موجّهة إلى الشخص ad personam أكثر، أي بمزيد من الإشارة إلى ما تعني الفلسفة في حياتي وحياتك، لكان التفكير النقدي بالفعل ولكانت الفلسفة وبصورة أشد وضوحاً بكثير مجالاً ذا أهمية شخصية عظيمة. وسواء تعاملت مع سقراط أو كانْت أو سبينوزا، فالمسألة الأساسية هي أنهم يعلمونك التفكير النقدي.




معرفة المرءِ ذاتَه وإدراكه لا شعورَه


أود أن أذكر ثلاث مسائل أخرى هي إضافات شديدة الأهمية إلى المناهج التحليلية النفسية الكلاسيكية من أجل شفاء عصاب الطبع الحديث. والمنهج الأول هو إدراك المرءِ لا شعورَه. وهذه الكلمات نفسها لا تعني شيئاً على الإطلاق عندما تُستخدم بالمعنى العقلي الخالص. فمن السهل اليوم القول: إدراك ذاتك، شعورك ولا شعورك ـ فتلك هي الشعارات الآن. فحتى أقذر قضية تجارية خسيسة تستخدم شعار دلفي " اعرف نفسك." ولهذا تغدو هذه الكلمات نفسها مفهومات نظرية خالصة في الدفاغ.


ولو فكر المرء فيما تعنيه هذه الكلمات أو تكلم عنها، لأضحى كل هذا حياً. وفعلاً فإن الأمر نفسه يكون عندما ترى لوحة فنية. فإذا نظرت إلى لوحة لرامبرانت ـ وأنا أذكره أنه واحد من رسامّي الأثيرين ـ فإنك يمكن أن ترى اللوحة نفسها مائة مرة وتكون جديدة في كل مرة، فهي منعشة دائماً، تحييك وأنت تحيي اللوحة لنفسك. ولكنك يمكن أن تمرّ بها مُبدياً ملاحظة: "أه، رامبرانت، الرجل ذو الخوذة" ثم تسير إلى اللوحة التالية. لقد شاهدتها، حسناً ولكنك لم ترها.


ويصدق الأمر نفسه على العلاقات الشخصية. من يرى شخصاً آخر حقاً؟ يكاد لا يراه أحد. فنحن راضون وسعداء بأن نرى مظاهرنا الخارجية فقط. وذلكم هو السبب في أن اتصالاتنا فقيرة، فقيرة تماماً، ويكاد لا يوجد ما هو ضد هذا الفقر في الاتصال، إذا يطمسه نوع من الرفقة والصداقة والابتسام، والابتسام، الابتسام.


والسؤال اللاحق هو: ماذا يعني أن يعرف المرء نفسه؟ إن معرفة المرء نفسه لا تعني مجرد إدراك ما نفعله بل أن نصبح مدركين ما هو اللاشعور بالنسبة إلينا، وماذا لا نعرف. وكان الاكتشاف العظيم لفرويد أنه أثبت ذلك وجعله واضحاً جداً، ربما أشد وضوحاً مما كان في أي وقت، فوسّع بذلك مجال معرفة المرء لنفسه كثيراً. كانت "معرفة المرء لنفسه" قبل مائة سنة تعني أساساً معرفة كل شيء نعرفه عن أنفسنا. واليوم تعني معرفة أنفسنا بالنظر إلى أننا ندرك أنفسنا وبالنظر إلى أننا غير مدركين لأنفسنا؛ وذلك يعني إبانة القطاع الأكبر من حياتنا النفسية ـ أي القطاع الذي يعمل منفصلاً عن التفكير الشعوري العادي، ذلك القطاع الذي يظهر على خشبة المسرح في الليل حين نحلم، أو في حالة الذُّهان حين نهلوس.


ويمكن كذلك أن تصف ذلك بطريقة مختلفة. فمعرفة المرء ذاته في هذا البعد الجديد، في هذا البعد الثالث لحياة المرء اللاشعورية، تعني أن تكون حراً، أن تكون متيّقظاً. والحقيقة هي أن معظمنا نصف نائمين حين نعتقد أننا يقظون. ونحن فعلاً لسنا يقظين إلا بما يكفي لإنجاز المهمات الضرورية لكسب الرزق؛ وقد حلّت لعنة اليقظة على بعض الناس بخصوص ذلك.


ولكن من أجل مهمة أن نكون أنفسنا، من أجل المهمة التي تتجاوز تلك الوظيفة الحيوانية، والإحساس بأنفسنا، ومن أجل المهمة التي تتخطى العمل ـ وأن نكون آلة تغذية وحب ـ من أجل هذه المهمة  نحتاج إلى استبصار آخر، أفضل من الاستبصار الذي لدينا منه ما يكفي في حالة نصف اليقظة. وإذا أخذتم في الاعتبار أن كلمة البوذا the Buddha تعني "الواحد المتيقّظ"، صار لديكم التعبير الرمزي عما أحاول أن أقواله. والشخص المدرك حقاً ذاته، الذي ينفذ من السطح إلى جذور وجوده هو المتيّقظ.


وإذا نظرنا إلى حياة جل الناس، فإنه لغريب كم هم أنصاف نائمين. لا أحد يعرف من لا شيء، لا أحد يعرف ماذا يريد أن يفعل، وما هي العواقب.


والناس ، ماداموا يعالجون مشكلات وجودهم الإنساني، فهم جهلة. وعندما يعالجون مسائل العمل، فهم يعرفون معرفة جيدة جداً. وعندئذ يعرفون كيف يترأسون، وكيف يحتال المرء على الآخرين وعلى نفسه. ولكن عندما يصل الأمر إلى مسألة الحياة فهم أنصاف أيقاظ أو أقل من أنصاف أيقاظ.


وأود أن أنقل ما لديّ من الانطباع حول التيقّظ على أساس خبرتي، والذي أود من المهتم أن يكون لديه حول نفسه وحول الناس الآخرين. ويستغرق زمناً إدراك هذه الحالة من نصف التيقّظ، حتى يعتقد الناس أنهم متيقّظون على أوسع مدى. وفي الواقع فإن المفارقة أننا نكون أكثر تيقّظاً لأنفسنا ونحن نيام منا ونحن أيقاظ. فعندما نكون نائمين أو عندما نكون مجانين، وعلى الأقل في بعض مراحل الجنون، فإننا بالفعل نكون مدركين للغاية أنفسنا بوصفنا ذوات، بوصفنا  أشخاصاً يشعرون، بوصفنا أناساً؛ ولا يظل هذا الإدراك منفصلاً إلا عن الحياة الخارجية. وهو لا يوجد إلا في الظلام، أو إذا تحدّثنا بيولوجياً، ما دام الكائن الحي متحرراً من وظيفة في الاحتيال على العالم، أو دفاعه عن نفسه، أو انشغاله بالبحث عن الطعام.


ولكننا حالما نستيقظ نذهب إلى النوم. وعندئذ نفقد كل التبصّر، وكل اليقظة من أجل العمليات الأدق لشعورنا ومعرفتنا. ونكون نياماً إلى كل شيء، وتلك هي الطريقة التي نعيش بها. أليس من العجب أن الناس لا يفهمون حياتهم إلا قليلاً جداً ؟ وأن الناس أشقياء في غمرة الوفرة؟ وأن الناس الذين يملكون كل شيء من شأنه أن يكون ضرورياً ليجنوا من الحياة أفضل ما يمكن أن تمنحهم الحياة، يتخبّطون، وهم أشقياء، ممتعضون، ويكون  لديهم في نهاية حياتهم على الأغلب إحساس مرير وحزين جداًً بأنهم قد عاشوا ومع ذلك لم يكونوا أحياء؟ وأنهم كانوا يقظين ولكنهم لم يتيقّظوا أبداً؟ ذلك ما يعني أن يدرك المرء ذاته.


وليصير المرء مدركاً لا شعوره فإنه لا يحتاج إلى أن يُحلَّل. ولا يحتاج ليعيش التجربة حقاً إلا إلى بعض الاهتمام وبعض الشجاعة. على المرء أن تكون لديه الشجاعة، مثلاً، ليَخبُر: "اعتقدت أنه إنسان محترم وأرى فجأة أنه ليس كذلك على الإطلاق. إنني لم أحبّه أبداً، وكنت أعرف دائماً أنه ليس إنساناً محترماً."


ومن الغرابة بمكان أننا نعرف ما نكبت. وفي الحقيقية لا توجد كلمة لهذه المعرفة التي لدينا، لهذا الإدراك الذي لدينا عن الأشياء التي كبتناها. إنه ليس "ما قبل الشعور" بالمعنى الفرويدي، ولا ريب، لأن ما قبل الشعور شيء قريب من الوعي. ولكنه ليس مكبوتاً، بمعنى أنه كذلك منفصل عن نظامنا. ولا ريب أنه يكون محمياً في الكثير من الأحيان من خلال ما يدعوه المرء المقاومة، ولكن من الغرابة بمكان أنك تجد في الكثير من الأحيان كذلك أن الشخص قد يرى شيئاً ما، ويمتلك تبصّراً وفجأة يعرف: " ولكنني عرفت ذلك كل الوقت، عرفت ذلك طيلة حياتي. إنه ليس جديداً حقاً. لقد عرفته وفي الوقت نفسه لم أعرفه.".

توجد هذه الظاهرة الإدراكية التي هي ليست شعورية وليست لا شعورية بصورة كلية. ولهذه الظاهرة نتائج حتى بالنسبة إلى التقنية التحليلية النفسية. ويتحدث المرء كثيراً عن مقاومة المريض. وذلك مسوَّغ تماماً والمقاومة، بوصفها حماية من شيء نخاف أن ندركه، قوية جداًُ. ولكن في الكثير من الأحيان، إذا أخبر المحلل المريض بشيء، مثلاً، يراه على الفور:"هذا ما أراه، وأنا لا أستطيع أن أثبت ذلك لك ولكن هذا ما أسمعه،" فإنه لن يكون نادر الحدوث أن يقول المريض: "أوه، أنت على حق، إنني لم أعرف ذلك، ولكنني عرفته أيضاً."وعندما يعبّر عن هذا البثّ شخص غيره بقوة، وضوح، وبصدق كافٍ لا بلغة أُخيولية أو مفرطة في النظرية، فقد يقول الشخص :"آه يا سيدي، أجل، هذا أنا، هذا صحيح، هذا حقيقي."


وتعتمد مسألة كم من المرات يحدث ذلك على عمق المقاومة. فإذا كانت المقاومة ضخمة فإن ذلك لا يسعف. ولكن في تلك الأحوال حيث لا تكون المقاومة ضخمة ولكن الحصن لا يدافع إلا دفاعاً خفيفاً، فعلى الفور قد يظهر إدراك شيء هو اللاشعور، والإحساس به، في حين قد يستغرق فحص تلك المقاومة وقتاً أطول إذا لم يستطيع المحلل أن يعلن أولاً وبصورة مباشرة: "اسمعني الآن، هذا ما أراه." إنها مسألة براعة من المحلل أن يعرف متى يستطيع أن يعرف ذلك، أو متى لا يستطع. وفي بعض الأحوال لا يكون ثمة اختلاف لأنه لو كانت المقاومة كبيرة جداً لأجاب المريض:"حسناً، ما تقوله واضح بما فيه الكفاية،" وذلك هو ذلك. وفي بعض الأحوال يكون ذلك خطراً لأنه على الرغم من أن المريض يقول:"لا ، ذلك كله هراء،هنا." يكون في
لا شعوره شيء يستجيب لذلك ولا تكون استجابته ببساطة من قبيل"هذا هراء،" وفي اليوم التالي أو بعد ساعة يصاب الشخص باكتئاب بالغ الشدة، لأنه لم يستطع أن يتحمل هذه الحقيقة المفاجئة. والآن، إذا كان هذا الشيء الكلي مكبوتاً، فلماذا يستجيب بتلك الطريقة؟ إن شيئاً ما فيه قد سمع ذلك.


إنه لمن الملائم لنا شخصياً أن نفكر على الدوام:" إذا كنت لا أدرك ذلك، فهو مكبوت، وإذا كان مكبوتاً، فربما كان عليّ أن أذهب إلى محلل نفسي مدة سنة، وإذا كنت لا أستطيع القيام بذلك أو لا أريده، تركته وحده." ولكن الأمر ليس بتلك البساطة. وإذا درّبت نفسي أن أكون حساساً تجاهه، وقد أكتشف شيئاً عنه، من دون عون حتى من المحلل قد أكتشف يوماً :" آه، إن ذلك ليس كما أعتقد تماماً."


والحساسية ضرورية لإدراك أن لا شعور المرء معروف لنا: فإذا كنا، مثلاً، نسوق سيارة، نكون حساسين للغاية تجاه ضجة السيارة من دون التفكير فيها.فنلاحظ أدق ضجة، وأدنى اختلاف. ونستطيع أن نفكر في شيء مختلف كل الاختلاف، وأن نكون مركّزين تماماً على المشهد الذي أمامنا ـ ولكن إذا كان هناك أدنى تغيّر في مستوى الضجة، أو في نوعية الصوت، فإننا ندرك ذلك على الفور.




إدراك المرء لجسمه


إن المنهج الآخر لشفاء عصاب الطبع الحديث بأنواعه هو إدراك المرء لجسمه. وأعني بذلك أمراً يُدعى الحساسية في بعض الأحيان. إنني أشير إلى الإدراك البدني الذي لا يشعر به جلّ الناس لأنه لا يحسون بالبدن إلا عندما ينتابهم الألم. ولكننا لا نحسّ بجسمنا عندما لا نعاني من الألم. والقلة القليلة من الناس تحس به. وإدراك المرءِ جسَمه، لا مجرد تنفسه، بل جسمه الكلي، وضعيّة جسمه، عندما يكون منحصراً ـ إن هذا الإدراك إضافة بالغة الأهمية إلى إدراك المرء لذهنه. وأنا أوصي به لأي شخص بوصفه إلحاقاً شديد الأهمية بتحليل ذهن المرء الذي يستمر في التحليل.


إن إدراك المرءِ بدنَه، وإعادة بناء التجربة البدنية للمرء، و الإدراك الأكبر بالوصول إلى انسجام وعدم تضايق في الجسم أكثر بكثير لـه كبير الأهمية. وقد أخذتُ بمنهج إلزا جندلر ُُElsa Gindler سنواتٍ وأنا الآن ومنذ سنوات غير قليلة أتعلّم الـ"تاي تشي" T' ai chi التي هي مجموعة من الحركات الصينية شديدة الدقة والإرخاء، وقد أفدت منها فائدة عظيمة.وفي بعض الأمثلة يمكن أن يكون لأنماط معينة من التدليك تأثير جيد جداً، كما اكتشف غيورغ غرودك Georg Groddek وفلهلم رايش Wilhelm Reich.
وإذا عرف الشخص كيف يحرر نفسه من الداخل فإنه سيعرف ذلك في وضعية جسمه، وفي إيماءاته، ولو لم يدرب نفسه تدريباً خاصاً على منهج الحساسية البدنية. ولا يقتصر الأمر على أن الجسم، كان لإدراكه تأثير في إزالة التضايق الداخلي، وفي ثقة المرء الداخلية بنفسه، بل إنه يسير في كلا الاتجاهين. فإلى الحد الذي يصبح المرء فيه أكثر حرية داخلياً، فإن المرء سيكون أكثر حرية من الوجهة المادية، في بدن المرء.


ومن المهم جداً ألا ننسى أن الإرخاء البدني وحده لا يكفي. وقد عرفت عدداً غير قليل من الناس الذي حققوا بالفعل الكثير جداً على أساس الانسجام الكامل لوضعيتهم البدنية ـ أو ما يبدو شبيهاً بالانسجام الكامل ـ ولكنهم حلّوا الأقل من مشكلاتهم عميقة المدى، مشكلات هويتهم وإحساسهم بالذات وتقاربهم، ومشكلات عمق علاقاتهم بالناس وواقعها. ولذلك فأنا أولي الأهمية الأولى لخبرة المرء لنفسه بالمعنى التحليلي، ويساعد على هذا كثيراً أي منهج يقوم بهذا مع الجسم في الوقت نفسه، ويفضي إلى أكبر انسجام وإرخاء للجسم.


وأستطيع أن أقيس حالتي الذهنية الداخلية بملاحظة وضعية جسمي.إنها تتغير طبقاً لهذا: إذا شعرت أنني بخير أقل فإن وضعية جسمي ستكون وضعية التعب، والتهدّل في المشي أو القعود، وإذا شعرت أنني بخير، بخير من الداخل، فإن وضعيتي ستكون مختلفة (وأنا لست بأية حال مثالاً جيداً للآخرين على ما يجب أن تكون الوضعية). ولا ريب أن البدن تعبير عن كل شيء يجري فيه: فهو يشير إلى الإيماءة، ويشير إلى طريقة قعود المرء، وإلى طريقه سيره. ويستطيع المرء أن يميز شخصاً ينظر إلى ما وراءه؛ وأيسر على الناس أن يحددوا [ من بعيد] هويته من طريقة سيره مما يمكن أن يحددوها من وجهه، لأن السير هو الحركة الأقل قصداً والأقل شعورية، فهي من ثم الحركة الأصدق. ويصدق الأمر نفسه على الإيماءات. وحتماً هناك أناس تعلّموا الإيماءات مثل ممثّل متصنّع، ولكن أي شخص لديه بعض الفهم يستطيع أن يعرف الفارق بين الزائف والمتضلّع.


ويصدق الأمر نفسه على خط اليد، و الشيء بالشيء يُذكر. وتجد بالفعل خطوطاً تكون في بعض الأحيان جميلة تماماً؛ والخط بارع الجمال، شديد الفنية، بالغ التأثير، فتقول : "يا للخطّ الجميل!" ولكن يحدث في كثير من الأحيان أن يقول لك عالم في الخطوط إن خطه مخطَّط لـه بصورة كاملة، أي أن الشخص قد تعلّم أن يكتب على هذا النحو الذي يعطيه السيماء، التي تخلق الانطباع بأنه شخص مدهش عالي الفنية، ورفيع النشأة. وبوسع المرء القيام بذلك. وليس من الضروري حتى أن يقوم المرء بذلك عمداً، وأن تكون لديه خطة للقيام بذلك. ولكن المرء يفهم الحيلة. ويلاحظ عالم الخطوط الجيد ما هو موجَّه في ذلك النوع من الخط وما هو أصيل. وفي بعض الأحيان يمكن أن تلاحظ من دون أن تكون عالم خطوط ـ أن الناس الذي يكتبون بطريقة معينة يظنون غالباً أنها جميلة، ولكنهم عندما يكونون على عجل فإنهم يكتبون بغته شيئاً تراه وتقول:"بالله عليك، ذلك خط مختلف كل الاختلاف،" لأنهم في تلك اللحظة ليس لديهم الوقت ليصوروا حسن خطّهم.


إن كل تعبير جسدي، حتى أشد التعابير دقة، هو تعبير مباشر عن أرواحنا. وقد تمكّن الدكتور روتشيلد Rotschild، وهو واحد من أكثر الأطباء النفسيين موهبة، أن يعطيك عندما كان أصغر سناً تحليلاً لطبع الشخص بنظره إلى نعلي حذائه. فقد استطاع بطريقة بالغة الحدسية أن يعيد من الطريقة التي تمزّق بها نعلاك بناء الطريقة التي تسير بها وهو حتى لم يكن يلاحظ الشخص وهو سائر. كان من الطريقة التي تمزّق بها النعلان يرى كيف كان يسير ومن ثم كان يستنبط من هو الشخص. وبمعزل عن أن نكون موهوبين على هذا النحو علينا جميعاً أن ننمّي الاستشعار لفهم معنى الإيماءة، ومعنى وضعية الجسم، ومعنى المسير. ثم يستطيع المرء أن يمضي إلى المشكلة الأصعب، وهي معنى الجسد الكلي، ووحدة إيقاع الشخص، على أساس من هو الشخص. وليست أشياؤنا الوظيفية هي وحدها المعبّرة عن حياتنا الداخلية، ولكن كذلك وإلى حد ما فإن الطريقة التي تُبنى عليها هي تعبير رمزي عن بعض الشيء الذي نحن عليه. ولكن تلك المشكلة شديدة التعقيد. إنها مشكلة لم تُسبَر إلا قليلاً جداً، على الرغم من أنه في علم الأنماط الشخصية عند كريتشمر Kretschmer وشيلدون Sheldon يتم إظهار الصلة، مثلاً، بين البنية الجسدية والملامح الهوسية الاكتئابية أو الفُصامية بوضوح شديد.




التركيز و التأمل


إن المنهجين الآخرين هما ممارستا التركيز والتأمل، وهما أمران يتمان بانتظام وتدريب شديد، فعلى المرء أن يقطع الحياة التي يتأثّر فيها بآلاف وآلاف الانطباعات والمثيرات، وأن يعيش تجربة وجوده مع نفسه في هدوء وسكون. ولا يوجد التركيز في الأزمنة الحديثة إلا قليلاً. فالناس مشتّتو الذهن. فأنت تستمع إلى المذياع وتتحدث في الحين نفسه وتقوم بثلاثة أمور في وقت واحد. وحتى حين تصغي إلى محادثة، فإنها تفتقر في جل الأحيان إلى صفة التركيز هذه.


ومما لا ريب فيه أن تعلّم المرء التركيز، وأن يكون مركّزاً على كل شيء يقوم به، هو شرط لأي نوع من الإنجاز، في أي مجال. ويمكن أن يقال من دون أي شك إن أي إنجاز، سواء أكان ذلك أن تكون نجاراً ماهراً، أم طاهياً جيداً، أم فيلسوفاً مهماً، أم أن تكون مجرد ممتلئ بالحياة، يعتمد كلياً على القدرة على أن تكون مركّزاً حقاً. والقول "مركّز حقاً" يعني أنه لا يوجد في تلك الآونة شيء في ذهنك إلا ما تفعله وأنك تكاد تنسى كل شيء سواه. وتلك هي كذلك ماهية المحادثة في أي شيء جدير بالتحدث عنه إلى شخص آخر. وفي تلك الآونة يكون الشخصان اللذان يتحدثان مركّزين على مايتحدثان به، ويركّز بعضهما على بعض.


وقد قدّمت الطبيعة مثالاً إلى حد ما، لأن الفعل الجنسي محال من دون الحد  الأدنى من التركيز. وإذا فكر الناس في أمور أخرى وفي سوق الأوراق المالية، فإنهم لن ينجحوا في المجامعة لأنها بطبيعة الحال يكون فيها قدر معيّن من التركيز الضروري حتى تؤدَّى الوظيفة. ولكن ذلك هو مجرد إشارة خفيفة أعطتها إيانا الطبيعة، إذا جاز التعبير. ولكن لا يفهم جل الناس تلك الإشارة. فهم في علاقاتهم لا يركّزون.


خذ مثلاً شيئاً بسيطاً: العادة الأمريكية بعدم دعوة شخص أو شخصين، بل دعوة أربعة أشخاص أو ستة على الأقل. إنهم يقومون بذلك لأنهم خائفون من أن يكونوا وحدهم مع اثنين آخرين، خائفون من القرب أو التركيز الممكن الذي يقتضيه ذلك. ولكن إذا كان هناك ستة أشخاص فلن يكون ثمت تركيز حقاً، ويتحدث المرء عن هذا ـ وهو مثل سيرك كبير ذي ثلاث حلقات. وإذا كنتم عشرة أشخاص، كان اللقاء حتماً من دون تركيز أبداً. وحين يتحادث شخصان ـ ولو تحادثا قليلاُ أو كان حديثهما عن شيء بسيط للغاية، فإذا كان هذا التواصل في تلك الآوانة عينها حقيقياً ـ فإنه ليس ثمت ما هو أهم من أن يتحدث المرء إلى الآخر. وإلى الحد الذي لا يكون ذلك موجوداً، فلا شيء يحدث حقاً.


وللبدء بممارسات التركيز فإن الشيء الأبسط هو مجرد أن تقعد وتغمض عينيك وتحاول ألا تفكر في أي شيء وأن تقتصر على الإحساس بتنفّسك. ومتى ما فكرت في تنفّسك فإنك لا تحسّ به؛ أي لا يكون جسدك مدركاً  تنفسك. وإذا ما بدأت التفكير، فإنك لن تعود تدرك تنفسك، لأنك تكون عندئذ تفكر في تنفسك. ويصدق ذلك عملياً على كل التجارب. فمتى ما فكرت فيها، فإنك تتوقف عن خبرتها.


وأقدم مثالاً بسيطاً على الاختلاف بين التفكير والخبرة:إن الراقصة تتذكر حركة الرقص، ولكنها لا تتذكرها في رأسها. إن جسد الراقصة يتذكرها، فذاكرتها في جسدها. ومما لا شك فيه أن الذاكرة تظل في الدماغ، ولكن الأمر هو أنها لا تفكر في الحركة التالية؛ وفي الحقيقة إنها إذا بدأت في الرقصة المعقدة تفكر ما هي الحركة التالية فإنها تضيع.إن جسدها يدرك الحركة وله ذاكرة رائعة. ويصدق الأمر على القطعة الموسيقية المدوّنة، فأنت لا تعرف ماذا يأتي، أنت تسمعه؛ ذاكرتك هنا، ولكنها ليست في الفكر. ومن الواضح حقاً ماذا تعني الخبرة، ولكن الناس ينسون على الأغلب أشد الأشياء وضوحاً.


وعندما تحاول أن تقعد وألا تفكر في أي شيء، فسوف تجد أن ذلك صعب إلى حد ما، صعب جداً. وسوف تجد أن أموراً كثيرة ترِدُ إلى ذهنك. فتفكر في الكتب، وفي كل شيء. وهذا يعني أنك لا تركّز، لأنه تجذبك أو تشتت ذهنك أمور كثيرة. ويمكنك بعدئذ أن ترى ما هي الأفكار التي ترِدُ إلى ذهنك. وماذا في ذهنك حقاً. إن ذلك شيء ظريف من التحليل الذاتي. ثم تفكر في مهنتك، أو في هذا وذلك وما تقوم به. سوف تجد أن تلك الأمور تدخل في ذهنك وهي مهمة بالنسبة إليك نوعاً ما، لا بصورة مباشرة غالباً، بل غير مباشرة.
عليك أن تحلل كل ما يرد إلى ذهنك.إن تعلمك أن تكون مركّزاً هو مسألة ممارسة. إنك تقعد ـ ولنقل ـ وتنظر إلى هذه الأزهار. إنك تقعد هناك خمس دقائق، عشر دقائق، وأنت لا تقوم إلا بالنظر إلى هذه الأزهار. وعندما تأتي الأفكار، وعندما لا تكون مُثاراً ومتشجعاً تقول: "يا إلهي، لا أستطيع أن أفعل ذلك." ولكنك تقول: "حسناً، من الطبيعي أن تأتي." وعندما تكون قد قمت بذلك أسبوعاً، أربعة أسابيع، أربع سنوات، تكون قد تعلمتَ أن تركّز.


ولتعلّم ممارسة التركيز أود أن أزكّي لك كتاباً أعتقد أنه بالغ الفائدة: لُباب التأمّل البوذي  The Heart of Buddhist Meditation وهو عن الإدراك البوذي، وعن التأمل البوذي، كتبه نيانابونيكا ماهاتيرا Nyanaponika Mahathera، الذي أعرفه معرفة جيدة جداًَ. إنه راهب بوذي ألماني الأصل. وهو إنسان علاّمة يعيش في سري لانكا ويجمع بين البوذية والتراث البحثي الألماني. وقد ترجم الكثير من النصوص من البالية Pali والسنسكريتية.


ونيانابونيكا هو إلى ذلك شخص يستأثر بالاهتمام كثيراً وقد أنجز في حياته الشيء الكثير. وهو مفعم بالحيوية كثيراً، وشديد التظاهر إلى حد بعيد،
ولا توجد في حياته لحظة يمكن أن تُدعى ميتة بأبعد معنى للكلمة. وكتابُه لُباب التأمل البوذي وصف ممتاز تحت رعاية النصوص البوذية لما يتمحور حوله التأمل البوذي: التفّطن. والتفّطن يعني الإدراك: إنني شديد الإدراك في كل لحظة لجسدي، ووضعية جسدي، ولأي شيء يجري في جسمي، وأنا مدرك أفكاري تمام الإدراك، ومدرك لما أفكر فيه؛ والقول إنني كامل التركيز ـ هو على وجه الدقة هذا الإدراك الكامل.




اكتشاف المرء نرجسيته


كان اكتشاف فرويد لمفهوم النرجسية واحداً من اكتشافاته الكبرى، على الرغم من أن فرويد بتفسيره المفهوم على أساس الإطار المرجعي لنظرية اللبيدو قد ضيّقه. ووفقاً لفرويد على المرء أن يتحدث عن النرجسية الأولية حيث لا يزال كل اللبيدو في الأنا ومن ثم في الهو، وبعدئذ تُرسل النرجسية إلى شيء في الخارج. فإذا أعيدت النرجسية بعد ذلك إلى الأنا أو الهو من جديد، فإنك تتحدث عن النرجسية الثانوية. ورؤية فرويد هذه مفهوم شديد الميكانيكية، كما هي النظرية الكلية للبيدو. وإذا حرر المرء مفهوم النرجسية مثل بعض مفهومات فرويد الأخرى من مفهوم اللبيدو، وإذا استخدم المرء اللبيدو كما استخدمه يونغ  في الواقع بمعنى أوسع بكثير ليكون الطاقة النفسية، فسيتبين أن مفهوم النرجسية يكاد يكون واحداً من أهم المفهومات التي اكتشفها فرويد في أي وقت.


ووفقاً لفهمي، فإن الشخص النرجسي هو الشخص الذي لا يكون الواقع عنده إلا الذي يجري ذاتياً. فأفكاره وأحاسيسه وما إلى ذلك يراها حقيقية؛ وتمثّل الواقع. ولذلك فالطفل الصغير يكون نرجسياً إلى أبعد الحدود لأنه في الأصل لا يوجد عنده واقع في الخارج بعد. والمريض الذُّهاني نرجسي متطرف لأن واقعه الوحيد تشكله تجاربه الداخلية. وجُلّنا نرجسيون إلى هذا الحد أو ذلك، أي أننا منجذبون قليلاً أو كثيراً إلى ألاّ نحسب حقيقياً إلا ما هو في داخلنا، لا ما يشير إلى شخص آخر. وأعتقد بالنسبة إلى فهم الإنسان، أي إلى فهم أنفسنا، أن فهم النرجسية من أهم الأمور، وأنها لم تجد الاهتمام حقاً، حتى في التحليل الأُرثوذكسي.


وعليّ أن أشرح بوضوح أشد قليلاً هذه النرجسية على أساس تجربتنا.ولنقل إنك كتبت مقالة صحفية أو إنك تكتبها الآن وتقرأ مسوّدتك التي تقع في صفحتين. وتعتقد أنها مدهشة، وهي ضعيفة. وتُريها لصديقك وتكون متألماً من الأعماق عندما لا يظن الصديق أنها أعظم شيء في القرن. وتقرؤها مرة أخرى في اليوم التالي وتفكر: " ماذا، إنها لا معنى لها، وهي لا شيء، وهي سيئة التأليف، وغير واضحة." والتفسير هو إنه من الواضح أنك عندما كنت تكتب كنت في حالة نرجسية. والحالة النرجسية تعني هنا أن كل شيء يخصّني ـ فكري وشعوري وجسدي وميولي ـ إن كل ذلك هو حقيقي، وبقية العالم التي لا تتعلق بي ليس حقيقية، ليس لها لون، غبشاء، وليس لها وزن. فأنا أقيس بمقياسين مختلفين كل الاختلاف: ذلك الذي هو لي، ويعود إليّ، وهو رأيي، المكتوب بحروف كبيرة، وذلك هو اللون، وذلك هو الحي. وأشعر لأنني أقول ذلك أجعله حقيقية، وليس عليّ أن أملك البرهان. فأنا مشغوف بنفسي، أي بعملي، بأفكاري. ولكن ما هو في الخارج فإنه لا يخلق أي انطباع، وأكاد لا أشعر به.


والمثال التالي متكرر كثيراً، وهو في الحين ذاته مثال جيد على السمات الأخرى للنرجسية. خذ على سبيل المثال رجلاً متزوجاً ويحتاج إلى أن تكون لـه علاقات غرامية عديدة. إنه يتوقع أن تكون زوجته مبتهجة عندما يأتي ويخبر زوجته عن كل الفتوحات العجيبة التي قام بها. وهو يأتي إلى المحلل ويقول:"انظر، إنها لا تحبني، لأنها بدلاً من أن تكون سعيدة بخصوص فتوحاتي ومهتمة بما أقوم به وكيف تقع الفتيات الكثيرات في حبي، لا تُبدي أي اهتمام." وتُظهر الحجج السخيفة لهذا الرجل كيف أنه لا يعيش إلا تجربة نفسه، ما يتعلق به، أي هو سعيد جداً لأنه يحتاج إلى ذلك النوع من الشيء، ولكنه عاجز تماماً عن رؤية واقع زوجته، أي أنه من الطبيعي تماماً ألا تكون سعيدة بذلك. ولو كان من شأنها أن تقعد ثمت وتستمع إلى قصصه وهي شديدة الابتهاج بها لكانت عُصابية لأنها كانت ستتصرف مثل أم وتنظر إلى الرجل كأنه صبي صغير يخبرها بمغامراته، وكم مباراة ربحها في كرة القدم.


والشخص النرجسي يعيش على تغذية نرجسيته. والنرجسي شخص مضطرب للغاية لأن كل مشاعره ليس لها أساس، وليس لكل هذه الأشياء أساس في الواقع. إنه ينشئ عبارة ولكن هذه العبارة لم تُنجز بعدَ تفكرّ، ولم ينجزها تفّطن، أو عمل، أو تماسّ بالمادة، بل ببساطة لأنه ينشئها. إنها عبارته ولأنها عبارته  فهي صحيحة. ولكنه في أمسّ الحاجة إلى أن تتأكدّ نرجسيته لأنها عندما لا تتأكد يبدأ الشك في كل شيء. إذن من هو؟ فإذا كانت عبارة النرجسي صحيحة لأنها عبارته، فإنه لا يستطيع أن يتراجع ويقول: "طيب، سأنشئ غيرها في مرة قادمة." وعلى سبيل المثال: إن شخصاً قال في إحدى الحفلات شيئاً ما، إنه قد يكون شديد الذكاء، وقد كان محطّ إعجاب دائماً. ثم قال شيئاً فيه غباء، أو ارتكب خطأ واكتشفه الناس. قد لا يكون الأمر بذلك السوء، ولكنه سيقع  في اكتئاب عميق. إن درعه قد تمّ اختراقه، لأنه يفقد الإيمان بروعة كل شيء يعمله. وبما أن وجوده الكلي، أمنه الكلي، ليست لـه جذور إلا في اقتناعه، اقنتاعه الشخصي، فإذا التقى شخصاً انتقده أو نظر إليه بخيبة أمل، فإنه يشعر بأنه مهاجَم. وعندئذ يتمّ اختراق نظامه الكلي من الاعتقاد بالذات وتضخم الذات وسيصاب بالاكتئاب الشديد أو يستشيط غضباً.


وليس هناك استشاطة غضب أشد من إيذاء نرجسية الشخص النرجسي. إنه سوف يغفر كل شيء إلا إيذاء نرجسيته، وذلك بالفعل أمر على المرء أن يتذكره دائماً. ويمكن أن تفعل مع النرجسي أي شيء تقريباً، ولكنك إذا اخترقت نرجسيته أو آذيتها فسيصاب بالغيظ وسواء في ذلك إظهاره و إخفاؤه، وسيكون لديه شعور بالرغبة في الانتقام لأن ذلك يكاد يشبه قتله.


والناس الذين هم نرجسيون جداً كثيراً ما يكونون جذابين جداً لأن الشخص منهم شديد التمكّن من نفسه. وهم ينزّون بالثقة بالنفس. والنرجسي جذاب، ولنقل إن الفتاة تقع في حبه وتُعجب به لأنه متمكّن من نفسه كثيراً ـ ولا أحد متمكّن من نفسه مثله. وإذا لم يكن الشخص نرجسياً فإنه لا يستطيع أن يكون واثقاً بنفسه، وبأي شيء. وبعد بضعة أشهر تعتقد أنه مخطئ في أمر ما وتنتقده. وفي هذه الآونة فإن السبب الكلي الذي يجعله يحبها هو : أنها أُعجبت به أكثر مما أعجبت الفتيات الأخريات. وذلك هو الخيار غالباً، فهناك منافسة الإعجاب، وهكذا كانت أكثر المعجبات به والآن تقوّض الوضع كله بانتقاده. وذلك يعني عنده:"إنها لا تؤمن بي، إنها خطرة، إنها تهديد." وسيكون لـه أي نوع من رد الفعل: فقد يكون شديد البذاءة بحيث لا تجرؤ على تكرار ذلك، أو قد يهجرها، والشكوى المألوفة هي أنها لا تفهمه. والشكوى من أن ذلك الطرف لا يفهم الطرف الآخر هي الشكوى النموذجية، ولاسيما بالنسبة إلى النرجسيين، لأنهم يعتقدون أنهم غير مفهومين.


والنرجسيون يمكن كذلك أن يعيشوا في جنون اثنين folie à deux. وأذكر حالة امرأة وابنتها كانت كلتاهما مقتنعة، وتقول، إنهما الوحيدتان اللتان كانتا نظيفتين، ومحتشمتين، وتعرفان كيف تطهوان، في كل البلد. وأي شخص سوف يقول إن ذلك جنون، لأن هذا الاعتقاد غير النقدي تماماً بعظمتهما ومعصوميتهما عن الخطأ هو تجلّ للنرجسية المطبقة. وعندما يقول إنسان:"إن بلدي هو أروع بلد، ونحن أفضل من أية أمة غيرنا." فقد تقول إنه وطني، مخلص لأمته، مواطن جيد، ولا أحد يقول إنه مجنون لأنه يشاركه في ذلك كل شخص سواه. وكل شخص سواه يحبّ أن يشعر بذلك أيضاً، وشعب البلد الآخر يجب أن يشعر بذلك حيال بلده. وعندما يجتمع الطرفان يكون هناك كره هائل لأن على كل منهما أن يحافظ على النرجسية الجماعية التي يشارك بها الآخرين في الشعور العجيب بعظمته.


والنرجسية الجماعية هي نرجسية الإنسان الفقير. فالإنسان الغني،القوي، لديه ما يكفي لمؤازرة نرجسيته بماله، بقوته، بتلك العناصر من الواقع التي تعطيه الإحساس بقوته. والإنسان الفقير ـ وأنا لا أقصد الفقير تماماً بل الإنسان العادي، ماذا لديه؟ إنه مستخدَم في مكان ما، ليس لديه شيء يقوله، وهو خائف من منافسيه، وكل حياته سباق الجرذان ـ ففيمن يستطيع أن يؤثّر؟ ابنه الصغير وربما كلبه، ولكن ابنه قد كبر أيضاً وزوجته قد تعلّمت أن تهتم بنفسها. ولكنه حين يستطيع أن يشارك في النرجسية الجماعية، عندما يستطيع أن يشعر بأنه عضو في هذه الأمة، فأنا الأعظم ـ أنا الأروع من أي شخص سواي. وهكذا بوسعه أن ينغمس في هذه التجربة النرجسية، ولكنها ما دامت ممتدة إلى الجماعة فهناك إجماع بين كل أعضاء هذه الجماعة. وهو في الحقيقة يوحّد هؤلاء الناس ويقويهم عندما يستطيعون أن يعبّروا بصورة مشتركة عن إيمانهم بخصائصهم الخارقة للعادة. وذلك هو السبب في أن ما يُدعى التعصّب القومي هو أساس معظم الحروب، كما نرى، مثلاً، في النازية والصهيونية.


ويمكن للمرء أن يجد القدر الهائل من النرجسية في النرجسية العائلية. فللأُسر نرجسية سرية. فكروا في هذه الأسر التي تأتي فيها الأم من حياة رفيعة قليلاً، أعلى قليلاً في السلّم الاجتماعي، فإنها سوف تشعر إلى الأبد أن أسرتها أفضل من أسرة زوجها أو العكس بالعكس، ويسمع الطفل من البداية كم هم آل كوهن أو سميث رائعون وكم هو الطرف الآخر ناقص. ثم هي طبقتهم، لأن الأسرة تحمل معها في الوقت نفسه نرجسية طبقية هائلة. إياك أن تتزوج من طبقة أخرى، ويبرّر ذلك أن الناس الذين هم من خلفية واحدة يعرف بعضهم بعضاً معرفة أفضل. إلا أن برهانهم هو أنهم لا يتزوجون لأن الخلفية التي تُطيق عدم المبادرة، والافتقار إلى اللذة، هي التي تجعلهم أشقياء مرتين.


ومع ذلك تتفاوت درجة نرجسية الناس تفاوتاً كبيراً. وتجد أناساً نرجسيين إلى أقصى الحدود من دون أن يكونوا مخبولين ومن دون أن يكونوا مجانين. والشخص الذُّهاني منسحب من العالم كثيراً لأنه قد ناله منه أسوأ الأذى. ولكنه كذلك حسّاس تجاه الناس أكثر بكثير من الشخص النرجسي غير الذُّهاني. الذي يكون في جلّ الأحايين غير حسّاس لأنه غير قادر على الرؤية، وعلى المعرفة، وعلى النظر فيما يجري في الشخص الآخر.


والشخص النرجسي جداً شديد التيقّن لأنه لا يهمه كيف هي الأمور. وهو يستطيع أن يتكلم بيقين لأن كل يقينه يرتكي على ما يعتقد به. وإذا كان ذلك ما يعتقد به، فهو صحيح. ولنقدم مثالاً على ظاهرة من ظواهر البارانويا: لنقل إن شخصاً يفكر في شخص آخر هو عدوّه، أو يبغضه. وقد يكون هذا صحيحاً تماماً.وقد يصل به الأمر في بعض الأحيان إلى أن يكون خائفاً من أن يؤذيه الرجل بعض الأذى. فما هي ردة فعل المصاب بالبارانويا؟ إنه يكون مقتنعاً أن الرجل يخطط لقتله، وهذا الاقتناع لا يتزعزع لأنه اهتدى إلى خبرة إحساسه الذاتي، التي هي عنده حقيقة واقعة. تلك حقيقة، ولذلك فهو يؤمن بالحقيقة لأن أحاسيسه الذاتية بعداء الآخر وجيهة وجاهة الحقيقة، ولا يدخل الواقع في تلك الصورة.


ويصدق الأمر نفسه على الوهم. ولنقل عندما يرى شخص أن أمة أمست لبوة. وكثيراً ما يكون هذا موضوع أحلام الرجال. والآن، ففي الحلم ذلك طبيعي، على الرغم من أن الحلم، كما قال فرويد، ذُهان مؤقت لا نرى فيه الواقع كما هو؛ فخبرتنا الذاتية هي التي تصنع الواقع. ولكن عندما يرى شخص، ممتلئ بالرعب والذعر: "أمي لبوة، إنها سوف تأكلني،" ويرى اللبوة تدخل فيقول: " هناك لبوة قادمة،" ويعتقد أن ذلك حقيقي، فعندئذ نقول إنه مخبول، إنه مجنون. إن لديه وهماً، وهو أن أمه لبوة، حين يكون بالفعل ما لديه في الواقع هو الفزع الشديد منها. ولكن لأن فزعه الذاتي هو والواقع سواء، ولأن أحاسيسه تصنع الواقع، يمكن لـه أن يقول، ويمكن لـه أن يرى فيها، أنها لبوة، وأن كل جهازه الحسي وما يمكن أن ندعوه إحساسه بالواقع قد اختفى كلياً.


إن فهم النرجسية هو أحد المفاتيح لفهم تصرفات الناس غير العقلية، ولفهم الإنسان لنفسه؛ وردود الفعل غير العقلية هي إلى حد كبير أساسها الظواهر النرجسية. وتحليل شخص شديد النرجسية أمر صعب للغاية لأنه نسبياً لا يدانيه أحد. وهو في العادة يستجيب بقوله إن المحلل أخرس، عدواني، حسود، غبي ، وأي شيء للفرار من الإحساس بأن عظمته غير مصونة، لأن المحافظة على صورته وإبقاءها في حالة حسنة أمر شديد الحيوية بالنسبة إليه. ولذلك فهو أمر لا يمكن أن يتمّ إلا بحذر شديد وبطء شديد.


إن درجة النرجسية تتباين إلى حد كبير. وإنك لتجد أناساً نرجسيين من دون أن يكونوا مخبولين، ومن دون أن يكونوا مجانين. مع ذلك تجد بين من هم ليسوا مجانين، وفضلاً عن النرجسين إلى أقصى الحدود، أناساً ليست نرجسيتهم أقل بكثير من ذلك ويستطيع كل إنسان بالملاحظة الذاتية وبالمقارنة وبملاحظة الآخرين أن يتحقق من نرجسيتهم. ومن المستحيل أن يتحدث المرء عن النرجسية نظرياً من دون أن يكون قد خبرها في نرجسيته، أو أن يكون قد رآها بوضوح في شخص آخر، ولكن على نحو يمكن فيه أن يراها حقاً لا أن يسميها فقط. ولولا هذه الخبرة لا معنى للتحدث عنها لأن المرء يتحدث عن الجانب الآخر من القمر.


والنرجسية مشكلة عصيبة من مشكلات النشوء الإنساني. وبإمكانكم إجمال كل التعاليم، سواء أكانت بوذية أم يهودية نبوية أم مسيحية أم إسلامية، أو ان تأخذوا بعد ذلك بقول من المذهب الإنساني ـ فيمكن القول إن ما يقول به كل ذلك ماهوياً هو أن تتغلّبوا على نرجسيتكم. إن ذلك هو ابتداء الحب كله، والأخوة كلها، لأنه في هذه النرجسية يغترب الناس بعضهم عن بعض. وتختلط النرجسية بحب الذات. وفي التراث الفلسفي تجدون بأشد الوضوح أن النرجسية أو التمركز حول الأنا شيء مختلف كل الاختلاف عن حب الذات. لأن حب الذات حب، وفي الحب فإن مسألة من هو موضوع حبي لا تُحدِث أي اختلاف.


إن على الإنسان أن يكون لـه موقف إيجابي محب من نفسه. والمتمركز حول الأنا هو في الواقع شخص لا يحب نفسه، وهو شخص جشع. وعموماً فإن الجشِع هو الشخص الذي لا يشبع. والجشَع هو نتيجة الإحباط العميق على الدوام. والشخص الذي يشبع ليس جشعاً، بخصوص القوة أو الطعام أو أي شيء سواهما. والجشَع هو نتيجة خواء في الداخل على الدوام. وذلك هو السبب في أنك تجد الناس الذين هم قلقون جداً أو مضغوطون، مثلاً، يبدؤون في تناول الطعام بصورة اضطرارية، استحواذية، لأن لديهم إحساساً بالخواء.


وإذا أراد كل شخص أن ينشأ وينمو حقاً، فيجب أن تكون إحدى محاولاته التعرّف بنرجسيته. على المرء أن يحاول ذلك. فأنت تتعرّف بها ببطء، وببطء تقوم بخطوة جيدة، خطوة إلى الأمام، وإذا ازداد تعرّفك، فذلك هو الأفضل. ولكن التعرّف بها صعب للغاية لأنك قاضي نفسك، أي أنك تعتقد بما تفكر، ولكن من سيصحح لك؟ من الذي سيظهر أنك غالط؟ فمن زاوية نظرك لا تشغر بذلك، فأنت لا تملك علامة توجّه.


ويصدق الأمر نفسه على الراقص الذي يقوم بالتمارين. فالأمر المهم بالنسبة إلى الراقصين هو أنهم لا يعرفون ذاتياً في كثير من الأحيان كم كانت تمارينهم جيدة. وذلك هو السبب في أنهم ينظرون في المرآة، لأن الراقص لا يعرف من الإحساس الذاتي الصرف هل قام بحركة بديعة، أو هل كان ضبط الوقت صحيحاً، أم كان سريعاً. إنه لا يعرف ذاتياً كيف يقيس. إن ذك شبيه بإحساسنا بالسرعة التي نمضي بها. والآن ففي النرجسية يمكن أن يكون شخص آخر هو علامة التوجّه، فتكلمه بأمر ما، فيقول لك: " اسمعني الآن، إن ذلك محض هراء،" وأنت لا تؤمن بذلك إلا لأنه قد كانت لديك هذه الفكرة أو لأنه اهتمامك. وجرت العادة ألا يفعل الناس ذلك، ولكن المحلل يفعل ذلك شريطة أن تكون لديه خبرة كافية بنرجسيته. ويمكن أن تقول إنه ذا تغلّب شخص من الأشخاص عليها تماماً فسيكون ما يدعوه المسيحيون القديس أو ما يدعوه البوذيون الإنسان المتنوّر. أو ما يدعوه "إكارت" Eckhart الإنسان العادل. ولا يهم كثيراً كم يذهب الشخص بعيداً ـ فما يهم هو في أي اتجاه يذهب.




تحليل المرء لنفسه


أخيراً، أود أن أذكر التحليل الذاتي. إن التحليل يتكلل بالنجاح عندما يبدأ الشخص بتحليل نفسه كل يوم ما بقي من عمره. والتحليل الذاتي بهذا المعنى هو إدراك المرء الدائم الفعال لنفسه طوال حياته، ليكون مدركاً لذاته، ويزداد إدراكاً لها، ولبواعثه اللاشعورية، ولكل شيء مهم في ذهن المرء، وأهدافه وتناقضاته، وتبايناته. ولا يسعني شخصياً إلا أن أقول إنني أحلل نفسي كل صباح ـ تحليلاً يجمع بين ممارستي التركيز والتأمل ـ ساعة ونصف الساعة، ولا أريد أن أعيش من دون ذلك. وأرى أن هذا أمر من أهم الأمور التي أقوم بها. ولكن ذلك لا يمكن أن يتمّ من دون الجدية الكبيرة ومن دون إيلائه الأهمية التي يستحقّها.


ولا يمكن أن يتم التحليل الذاتي بوصفه هواية مرة من طول الزمان أو حين يكون لدى المرء خاطر في ذلك. وكل الأمور التي يقوم بها المرء حين يكون لـه خاطر ليست جيدة، حقاً. ولا يصبح أحد عازفاً ماهراً بآلة البيانو بتدربه على السلّم الموسيقي حين يكون لـه خاطر. ولا يكون للمرء خاطر التدرب على السلّم الموسيقي ومعظم الناس ليسوا في حالة نفسية ملائمة للتدرّب على السلّم الموسيقي. وهناك أمور كثيرة في الحياة، إذا أراد المرء حقاً أن يقيم للحياة وزناً، على المرء أن يقوم بها لا لأنها في ذاتها مترعة بالمتعة بل لأنها ضرورية لأمور أخرى.


وأنا لا أقصد تطبيق هذا على التحليل والتركيز والتأمل؛ فهذا ليس تدريباً على السلّم الموسيقي. بل على الضد، هذا  نشاط ممتع للغاية بأعمق معنى للكلمة. إنه نشاط شديد الإرضاء. ومن الواجب تعلّمه وممارسته، وإذا لم يُحلَّل المرء فالأمر أصعب. وأعتقد أنه يمكن أن يتم كذلك إذا لم يحلَّل المرء. ولكن إذا كان المرء يعاني من صعوبات قاسية، فهو شديد الصعوبة، ويكاد يكون مستحيلاً، لأن المرء يكون حبيس مشكلاته، والمقاوّمات شديدة جداً. والمسألة هي أنه إذا أراد المرء أن يحلل نفسه، فيجب أن تكون المقاوَمات الأساسية قد انكسرت شوكتها. وذلك يعني أنه إذا كانت في حياتي أمور تقف ضد الإدراك الذي توجد لـه مقاومة ضخمة، فلا ريب أنني لا أستطيع أن أحلل نفسي لأنني سأقنع نفسي بالتبريرات وما إليها أن الأمر ليس كذلك. ولهذا هو في ماهيته مسألة عمق المقاومة وشدتها. وهو مسألة عوامل أخرى، تجعل ذلك ممكناً. ومنها مثلاً، الوضع الذي يعيش فيه المرء، وقوة الرغبة في بلوغ حياة أسعد حقاً.


وممارسة التحليل الذاتي تكون أسهل إذا ما حُلّل المرء. ومهما يكن، فإذا لم يتركّز التحليل إلا على مشكلات المرء في الطفولة بل تناول حياة المرء الكلية على أساس وجوده الكلي: أين موضع الإنسان في الحياة، وما هي الأهداف الأساسية للمرء ـ التي هي لا شعورية غالباً ـ وما هي الغايات الحقيقية التي للمرء، أو هل يفتقر إلى الغايات الحقيقية. إذا كان لديك هذا النوع من التحليل، فإن الأمر أسهل بكثير. وكتاب كارين هورني Karen Horney عن التحليل الذاتي مثير للاهتمام، ولكنني لا أعتقد أنه مسعف كثيراً، أو مسعف كفاية، لأنها تقوم بالتحليل على أساس معرفتها التحليلية.


ولا محالة من أن يكون التحليل الذاتي بسيطاً، وهو يمكن أن يكون بسيطاً. فتخصّص كل يوم نصف  ساعة؛ ويمكنك أن تسير، وتمعن النظر في سيرك وتفكر، مثلاً:"كنت بالأمس متعباً. وقد نمت نوماً كافياً، فلماذا كنت متعباً." ولعلك تكتشف بعدئذ: "كنت في الحقيقة قلقاً." وعندئذ يمكن أن تستمر وتسأل نفسك:" لماذا كنت قلقاً؟" وقد تهتدي إلى أنك كنت غاضباً حقاً. أو لديك صداع وقد تسأل نفسك دائماً ـ "ممَّ أنا غاضب؟" وغالباً ما يزول الصداع إذا اكتشفتَه. وهناك صُداعات قليلة لا تزول لأن لها أسباباً عضوية. والمشهور أن الصداع النصفي (الشقيقة)، مثلاً، مسألة غضب مكبوت، غضب وعتب مكبوتين دائمين، ويسبّبان في الوقت نفسه توتّراً للمرء. وللكثير من الأمراض الجسدية ـ النفسية تلك الوظيفة.


ولتحليل نفسك عليك أن تسأل نفسك أسئلة عامة من قبيل:"ماذا حدث في طفولتي." وستخطر لك الأشياء متى ما بدأت تسأل نفسك أسئلة بسيطة، محاولاً اكتشاف ما تشعر به حقاً. فعلى سبيل المثال إذا قابلتَ شخصاً فقد تسأل نفسك: "بماذا أشعر حقاً." ومن شأنك أن تقول شعورياً إنك تحب ذلك الشخص، ولكن قد يكون في ذاكرتك شك صغير، والتحليل الذاتي يعني أن تأخذ وقتك، وتكون مسترخياً، وتبدأ الشعور. وهذا الأمر ليس مسألة تفكير، بل اختبار لأحاسيسك: "بمَ أحسّ حقاً؟" وقد تكتشف أنك تمقت هذا الشخص كثيراً أو أنك خائف من هذا الشخص. أو أنك لا تبالي به البتة، فقد كنت ظريفاً، مبتسماً، وتحبه لأن هذا الشخص يُفترض أن يكون مهماً أو يؤثّر فيك لقبه أو شي من هذا القبيل، أو لأنه شقيق أمك أو شيء يقرب من ذلك، أو مهما كانت الأسباب. وأود أن أقول، إن من يحاول أن يبدأ ببساطة شديدة، لا بخطط كبيرة، ولا بنظريات كبيرة، بل بمنتهى المباشرة والبساطة ليخصّص كل يوم لمجرد محاولة الشعور والإحساس بما جرى فيه البارحة ـ سيتعلّم باتّئاد كميات كبيرة من الأمور.


ويقول جل الناس إنه ليس لديهم الوقت لذلك. وإذا كان هذا الأمر شديد الأهمية، إن هذا التبرّم من الوقت سينتهي سلفاً لأنه من الطبيعي أن يكون بإمكان المرء توفير  الوقت له. وعندما يقول المرء : "ليس لديّ الوقت" لأمر ما، فذلك قراراً سلفاً. وهو تعلّة لقرار يعني أنه ليس مهماً. وإذا كان عليك أن تكسب مالاً فإنك لا تقول: "ليس لديّ الوقت للذهاب إلى العمل،" لأنك تعلم أنك ستُفصل من العمل ولن يكون لديك شيء تأكله ما لم ينقذك أبواك. وإذا حاولتَ التحليل الذاتي، ومارسته وأصبت بالمرض، فإنك سوف ترى أن بعض الأمور تحدث وستغدو أكثر استقلالاً وحرية، لأنك لا ترمي كل شيء على أحد سواك. إن للمرء مقدرة معينة على احتواء الأشياء في نفسه، بدلاً من التسريب الدائم.


وكتابة اليوميات بخصوص التحليل الذاتي يجعل التحليل الذاتي غير حيوي بعض الشيء. ولا ريب أن المرء إذا دقّق النظر فيها كل يوم، فقد تكون مسعفة. وأعتقد أن الأمر الجيد هو أن يدوّن المرء أحلامه وأن يرى ما هي في الحقيقة. ويجب أن يكون هناك محللون نفسيون يجعلون ممارستهم هي مجرد أن يكونوا مفسرين للأحلام لا معالجة الناس تحليلياً. وعلى الشخص أن يكون قادراً على تدوين أحلامه مدة من الزمن، وأنا أوصي المحللين كثيراً بأن يجعلوا من ممارستهم أن يكون بوسع  الشخص أن يأتي إليهم مرة كل أربعة أسابيع ومعه أحلامه وأن يطلب إلى المحلل مساعدته على تفسير هذه الأحلام. ويمكن أن يقدّم المحلل هذا بعد الساعتين الأوليين أو الساعات الثلاث الأوائل وبذلك يعرف المحلل عمن هو يتحدث وما هو وضعه، ولكنه عندئذ يأخذ الدور بوصفه مفسراً للأحلام بكل بساطة. وأعتقد أن ذلك سيكون منهجاً جيداً جداً، لأن الكثيرين من الناس الذي لا يحتاجون إلى أشد المساعدة تمكن مساعدتهم بذلك كثيراً على تطورهم الذاتي بتحليل أحلامهم. وثمت فائدة كبيرة كذلك وهي أن الشخص لا يصير متّكلاً على المحلل، بل يظل معتمداً أو تظل معتمدة كلياً على نفسه أو نفسها.


***



الفصل الحادي عشر

" التقنية" التحليلية النفسية أم فن الإصغاء



مع أن التقنية تشير إلى تطبيق القواعد على موضوعها، فقد خضع معناها لتبدّل دقيق ولكنه مهم. فقد جرى استخدام التقنية للقواعد التي تشير إلى الميكانيكية، إلى ما هو ليس حياً، في حين أن الكلمة المناسبة للتعامل مع ما هو حي هي " الفن" . ولهذا السبب، يشكو مفهوم " التقنية" التحليلية النفسية من خلل لأنه يبدو أنه يشير إلى شيء غير حي ومن ثم غير قابل للتطبيق على الإنسان.


ونحن على أرض آمنة حين نقول إن التحليل النفسي عملية فهم الذهن الإنساني، ولاسيما ذلك الجزء الذي هو غير شعوري. إنه فن كفهم الشعر.


وككل فن لـه قواعده ومعاييره:
ـ إن القاعدة الأساسية لممارسة هذا الفن هي التركيز الكامل من المصغي.
ـ فلا يجوز أن يكون في ذهنه شيء مهم، ويجب أن يكون متحرراً على أفضل وجه من القلق وكذلك من الجشع.
ـ يجب أن يمتلك خيالاً لـه حرية العمل ويكون ملموساً إلى حد يكفي ليُعبَّر عنه بالكلمات.
ـ يجب أن يكون موهوباً بالقدرة على تقمص الشخص الآخر وقوياً إلى حد يكفي ليشعر بتجربة الآخر كأنها تجربته.
ـ شرط هذا التقمص هو الجانب المهم للقدرة على المحبة. وفهم الآخر يعني محبته ـ لا بالمعنى الشهواني، بل بمعنى الوصول إليه والتغلّب على الخوف من فقدان نفسه.
ـ الفهم والمحبة لا ينفصلان. فإذا انفصلا، فإنها عملية دماغية ويظل الباب مغلقاً أمام الفهم الماهوي.
إن غاية العملية العلاجية هي فهم العواطف والأفكار اللاشعورية (المكبوتة)، وإدراك جذورها ووظائفها وفهم هذه الجذور والوظائف.


والقاعدة الأساسية هي الإيعاز للمريض أن يقول كل شيء على قدر ما يستطيع وإذا أغفل شيئاً أن يذكر ذلك. وثمت تأكيد خاص هو أنه ليس على المريض واجب أخلاقي من أي نوع، ولا حتى أن يقول الحقيقة. ( وعلى المحلل أن يلاحظ في مآل الأمر إذا كان المريض يكذب، لأنه إذا لم يلاحظ فهو يفتقر إلى الكفاءة.)


وعلى المحلل أن يجيب عن كل الأسئلة حول نفسه والتي تكون مدوّنة في السجل العام وللمريض الحق في أن يعرف أموراً ـ من قبيل العمر، والتدريب، والأصل الاجتماعي. وفي أحوال يكون على المريض أن يُظهر لماذا لديه الاهتمام المشروع أو هل يريد أن يعكس الوضع ويحلل المحلل النفسي (بسبب المقاومة، مثلاً).


ولن تتميز العلاقة العلاجية بجو المحادثة الكيّسة والكلام القصير، بل بالمباشرة. ولا يجوز أن يعبّر المحلل النفسي بالكذب. وعلى المحلل ألا يحاول أن يُرضي أو أن يؤثّر، بل أن يستقر في نفسه. وذلك يعني أنه لا محالة من أن يكون عمله بناء على ذاته.


***
لتحميل الكتاب اضغط (هنا)
المصدر: 1
اقرأ الكتب والروايات استمتع بالبرامج والمسلسلات والأفلام والكرتون اون لاين بدون تحميل ويمكنك أيضا تحميلها كما يمكنك قراءة احدث المواضيع في العالم واغربها من تكنولوجيا وأجمل التصاميم.